إعداد وتقديم: هدى حمد
ها نحن الآن نقترب من إصدار العدد المائة، في زمن يناهز ربع قرن. فمنذُ تشكل الفكرة إلى تحققها واقعيا عام 1994م ومجلة تقدم محاولات دؤوبة للخروج من التشرنق المحلي لصالح رقعة أوسع، وذلك عبر استيعاب الأصوات والممارسات الثقافية المختلفة عربيا، وعالميا عبر التعاطي المستمر مع مترجمين عرب أو مُستشرقين ممن يكتبون باللغة العربية لتقديم أسماء مُهمة من أمريكا وأوروبا وآسيا وأفريقيا.
الأمر الذي لا يقلل من حيز الصعوبات المختلفة التي كابدتها المجلة منذ أعدادها الأولى، حيث كانت تحمل معها على الدوام بذور إجهاضها، في مجتمع بعضه مُنكفئ على ثقافته ومنحاز لها، ومُشكك بصورة دائمة في ألوان الحداثة الجديدة.
بينما كانت المجلة تتطلع منذ أعدادها الأولى لطرح مُغاير على صعيد التغيير والحرية الثقافية والتعددية التي يزخر بها العالم الذي سبقنا بأشواط.
في زمن تفتحت فيه مجلات وأغلقت أخرى، تأخذ () مكانتها وسط الإصدارات العربية الأخرى، وعلى رفوف المكتبات المهمة، وجامعات عربية وعالمية مهمة تعتدُ بالمجلة كمرجع أصيل للباحثين والدارسين الأمر الذي يُحرض استمراريتنا، ويفتحُ أفق تطلعاتنا.
تبلور الفكرة:
بين عاميّ (1989 – 1990)، كان هنالك حديث ومقترحات حول إمكانية إنشاء وضع ثقافي جديد في البلد كضرورة مُلحة، إذ من الملاحظ في تلك الفترة عدم تبلور المشهد الثقافي بشكل جيد في عُمان، رغم توفر وحضور الأصوات الثقافية والإبداعية.
في بداية التسعينيات بدأ الأدب الحديث في عُمان يشق طريقه الوعر على الصعيد الأكاديمي والنقدي، وعلى الصعيد الشعري والقصة القصيرة وبدايات انطلاق الرواية أيضا. فبطبيعة الحال لم تكن هنالك أطر ثقافية ومنابر تستوعب ذاك الحراك والإبداع المستجد والذي استمر كراهن آنذاك وكمستقبل أيضا ضمن صيرورة الزمان.
التقى سيف الرحبي بمعالي وزير الإعلام -في ذلك الوقت- عبدالعزيز الرواس، وطرح عليه أسئلة من قبيل: «ماذا يتطلب الوضع الثقافي من أفكار وأطر في اللحظة الراهنة». فتحدث الرحبي –إلى جوار أفكار كثيرة- عن أهمية وجود مجلة ثقافية مُقنعة تليقُ ببلدٍ عريق ثقافيا ومعرفيا مثل عُمان، فتبنى معالي عبد العزيز الرواس الفكرة، وتمخضت عن تلك الاجتماعات واللقاءات تأسيس مجلة . ثمّ بدأت الفكرة تأخذ حيز التنفيذ لاحقا حتى صدر العدد الأول منها في شهر نوفمبر، سنة 1994.
قد يتساءل البعض عن اختيار هذه التسمية للمجلة «»، فـ«» هي مدينة مُهمة في الذاكرة العُمانية والثقافية والمجتمعية والمعرفية والسياسية أيضا. رغم أنّ البعض يسحب المفردة إلى معنى «النزوة» والتي تعني المغامرة صوب جهات جديدة، الأمر الذي يُشبه قليلا البذور التي نبت وتخلّق منها هذا المشروع.
الظهور الأول عربيا:
المجلة منذ إصدارها الأول طرحت مشروعها لاستيعاب الأصوات والممارسات الثقافية العُمانية بشكل أساسي من غير انحياز ولا تحزب بالمعنى الايديولوجي أو بالمعنى الأدبي، فهنالك مساحة للجميع في ضوء مقياس القيمة الإبداعية قبل كل شيء، فلا أهمية لقصيدة نثر على القصيدة الكلاسيكية أو قصيدة التفعيلة «والتي أخذت بالضمور» إلا بما تطرحه القيمة الفنية وما تطرحه من إضافة على الصعيد الجمالي والدلالي، وليس لمجرد الانتصار للشكل. وكذلك فيما يتعلق بالأفكار النقدية والأدبية والفلسفية، لا تتحيز المجلة لها إلا وفق هذه الرؤية. فلا تميل لمنظومة معرفية أو فكرية في حد ذاتها وإنما تحتكمُ إلى التعددية بالمعنى الفكري والجغرافي والأدبي. ولهذا حاولتْ المجلة أن تتجنب تجارب مجلات رائدة في الوطن العربي، والتي لم تمنعها ريادتها من التحيز لمجموعة ثقافية أو لتصور ثقافي بعينه. لقد حاولت المجلة ذلك حقا، أمّا إلى أي مدى نجحت المجلة في ذلك، فكما يقول سيف الرحبي، «الأفضل ترك ذلك للتاريخ ولقراءة الآخر».
