1
تقترب منه سيرافينا، تعانقه بقوة هادئة، وتهمس في أذنه بأنها محرجة، فـ45 يوما قد مرّت عليها وهي حبلى بكائن جديد. يستقيم روميلو على السرير، وينظر بفظاعة إلى الجسد الأنثوي العاري الذي يغطيه العرق. ثمة شيء في داخله يجعل في ردّة فعله خوفا وخشية من دمه هو نفسه. إنه يتخيّل الابن باعتباره عدوّا محتملا، مثل القيد اللانهائي الذي سوف يلتفّ حول رقبته، ويخنقه ويجرجره طيلة حياته نحو المرأة التي ترقبه الآن بنظرة فيها لطف مصطنع ومازالت تنعكس منها تموّجات هزّة الجماع.
– ألا يسرّك ذلك يا حبيبي؟ تسأل المرأة التي يحتضن بطنها صيرورة مندفعة يريد روميلو إيقافها.
– لا تعرف ما تجيب، هه؟ تقول بصوت رتيب، واثق، وأموميّ.
وصحيح أنه لا يعرف بماذا يجيب، لكنه يتوجّس من أنّ في داخلها يختبئ أحدٌ عليه أن يحاذر منه: الكائن الذي تخفيه في بطنها المنتفخ ينتظر اللحظة المناسبة لكي يهزمه.
– قُلتِ لي إنك كنت تحتاطين، يحتجّ.
لكنها تهمس:
– ليس هناك مشكلة…لا وجود لأي مشكلة- وتواصل: طفل، يعني مزيدا من الحبّ، من حبّكَ.
أظن أنها تعتقد أن هذا الكائن سوف يجمعهما من خلال الاستناد إلى مسؤوليات غبية تحت الذريعة الغبية بأنهما أبوان لمتطفل لا يرغب فيه، ولم يسع للحصول عليه، يخشاه، ويتواصل تكونه في هذه الغرفة المتصدّعة والقذرة، دون إمكانية القيام بأي شيء لتفادي ذلك.
– تعال، يا حبيبي…تعال، استلق جانبي…
وتمدّ ذراعيها نحوه بتلك القوة الأنثوية، الثابتة، والتي يعرف روميلو أنها يمكن أن تجرّه نحو ذلك الكائن الذي سيدمّره ذات يوم (حسب حدسه).
بمحض غريزة، ينطق روميلو بـ«لا» ضعيفة. تمدّ يدها مجددا مثل «أنيمون»، مثل شكل متنكّر للحيلة، تلك الحيلة نفسها التي استعملتها أمّ روميلو من خلال ابنها لاستعادة الأب، ذلك الأب الذي هجرهم عند ولادة روميلو، والذي حاول الفرار دون أن يتمكن من ذلك، لأن ابنه الذي كبر في غياب الأب المؤلم، قرّر أن ينتقم، وبحث عنه طيلة سنوات، عثر عليه في النهاية، وأخضعه من فرط الضربات والشتائم، وأجبره على أن يقوم بواجبه كأب، أب عجوز ومهزوم، خُلِع عن عرشه كأب وأجلس، رغما عنه، على عرش الصور الأبوية التي لم يعد بالإمكان استعادتها من هنا فصاعدا رغم مجهودات الابن.
هكذا أغرقت الأمُّ البيتَ بحنان انتقاميّ، حيث وجد الأب نفسه بقدميْن ومعصميْن مُوثقيْن تحت ثقل أخلاق أسريّة صارمة كان الابن حارسَهَا الأبديّ. وقد أراد الأب الفرار لكنه فشل، لأنّ الابن سدّ في وجهه كل المنافذ بالعنف، ذلك العنف الذي لا يمكن أن يأتي إلا من الدمّ نفسه. وقد نجح الأب رغم كل شيء في الهروب حين أطلق على رأسه رصاصة عيار 22، مفضّلا الموت على الإهانة والخضوع المستمرّيْن. والآن، روميلو الابن يكتشف أنه مثل روميلو الأب، يعيد الخطأ نفسه، يُخصب امرأةً لا يحبُّها ولا يشتهيها، ولكنها سوف تستغلّ الابن لتُرْجعه، وتشدّ وثاقه: تهزمه.
تصرّ:
– تعال يا حبيبي، تعال…
ويكرّر «لا» متردّدة، خائفة.
