( تأكد أن الأمور تسير على ما يرام!!)، هذا ما كتب على بطاقة مرفقة مع كيس أسود كبير وضعه أحدهم أمام الباب!
خبأ الحارس البطاقة في جيبه بعد أن قرأها وفتح الكيس
-آها، كمية كبيرة من الموز .
ثم دخل إلى مقر عمله وأغلق الباب.
* * *
اتكأ أحدهم على حجرٍ مريحٍ وقال:
-نحن نحب الموز كثيرا أو بالأحرى لا نحب إلا الموز.
سيأتي اليوم الذي ننعم فيه بالنهاية السعيدة، موزة عملاقة لكل واحد منّا.
ضحك الجميع وهم يهمهمون بالموافقة لهذا المتحدث البارع الذي قال ما تحب وتتمنى أنفسهم، ضحكوا جميعا وهم يتناولون مأدبة صفراء اعتادوا عليها في هذه الحفرة، الحفرة التي تعزلهم عن أي شيء آخر في هذا العالم، تتسع بما يكفي لتجمعهم إلى جوار بعضهم البعض حينما يخرجون لرؤية بقعة محدودة من العالم في النهار وتلفظهم إلى غرفة سوداء مظلمة في الليل حيث يفصل بين المُقامين بابٌ فولاذي.
ضحك البعض بخفة بالغة وبعضهم باتزان وهيبة – احتراما لمقام كل منهم – وضحك الكثير منهم لأن رفاقهم ضحكوا وحسب، إلا فرد جديد لم يكن يفهم ما يحدث، حاول أن يفعل ذلك مرارا ولكنه لم يستطع، فقط يجلس كل يوم في مكان منعزل من الحفرة الدائرية لوحده، وينقطع عن كل شيء مع الآخرين، يفكر وحسب، يلتصق بظهره على جدار الحفرة الرمادية الذي يتصاعد للأعلى من كل اتجاه حتى السماء أو هكذا خيل له، وعيناه المتعبتان من النظر إما تنظران إلى اليسار نحو صفيحة رمادية عريضة كلون جدار الحفرة – يخيل إليه بأنها نافذة – أو تنظران إلى اليمين نحو أشباهه من أصحاب القمصان البيضاء وهم يجتمعون إلى بعضهم البعض يقابل كل واحد منهم صحنا أبيضَ ينتظر فيه دائما غذاءه الشهي، يتوسطهم أكثرهم طولا وأكبرهم عمرا وهو يتكئ على حجر مريحٍ.
( أريد أن أفهم) هذا ما قاله المنعزل الصامت وهو يغوص في أفكاره حتى توقت عيناه في الحجر المريح إلى أن شعر بصوت صاحبه الغاضب: ألست جائعا ؟
– ( حدق إلى عينيه ولم ينطق بكلمة)
-منذ وأن أتيت وأنت لا تأكل الموز ! ، يا صديقي هذه الموزات الثلاث هن شفاء لآلام رأسك.
جحضت عينا المنعزل فجأة ثم أطرق ببصره العميق إلى الأرض، وقال كلاما كثيرا في نفسه، لم يسمع منه إلا «اللعنة». همهم الآخرون موافقة على آخر جملة سمعوها للتو فقال أحد أفراد المجموعة: نعم ستشفى، وضحكوا جميعا.
* * *
هذا ما يقولونه لأنفسهم وهم يجتمعون حول بعضهم في الحفرة، يشمون الهواء النقي، ويحدقون إلى السماء البعيدة، ويتكدسون بين الحين والآخر حول شجرة ميتة في وسط الحفرة.
كان الحارس يكتفي بالتحديق فيهم عبر نافذة زجاجية واسعة تكشف له ملامح الحفرة كاملة، يرى كل ما فيها،على يمينه منعزل يمسك برأسه أكثر مما يمسك أي شيء آخر وعلى يساره بقية المجموعة يتوسطها الحجر المريح وصاحبه، لم يعبأ يوما بالتحديق إلى السماء أو الأرض أو باستنشاق الهواء النقي فهذا لا يعني له أية قيمة، يعجبه فقط أن ينظر عبر الزجاج إلى الحفرة وما حوته، ويمضغ …
يغمض عينيه من فرط اللذة .