استقبلت مجلة على المستوى العربي منذ أعدادها الأولى استقبالا حافلا، رغم أنّه لم ترافقها إعلانات مدفوعة على الإطلاق، على نمط صحافة صدرت وتصدر في الخليج العربي، وقد تجلى ذلك الاحتفاء في كتابات أدباء وصحفيين من أكثر من بلد وإقليم عربي. من مثل د.هشام شرابي حين كان في جامعة جورج تاون، جبرا ابراهيم جبرا، شوقي أبو شقرا، عبداللطيف اللعبي، محمود درويش، وجمال الغيطاني، ويوسف القعيد، وابراهيم عبدالمجيد، غادة السمان، وسعيد يقطين وغيرهم.. لقد كتب كُثر عن المجلة أو في المجلة، وعبر رسائل ومقالات، ومن أجيال الثقافة العربية المختلفة زمنا وإبداعا.
محليا:
لقد كان للكتابة العُمانية أولوية في المجلة، وإن كانت المجلة في حقيقتها ذات أفق عربي وعالمي بما تجود به الترجمة. لكنها من جهة أخرى لا تميل لنشر الإسفاف والتسطيح بحجة أنّه محلي. فهذا يُسيء للثقافة أكثر مما يخدمها، ولذا كان الوضع على نحو ما من الالتباس بالنسبة للمتلقي العُماني، فبقدر ما كان هنالك تجاوب جيد ومقبول من قبل بعض الكتاب والأدباء، كان هنالك أيضا أولئك الذين يحملون تصورا مُعاديا للتحديث والتجديد على صعيد الأدب والحياة عامّة والشعر خاصة. فقد ألصقت بالمجلة تُهمٌ جاهزة تجرح الوعي المستتب والواضح في مرجعياته العقائدية التي لا تفضل البحث والتنقيب وتكتفي بالجاهز، مثل تهمة «العلمانية» المرذولة لدى هذا النفر المعادي للعقل والمخيلة أو نشر كتابات لأدباء وصفوا «بالملحدين»، وهي كُلها تُهمٌ جُزافية لا تستحق النقاش.
رغم أنّ المجلة -كما يتضح- منذ أعدادها الأولى احتفت بالثقافة الكلاسيكية العُمانية والعربية إضاءة ودراسة وتقديما، تماما كما احتفت بالأصوات التي تتوسل التحديث والمغامرة. وقد يظن البعض أن منشأ الخلاف هو الانتصار لقصيدة النثر، وحول هذا يقول الرحبي: «في هذه المرحلة من التاريخ الأدبي والزمني أيضا، لا بد أن نلتقط العناصر الجديدة في الأدب كما في المجتمع والحياة، فالأدب والأشكال الأدبية بداهة هي في تطور وصيرورة مستمرين، فالتحديث هو من سمات هذا الأدب قِدامة وحداثة، ولذا فتبني المجلة لهذه الأشكال الحديثة هو أمر طبيعي ومواكب لهذه الصيرورة، شريطة أن لا تكون هنالك عصبية لهذا الشكل التعبيري عبر إقصاء الشكل الآخر، وإنما التبني الحر لجميع أشكال التعبير والتصورات ذات القيمة والإضافة.»
الأثر:
منذ بداية العمل ومنذ البريد العادي الذي يُسلم باليد إلى زمن البريد الالكتروني، ومجلة تعيش في كرم المساهمات الكثيرة والمواد المتنوعة والمختلفة والمتعوب عليها من بقاع شتى من العالم، لدرجة أنّنا لو فكرنا أن نتكاسل ونوقف جانب التكليفات بالعمل وبعض التصورات حول الندوات والحوارات والترجمات والملفات حول شخصيات أو قضايا ثقافية، لأمكننا حقا الاكتفاء تماما بما يجود به البريد من مواد بعضها ثقيل العيار. «ولكن ولأننا نؤمنُ بأنّ هذا لا يصنع مجلة ثقافية حقيقية، فنحن لنا اختيارات من البريد، إلى جوار تصوراتنا الأخرى التي نشتغل عليها ونكلف بها والتي تُضيف وتثري أكثر من الاعتماد على مواد مُكررة لا تضيف المتوقع منها».