يغلق على نفسه باب الحمام. يراقب في المرآة تكشيرة وجهه التي تمتزج فيها كلّ الأحاسيس: الحب والشغف، الشغف والخوف، الخوف والكره. يلتقط ملابسه ويرتديها على عجل. في الغرفة، يسري صوت المرأة مجدّدا:
– تعال، يا روميلو…تعال.
يفتح روميلو النافذة المطلّة على السقف في سطيحة النزل ويلوذ بالفرار.
2
إنه الليل. تجلس سيرافينا على الحشية وتتناول صورة روميلو الموجودة على منضدة السرير. مرّ عليها 124 يوما دون أن تراه مجدّدا والصورة التي تتأمّلها ليست صورته تماما، ذلك أن روميلو قد تحوّل إلى رائحة، الإحساس بالمداعبات القديمة، ذكرى وطأته عليها أثناء ممارسة الحب، النفس الملتهب على رقبتها، الكلمات الملفوظة مثل وعود مبهمة بوصال طويل، ولكن، خاصة، هو نصف الكائن الذي تحمله في أحشائها. إن روميلو الذي تتركه سيرافينا لنفسها هو روميلو جديد اختلقته عبر محو الشخصية الأصليّة لتصنع منها روميلو تحت السيطرة: روميلو لم يهجرها لكنّه رحل، تدفعه أسباب استعجالية، وسوف يرجع يوما. روميلو ستقدّمه إلى ابنه على أنه رجل سخيّ. روميلو سكن في أحلامها، ولن يستطيع الإفلات أبدا، وسيكون عشيقها إلى الأبد، ورفيقها إلى الأبد. روميلو سوف يهتزّ أكثر عندما ستلد ذلك الذي يسكن في بطنها والذي له الكثير من الحنين إليه، ولد من صلبه.
3
ركض وركض حدّ الإنهاك، حيث لم تعد رئتاه قادرتين على التحمّل. بحث عن الهواء. وفي ذهنه كانت تصطدم صور المرأة الحامل التي تركها للتوّ والتي مازلت تثير هلعه.
حاول أن يكون هادئا. شرع في المشي. كانت ساقاه ترتعشان في كلّ خطوة. سال العرق على جبينه وبلّل حاجبيه الكثيفيْن الأسوديْن. لقد تحوّل ضجيج الشارع إلى ضوضاء صمّاء بالكاد كان يسمعها. تسكّع بلا هدف إلى أن وصل إلى مقعد مهجور كان يميل عليه ضوء مساء ذاك الأحد . كانت طيور الدوريّ الصخّابة تتجمّع في الأشجار المحيطة، بحثا عن مأوى ليليّ. تنهّد روميلو بعمق، واستلقى على المقعد ونام.
4
عندما تخرج سيرافينا إلى الشارع، تجول بدليل حملها أمامها بكبرياء يكاد يبلغ حدّ التباهي.
تتقدّم في جادة «ريتورنو» بمشية متغطرسة، متلذّذة في كل خطوة بتأرجح بطنها، متحدّية بذلك القيل والقال، والمُزح القاسية، والثرثرات، والنظرات الفاحصة التي لا تركّز إلا على الانحناءة البارزة لوسط جسمها. إن ذلك لا يهمّها على الإطلاق. ستصبح أمّا وستضطلع على أكمل وجه بالدور القديم المتمثل في منح الحياة، ودفعها في العالم للدفاع عنها إزاء وضدّ الجميع، مثلما وحدهنّ النساء يستطعن الدفاع عنها.
5
خلال الظهيرة التي هجر فيها روميلو سيرافينا، لم يعرف ولم يستطع حتى أن يتخيّل أنها نادته ألف مرة، وأنّها، عندما لم تجده، ضمّت الوسادة إليها، وشرعت في البكاء، وأنها بقيت طيلة المساء وليلة الأحد في ذلك النزل، تبحث عن رائحته، وبصمته، في ثنايا الملاءات، وأنّها أخذت تدلّك بطنها بمحبّة، مع العزاء المتمثل في أن شيئا منه قد بقي في داخله. في أمسية الأحد نفسها تلك، لم يعرف شيئا ولم يستطع أن يتخيل شيئا لأنه لم يكن يفكّر إلا في الهروب إلى أبعد مكان ممكن.
