من كان يظن يوما أنّ الطاولات والكراسي والطناجر وعلب الحليب الفارغة وقصب الغزّار اليابس، التي يقرعها ذلك الولد الصغير، مُحوّلا إياها بخياله الخصب إلى آلاتٍ موسيقية، من كان يظن أنّها ستغير حياته، من كان يظن أنّ الولد الذي يُلحّن القصائد المدرسية كي يحفظها ويتلوها غيباً في ساعة الاستظهار.. من كان يظن أنّها ستأخذه إلى «أوبرات» العالم الشهيرة؟
حدث ذات يوم أن عاد وفي حقيبته رسالة القبول في المعهد الموسيقي، فرحت أمّه أكثر منه بالخبر، وكانت هنا الانعطافة الأولى في حياته.
وعندما كان لا يتوفّر ورق النوتة المُسطّر، كانت أمّه تُسطّر له الورق تسطيراً دقيقاً ليكتب عليها النوتات بقلم الرصاص. لكن أمّه ذهبت قبل الأغنية وقبل الحب، ولم تسمع له نوتة موسيقية واحدة.
ففتش عن أمّه في صوت فيروز، وبعد سنين فتش عن حبيبته في صوتها، كما فتش عن وطنه.
حرمته الميليشيات المسيطرة على المنطقة الشرقية بلبنان من إلقاء نظرة أخيرة على وجه أبيه، حرمته من أن يحتفظ على الأقل بأسرار الروح. لقد مضى وحيداً ولم يستطع أن يمشي في جنازته.
لم يُعلمه أحد كيف يكتب للعود، وكان يشكُ بكل ما يثق به الأساتذة، وهم يضعون الدرس تلو الدرس.. تعلّم فقط من اساتذته الذين خلعوا النظريات الثابتة، لتحقيق أكبر قدر من البهجة، باكتشاف المخيلة في حياة محرومة وفقيرة من الحب والحريّة.
كان يبحث عن درويش في القصيدة وفي الموسيقى لتطرية الأيام الصعبة. لَعَلَّه شيء من ماض جميل وشكّ ضائع في بلاد تنمو خفية بالحروب الصغيرة والكبيرة.
كان دائما مع القصيدة ومع الموسيقى التي تشكّل فعل مشاغبة.. عصياناً وجودياً، نزعة الى الافلات من القطيع، ويدعو مستمعيه لارتكاب الشغب نفسه، فالشعر لا يكبر، يظلّ شاباً، خارجاً على القانون، متمرداً، صوفيّ التأمل والروح والحلم والتوحّد، وكل «أنا» شعرية تضيء هي انتصار على الموت والحرب والوحشيّة والابادة الروحية والنفسية والجسدية.
هذا الكائن الذي يسكنُ في الطائرة، ويُقلب المُدن صفحة صفحة، ويبدأ كل يوم من جديد كما لو أنّه لا يعرف شيئاً. يأتي في كل مرّة قبل ساعتين أو ثلاث من موعد الحفلة، يجلس لوحده على كرسي في وسط الصالة، ليصبح قطعة من المكان، يشمُّ رائحة الكراسي وعبق الناس الذين سيملأون القاعة.
هذا الكائن الجسور المغامر الذي يُيمم قلبه شطر الحب والنشوة من دون مقايضة النتيجة بحساب الربح أو الخسارة.
هكذا يتداعى مارسيل خليفة في هذا الحوار الخاص كما أنّه المطر، أو كأنّه ذاكرة مفتوحة من أول الحرب إلى السجن القسري في بيت أهله بضيعته «عمشيت»، السجن الذي جعله يغني، عندما كان بيته الصغير يتسع لذلك. إلى أن أصبح أباً لولديه رامي وبشار، شريكيه في التجريب والقفز في الظلام، كما أنّه الآن مأخوذ بثلاثة أحفاد وحفيدة مُدهشين، يكبرون هناك في البعيد.
هكذا تنسكب حكاياته، وتأملاته شديدة الحساسية تجاه الأشياء، فهو غير خبير بشيء أكثر من الموسيقى التي تنمو فيه، والشعر الذي يلمسه، والأغنية التي تضيء ما يخفى..
v v v
طاعة النغم
كانت المدرسة الأولى ملعباً للخيال، كنتُ أحس بالنهر يجري في الكتاب، والسماء تحلّق في الدفتر، أشمُّ رائحة الوردة على الصفحة الأولى وأتذوق طعم الندى وفي حصة الرسم، تولد نجمة وقمر كامل التكوين، هيأتني الحياة لأحلم وفق خيالها، كنتُ أكبر على مهل وببطء وكنتُ أود أن أقفز بسرعة إلى الغد. كان القمر يحبو مع الطفولة في الليالي العارية وكان الهواء ساكن لا يحرّك ريشة وبدأ التدريب على طاعة النغم. أدرّب حنجرتي على الغناء مع جوقة الكنيسة وفي غنائها حفيف السنابل الذهبية والشمس تملأ القلب بضوء البرتقال وزهور السفوح كشَعر فتاتي الفوضويّة.
فيض من الكلام في صدري وعلى شفتي فيض من الابتسام، ففي هذه السنوات كانت العلاقة بين الناس والأيام والأماكن، أقفُ على أبواب المدن المزنرة بالبؤس والشقاء وأشواك أخرى، اصفرار بطعم الغبار يملأ السماء، مسن ينكتُ أرض الشارع بعصاه، يُذكرني بأسد روحانا أصفر الشجر وعلى تراب الطريق يمحي العمر ونعل الحذاء، عقارب الساعة تلسع وينقضي الوقت، الصخب والضجيج والهتافات المدويّة في الطريق، انشدت العيون الى القادمين هناك حيث تهدر الأصوات واليافطات مرحبة في تمام الايقاع المحاذي للفرح، المغني يتلاشى مع الاغنية وكان الشعر بحاجة الى ناقل، لابد من إذن، لا بد من جرس، علاقة مباشرة بين الصوت والقلب لنصاب بالفرح والشجن في آن، تطلع من الصوت رائحة الحب، إيقاعات زهر
لقد فتحت لي الاغنية باب خوفي الاول من القمر «عندما كنتُ في حضن أمي» والذي كان يكبّر الأشباح.
المغني يتسلّل على حبل الظل وفي أغنيته الهشّة يتلوى يصلي يزني يعود على حافة الوتر الذي يجرح الهواء ويصفقون على ما تبقّى فيهم من قدرة على الافتتان.
غنّ أكثر أيها الكائن لنصدق أن على هذه الأرض المجبولة بالوحشيّة شيئاً ما يستحق الحياة.
v v v
جدتي مريم
كنتُ أسأل جدتي مريم وهي تُمارس صلاتها المسائية: أين كان ربنا قبل أن يخلقنا ؟ فتتعثّر جدتي في الإجابة وتدعوني لمشاركتها الصلاة فتحلّ بذلك اللغز ثم أضع نفسي على ركبتيها وأنام وأحلم بقوّة تشتعل فيّ وتدفعني الى شهوة الخلاص هي الهُيام بالموسيقى وتحررت حينها من اليقين وذهبت في الشكّ الى آخره.
لقد أحببت في طفولتي ابن الانسان ذلك المسيح «الحبّوب» وكل حركات طفولتي تموجات في بحره وحتى إلحادي به هو جزء من شمول المسيح لي بحنوّه اللانهائي، يتركني حرّاً في الكفر حتى أكون حرّاً أيضاً في الإيمان..
كان الزمان والمكان معداً للاحتفال بليلة الميلاد، صغار ورياحين وهدايا تعلي سطوح الطفولة، ثم بعد حين يأتي ميعاد موته وأحزن واختزن حزن العالم واعود واسأل جدتي: هل الموتى لا يكبرون وهم لا يشعرون بموتنا أبداً ولا بحياتهم ؟ فتحار جدتي من أسئلتي وتأخذني مشياً على الأقدام حتى مغيب الغروب المدمّى على أصابع أرجلنا الى الكنيسة البعيدة واستمع الى التراتيل وكل نبض في إيقاعها يوجعني وصدى الأشياء تنطق بالصوت وبي فأغرق بالطرب وأنسى هول الكينونة في وهج المساء حيث يكتمل القمر على خلوة نشيد الأناشيد واحسّ بأننا نُفينا الى هذا الكوكب مع مسيح طفولتنا برفقة التراتيل والماء والهواء والتراب والنار وهنا ربما كان أفضل مكان للوحدة.
v v v
محمود درويش
الأمر مع محمود درويش كما لو أنه جردة حياة، شاعر، قصيدة، أغنية، موسيقى، تاريخ، أمكنة، هي حاجة ملحّة الى أن أقول كل شيء لأتخلّص من ثقل أشياء عدّة ترمي بثقلها على الذاكرة كما على الجسد والروح، كأن سنين الحياة تهرب ونحاول أن نلتقطها، أن تستوقفنا، نستدعي كل شيء مجدداً. كل تلك السنوات التي عشتها مع شعر درويش. أرغب في نقل الأحداث والتواريخ والانطباعات ورواية تلك الأيام على نحو مفتوح. أبحث كل يوم عن جديد في شعر درويش.
