جمال القصاص*
أن تحتفي بمجلة ثقافية، وتحس أنها جزء من وجدانك وذاكرتك كشاعر، هذه نعمة تستوجب الشكر، ثم ما أجمل أن تستمر هذه المجلة في الصعود والرقي وشد هموم المبدعين إلى آفاق جمالية وفكرية أرحب، على مدى يناهز ربع قرن، وعبر مائة عدد، رسخت من خلالها وعيها بذاتها، وما يجري في العالم من تحولات فارقة، قلبتْ موازين الوعي والمعرفة، وجعلت السؤال الوجودي بالنسبة للمبدع، يفارق نمطه التقليدي الأحادي:» من أنا؟»، ليصبح بحكم صيرورة التحول: «كيف أكون أنا؟»، وسط مظاهر ثورة علمية وتكنولوجية عارمة، لا تكف عن التجديد والتغيير، نلمس آثارها بقوة على مسارات الفعل الثقافي وارتباطه بتقدم المجتمع.
هكذا رسمت مجلة «نزوى» ملامحها، وحددت طموحاتها وأهدافها بشفافية وموضوعية منذ صدور عددها الأول في يناير 1995.. لقد وعت شروط لحظتها التاريخية على شتى المستويات الثقافية والسياسية والاقتصادية، وأن صدورها ليس ترفا، بل ضرورة يفرضها الانحياز لمنطق الحرية والفن والوجود، المفتوح بحيوية على شتى الرؤى والتصورات والأفكار. كما أن هذا الصدور رغم ما اكتنفه من مخاطر البدايات، مثل روح المغامرة والمسؤولية معا. خاصة أن صدورها صادف مناخا ثقافيا عربيا راكدا، أصابه الترهل والجمود في مقتل، وتحول إلى بؤر للعشوائية والشللية المقيتة، بعد أن توقفت أغلب المجلات الثقافية الثقيلة المؤثرة عن الصدور، وهي التي شكلت رافدا مهما في تشكيل الذائقة العربية الأدبية خلال خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن العشرين ومنها على سبيل المثال مجلات: «الرسالة، الكاتب، المجلة، الفكر المعاصر، تراث الإنسانية، الهلال»، في مصر. والآداب، وشعر، وحوار، في بيروت. والمعرفة، والموقف الأدبي في سوريا. والأقلام، وآفاق عربية، والمورد، في العراق. والعربي، والعلوم الإنسانية، في الكويت.
قبع معظم هذه المجلات فوق رف التراث والتاريخ، كمجرد ذكرى على أنه «كان هنا مجلات ثقافية رائدة»، ومجرد علامة تشير ضمن ما تشير إلى تراجع الفعل الثقافي في فضاء الوعي العام، وتدني دور المؤسسات الثقافية الرسمية المعنية، وعدم تقديمها حلولا ناجزة لإنعاش هذه المجلات الرصينة لتستعيد دورها من جديد.
في تلك الفترة، كنا في مصر نمر بمرحلة من المراجعة الذاتية القاسية لطموحاتنا وأحلامنا البسيطة، بعد أن ضاقت بنا السبل، وتوقفت مجلتنا النوعية الشعرية مجلة «إضاءة 77»، نافذتنا الخاصة، التي كنا نطل منها على همومنا في الشعر وفي الحياة.. كان علينا أن نعيد النظر في أشياء كثيرة، فيما يخض العمل الثقافي العام، وأن حلمنا بمجلة ثقافية عربية شاملة ومتنوعة، ليس مجرد هبة ملقاة على قارعة الطريق، وإنما تجسيد لإرادة واعية بأهمية الثقافة في بناء المستقبل، وانعكاس حقيقي لسلطة منفتحة تضع الثقافة على رأس أولوياتها للنهوض بالمجتمع.
حملت المؤشرات الأولى التي تناهت إلينا عن فكرة المجلة الوليدة قدرا كبيرا من الاطمئنان والثقة، فهي تجسيد جماعي لحلم كوكبة من الكتاب والمبدعين في (سلطنة عمان)، هذه البقعة المضيئة من وطننا العربي، وعلى رأس هذه الكوكبة شاعر نجله ونعرف قدره، أكلنا وشربنا معه، وقلبنا تربة الشعر والحياة بمحبة صافية. إنها الصورة نفسها، تستعيد عبق تلك المجلات الرائدة ، يوم أن كان يشرف عليها كوكبة من كبار نقادنا وشعرائنا ومفكرينا الأجلاء، منهم: طه حسين ، يحيى حقي ، فؤاد زكريا، عبد القادر القط، صلاح عبد الصبور، أدونيس، وسهيل إدريس.
بهذه الروح والأمل استقبلنا العدد الأول من نزوى، كان إحساسنا أنها أتت في موعدها تماما، وأن طموحها لن ينحصر فقط في ربط السابق باللاحق، وسد الفراغ الناجم عن غياب تلك المجلات الرائدة، وإنما قي ضخ دماء جديدة في شرايين الحياة الثقافية العربية، تلم شتاتها، وتحافظ على مقوماتها الذاتية، وتقدم لها عصارة ما يدور في حركة الإبداع في العالم، في الشعر والقصة والنقد والفلسفة والرواية والسينما والمسرح والفن التشكيلي، وغيرها من شتى فنون الحياة.