6
في الصباح، تخرج سيرافينا للتسوّق. الصابون، الزيت، صدر الدجاج، الكزبرة، الملح. إنها تشتري كل شيء من «لا إسكونديدا»، الدكّان الصغير الموجود في شارع «ريتورنو 202». هناك، تثرثر مع صاحبة المحل. تتكلّم في أمور تافهة، وعن المسلسلات التلفزيونية. تضع سيرافينا المشتريات في كيسها وتعود إلى بيت أسيادها. تتكلّم في الطريق، لكنها لا تتكلم وحدها، إنها تتكلّم مع ابنها. إنها تصف له ما لا يراه بعد ولكنّه سيكتشفه قريبا. تقول له كلمات رقيقة كما لو أن الجنين قادر على فهمها. وترفع بطنها في وجه العالم، كما لو أنه لم يكن هناك عالم آخر سوى بطنها.
7
يوم فراره، لم يغادر روميلو المدينة. فكّر أن أفضل طريقة للهروب كانت تتمثل في اللجوء إلى نساء أخريات. لذلك، كان ليلة بعد ليلة، يضاجع امرأة مختلفة، باحثا عن الطريق الذي يمكّنه من الابتعاد عن تلك التي تسبّب في حملها. كان ذلك بلا جدوى: السلسلة اللانهائية التي تنطلق من أحشاء سيرافينا انغلقت على رقبته وبدأت تحبس أنفاسه، وكلّما حاول الهرب أكثر، خنقته، فداخل كل امرأة يضاجعها كانت تختبئ تلك القوّة الأنثوية، المتضامنة، التي تُذكّر بالحياة التي تنبجس من بطونهنّ. لم يكن يوجد مخرج: لقد كانت أيضا حلقات في السلسلة، ذكرى للابن الذي في الطريق ويستجوب ضمير الرجل الذي يحتقره حتى قبل أن يولد. روميلو يعرف ذلك: لن ينقطع الابن عن إيجاده لإخضاعه. لقد اتّخذ روميلو قراره: سوف يعود، فلا توجد وسيلة أخرى.
8
لقد أجْرَتْ الحساب بدقّة: إنها في اليوم الـ170 من حملها، و125 يوما مرّت منذ هجرها روميلو. لكنها لا تعرف، ولا تستطيع حتى أن تتخيّل أن روميلو قد عاد إلى الحي، وأنه يرصدها خفية، ويتبعها من بعيد، ويرقبها بينما تقوم هي بمشترياتها، وتثرثر مع صاحبة متجر «لا ايسكونديدا». إنها لا تعرف ولا تستطيع حتى أن تتخيّل أنه يتوصّل إلى سماع ما تقوله حين تحدّث نفسها (لأنه لا يعرف إلى من تتوجّه بالكلام، فهو لا يحمل أي شخص في أحشائه).
9
إنه قريب، قريب جدا. الفخّ هنا، في هذا الجسد المشوّه. لماذا؟ لماذا يتعيّن على اللعنة أن تأتي منه هو بالذات؟ إنه لم يعد من أجلها، وإنما بسبب الآخر الذي يتأرجح مرتاحا في انتظار اللحظة المناسبة للهجوم.
الدّم الذي يخشى الدّم.
10
روميلو يفكّر: الطفل يفلت من المرأة. إنه ينبجس منها ويذهب. بعد أن كانت تحتفظ به قرب أحشائها، وبعد أن أحسّت به في حلقها، في فمها، وفي جلدتها، وسمعت قلبيهما يخفقان بتساوقٍ، يبتعد الابن الذي ينبجس بألم، وتسعى الأم إلى استبقائه مهما كان الثمن، إلى تملّكه من جديد، إلى طمره إلى الأبد في عالم أحشائها.
بالنسبة إلى الرجل، الابن الذي يبرز هو مجهول يبحث، بخروجه من شقّ أمه، عن أبيه، أحشائه، حلقه، فمه، جلده. إنه كائن يريد أن يمتصّ الأب ويمنعه من الهروب.
الآن روميلو يخاف من ذلك، كما لو أن الجنين الصغير كان يريد ابتلاعه لكي يقيّده بقربه في أحشاء الأم، لكي يتقاسما الزنزانة نفسها، المغارة اللزجة والمائلة إلى الحمرة التي تحافظ على الحياة وتسجنها.
11
نظرة الرجل تتفحّص كل زاوية من زوايا «ريتورنو»، وكل واحد من سكانها. عيناه ترصدان وتجولان حدّ الهذيان تخطيط الشارع المستقيم. هي تخرج. تحمل قفتها بذراعها، بطنها مشدود، متوّعد. إنه يختبئ. هي لا تراه وتمضي في سبيلها. روميلو يبتلع ريقه ويختفي.