سأحاول أن أرتّب ذكرياتي مع درويش وكما ستتدفق هنا ذكريات ضائعة يبقى عطرها حتى بعد ذبولها. وكانت موسيقاي لشعر درويش تنحو باتجاه الشكل الدرامي والتأليف الغنائي الحرّ غير المسجون في ضوابط محددّة سلفاً وهكذا لم تقطع مع الطرب إنما وازنة بينه وبين الاهتمام بمخاطبة وعي المتلقّي مدشنّة بذلك علاقة مبتكرة مع الناس وهادفة الى إعادة تشكيل الذوق السائد مع عالم صوتي جديد معبّر عن معطيات جديدة وهو بناء مقتصد وحرص على عدم الوقوع في الوسائل التزينية والزخرفية القائمة على إغراءات السهولة. أي لحظة انتقال بالأغنية العربيّة من عالم الانفعال السلبي الى مجال العقل الإيجابي. لقد بحثت مع درويش عن أغنية تقودنا الى المستحيل، ترشدنا الى الدروب المجهولة لنبلغ سرّ الفرح.
لا أستطيع أن أشرح بالكلمات ما كتبت من موسيقى لقصائد ولكن أستطيع أن أقول أن شعر درويش تشرِّد في أعماق قلبي الذي دقّ بإيقاعية صادحة ولا أعرف كيف أهدئه.
أبحث وأحاول القبض على القصيدة – الأغنية كي لا تفلت، إنها لعبة عبثية، صراع من أجل المستحيل، ظلّ وراء الاندهاش، بحث في الظلام، ويوماً بعد يوم أنسج القصيدة بألحان جديدة مثل تنهيدة، مثل همسة من وعود من العاصفة مروراً بأحمد العربي وصولاً الى سقوط القمر. أجمل قصيدة درويش في شفاه قلبي، أسدل بلذّة وشاح الصباح الندّي.
أدخل في الأغنية إلى ما لا ينتهي لأدافع عن الغامض السحري في القصيدة وكان لا بدّ من الرغبة والحسرة والقسوة والثورة والنداء والشعر والصمت والتذكّر والنسيان والحب.
أصابعي علقتها على مشارف الوتر وروضتها على الشهيّة وكتبت لمحمود جهراً بيان الأغنيات لأجمل حب.
بعد غيابه أبحث عنه أكثر في القصيدة وفي الموسيقى لتطريّة الأيام الصعبة. لَعَلَّه شيء من ماض جميل وشكّ ضائع في بلاد تنمو خفية بالحروب الصغيرة والكبيرة وما نحتاجه هو كوفية عربية نمسح بها دمعاً حارقاً كالصديد.
لقد تقرحت قلوبنا من عفن القتل والدمار والوحشية الصارخة ومن تعب أسئلة قاحلة
انني اشتاق الى محمود درويش وقصيدته المبللة بالندى، لعلّ المكان ينتبه لأغاني الحب التي ترددت في البلاد القريبة والبعيدة، أغانٍ شردها الغياب وغسلها سحاب ليل ينام بين الامواج تقطفه الحناجر وتطويه زغرودة الانتظار.
لم تولد الاغنيات من نزوة طائشة خرجت على منوال إيقاع الحب من نار لا يقودها حطب البراري، من نقر على وتر القلب، من غفلة صوت مبحوح، من شرشف تضرّج بالدم القاني، من دمعة شاهدة على الولادة.
نعبث لئلا يضيع منا الجميل وينكسر، نعبث لينطلق المستحيل على ألواح الحياة تطيب لنا الاغنية كما يطيب النبيذ، وحده الحب في هذا العالم كان يفهمنا، يقيم فينا، ينادينا، يبني عشّه تحت حواجبنا، يحمينا من فضول المساء ومن بخار البن في الفنجان. إنه جوع الى ليل الشهوة والنشوة والجمرة والحسرة ولسعة الريح في المساءات الشتويّة.
كنا نرى أوراق التوت تتساقط عن جسد العالم ولم نكن نشك في قمر الحب الذي سقط وغمر ليلنا الدامس بالفضّة الصريحة. ذهب محمود الى المستقبل الذي اراده وحلم به على الرغم من محاولات تعطيل خطواته وتفويت ذهابه الفاتن. كان شفيف كالضوء، يعبر الروح ويتركها على دهشتها في أسئلة جديدة تحاور عميقاً الاسئلة التي تشغلنا. شعره يزهّر وينتج كالأشجار أوكسجين الحياة.
آلة العود
في مساء بعيد دخلت آلة العود الى بيتنا الصغير بعد أن كانت آلاتي الموسيقية محصورة بالطاولات والكراسي والطناجر وعلب الحليب الفارغة وقصب الغزّار اليابس. كنتُ أرى العود في الصُوَرْ وأحياناً قليلة في التلفزيون أسمع صوته في الراديو ولكن أن يكون معي في البيت ! كان عيداً حقيقياً يوم وصول هذه الآلة الموسيقية الساحرة وفي اليوم التالي ذهبت مع أمي الى منزل «حنّا كرم» ذلك الدركي المتقاعد والذي يعرف القليل من النوتة الموسيقية وما حفظه من موسيقى الدرك. تابعت ترددي الى منزل الاستاذ مرتين في الأسبوع، حيث تلقفت خلال ثلاثة أشهر دروسه الموسيقية الابتدائيّة.
بعدها نصح أهلي بأن أتابع تحصيلي الموسيقي في الكونسرفاتوار الوطني في بيروت والبعيدة جداً في مقياس طرقات ذلك الزمن عن ضيعتي في جبل لبنان، ودخلت صف الاستاذ الكبير «فريد غصن» العائد من هجرته المصريّة ليدرّس في المعهد المذكور.
كنت في السادسة عشرة من عمري آتياً من قريتي الى المدينة مرتين في الأسبوع لأدرس الموسيقى إلى جانب الدروس العادية وكنت في طريقي الى بيروت أرى على مداخل المدينة وفي ضواحيها المخيمات الفلسطينيّة وبيوت الصفيح وحتى في ذلك الحين وفي ذلك العمر الفتي لم أكن اعرف شيئاً عن فلسطين ولا سيّما أهل الجبل اللبنانيّ بعد حرب الـ67 بدأتُ أعي هذه القضيّة وأوليها اهتمامي.
وتداخلت وقتها القضايا السياسية المحليّة، العمليات في الجنوب، إطلاق الرصاص على مظاهرة عمَّال التبغ واستشهاد المزارع حسن الحايك وغنيتُ بعدها من شعر شوقي بزيع «يا حادي العيس» والمهداة للشهيد حسن الحايك.
فلسطين، الجنوب، هموم الناس، مظاهرات الطلاب، الإضراب الكبير لعمّال معمل غندور، إذ تطورت الأمور وحدث صدام مع الدرك واستشهد العامل «يوسف العطّار» قوات صهيونيّة تدخل العاصمة اللبنانية وتهاجم منازل القادة الفلسطينيين وتغتال أبا يوسف، كمال عدوان وكمال ناصر. عمليّة «بنك أوف أميركا» اذ اقتحمت السلطة اللبنانية البنك واستشهد علي شعيب وجهاد الأسعد ورفاقهما وغنيت لاحقاً قصيدة عباس بيضون «يا عليّ»، ثم مظاهرة صيادي السمك في مدينة صيدا واستشهاد معروف سعد الذي كان يمشي على رأس التظاهرة وغنيت لاحقاً «يا بحريي هيلا هيلا»، كل هذا اضافة الى العمل مع الناس في الأحياء من خلال الموسيقى والمسرح.
أمسيات فنية أقمتها عبرتُ فيها عن حبي للقضية للشعب والوطن والخبز والورد وكان « نشيّد الموتى « للشاعر السوداني محمد الفيتوري الذي لحنته وتردد على ألسنة الناس في كل هذه الاماسي.