تحظى المجلة باحترام كبير من كُتاب وجامعات الوطن العربي، أعني الاحترام بالمعنى الرمزي والمعنوي الذي تركته المجلة فيهم، وأيضا اسم الشاعر سيف الرحبي ترك أثرا مُهما في نفوس المتابعين للمشهد، فله وقعه وبصمته في كل اختيارات المجلة.. من شعرٍ ونصوص ودراسات وفن وسينما.
البعض يعتز بالكتابة في ويضعها في سيرته، أو بعض الجامعات لكي يحصل موظفها على درجة في عمله، تشترط نشر بحثه في مجلة مثل «»، وبعض الجامعات تعامل مجلة على اعتبار أنها مُحكمة رغم أنها ليست كذلك، كما أنّ الأبحاث تعتد بالمواد التي تنشر فيها كمرجع أساسي. هذه هي الثقة التي كسبتها خلال ربع قرن من العطاء.
الصعوبات:
يُردد رئيس التحرير دائما ومنذ العدد الأول أنّ كل عدد يحمل معه بذور موته، وكل عدد كأنما هو العدد الأخير. والأمر –كما يبدو- متعلق من جهة بهاجسه الشخصي اتجاه الأشياء، ومن جهة أخرى بسبب الصعوبات التي واجهت مشروع المجلة في بداياته. «هذا لا يُقلل من الصعوبات التي تصاحبُ مجلة بهذا المستوى من الطموح والتحقق الثقافي الطليعي على المستوى العُماني والعربي، في سياق أن تكون مقنعة للمثقف الذي نشأ على مجلات منذ مطلع القرن العشرين حتى البُرهة الراهنة. لا يقلل من صعوبات مختلفة رمزية ومالية عايشتها المجلة منذ أعدادها الأولى. خصوصا للبعض الذين ينظرون للثقافة نظرة مُعلبة على اعتبار أنّها ترف زائد، لأن أي شيء مُفارق للمعتاد والمألوف والواضح بالنسبة لهم يُرمى بحجارة الفهم الخاطئ».
وعندما نسأل سيف الرحبي ماذا يمكن أن يحصل للمجلة بعد خروجك منها يقول: «ليس لدي هذا الوهم»، المجلة الآن أكثر استقلالية ورسوخا ولو توفر للمجلة بيئة مناسبة ودعم مادي جيد يمكن أن تستمر بقوة ومتانة، ومن يدري ربما بعدد العدد المائة، قد يكون القادم أفضل بكثير من اللحظة الراهنة التي نعيشها، إذ لا بد للثقافة أن تُعاني لتعطي للعالم تصورها الخاص والمُفارق.
الأعداد والتوزيع:
الثقافة الجدية لا بد أن تُعاني في مخاضها وتصطدم بالمعوقات، خصوصا في الجو السكوني لدينا والمُستقر على جملة واحدة من التصورات الجاهزة، والقارة في الوعي منذ قرون.
كانت الأعداد التي تصدر من تقارب الـ 8000 نسخة، تقلصت لاحقا إلى 5000، وتراجعت في السنوات الأخيرة وبعد أن أكملت عقدها الثاني إلى 3000 نسخة. يرجع ذلك لربط المجلة بعجلة الربح، بينما لا توجد مجلة ثقافية تربحُ في الوطن العربي وربما لا توجد حتى في العالم. هنالك الكثير من المؤسسات الثقافية تُضخُ فيها الأموال نظرا لمردودها المعنوي والإعلامي على البلد وليس انتظارا لمردودها المادي، وهذا ما ينبغي أن يتم استيعابه. ولكن ما يعوض كل هذا الارتخاء في عملية توزيع المجلة هو تواجد مواد المجلة كاملة في الموقع الالكتروني الخاص بها. رغم أن هذا لا يمنع أهمية التوزيع الورقي خصوصا في ظل ضمور وإغلاق الكثير من المجلات العربية. والموقع الإلكتروني يفوق رواده قراء الأعداد الورقية.
وأخيرا نقول:
هنالك مجلات صمدت لقرن من الزمان ولكنها صارت روتينية وفلكلورية، وهي جزء من الثقافة العربية، ولكنها لا تضيف شيئا في ظل تكلسها، ولا أحد يسمع عنها للأسف، أما المجلات التي كان يُحدث صدورها صدى في الأوساط الثقافية، فالكثير منها قد توقف، ولذا نأمل أن تصمد مجلة () وأن تبقى متجددة ومسايرة لتغيرات الراهن.