12
صوت التلفاز يصمّ الآذان أقلّ من صياح الأطفال. سيرافينا، ساكنة على كرسي، تحاول متابعة تفاصيل المسلسل. من الغرفة إلى الطابق العلوي أمرت كويتا الأطفال بأن يسكتوا. غونسالو، بهيأة عظاية، يغوص في الأريكة، ويشرع في القراءة. ماريسا تتحدّث في الهاتف مع إحدى رفيقاتها في [المدرسة] الثانوية. في الخارج، حيث الشارع المقفر والمظلم، كان روميلو مختبئا تحت فانوس كُسرت لمبته، وكان يراقب الظلال على النوافذ الزجاجية بيقظة، محاولا أن يحزر أي ظل هو بصدد البحث عنه.
13
يتكرّر المشهد عديد المرات. يراقب روميلو الخيال الضخم الذي يقصد كل يوم «لا ايسكونديدا». يتبعها في كل خطواتها، ويحزر انفعالاتها، ولذّة حملها، اكتشف أنها تحادث ابنه (ا- ب – ن- ـه).
ذات مساء سبت، يلاحظ روميلو تحركّات غريبة في البيت. غونسالو يحمل حقائب، يضعها في صندوق سيارة لا يعرفها روميلو، يساعده رجل لا يعرفه روميلو أيضا. تخرج كويتا من المنزل مع طفليْن يسارعان بالصعود على متن السيارة. تبقى ماريسا مستندة إلى إطار الباب وتودّع والديْها. بجانبها، تتلقّى سيرافينا التعليمات.
– اعتني جيدا بماريسا، أنا أتركها في عهدتك. نعود يوم الاثنين. لقد تَركتُ لَكِ رقم هاتف النزل بـ«كويرناباكا» حيث ننزل. لقد أعطيناه أيضا للآنسة كارلوتا. إن حدث أيّ شيء أو احتجت إلى أي شيء، فاعلمينا.
– نعم، يا سيدتي.
– حسنا، و…اعتني جيّدا بالرضيع.
14
تنطلق السيارة وتختفي بسرعة. الطيفان الصغيران يودّعان نفسيهما بحرارة، أما هو فيراقب، وهو مازال متربّصا. يتأمل سيرافينا. إنه لا يحبها. لا يريدها بجانبه. لا يرغب لا في مودتها، ولا كلماتها العذبة، ولا امتلاء جسمها التدريجيّ. مثلما لم يكن أباه يرغب في أمه ولم يكن يحبها.
15
السلسلة تخنقه، تكتم أنفاسه، تمنعه من النوم، ومن الأكل. يعرف أنها ليست الخصم، ولكن هو، الكائن الصغير الذي هو قيد التكوّن الذي يحضّر الهجوم من أحشاء أمه الذي سيجبره على الخضوع. سيرافينا ركزت السلسلة، والابن هو الذي سيشدّها. عليه أن يكسرها، ويتجنّب الخطر، ويهزمهما، قبل أن يهزماه، مثلما قضيا على أبيه هو وأمه.
16
تتناول سيرافينا صورة روميلو، وتضعها على بطنها، وتقول لابنها إن هذه الصورة لأبيه وأنه سوف يعود قريبا، بل قريبا جدا.
17
195 يوما انقضت منذ أن هجر روميلو سيرافينا. يحلّ الليل وهي تجلس بجانب ماريسا لمشاهدة التلفاز. في الخارج، في الجادة الطويلة المستقيمة، يقف روميلو مترصّدا. يتحيّن الفرصة، أدنى فرصة، لتكسير الحلقة التي تخنقه.
18
إنها الساعة السابعة والنصف مساء، تطلب ماريسا من سيرافينا الذهاب إلى متجر «لا إيسكونديدا» لشراء الحليب والخبز للعشاء.
تصعد سيرافينا إلى غرفتها، تتناول صدريّتها ذات اللون الأزرق الشاحب، ترتديها وتخرج إلى الشارع.
19
يبرز الشبح الثقيل ويمشي ببطء على الإسفلت القاتم. فرصة. فرصة وحيدة. مع كل خطوة تخطوها، تستشعر لذّة تأرجح بطنها. إنها تحادث ابنها. وروميلو ينتظر. ستسنح الفرصة. يسرع الرجل بالدوران حول المجمع السكني ويلبد في نهاية الشارع الصغير الضيق الذي يربط جادة ريتورنو 201 بـ 202.