مهرجان مدينة جبيل «بيبلوس» أيضاً كانت تجربة رائدة حيث قدمت أوبيريت «مرق الصيف» سنة 1971 كما شاركت في مسابقة المجمع العربي للموسيقى بموسيقى «سماعي بياتي» تونس 1973.
كنتُ من المتخرجين الأوائل في الكونسرفاتوار وهذا لم يمنع من أن تفوز مقطوعتي «سماعي بياتي» إلى جانب مقطوعتين لأساتذتي عبد الغني شعبان ونجيب كلاب.
تخفيف البؤس
أعود بذاكرتي وأتذكر يوم السبت 12 ابريل 1975 حين خرجت من مسرح الأونيسكو في بيروت فرحاً من عمل فرقة عبد الحليم كركلا للباليه الشرقي «عجائب الغرائب»، وكنتُ قد كتبت الموسيقى لهذا الاستعراض الراقص للكوريغراف عبد الحليم كركلا. ولكن الفرح لم يكتمل في اليوم الثاني 13 ابريل وبعد الحفلة خرجنا من القاعة وكانت بيروت قد دخلت في الظلام وأصيبت العروس في الاستعراض «أميرة ماجد» الراقصة الأولى برصاصة قنّاص اخترقت ظهرها واقعدتها مدى الحياة بعدما أضاءت في الليلتين عوالم الفرح في قصر الأونيسكو ببيروت.
عدتُ ليلتها الى قريتي الشتائية منكسراً وحزيناً وكل شيء كان قد تعطل في البلد وابتدأت الجولات الحربية – العسكرية الجديدة علينا ثم بدأت مظاهر الحرب تكسو قريتي الهادئة.
مسلحون يروحون ويجيئون انقطعت الطرقات وانقطعت عني اخبار بيروت وانحجزت في منزلي قسرياً ولم يكن معي في خلوتي هذه سوى العود وبعض دواوين محمود درويش، رحتُ خلالها ألحّن القصائد الأولى لمحمود درويش ثمّ بعد فترة حزمت أمتعتي وأمري وذهبت الى باريس هارباً من عمشيت «قريتي» مع كوكبة من الأصدقاء اذ لم تتحمّل المنطقة آنذاك ميولنا اليساريّة والتقيتُ في باريس بالأصدقاء الجدد الذين غصّت بهم المقاهي وبحلقات من الشبان الوافدين حديثاً او المقيمين بداعي الدراسة أو بداعي العمل ومجموع هذه اللقاءات كوّن مناخاً اجتماعياً وفنيّاً وسياسياً حاراً تذكي طراوته الأحداث المتسارعة التي كانت تجرب في لبنان والتي كانت تأخذ طابعها الدراماتيكي المعروف.
رحتُ بخجل وتردّد أعرض بعضاً من تجاربي الموسيقية الغنائية الأولى. شاب متحمس أخرق يريد أن يجعل الموسيقى سبيلاً لتغيير العالم، أن يخفف البؤس والحروب، أن يشعل ثورة مدعوماً بوتر العود والقصيدة ليستدل على الحلم ويصل إلى تحقيقه.
كان الأصدقاء الجدد يسمعونني ويهزّون برؤوسهم ربما لم يدركوا يومها تماما ما هو مشروعي أو على الأقل جديّة ما أحاول الخوض فيه وكان داخلي مشحوناً بالتمرّد وكان الزمن يمشي بطيئاً وكنت استعجله لأكبر.
العصيان الوجودي
وفي صباح باكر من اغسطس سنة 76 دخلت أحد استديوهات باريس الصغيرة وسجلت «وعود من العاصفة» أولى أعمالي لدرويش وقبل أن أتعرّف عليه شخصياً وبعد أخذ ورد مع مسؤولي شركة الأسطوانات الفرنسية «الغناء في العالم» «chant du monde» ظهرت الأسطوانة الأولى في احتفالات جريدة «الانسانية» «l›humanite» وكانت أول تظاهرة لهذا العمل على خشبة الجناح اللبناني في ضاحية باريس الشمالية بقرب من بسطة للحمص والفول والفلافل ولقد تضمنت هذه الأسطوانة أربع قصائد لدرويش: أمي، ريتا، جواز السفر ووعود من العاصفة وقصيدة « جفرا» للشاعر عز الدين المناصرة.
ولقد وقّعت على أكثر من 500 اسطوانة خلال يوميّ التظاهرة ثم سبقتني الأسطوانة والأغنيات الى بيروت والعواصم العربية ومن ثم الى كل المطارح ولم يخطر ببالي أبداً ان هذا اللعب سيُصبِح جديّاً الى هذا الحد.
وعلى مسار تاريخ طويل من القصائد والأغنيات والموسيقى كان التلاحم الدافئ بين القصيدة والموسيقى. في كل عمل كنت اتعلَّم كيف احمي الموسيقى من الفضيحة والقصيدة من الابتذال. في كل عمل جديد كنت ابدأ من الصفر كما لو انني لا اعرف شيئاً وكل محاولة كانت قفزة في الظلام ولقد ارتكبت اخطائي الفاتنة وكنت دائما مع القصيدة ومع الموسيقى التي تشكّل فعل مشاغبة عصياناً وجودياً نزعة الى الافلات من القطيع ودعوة الى المستمعين لارتكاب الشغب نفسه.
قوة الحياة
الرفيق أسد روحانا علمني كثيراً عن الوطن الحرّ والشعب السعيد. كان يعرف كثائر عن ظلم وفساد الحكم وهو يتفجّر غيظاً وألماً أما جبروت المصالح الساحقة لطبقة الحكم الفاسدة، لم يكن مخدوعاً كان يصوّب كل يوم هذا النضال أمام القوى الرجعية والأمنية والانحطاط والتجارة والخيانة والترهّل والاستسلام التي تتألب على المطالَب المحقة لتخنق آخر نَفَسْ للتمرّد والثورة والرفض. كان يقول: «لنا الأبد أمام هذه القوى ولهم اللحظة الآنية الزائلة، فنحن لا نقيم وزناً الاّ للشعب الحر والوطن السعيد، لن يستطيع أحد اقتلاع روحنا من اعماق صدورنا». كان ثائراً حقيقياً يتألم ويصرخ.. ولا يخيب، لكنه لا يستسلم لا يترهّل، لا يخون نفسه ولا الآخرين. كان شعاع الأمل يرافقه دائماً.
أراه الآن متدلياً أمامي، هل اتمسّك به يا رفيقي الكبير أم أتركه وأسير وحيداً في عتمة الليل، لقد شوهّوا الخيال، عمرّوا معابد الرعب ومعسكرات العبوديّة، وكما كنت تقول لي في الطفولة البعيدة إنّ هذا الوضع سيتغيّر، سيتغيّر لأنّه بلغ حدّه ولن يجد طريقاً يكمل عليه سيتغيّر من كل بد. سنستعيد الحريّة وسنكتشف السعادة، نعم السعادة. أنا مع السعادة وضد حفّاري القبور، أنا مع الماء في النهر وضد الدم، أنا مع الحريّة وضد آلهة البؤس والقمع، نحن بشر نحب أن نحب ونشتهي ونسعد ونحلم بالسلام، عرفتُ البراءة وعرفت قسوة الحفاظ عليها أيها المناضل العتيق وكنت تصمت احتراماً لا تسليماً وتزهد عن قوّة وتغضب والقاعدة هي الرحمة، تشتاق تتوتّر تتعذّب وتصفو وخلفت وراءك أصداء عميقة وظلالاً حية، وقفت في الزمان والمكان كالجرح واوصلك الألم الى الصفاء الآسر. كنت عذباً طرياً كالحنان.
لم تطوه الخيبة على الحقد، كان كبيراً. تعلمتُ على يده في ظلّ ضوء شمعة خافتة وراء نافذة صغيرة في ضياء الحب وفي قوة الحياة كمصباح يدوّي مرصّع بذهب الأمل في لحظة عابرة في مستقبل يولد من ماضيك. هل تعبت من طول الحلم؟ تركتنا ورحلت. شكراً لشعاعك الذي جعل العري شيئاً صافياً نقياً. اتذكر كيف كنّا نلتقي على ضفاف الشاطئ نشيّد حبّاً ونعبث بالماء ونضع قوارب من ورق ونرسلها عبر الامتداد غير المتناهي للبحر. لا أندم على ايام انضجتني بتعاليمك، لا أندم لأَنِّي كنتُ أحلم، كنتُ اتسلّى بعدّ النجوم على أصابع يديّ العشر. ظلّي لم يتبعني تسمّر هناك حيث حطّ العصفور على يديّ وحملتني الفراشات الى مدارج الضوء.