-ياااااه ، هذا الموز ألذ بكثير مما كان عليه !
رفع رجليه ومدهما فوق الطاولة واسترخى مجددا وهو يحدق إليهم .
* * *
-الحمد لله. هذه نعمة بحد ذاتها ، لا أظن أن هناك حظيرة أخرى يحصل كل فرد فيها على ثلاث موزات في اليوم.
قال وهو يتكئ على حجرٍ مريح.
نظروا إلى بعضهم وابتسموا جميعا، وابتسم المنعزل أيضا كان يحدق باتجاههم، كانوا يتشابهون كثيرا لدرجة التطابق أحيانا، ملامح وجوههم تشيء بالغباء نفسه وكأنهم امتداد لصورة الحجر المريح وحسب، في الحفرة لا يملك أحدٌ منهم اسما، يستخدمون الصفات فقط ، تأمل المنعزل وجوههم الجامدة التي لا تحمل أي معنى قد يستفاد منه وهو يؤكد لنفسه أن المعنى هو الأهم !، كان صدى الكلمة الأخيرة يرن في أذنه وهو يراهم متجهين نحو حوض الماء ، حيث شربوا وتكدسوا حوله تحت الشجرة، أنكرت عيناه ما رأتاه فتدفق السؤال الذي أعياه طويلا حتى أطرق تعبا: ماذا نصنع هنا ؟! ، رفع رأسه وحدق باتجاه النافذة الزجاجية التي يعتقدها وشعر فجأة أن الإجابة تكمن وراءها.
* * *
خلف الزجاج توقف الحارس عن المضغ تماما أخفض رجليه، فبدا جادا كثيرا في جلسته .. وبدأ يفكر.
* * *
اليوم.. خرج الجميع إلى الحظيرة مجددا، ليستنشقوا الهواء النقي ويأكلوا وجبتهم، وجدوا كعادة كل صباح وجبتهم المفضلة من الموز على صحن كل واحد منهم !، كان يوجد في كل صحن ثلاث موزات، إلا ذلك الصحن المنزوي كصاحبه فقد وضعت به أربع موزات، الجميع لاحظوا ذلك، بدأوا ينظرون إلى صحنه بحقد، ود كلٌّ منهم أن تكون له تلك الموزة الإضافية فهذا الوافد الجديد لا يملك أي ميزةٍ بنظرهم تجعله يكسر فكرة المساواة، بل على العكس يبدو أنه أقلهم رغبة في الأكل وأكثرهم اختلافا وأكثرهم غباء فلماذا إذا يحصل على موزة إضافية؟، قرروا جميعا بأنه لا يستحقها.
ها هو صاحب الصحن يظهر بعد أن خرج الجميع للخارج، يخرج لوحده كالعادة، يرى قدميه فقط وهو يسوقهما إلى مكانه المعتاد يفكر في أمرٍ ما ثم يَغرَقُ فيه. ها هو الصحن مجددا ولكن على حالٍ مختلف، يجلس في مكانه كما اعتاد في كل مرة تماما ! ويتكئ برأسه إلى الحائط ليحدق مباشرة إلى النافذة الزجاجية.
صمت الجميع ونظروا إليه وهم يفكرون في أمر واحد: هل سيلتهمها ؟
أمسك المنزوي بصحنه ودفعه باتجاه الجميع، أبعده تماما، ثم ضم يديه إلى بعضهما، ولم يتكلم، نظر الجميع إلى بعضهم فأخذوا الصحن.
نظر إليه صاحب الحجر المريح لبرهة .. أنكره ، ثم اقتسم الموز مع الرفاق وهو يفكر بهذا المنعزل الجديد الذي أتى منذ أسبوع !، وما زال لا يحب الموز، ياله من أحمق!، كم من أمثاله ممن حرموا حتى رائحة الموز!.
فجأة انقطعت أصوات الجميع ونظروا وراءهم حيث النافذة الزجاجية هناك، رأوه يقف مقابلها مباشرة ذلك الصامت المنعزل عن الجميع، ألصق يديه على النافذة كأعمى يتلمس الطريق فشعر ببرودة آتية من عالم آخر، كانت هذه المرة الأولى التي شعر بذلك في الحفرة، ألصق وجهه وحاول أن يحدق في شيءٍ ما ولكن لم يرَ إلا نفسه، فأغمض عينيه سئما ولكنه رأى الكثير.