20
الظل يجري.
– مَنْ هناك؟
تنتفض وتغطي بطنها المنتفخ بذراعيْها.
– مَنْ؟
الحلقة المشدودة تبدأ بالتراخي.
– هيا يا ماريسا، توقّفي عن اللعب، أنت تخيفينني.
فرصة، فرصة وحيدة.
– اخرجي من هناك، يا ماريسا، أرجوك…
المرأة تتراجع ببطء. صوت:
– لم تعودي تذكريني؟
يُخيّل إلى المرأة أنها تعرفت على الصوت… تتردّد…
– كلاّ، من أنت؟
من جديد، يبرز الصوت من العتمة.
– تذكّري.
– روميلو؟
الصوت لا يجيب. المرأة تكرّر:
– روميلو، روميلو، روميلو…
تطلق المرأة العنان لفرحتها. لقد عاد، لقد رجع بعد 195 يوما.
– لماذا لم تبحثي عنّي؟
– لقد بحثت عنك، بحثت عنك في كل مكان دون أن أجدك.
يتقدّم الطيف الذّكر ببطء.
– أقسم أنني بحثت عنك يا حبيبي. لقد ذهبت إلى الحظيرة، وسألت الآخرين، فقالوا لي إنك غادرت المكان.
– لا.
يقترب بهدوء.
– ماذا حلّ بك؟ هل شربت؟
– لا.
تبتسم المرأة.
– اشتقتُ إليك.
– لا.
الحلقة تخنقها. فرصة. فرصة وحيدة.
– لكن كيف يخطر ببالك أنني ما كنت لأبحث عنك…؟ (كان يعرف ذلك، كان دائما يعرف ذلك.) لقد تسبّبتِ في عذابي، ظننتِ أنك لن تعودي (ولهذا السبب سوف ترسل ابنه للبحث عنه).
– لا، لا (السلسلة تشتدّ)، لا (لم يعد قادرا على التحمّل)، لا…
– تعال، تعال… (الصوت الذي ينبجس، يتغلغل، يمسك بالتلابيب)، تعال…فابنُكَ هنا.
لقد استطالت كلمة «ابن» بألم… في الظلام استطاعت بالكاد أن تخمن الظل المتمدد الذي انسحق على بطنها، مرة، مرتين، ومرات كثيرة. أحست بالضربات تقطّع أحشاءها. لقد انهارت. وقد أراد فمها أن ينطق بـ «روميلو»، «توقف»، «حبيبي»، «ابنك، ابنك»، لكن الركلات الغاضبة كان تمنعها من ذلك. في بطنها، كان الطفل يتحرّك، ويدافع عن نفسه. فجأة الصمت. روميلو يتجمّد في مكانه لحظة ويختفي.
21
الصمت، لا شيء غير الصمت. الصمت يتكسّر: تخدش سيرافينا الجدار محاولة أن تنهض. نسمع لهاثا وغمغمات شكواها.
22
بدأ يركض وكان فخذاه يتقدّمان بسرعة وحرية أكبر وأكبر. لقد كسر الحلقة. لم يعد هناك عدوّ، لم يعد هناك شيء يخنقه.
23
مضت ساعتان، وتسمع ماريسا، المستلقية على سريرها، سيرافينا وهي تعود إلى البيت. تسمعها وهي تمشي بخطى هادئة في غرفتها، دون أن تشعل النور. تلتفّ ماريسا في أغطيتها وهي تفكّر: «يالها من امرأة غريبة الأطوار! «
24
إنه عالم أحمر، سائل، يضطرم، ويحترق، إنه محيط من الأحمر وينزلق الحمل، ينزلق في الأحمر. يخرج الحمل، يذهب، أنت تذهب يا ابني، تذهب. الظلام يلفّ المكان، أحمر داكن. ليلة مظلمة لأحمر مظلم. إنه يندسّ بين الفخذيّن، يشعل، ويحرق، ويذهب، يشعل ، ويحرق، روميلو، تعال، حبيبي، تعال، هوذا ابنك، ابني، انه يهلكني، يحرقني، لا تحرقني، يا ابني، لا، 195 يوما، ابنك…
25
تنزل ماريسا لتناول فطور الصباح في المطبخ. إنه الأحد، يوم راحة سيرافينا، لكنّها لم تخرج من غرفتها بعد. تفكّر ماريسا مجددا: «يا لها من امرأة غريبة الأطوار !» الوقت يمرّ والمرأة الضئيلة لا تغادر غرفتها. تتّجه ماريسا نحو البهو حيث تصيح وهي تناديها باسمها. لا جواب. تتّجه نحو الغرفة. تطرق الباب. لا جواب. تفتح وتجد المرأة جالسة على السرير، وقد باعدت بين فخذيها، والدّم يغطّيها.