أمي تُسطر الورق
على بياض السماء آخرين، صورة لطفل لم يجد مكاناً على الارض ليركض، ولهذا طفولة الأغنية الدائمة ستتواصل بأعمال جديدة للأطفال لتصعد الى رأس الجبل إلى حقول الهواء، لأدافع عن جمال لا تدمره الحرب عن جمال يحمينا، جمال يشير الى براءة إنسانية، أغنية للكبار والصغار، أمسك بما في الانسان من مطلق، مطلق لا يلغيه الصراع ولا السياسة ولا الانهيارات، وطن الاغنية ليس دائماً هو الوطن.
هل استطاع النشيد أن يفرح ؟
إن مهمة الطريق هي أن نواصل طريقنا دون مُقايضة النتيجة بخوف الحساب، القمر ليس قريباً الى هذا الحد وليس بعيداً الى حد الكآبة، الشمس تملأ قلبي وأدرّب أصابعي يومياً على ما يشبه العزف، أترك الاغنية تعالج أوجاعها بكثير من الحب، لا أجيد السباحة وغنيت لجدي البحّار «يا بحريي هيلا هيلا «، وأنا لا اعرف في البحر مع أنني ولدتُ على الشاطئ، كنتُ أذهبُ كل يوم لأرى الموجة تلاحقها بالشجن وأراها وهي تتعب قبل بلوغ الشاطىء.
موجة تناور حول الصخرة العالية تقترب تتراخى وتستسلم، امشي كل يوم الى البحر، تهبط الطيور من السماء، لتأكل السمك في مساء ضاحك، اسلك الدرب وحدي امشي حتى مغيب الغروب وكلما حركت وتراً في العود مسنّي جنّ عروس البحر، كل نبض يوجعني انا الغريب صدى الأشياء تنطق بالوتر والريشة وبي فأغرق.
أنا والفجر الجديد غريبان «هنا «، فليكن الحب ابديتنا الخصوصيّة، كثير من المدن والبيوت تغيّرت، كثير من الفنادق نمت على أسرتها، كثير من الصور أخذت لي مع ناس أعرفهم ولا أعرفهم، وكثير من صور عشاق، وكثير من الأسفار والمطارات والمحطات، أوجعني السفر والشعر والحب، ولعبت موسيقتي في كثير من دور الاوبرا في العالم، وشيء مثل السحر حين ينزل الستار على مشهد الموسيقى وفي كل مكان تعزف النايات وتصدر الكمانات وتضرب الايقاعات ألحانها، وتتزيّن الأمكنة بكل الحب من المسرح وصولاً الى القاعة الى البلكونات في الطراوة وصمت مغمور بأغاني الطيور، يتردد صداها في المصابيح المتعددة الألوان، أرى آلاف الوجوه، آلاف القصص تأتي وتذهب في ظلال الليل. الذي أعرفه لا يمثل شيئاً إذا ما قورن برحابة السرّ الذي لم يسمع ولم يُرى. آتي في كل مرّة قبل ساعتين أو ثلاث من موعد الحفلة اجلس لوحدي على كرسي في وسط الصالة لأصبح قطعة من المكان اشمّ رائحة الكراسي وعبق الناس الذين سيملأون القاعة.
اتعلَّم من القلب بكل ما يقع تحت نظري لأعبر المسافة بين الصالة والركح وأنسى أن الموسيقى هي الاخرى مجرد لعبة. ألعب وألهو مع المساء الذهبي مع القمر الفضيّ وأبسط يديّ نحو السماء وأصعد إلى الغيوم وأمي التي لم تسمع لي نوتة موسيقية واحدة لأنها ذهبت قبل الاغنية وقبل الحب احسّها تنتظر في القاعة، كيف يمكنني أن أوصل إليها أنغامي.
احاول أن أتخيّل أن أكون الغيوم وتكون أمي القمر أعطيها بكل يديّ وسقفنا يكون السماء. ألعب حتى ساعة متأخرة بعينين مغمضتين. أحسستُ بأنني الأمواج وأمي الشاطئ القريب وأجمع نفسي في اندفاعة طويلة وانكسر قطعاً فوق صدرها بكل صخب الاوركسترا، وبالماء المبلّل المنسرح فوق الوجه يرشدني مصباح مضيء وقفز وراء الكواليس.
أتذكّر عندما قلتُ لأمي: أني أريد أن أكف عن الدراسة، لقد درست كثيراً وصار عمري 16 سنة، وقالت لي: ماذا تريد أن تفعل، قلتُ: أريد أن اتفرّغ لدراسة الموسيقى، وبدأتُ أنقل بقلمي أكداسا من النوتات لأنّه لم يكن يتوفّر الكتب والمخطوطات المطبوعة وإذا توفرت يكون ثمنها غالياً. وكانت أمي تجلس أمامي هادئة ساكتة والمطر ينفذ من شق النافذة، فيبلّل الأرض دون أن نكترث لذلك. وعندما أتى ساعي البريد ذات صباح وفي حقيبته رسالة قبولي في المعهد الموسيقي فرحت أمي أكثر مني واشترت لي ورقاً مُسطراً وأقلاما وبدأت أؤلف الموسيقى، وعندما كان لا يتوفّر ورق النوتة المُسطّر كانت أمي تسطّر لي الورق تسطيراً دقيقاً واكتب النوتات بقلم الرصاص. لا أدري ما كان يُمكنني أن افعل في هذه الدنيا لو لم يكن لي أم تحرسني. أليس من حسن الحظ « أن الطفل كان مع أمه».
الشوك أطول مني
أتذكر أيامنا الحافلة عندما كنت طفلاً وكان الصفاء يغمر الأرض والماء والسماء
أنحني والتقط حبّات الماء، أعثر على الماء الذي يُشبه قلب الحب وكنت أحوّله بأصابعي الملتهبة الى ألحان، كنتُ أجمع أولاد الحي وأعطيهم البدء بإشارة الغناء وكل يغني على ليلاه، أواصل طريق الماء بحثاً عن الطفل الذي كنته فلم اجد سوى ضحكات وشيطنات فاتنة.
يحزنني هذا العالم في سيرته المكتوبة بالحروب، مصلوب هذا العالم، لم يبق في هذا العالم جناح أو سنبلة، هشّ هذا العالم، هفّ وشفيف ورقيق هذا العالم، يُحزنني هذا العالم، هل سيبقى الرب وحيداً في هذا العالم؟ المسافة تجري بنا لمع البرق، قطعنا مسافات بعيدة وجئنا لهذي الارض كي نولد فيها، من بيتنا في الشمس كنّا نرى الأرض مرسومة كنهد الحبيبة. تطفئ الارض القمر لننام.
كان الولد البريّ ابن الوعر والجبال وقد وصلها بالسماء في الضباب وما يترك الغيم من ماء تنقط مثل دموع، وكان الولد يؤمن بأن الغد أجمل هكذا علمه الرفيق، لكن التاريخ يُفاجئنا يوماً بخيبة أمل جديدة ورغم ذلك الولد يُدمن النظر إلى أبعد.. إلى أعلى. لم يعد البكاء لائقاً بمن هم في مثل سني، ولكنني أواجه الطفل الذي كنته والذي تركته هنا، صار الشوك أطول مني ومنه فضعنا معاً، جرحتني شوكة حادة.
وطن بلا بطل ولا ضحيّة
لبنان، أنثر ورد الحب على بلدي «الراحل» لبنان، في غيابه أقل موتاً منّا وأكثر منّا حياة، يا وطني الذي أعرف الطريق إليك ولا أعرفك،هل الوطن في الأغنية هو الوطن في الوطن ؟، نعم الوطن هو الوطن في الوطن في الاغنية وفي القصيدة وعلى حافة اللحن، أنا ابن هذه الأرض لولا الاقتلاع المدجّج بالسلاح، كان هذا اللبنان كبيراً علينا حين كنّا صغاراً، أخذتنا الحياة إلى أسئلتنا الاولى إلى أغنياتنا الاولى، أتذكر حكايتي أيام كان الطريق أوضح، أيام لم تكن الكهرباء قد وصلت الى البلد، أيام لم نجد كتباً كافية للتعليم، أيام كان يوم الاستقلال نغني «كلنا للوطن «، أيام كنّا صغار السن، أيام لم نعرف من هو المسيحي فينا ومن هو المسلم.