* * *
وقف الحارس فجأة ووقفت في دواخله أشياء كثيرة، ظل ينظر لصاحب العزلة أمامه مباشرة وهو مغمض العينين، شعر به وكأنه يرى أكثر مما يجب.. أدخل الحارس يده في جيبه وأخرج البطاقة البيضاء مجددا ، قرأها مجددا وأمعن في تأملها حتى قرر أخيرا أنه فهمها كما يجب.
* * *
في المساء وبعد أن أغلقت البوابة الفولاذية أوتوماتيكيا عقب دخول المجموعة إلى غرفة المبيت ساد الظلام تدريجيا.. فقال أحدهم: الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الظلام لنشعر بقيمة النور .. وهمهم الجميع كما اعتادوا أن يتفقوا في كلام بعضهم البعض، لم يعرف أحد منهم من القائل، إنما قال شيئا جيدا ولا يهم من قال فهذا الظلام ينسي صاحب الصوت صوته.
شعر المنعزل هذه المرة بمعنى الظلام فأحس برغبة لذيذة للكلام وهو الذي قد خبأ كلماته زمنا طويلا ، إنه يشعر بالراحة وهو يود أن يسأل دون أن يعرفه أحد.. تردد قليلا ولكنه نطق أخيرا، من أنتم ؟ انقطعت همسات المجموعة فجأة حتى قهقهوا بصوت مرتفع، وانتظر كل واحد منهم أن يجيب الآخر عن هذه النكتة الجميلة كما بدت للجميع ، لم يجب أحد ولكن لا بأس في ذلك فلن يعرف أحد من عجز عن الإجابة، وهذه أيضا من فوائد الظلام التي أشعرتهم بالراحة مجددا، فسأل المنعزل مرة أخرى لماذا تأكلون الموز ؟ شعروا بسخف السؤال وكامل معرفتهم بالإجابة فضحكوا مجددا ولكن لم يقدر أحد على الإجابة فصرخ في المرة الثالثة ؟ إذا لماذا أنتم هنا ؟ صمتوا فجأة وانتظروا أجراس كلماته لتهدأ، همهم كلٌ منهم لنفسه وشعر بالدغدغة، فقهقهوا بقوة.
* * *
استيقظ الحارس من نومه فزعا .. شرب كأسا من الماء، وقال : الحمد لله .
جر وزنه الزائد من فوق الكرسي بقوة وأخرج البطاقة البيضاء من جيبه مجددا وألصقها في وسط النافذة الزجاجية ورمى بدانته مجددا في الكرسي !.
* * *
اليوم.. دخل الجميع إلى الحفرة، كانت الصحون البيضاء قد امتلأت برزق كل واحد منهم كالعادة إلا أن صحنا آخر اختلف، هذه المرة ذلك الصحن أمام الحجر المريح .. دخل صاحبه وركض مباشرة نحوه لمجرد أنه شعر باختلافه، موزة عملاقة تغطي صحنه، التفت وراءه بدهشة تامة ليرى انعكاس دهشته في وجوه الآخرين، اقترب من موزته الضخمة وهو يمزج أفكاره ببعضها، تحسس موزته بشغف تام، «يا إلهي .. هذه الموزة الذهبية العملاقة»هذا ما قاله لنفسه وقد فكر في أنه أصبح فعلا كما يحلم، أنه سيلاقي قدره العظيم أخيرا، في الوقت ذاته الذي تمتزج فيه أفكاره شعر بشغف متزايد تجاه حصته التي كبرت بقدر منصبه الذي بدأ يشعر به، تلك الموزة هام بها كثيرا، تدفقت فيه رغبة تسلق الشجرة خلفه، التدلي في أغصانها الميتة، ودون شعور منه اتسعت شفتاه وهو يبتسم كثيرا وتمددت أنفه المستوية واقتربت يداه من الأرض أكثر، حتى أنه حك أعلا رأسه بسبابته دون أن يشعر .. وفور أن انتبه لذلك أحس بفرح شديد، التفت بهدوء بالغ تجاه المجموعة وترتسم على وجهه علامات الفرح والدهشة معا !، كان قد شعر الرفاق بمشاعره الجياشة وفرحوا كثيرا وهم يرون لحظة تتويجه فهتفوا بصوت واحد : قرد ..، فشعر بالتحقق.