– ماذا حدث لك؟ تصرخ ماريسا .
26
يدخّن بهدوء. ببطء. تقرّب المرأة منه جسدها العاري. العرق يتصبّب منهما. الحرارة مرتفعة. يتنفّس روميلو بعمق. لم يعد هناك فخّ. انكسرت الحلقة. تم تجنّب الخطر. وهُزِم العدوّ. لم يعد هناك لحم يطارده. المرأة التي تقبّله الآن لا تعرف حتى اسمه، ولا من أين هو، ولا من هو، ولن يقول لها ذلك أبدا. لم يعد هناك فخّ، وإن وجد فهو يعرف جيّدا كيف يتحاشاه.
27
سيرافينا تبدو وكأنها لا تسمع شيئا.
-ماذا حدث لك؟ تكرّر ماريسا.
تستدير سيرافينا لتنظر إليها.
– لا شيء، تجيب.
– كيف، لا شيء؟ وهذا؟ تسأل ماريسا وهي تشير إلى السرير المضرّج بالدم.
– لقد وقعت، وقعت في الزقاق.
– هل أنت بخير؟ تسأل ماريسا، متردّدة.
– نعم…
– سأتصّل بالدكتور دل ريو؟
– لا، أرجوك.
– حالتك سيئة جدا.
– أحسُّ بتحسّن.
– سأتَصلُ به حتى وإن لم تريدي ذلك.
– لا، أرجوك!
الـ«أرجوك» نُطِقت بلهجة متوسّلة. تراقب ماريسا المرأة. لا تعرف ماذا تفعل.
– كيف وقعت؟
– هكذا، ببساطة.
تنفّس سيرافينا مضطرب. تتأملها ماريسا مندهشة.
– والرضيع؟
تبقى المرأة ساكنة لحظة، تنحني وتخرج من تحت السرير علبة ملفوفة في ورق الجرائد. تُريها لماريسا. غثيان تضامنيّ، أموميّ، يحرق حلقها.
– أهو حيّ؟ تسأل ماريسا.
سيرافينا تهزّ رأسها ببطء من اليمين إلى اليسار وتشرع في البكاء.
28
اللّحم الذي أبيد قبل أن يرى النور. الدّم الذي غلب الدّم. لم يعد هناك أي فخّ. كلاّ، أبدا.
29
تتناول ماريسا العلبة الصغيرة وتضعها على الفراش. تنظر إليها سيرافينا ساكنة وهي تفعل ذلك. شيئا فشيئا، تفرد ماريسا طيات الورق. عينا سيرافينا الفزعتان تراقبان المشهد. تفتح ماريسا اللفة تماما، فيظهر الكائن الصغير الأحمر ذو اللون الضارب إلى البنفسجي. تمسح سيرافينا على رأسه.
30
كانت ستكون بنتا. غسلت ماريسا وسيرافينا الجسد الصغير الهامد بقطع قطن. لقد لفّاه في ملحفة بيضاء وبحثا عن مكان لدفنه. لقد حفرا بيديهما حفرة في الحديقة ووضعاه فيها. ثم حرصا على ردمها جيدا لإخفاء القبر.
في تلك الظهيرة، اختفت سيرافينا.
31
195 يوما.
\\ غييرمو آرياغا Guillermo Arriaga: ولد في مكسيكو (المكسيك) سنة 1958. يعتبر من أهم أدباء المكسيك حاليا. لاقت رواياته «فصيل الإعدام» و«رائحة الموت الزكية» و«جاموسة الليل» نجاحا جماهيريا كبيرا، كما ترجمت إلى عديد اللغات. كما عرف أرياغا بسيناريوهاته السينمائية وأفلامه التي تحصلت على عديد الجوائز العالمية مثل فيلميْه: «بابل» و«غراميات كلبيّة».
———————-
غييرمو أرياغا
ترجمة: وليد سليمان