في تلك الأيام في أول الوعي وعلى أول الطريق وعلى أول الخطوات وعلى حرياتنا الصغرى وعلى طموحاتنا الأولى، كان انتماؤنا لوطن حر وشعب سعيد.
هنا دم على الأرض ودم على الشجر ودم على مرايا الضمير وهكذا تتجرّد حقوقنا الوطنية في وطنهم من أي معنى.
فمن ينقذ لبنان ؟
ليس لنا من اختيار آخر وسيحل لبنان العدل والتحرُّر المسجّى على هذا الصليب الآن وأكثر مما أحببناه من قبل لأنه ابن حريتنا القادمة سنأخذه معنا الى حياتنا العاديّة وسيأخذنا معه الى حياتنا العاديّة وسيأخذنا معه الى اسمه الحقيقي البسيط لنحلم معاً بوطن جديد لا بطل فيه ولا ضحيّة.
عن فيروز
لولا فيروز لكنت يتيم الأمّ، كنتُ أحمل سنين قليلة وأمشي ولداً على الطريق الطويل في اتجاه الأغنية أبحث عن أمي.
« وحدنا يا ورد راح نبكي»، هذا هو طعم أغنية فيروز الأول فتشتُ فيها عن أمي وبعد سنين، فتشتُ عن حبيبتي، وفتشت فيها عن وطني وليس المكان الذي ولدت فيه هو وطني، كان صوت فيروز وأعمال الأخوين رحباني وطني، شموع كثيرة تُضاء كل يوم لفيروز، لكنّا أقل من الشموع التي أضاءتها طيلة هذه السنوات مع الأخوين رحباني للعشّاق للحب للحرية وللوطن.
فيروز غنّي كثيراً لأن البشاعة تملأ الوطن
دهشة الفولكلور
كم يبدو الهم الفني تافهاً حين تصبح الحياة بمعناها الغريزي البسيط هي الهم وكم يبدو الكلام عن الموسيقى والرقص والتجديد والتقليد شأناً صغيراً سخيفاً حين نعيش في بلد لا نعرف فيه غير الدمار والقتل ونعيش الخوف والموت ولكن لا بد أن نحلم بعالم أفضل وبقليل من الاوكسيجين طالما أن الشمس تسقط في البحر والبحر يحملها والقمر معلّق فوق الجبال ويكبر على أغصان الشجر.
أيتها العاصفة هل العصافير ركن تحت الأشجار ؟
سنة 2000 أتاني الكوريغراف عبد الحليم كركلا بنص عاميّ لا يقول شيئاً وقال لي أريد منك موسيقى لدبكة فولكلورية «غير شكل «، وأنا بعيد عن « الدبكة « بعد السماء عن الارض واكتب لفرقة كركلا منذ تأسيسها في العام 74 موسيقى لرقصات تعبيريّة حالمة دافئة ممتلئة أنوثة وعري كامل، كيف تريدني يا استاذ أن أدخل عالم لا أعرفه ولا ميل عندي له ولكن عبد الحليم كركلا اصرّ، قلتُ له: لا أريد أن يزعل مني الاستاذ زكي ناصيف أبو الفولكلور، وكان هو المسؤول عن الجانب الفولكلوري والدبكات في اعمال فرقة كركلا. قال لي: لا بالعكس زكي ناصيف هو الذي قال لي «خلّ مارسيل يلحنها «. أخذت الملام على مضض وذهبت الى خلوتي اتعذّب وأفكر كيف عليّ ان أؤنث الدبكة المليئة بالفحولة التي لا «أطيقها» وأتيت بعد حين الى الاستوديو بموسيقى مختلفة، ولدبكة مختلفة حازت على إعجاب الفرقة واندهاش سيد الفولكلور صديقنا الجميل زكي ناصيف وقال لي: «يا ابني هذه الدبكة تحمل شفافية وإغراء في آن»، وأخذني بين ذراعيه بضمّة حنونة. وقياساً بسماكة جدران الفولكلور كان زكي يبدو رقيقاً والحق ان هذه الرقّة تميزه رقة فطرية طبيعية ظاهرة في كل أعماله مع كركلا، وهكذا كان حيث لمحتُ ابتسامة زكي المليئة حناناً ومداعبة.
شيء ما كالحب انتشر تلك الليلة في مهرجان بعلبك عندما ختمت الفرقة عملها بدبكة العديات» التي كتبتها. شيء من روح لبنان وروح من سبقونا وعلمونا شيء يظل تائهاً عاصياً على الامحاء و غير قابل للاحتواء، شيء كالحب كالمساحة الروحيّة اللا محدودة التي يقوم ويبنى عليها لبنان الجديد.
الشعر
أحببت الشعر مع حبي للموسيقى وكنت ألحّن القصائد المدرسيّة كي أحفظها وأتلوها غيباً في ساعة الاستظهار. وعندما كبرتُ قليلاً وقرأت الشعر العربي القديم أحببتُ أن ارتكب هذه الخطيئة الفاتنة وبدأت أغازل خطاياي في المراهقة بشعر طاهر ثم أدخل من أحببتها الى جحيم أو نعيم الخطيئة مُكابراً، مغوياً كالعاشقين، كان الجنون على أشدّه وما زال حتى اليوم، كنتُ أصرخ بصوت مجروح وأواصل تلاوتي حتى يفيض الشعر، وكلما كبر العمر كان يعجز عن إحداث وهن في القصيدة، وكان الشعر من كل حدب وصوب لا يموت ما دام العمر لا يشيخ مهما كبر !، أحببتُ الشعر لأنّه لا يكبر يظلّ شاباً، خارجاً على القانون، متمرداً، صوفيّ التأمل والروح والحلم والتوحّد.
وجمعت في الشعر ماضيا مشبعا بالسحر ومستقبلا مزدانا بالتفتحات الرائعة، وكان الشعر يُوصلني إلى تلك النقطة التي يلتقي فيها الماضي بالمستقبل والحلم باليقظة والجنون بالوعي والخارق باليومي. بواسطة الشعر تحررتُ من قيود الرب والعقل وخاصة عندما يَنزلُ تمزيقاً بالمحرّم ويحرّض ويشيع العصيان، الشعر عمل على تحرير اللغة من كل ما يخضعها من المنطق والعقل والقيود وحررّها ممّا يقمعها في مهد العفوية، وصف الأحلام كما هي واستخدم مختلف أنواع الهذيان والهلوسة الساحرة.
التقط الشعر الصرخة والسطوع والانبهار واللون الضائع والنشوة والإيقاع الهارب
اقتحمني الشعر اقتحام الحريق ضدّ كل شيء وجُنّ جنوني ببساطة الالحان والأولاد والانبياء
وما نحن بلا شعر؟
الشاعر يستأثر بالعالم، لقد تسلحت بالشعر وبالحنين إلى الينابيع الأولى إلى النقاء في الشعر والحياة، ومع ذلك رامبو أهم شاعر بالعالم فشل. فشل بالنسبة إلى المطلق ولماذا لا يكون المطلق فاشلاً؟ ولكن الشاعر الحقيقي يتألم ويصرخ و… يخيب
لكنّه لا يستسلم لا يترهّل لا يخون نفسه والآخرين، وعندما أتكلم عن الشاعر ليس فقط الذي يكتب الشعر إنما الانسان الشاعر الذي يعبث به هواء الخوف وتتدحرج إلى جوانبه أوراق الغيظ والتعب والحزن ورغبة مهشّمة مصلوبة في الحياة وبالشعر الرجاء للإنسان.الشعر يرقص عارياً في الشمس بلا حياء وحتى الإغماء، لا احتمال للحياة خارج الشعر ولا جمال للحياة خارج الشعر ولا حياة خارج هذا الشيء القليل أو الكثير أو التام من الجنون الذي هو الشعر دائماً باق بجهة الشعر.
يقولون أن الوطن العربي هو وطن الشعر وكلما قلبت حبّة رمل من رماله أو حجراً من حجارته وجدت شاعراً ولكن أين هم هؤلاء الشعراء وماذا فعلوا بهم؟ وماذا يعرفون عنهم؟ لماذا يكون الشعراء في بلادنا تحت الرمال أو تحت الحجارة ولا يكونون فوقها، اذا انقرض الشعر فأين يكون أمل البلاد ؟!
سيكون بمزيد من الشعر في العودة التي لا تنتهي منه فهو دائماً يعود، دائماً يبدأ
لم نسمع مرّة أن الشعر توقف ! ولكن الشعر ككل خلاص يحلو له أحياناً أن يماطل فيزيد الشوق إلى وصوله والشعر دائماً يصل ويسبق ويتخطّى.