هتفوا للمرة الثانية : قرد ، فشعر بالفخر.
هتفوا للمرة الثالثة : قرد، رنت هذه المفردة في أذنه كجرس نصر عظيم .. أحس باكتماله ، فخلع قميصه الأبيض و جلس على الحجر المريح بعد أن كان يتكئ عليه واستحق التمجيد الذي يحصل عليه لأنه أصبح قردا أخيرا كما اعتقد بقية أفراد المجموعة.
فرحوا من أجله كثيرا فقد صدقت أمانيهم القديمة وإن لم تتحقق كليا فقد تحقق جزءٌ صغير منها. وقف صاحب العزلة مشدوها مما رأى أمامه ، ليس مما حصل لصاحب الحجر المريح بل للمجموعة التي تحولت للتو قطيعا ! ، حك أعلى رأسه هو الآجر وتساءل فيما لو كان هو قد تحول إلى قرد دون أن يشعر، نظر إلى قميصه فاطمأن، وذهب إلى مكانه كما اعتاد ولم يمجد أحدا.
كانوا يجترحونه بنظراتهم والقرد يهددهم، فهتفوا له مجددا: قرد .. قرد .. قرد ، انتشى بما سمعه فبدأ يأكل موزته الذهبية الكبيرة.
* * *
اليوم، انزلق الباب الفولاذي عازفا صوتا جميلا في آذان المجموعة فقد ألهمهم طويلا لذة رؤية النور بعد الظلام دخل الجميع إلى الحفرة.. اندهشوا تماما ، كان ما رأوه أكثر صدمة مما رأوه بالأمس، ذلك المنعزل هناك في زاويته ، أمامه صحن أبيض وموزة ذهبية عملاقة أُكلَ نصفُها، مغرقٌ في نوم عميق، يبدو عليه السلام والسكينة، فكروا على الفور أنه قد تجمد هو الآجر وإن كان منعزلا، فكروا أكثر قليلا وانفجر لغطهم بين مؤيد ومعارض فاختلفوا في ذلك !.
دخل القرد فجأة بعد أن تصاعدت همهمات المجموعة ليتجمد نظره مباشرة على صحنه الأبيض الفارغ ففكر فورا في ما فكر به غيره ،ثم فكر بحرقة:
«هذا الوغد كيف يتجرأ ! ..»، وتساءل بحقد «هل كان ليكون قردا ، من منحه ذلك الحق ؟! لا يملك أي سمة لهذا الشرف !! .. ولن يملك أبدا» ، قال الكثير والكثير .. ولم يستيقظ من أفكاره إلا وهو يجلس على الحجر المريح .
* * *
ابتسم الحارس ابتسامة نصفية ، نصفها يهتز مثل ضغينة القرد الذي فقد موزته العظيمة قبل قليل .
* * *
اليوم ..أكثر إدهاشاً من سابقه ، دخل الجميع إلى الحفرة ليشاهدوا صدمة بالغة أمامهم مباشرة، بقعة كبيرة من الدماء تمدد فيها صاحب العزلة كأيقونة صليب ضخمة استقر فوق رأسه الحجر المريح مضرجا بدمائه. تاه كل منهم في أسئلته .. ماذا حدث؟ .. من فعل ذلك؟ .. حتى التهمهم صوت القرد إلى يسارهم : من الآن وصاعدا سيحصل كل فرد منكم على أربع موزاتٍ كل يوم.
داول الجميع نظرهم بين بقعة الدماء والقرد ، أرد البعض أن يفكروا في الأمر ولكنهم أخيرا هتفوا بكل سرور: قرد .. قرد.. قرد !!.
* * *
ابتسم الحارس ابتسامة عريضة، وخلع قبعته الرمادية التي كتب عليها بالإنجليزية security ، وقرر أن يرفع رجليه مجددا.
* * *
كالعادة .. السماء من ذهب والأرض من ذهب والهواء من ذهب … كل شيء سيبدو كذلك في مخيلة الذي سيضع الآن كيسه الأسود الجديد أمام باب أحدهم!! .
أحمد الكلباني