سعت «نزوى» بصدق وإخلاص واحترام الآخر وحقه في الاختلاف إلى تحقيق كل هذا، واستطاعت أن تشكل على مدار أعدادها المائة زادا معرفيا لا ينضب، وأن تكون بمثابة مرجع وكشّاف مهم وحيوي لينابيع الأفكار والرؤى الخصبة المجددة لمعنى الإنسان والحياة.
إن السؤال المهم الذي يفرض نفسه هنا بتلقائية وموضوعية معا، ويحمل تلخيصا جذريا لاستمرارية «نزوى» المجلة الثقافية الفصلية، ذات الطابع النوعي على مدى ربع قرن، لا يكمن – برأيي- في كونها مجلة تدعمها مؤسسة رسمية معنية بالشأن الثقافي ، فكم من مجلات عربية ساندتها مؤسسات معنية بالشأن نفسه ، ثم أفسدتها تلك المؤسسات حتى توقفت عن الصدور . لذلك أعتقد أن قوة الدفع وراء هذه الاستمرارية هي الحب. ففي الحب يمكن أن تلتقي خبرات الجميع، ولقد تحولت «نزوى» تحت هذه المظلة إلى مصفاة، تنقي هذا الحب من شوائب الواقع والجسد والروح ، ليصبح قادرا على الاختلاف والتخطي، والعطاء بلا حدود ، وفي الوقت نفسه، اختبار العالم ، وتأويله أدبيا وإنسانيا بطرائق جديدة وصحيحة منهجيا. كما أن الحب لا يرسم نقطة البداية فحسب، حتى بين شخصين حبيبين ، بل يجعل منها فضاء للانطلاق بحرية لتحقيق الدوام والاستمرارية ، إنه القانون الخفي الذي يحكم لانهائية الأشياء، ويشكل صيرورتها، ويجعل لها كينونة ووجودا واقعيا في الأدب والفن ، والحياة بشكل عام.
اتسع فضاء الحب في «نزوى»، ليتجاوز فكرة الانتماء بتركيباتها الشخصية الضيقة المعقدة ، سواء للطبقة أو الجماعة ، أو البلد ، وجعل منها نافذة مفتوحة للتميز ثقافيا وفكريا.. تتجاور على صفحاتها إبداعات الكتاب من الموجات الجديدة، مع إبداعات الكبار، في حوار غير منطوق، لكنك تحسه، وتشم رائحته بحب.. فأن يطل إبداعك من هذه النافذة، معنى ذلك أنك تتنفس هواء نظيفا، أن لديك شيئا خاصا، أن رغبتك في الحب سوف تزداد وتتعمق.
ومنذ البداية، منذ نقطة الحب الأولى رسمت «نزوى» دورها بواقعية شديدة «منبر مفتوح للإبداع والحرية»، دون مزايدة أو رهانات خاسرة ، على تيارات وجماعات أدبية، ربما يهلل لها البعض، ويرى أنها سوف تحدث تحولا في مجرى الحياة الأدبية، وتفك العقد والفواصل السميكة في جسد الثقافة والتاريخ .. لقد كان لسان حال « نزوى» ولا يزال « أنا رمانة ميزان بين الكل»، رهاني الوحيد هو ذاتي ووجودي، كيف أحافظ عليه، كشجرة وارفة يستظل بها الجميع، حتى الغريب على العائلة .
هكذا تراهن « نزوى» على ثقافة الأمل ، مدركة أنها تتحرك في فضاء ثقافي أصبح مفتوحا على شتى الاحتمالات، ويشهد صراعا محموما فرضته ثقافة الميديا، بين الكتاب الورقي بإيقاعه المسترخي البطيء، والكتاب الالكتروني، ابن اللحظة الفورية وإيقاعها المتسارع، الذي يوفر مساحة عريضة ولا نهائية للنشر والتسويق، برأس مال رمزي ، ودون أدنى تكلفة يتحملها القارئ.
لم تتجاهل» نزوى» الفضاء الرقمي وواقعه الافتراضي الجديد اللامحدود، الذي أصبح يغص بالعديد من المواقع الالكترونية والمجلات الثقافية، فاستثمرت منجزه على الأرض ، خاصة في تطوير شكل المجلة وطريقة إخراجها، والمحافظة على سيولة تسويقها في معظم البلدان العربية، وأن تصل إلى القارئ بسعر زهيد جدا، لا يعدو كونه مجرد هامش رمزي بالنسبة إلى كلفة طباعتها. ما يعني أننا أمام رسالة ثقافية حية، لا تنفصل عن مظاهر الحياة العصرية . لكنها تعي قبل كل شيء، أن الحياة العصرية المنشودة تصبح أكثر ثراءً وامتلاء، كلما ترسخت الثقافة كحقيقة بناءة في ذاكرة المجتمع، تصعد به دائما إلى آفاق الجمال والحرية.
تحية إلى «نزوى».. مائة وردة في عنق الحياة.. وتحية إلى مجلس تحريرها الصنديد، صانع هذه الملحمة الفريدة والاستثنائية في حياتنا الثقافية.