وما نحن بلا شعر ؟
حتى في الوجوه يجب أن نجد أثراً للشعر، حتى عيون الناس، ويوم كان يضيع الشعر من الارض كانوا يعثرون عليه لاجئاً فيها ؟! هل من مكان اليوم بعد للشعر؟ وماذا يهمنا بعد عشرات ألوف القتلى والجرحى والمهجرين ماذا يهمنا من الشعر، هل من مكان اليوم بعد لشاعر يقول «الأنا»
نعم !
كل المكان لأنا الشعر وفي هذا الزمن الاجرامي السافل خصوصاً إن كل «أنا» شعرية تضيء الآن هي شمس كبيرة. شمس تعيد إلينا الحب والكرامة والحريّة، شمس تذكرنا أن الشعر هو العالم، شمس تعيدنا إلى الحياة، تنقذنا، كل «أنا» شعرية تضيء هي انتصار على الموت والحرب والوحشيّة والابادة الروحيّة والنفسيّة والجسدية. ووسط هذا المشهد المرعب المؤلف من الجثث والأشباح والأنقاض والركام والضباع الكاسرة والغربان والعقبان. اذن من يستطيع أن يحب ويغني ويستشعر وهو يعيش في الموت؟ !
ذلك بالضبط هو الجنون ذلك بالضبط هو الرجاء ذلك بالضبط هو الخلاص، الخلاص من حقارة الواقع والخلاص من فكرة الموت.
الكتابة لآلة العود
لقد نقلت بواسطة آلة العود لغة موسيقية خاصة من سحر الشرق القديم ورومانسية حنونة وإيقاعية صاخبة. اعترف بأنني ما زلت أنحني واصلي للعلاقة الوطيدة القائمة بين الجمهور وبين أعمالي واعترف أيضا أن الهم الموسيقي ما زال يوقظني للسهر على المرأة الطالعة في البال وعلى الشهداء عندما يذهبون الى النوم اصحو لأبوح موسيقى.
لقد كتبتُ «جدل» ثنائي العود ومتتالية أندلسية للعود مع الاوركسترا وكتبت رباعي العود «لم يصدر بعد. كتاب «السماع» الذي صدر في الثمانينات تضمّن مؤلفات كتبتها خصيصاً لآلة العود، ولقد جمعت كل كتاباتي للعود في اجزاء ستصدر لاحقاً. وأنهيتُ حديثاً كتابة كونشرتو جديد للعود. لقد عدتُ في هذه الكتابات إلى أول الطنين فليس في وسع الموسيقي إلاّ أن يكون موسيقياً يرغب في التعبير عن فرح غامض، ولقد عثرت في كتاباتي لآلة العود على جدوى الطرب. لقد سافرتُ في الحنين تعلقاً بالوتر المشدود على زند العود يأخذني إلى ذلك الصدى القادم من بلاغة وبساطة وجرأة الأمكنة والمطارح والنَاس والأشياء والحياة بشكل عام. أردتُ لآلة العود عند كتابتي لها أن تشك فيما هو قائم لتنفتح على نفسها. ولقد أحببتُ أن اعترف للعود بقيمته وأحب أن اثير حساسية المستمع وانقش خياله. ليس في الفنون ما هو ارفع من الموسيقى. الموسيقى هي الفن الخالص الوحيد الذي يثير في استمراره وإيقاعه وتموّجاته أسمى متعة مجردّة يعرفها العقل البشري.
أذهب الى العود لاستخرج الموسيقى، لم يعلمني أحد كيف اكتب للعود وكنتُ أشك في ما كان يثق به الأساتذة وهم يضعون الدرس تلو الدرس لكي اخضع لمثال ليس لي ولست له.
أحببتُ حنّا كرم ذلك الدركي المتقاعد في ضيعتي الذي أعطاني ألف باء العود ومن ثم فريد غصن المميّز والكبير في آن. ابراهيم حبيقة عازف عود قدير على السمع، تعلمتُ منه الكثير وحليم اللقيس في مدينة جبيل. تعلمتُ من هؤلاء لأنهم خلعوا النظريات الثابتة لتحقيق أكبر قدر من البهجة باكتشاف المخيلة في حياة محرومة وفقيرة من الحب والحريّة. وبالعودة إلى تجربة كتاباتي لآلة العود بحثتُ عن أفكار موسيقية حرة إلى أقصى مداها. إيقاع منفتح على أرض غير مألوفة انطلاقاً من المألوف. نوع من التخصيب عبر البحث عن قانون للجمال المتجدّد وليس الاكتفاء بجمال منجز، وفي هذه الكتابات لآلة العود كان الغوث حاداً لاكتشاف مشروع مستقبلي يمكن فيه المصالحة مع المجتمع والدفاع عنه بعدم تهميشه أو إجباره على العودة في آلية دفاعية سلبية إلى بناه التقليدية والأخلاقية.
أشعر بالحرية الكاملة في اثناء الكتابة،لا يقتضي أن نلغي أنفسنا كأفراد لنا أهواؤنا وتوازننا ووساوسنا وحاجاتنا الملحة الى قول الأمل بدون خجل. والمشروع الفني لا يمكن أن يتحقق إلا اذا تفتحت هذه الأنا ومارست حريتها وقالت نفسها دون حياء.
لقد حاولت أن انقل بواسطة العود لغة موسيقية خاصة في هذا الزمن الصعب الذي نعيشه، تبقى النشوة الكبرى في أن نجد القدرة على أن نقول – لا – في وجه هذا المد الطافح بالقذارة والبؤس وأن نحمي الموسيقى والعود من الفضيحة وخارج ذلك قد يتسع الوقت للمزاح والحب والعشق والفرح وللحريّة وللحياة.
مع رامي وبشار خليفة
أرابط اليوم مع رامي وبشار خليفة لندافع عن حريّة الأجنحة، ولقد حقّق هذا اللقاء في الثلاثي الذي أسسناه المصالحة بين الوجدان الشعبي العام وبين الموسيقى لننتقل الى سدّة التجريب الذي يستثير حاسة التأمل. حوار بين الموسيقى وبين صور الحياة في تأليف متنوّع، ينتج بساطة وعذوبة. بدأنا من صفر كما لو أننا لا نعرف شيئاً وكل محاولة هي قفزة في الظلام. موسيقى تَخَلَّق الشم وتدعو الى مراجعة الذات، تعرية الذات، موسيقى تشكّل فعل مشاغبة عصياناً وجودياً نزعة حادة للإفلات من القطيع، دعوة الآخرين لارتكاب الشغب نفسه. صرخة جريئة من أجل الحريّة لنشتبك مع هذا الدوران المدهش الذي يحدث للعالم وإن لم نكن منخرطين فعلياً في الشغب الذي لا بدّ منه، لن نتمكن من المساهمة في الإجابة عن الاسئلة المطروحة وإلى التعبير وخلق الحوافز في لغة جديدة لوعي حركة المجتمع والناس. ليس ارتباط الموسيقى ببيئتها وبالظروف الاجتماعيّة الجديدة وبازدياد الوعي يطورها بل قدرتها على الاغتناء من مجمل الفكر والتكنولوجيا الذي تخلقه تقاليد أخرى تكون أحياناً مختلفة جداً. هذه العملية تأخذ طابع التبادل المشترك.
رامي وبشار منذ صغرهما كسرا معايير آلاتهم الموسيقية. بقلقهم خلف آلاتهم الموسيقية في ذروة الاندماج الساحر وطقس الموسيقى صعب المراس اذا لم يأته عازف ومؤلف خبر تقلباته. ميل وجموح للتوحّد مع الآلة بعد أن ضجّت الذات بمخزون صنوف الموسيقى. بدون شك ليس الأمر سهلاً أن تنعقد الموسيقى على هذا القدر من الخلق والتمكّن لو لم يجيء أصحابها من التمرين والمرجعية الوافرة. وبهذا المعنى لا غرابة أن نقدِّم سوياً عملاً مشتركاً من تأليفنا، نذهب إلى مجهول غامض نحبّه غامضاً دائماً في المستقبل، لنطوّر لغتنا ونحميها من التكرار والإرهاق بثقة متبادلة بعلاقة متجددة مع تجدّد الذائقة والعصر والزمن والحداثة والمعاصرة وعلى قابلية حضور العمل في زمن غير الزمن الذي ولد فيه. إن الإنسان الحر هو الذي يستطيع أن يفارق ذاته الضيقّة إلى المطلق كمسافر جوّال والحياة تكتسب معناها من تحقّق هذا السفر المستمر. ليست لدينا مُعجزات لدينا مخيلة وأحلام وحريّة الأجنحة وليس أمامنا سوى الذهاب الى الأفق البعيد مع الطيور العاصية لأن الإبداع توغّل في غموض ما لا يعرف. فالمعروف هو ما تمّ اكتشافه وصار ناجزاً ومستقراً. نخرج عن الطوق والطريقة معاً ونصدر عن الحياة الأكثر تأججاً واتصالاً بالمستقبل. جمعتنا الموسيقى بشغفها والابتكار والتحدي، الوعي المحفوف بالمخاطر. عوالم موسيقية وانسانية يحدّها التجاذب والتصارع حيناً، التجاذب والتضاد أحياناً اخرى. حرية الاختيار والتجريب حمل الذاكرة والسفر إلى أماكن جديدة تعبق بألوان الحياة والإنسان.
رامي وبشار يخوضون رحلة جديدة مع مشروعهم الشخصي وكان التواصل بدأ منذ عام 2000 وذلك عند انضمامهم إلى الفرقة. كانت رحلة غنيّة حيث تشرّب الاثنان من مخزون موسيقي وانطلقا في وضع بصماتهما على أعمال جديدة صدرت لرامي ولبشار.
عمل الثلاثي هو عمل إبداعي جديد فيما يحمله من مؤلفات لنا جميعاً في صياغتها وتنفيذها وأدائها غناء وعزفا وتعبيرا فنيا. يتحاور العود والبيانو والإيقاع في نغمة أو عبث في ضوضاء أو حب. صراخ وهمس ولع وفخر حتى آخر نوتة.
من السجن القسري إلى التمرد الحر
في هذا الملف الذي اقترحته مجلة نزوى بواسطة صديقي الشاعر الجميل سيف الرحبي في قلب عُمان علني قد وجدت في هذا الحوار كلمة للحنين على صدر هذه الصفحات وعلى وقع اقلام أصدقاء أحببتهم وليتني أقدر أن أجعل الحلم قنديلاً يؤرجح ظلالكم. حاولتُ أن أكتب لكم عن فرح غامض عن سعادة ما وسط هذا الظلام الدامس. أكثر ما يعنيني في هذا الملّف هو إنسانية الفن وقدرته على إعادة الدهشة من جديد وذلك عبر الرحيل مع كلماتكم الحرّة لإشعال شمعة ولعن الظلام في آن. شكرًا لكم سأظل أحبكم وهذا حق مشاع كما اعتقد وليس لأحد مصادرته ذلك الحب الجميل الذي ولد من صخرة الجبل متميزاً برهافة عصفور.
لقد عدتُ بالذاكرة إلى أول الحرب إلى السجن القسري في بيت أهلي بضيعتي، وهذا السجن جعلني أغني لأن العزلة كانت كبيرة وكان بيتنا الصغير يتسع ويحتضن الموسيقى والغناء في قصائد أولى لمحمود درويش وكانت الشمس تطل من ثقوب الشبابيك تملا قلبي بالألحان الجديدة تشرق من صوب الجبل وتغطّ في آخر البحر وتبعثر في المياه الدافئة في جواز السفر المسلوب في قهوة الأم ولمستها في عيون ريتا ووعود من العاصفة. لم أحص الأيام التي قضيتها معزولا داخل جدران البيت والحرب تنتقل من منطقة الى أخرى ولم تضع أوزارها حتى الساعة. لم يصغ إليَّ أحد في عزلتي آنذاك وكان عندي رغبة ملحّة للخروج من هذا السجن الى الضوء وقبل الدخول في تيه الطوائف خرجتُ وتركتُ ورائي أهلي وبيتي وضيعتي ووطني ذاهباً الى بلاد بعيدة. لم أكن أريد أن انكسر أمام البواريد هاجرت في مهب الريح.
تركت كل شيء وذهبتُ إلى مجهول غامض أعزف وأغني لأكسر هذا الصمت المدوي على أطفال ينامون في العراء يصرخون من الهلع والوجع ولأبرأ من خطيئة الأيدي التي كانت تجر بالحبال رجالاً كانوا لا يزالون على قيد الحياة.
كنتُ أنام في هجرتي الأولى لاعتقادي بان النائم لا يكبر في النوم. لا أريد أن أكبر في الغربة أريد أن أعود إلى ضيعتي الشتائية ولكي أتذكر ما نسيتُ من الغامض في الصحو أنام لأحلم. برد قارس يحتضنني، أمشي تحت المطر بلا مظلّة يوجعني الغياب عن الوطن. بعد سنة أعود من بوابة النار الوحيدة والعائد ينجو من بشاعة الميليشيات التي طوقت طريق البيت. بالطبع لا شيء ينهزم أمام إرادة العائد في لقاء خاطف مع الأهل ولم أقع في قبضتهم. وتطول الأيام والشهور والسنون تثقب القلب بالتعب والقلق والبحث وكانت الموسيقى واحدة من اجمل الوسائل لتفادي فقد الذات.
لست خبيراً في أي شيء غير أنني موسيقي غائص في الموسيقى منذ الطفولة وحاولتُ على مدى هذه السنوات أن أنقل من خلال الأغنية والقصيدة والموسيقى بعضاً من طرق رؤيتي. أسكن في الطائرة وأقلب المدن صفحة صفحة، أبدأ كل يوم من جديد كما لو انني لا أعرف شيئاً، قفزة في الظلام من على الصخرة العالية.
يمر الزمن والعمر والسنوات. ربما لا أشعر بتلاشي السنة من الروزنامة. كنتُ فيما مضى أباً لولدين ثم أصبحت اليوم مأخوذاً بثلاثة أحفاد وحفيدة مُدهشين يكبرون في البعيد أذهب إليهم كلما سنحت لي الظروف أرقبهم من بعيد تماماً مثلما فعلت مع ابنائي. أنا اكثر حريّة اليوم مما كنتُ عليه في مراحل النضال الأولى عندما كانت السلطات تهندس مبادراتي كفعالية فنية. كل هذا التعب وهذا التمرّد وهذا الحب كل ذلك يشعرني بإنسانيتي ويدفعني الى مزيد من الموسيقى والغناء والحياة.
دون وداع ذهب أبي
الصوت يغني كي لا يبكي في المنفى البعيد هرباً من ميليشيات تقصف كل شيء. إنسان وحيد في مدينة غريبة تمطر كثيراً، فغنيت كي لا تمطر عيوني. وكان الليل بارداً والأنين حارقاً يكويني كلما احتّك بمسام جلدي. كانت الحرب وجرح المنفى يتحققان في الاغنية في جواز السفر. كنتُ اتزوّد بالموسيقى بما يؤرق الحدس ويُطلق الحلم الى حريته القصوى وكنت وما زلت اقنع نفسي بجدوى هذا العبث الجميل لأن الأغنية تحولّت الى نشيد وطني من المحيط إلى الخليج. دارت بي حياتي بعدها إلى زقاق فاصل بين الشرقية والغربية لمدينة بيروت الحرب اليومية، ولم استطع الدخول إلى الجهة الأخرى لأبني جبين والدي لمرّة أخيرة. مات أبي لوحده. ليس كلاماً ما أحاول كتابته إنّه حبر الروح، إنه بكاء القلب، إنه همس الغياب لوالدي الذي أحببته بعمق. وكما ذكرت لقد حرمتني الميليشيات المسيطرة على المنطقة الشرقية بلبنان من إلقاء نظرة أخيرة على وجه والدي لأحتفظ بأسرار الروح. لقد مضى والدي وحيداً ولم استطع أن امشي في جنازته الى تراب الورد.
لديّ من الشجن ما لا يوصف، ولو كان لشَجَنْ الروح صوت لتحتّم سماعه. لم يبق إلاّ صورة تتوهّج الذاكرة كلما شعّ فيها طيف والدي الذي رحل الى سرير الارض. حتى هذا الموت القاسي لا يقدر على مصادرة حق الحب، مثلما يفترق العشّاق ليبقى الحب.
بقي والدي يحرس البيت، كان كالحلم المتمرّس بالوردة في غابة فولاذ، قوته هشّة، ولكنّها لا تخذله مثل غصن يميل مع الريح ولا ينكسر. اتذكر مليّاً مسار القطار الطويل الذي حملني ليلاً من ضيعتي الهادئة إلى تلك المدن البعيدة، الصاخبة. تركتُ ضيعتي قسراً أو الأصح تهجّرت وتركتُ فيها والدي وعيناه معروفتان بالدمع ورحلتُ صوب الشرق وظلّ يتبعني بعينيه انحدرت مع الوادي ثمّ صعدتُ تلك الهضبة وانحدرت ثانية إلى أرض مشاع بدون أن ألتفت الى الوراء. وبعد فترة طويلة سهرنا سويّة ليلة رأس السنة وذلك قبل غيابه بشهر واحد في بيروت وقد أتاني عابراً كل الحواجز، سهرنا حتى الصباح ولم نصدق أننا سنلتقي. تطلعتُ إلى وجهه ألحاني وإلى الخطوط التي انحفرت عميقاً فيه ولكن عينيه كانتا تبرقان من فرح اللقاء وتقولان كلاماً كثيراً. دمع دون خجل لنقرة العود وكما كنّا نحتفل في «قبو» جدي يوسف من زمان وعزفت له تقاسيم من مقام النهوند وآه… ما أسرع ما تبدّد الزمن الآمن.
أين ولّت تلك الأيام؟
أين؟
ورنّ في أذني من جديد تطيبات والدي المعهودة عندما يسمع نقرات العود: «الله.. الله». كانت ساعات حميمة قضيتها مع والدي وفي اليوم التالي حزم متاعه ولملم حوائجه القليلة واستعدّ للعودة إلى الضيعة. حمل معه أيامه وذكرياته واللحظات الحلوة وعاد سيراً على الأقدام حتى بوابة المتحف ومن هناك استقلّ سيارة إلى «عمشيت». وبعد مضيّ شهر سار الموكب بطيئاً، بطيئاً في عمشيت على إيقاع الجرس الحزين. لقد رحل والدي «ميشال خليفة» كما رحلت «ماتيلدا» أمي.
لقد عزفت للعالم كلّه الاّ لوداع أبي الذي اشتهى كل شيء في حياته ولم يحصل على شيء. كان ينتظر رجوعي كل يوم عند مفرق البيت حتّى رحل محزوزاً بقفصه لم تسعفه الظروف على الخروج من هذا القفص والموت سلخه إلى قفص آخر. هل حُكم على والدي أن يحيا في قفص ويموت في قفص؟
كتب لي مرة في احدى رسائله :
« لقد أقفر البيت لأول مرّة من وجه من أحببت. لقد تبدّل كل شيء. شجرة «الكينا» أمام الدار نزفت ورقها الأخضر حتى الموت. يبيت «اللوزة» في «الجلّ» الفوقاني. تجعدت الحيطان من حولنا ونسيَ اللوز في الربيع أن يزهّر وزلزلت الأرض تحت الأقدام ورحت انتظر رسالة خبراً كلمة من وراء البحر».
وكتبتُ له أطمئنه من بعيد: «فترة صغيرة يا أبو مارسيل وتمضي وكل شيء يعود كما كان»، وكان يُصدق كلامي، ومرة كتب لي في شتاء قاس: «مرق الصيف وخلفه صيف آخر. برد الطقس. سرَّبت العصافير وقصفت الريح غصون شجرة الكينا. شهر كانون قاس بلا نار بلا أحباب، إن تصح يلسعك الغياب وإن تنم تسرّب الوجوه غزلان صحراء لتشرب تحت الجفن من ماء العين». عسل صبره ضجر كفر انزوى صمت وعيونه على البحر. لا قلوه أبيض في الأفق وملح عينيه يزيد الأزرق ملحاً
مرة على الهاتف قلت له :
«شو صارلك يا زلمي؟ شدّ حالك، كن قويّاً. لا تجعل من انتظارك الطويل سفراً الى واحة من سراب. إنه الليل وسيرحل قريباً». كان يسمع نبرة صوت من ينتظر، هبّ من فراشه، طرد الطبيب، حطّم زجاجات الدواء، خرج إلى الشمس، جمع كل الورق اليابس تحت «صاج» الفرح ليخبر حياة جديدة. بقي والدي شهوراً وسنين على عتبة الدار أمام البيت يصحو باكراً ينام متأخراً لئلاّ آتي وأجده نائماً.
لأيام كان يصرّ: لا بدّ غداً
لأشهر تمنّى: هذا الشهر
وأخيراً صار يسأل: هل يأتي السنة؟
حفّت عروقه وتراً وتراً وتخّت عظامه قصبة قصبة وترامى جلده خريطة يأس وقهر وانكسار. على الدروب سعف نخيل وغصون زيتون.أرى أولاداً وشموعا، أسمع هزيجاً ورجع أجراس. الصبايا خرجن وفي أيديهنّ أرّزاً وزهراً، الموكب يقترب والنشيد طالع من الأرض وأنا ذئب شوق الى يدي والدي الى جبينه إلى وجنتيه. لكن أبي سئم الانتظار الطويل وأطبق جفنيه وشفتيه على اسم من أحب. الصبايا لبسن السواد، سعف النخيل أكاليل والموكب بطيء بطيء على ايقاع الجرس الحزين وأنا أحمل وجعه في صدري وحسرته تأكل قلبي، وعيناي على حاجز الميليشيات الذي حرمني من إلقاء نظرة اخيرة على من أحببت. علمنّي حبّك الصدق.
إلى أعالي النشوة
أنا والخريف نحبّك، أمشي إلى موعدي في الطريق المبلّل برذاذ المطر، يا امرأتي يا حبيبتي، لا أريد أن يتعب الحب، أذوب على نمش الضوء ما بين نهديك تحت ألحفتنا في ليلنا الخاص، أريد لأغنيتي أن تكون سريرك لتكمل هذا الزفاف الأبدي، أمسّد نومك من الحلم، التحفي بي، لتنامي على أرضي. يُخيّم شعرك فوق جسدي. نامي عليّ وفيّ. يُغلفك النوم بي. نامي وأوقظي جسداً يشتهيك خيطاً خيطاً، لأغزل صوتك، لألبسه ويطلع نهار ويهبط ليل واسكن فيك في لغزنا المشترك ونفيض عن الليل. روحي تطلّ على جسدك من أصابعي حتى أقاصي الهديل. خذيني برفق إلى الغد. أرفّ عليك ولن أخشى ضعف الهواء. نهداك يمتلئان بشهوة أمسي. حليب يجري في رغبتي، لا حاجة بي إلى الاعتراف بحبي للمرأة، فلا سرّ لي، سيكتمل القمر على خلوتي في هذا المساء وأنا اكتب عن المرأة، عن ذلك الصفاء الآسر، عن تلك الطراوة كالحنان، يا حبيبتي، غلبتني الرقّة، في قطرة الندى المتألقة، في سنبلة القمح المكتنزة، في صمت الليل الصاخب، في عيون مبللة بالدموع، في وسع السماء المنتشر في الآفاق، في نار اللوعة، في نجمة الصباح، في خفقة جناحي فراشة على سياج جسر خشبي بين عشبتين، في خرير مياه الساقية التي لم تجف، في خطوات صامتة. أتأمل «آدم» العاشق الأول عندما أصيب بالحب لم يعد يفكّر بالوصايا، حملته الفراشة إلى مدارج الضوء واحترق الحب كالموسيقى صعب تعوذه الموهبة والمكابدة والصوغ الماهر. لا يكفي أن تحب بل عليك أن تعرف كيف تحب. ولقد اجتاحني الحب كعاصفة ولقد تعرفت على المرأة- الحب منذ تعرفت على صواب قلبي الأول، منذ يممتُ شطر الصعود الى أعالي النشوة وكنت أواصل طريقي دون مقايضة النتيجة بحساب الربح أو الخسارة.
كنت أترك أغنيتي تعالج أوجاع الحب. أفرحني الحب وأوجعني أيضاً. كان يكفي للمرأة أن أضع أقدامها في هذه الحياة لتعطي طعماً للحياة. المرأة سيدة حياتي. المرأة معجزة لا حدّ لها وأحسّ دائماً بأنني محظوظ لأن عندي أم وأخت وحبيبة وحفيدة. تلك معجزة لا حدّ لها.. يا الهي، أني أحب.
كنت أفضل أن لا يصبح حبّي مُشاعاً على هذه الصفحة، ولكنني نسيت حذري وكأن قوّة خفيّة أملت لبصمات أصابعي هذه الكلمات
من هي؟
هي من يتردّد صداها في أغنياتي، أشعر بوجود امرأة فيّ، وأحلم أن أعود ابناً لأم تكون في الوقت نفسه كل وجوه المرأة. لنا الحب. نحن في الحب. بللنا الحب فامتلأنا برائحة العنقود.
حوار: هدى حمد