1) النص المفقود
المسافران الجالسان في المقهى في حي تاميل، المقهى المفتوح على المطر والأشجار والعصافير والشارع، في البدء فتح المسافر الذي أعطى ظهره للجالسين خلفه وللشارع حاسوبه المحمول، وبدأ ينقل إلى صفحته الفيسبوكية ـ من كتاب يحمل في غلافه صورة امرأة نائمة تقف على ثغرها فراشة صفراء ـ واجبه الجمالي اليوميّ والذي بدأ به منذ أكثر من مائتين وأربعين يوما، فتح الكتاب، ونقل واجبه اليومي. وبعدها قال لرفيقه في الرحلة سأقرأ لك بعض النصوص.
بدأ يقرأ بخشوع الكلام، يمدُّ الكلام أحيانا، يرفع صوته حينا، ويهمسُ حينا، والرجل الجالس مقابله ينصت للكلام المنساب، لعلّه يصيد بعض أسماك المتعة من النص المنساب من فم صديقه. كان الرجل يقرأ النص، ويمشي في البلاد ويفكر. في النص يمشي الرجل على البحر ويدخل حديقة.
الزوجان النرويجيّان تركا الطعام الذي أمامهما، وأخذا ينصتان للكلام المنبعث من فم الرجل. الدهشة والاستغراب عنوان نظراتهما للمسافرين.
وعندما وصل الرجل إلى عبارة (الشايب حميد قِيْم الصلاة). وقف السائح الكَنَدي ليسأل قارئ النص والمنصت له: هل تقرأ القرآن؟
ردَّ عليه الرجل القارئ:بل هذا نص أدبي، نصُّ عن رجل ميت كان يرفع الأذان في قريتي البعيدة قبل ربع قرن.
2) طفلة المعبد
في احدى زوايا ميدان (دُربار) في (كتمندو) يقف معبد الآلهة الحيّة بجوار المتحف الأبيض. يأتي السياح من كل جهات العالم ليروا الطفلة/ الآلهة. لدقيقة واحدة تطلُّ الإلهة على السيّاح، تمنحهم دقيقة واحدة فقط ليتأملوا وجهها وصمتها، في ساحة المعبد الضيّقة يتجمع السيّاح. يشدد المرشد السياحيّ على الفوج الصيني بعدم التصوير، ويراقب مرشد سياحي آخر بعينين يقظتين الفوج الألماني ويطلب منهم إدخال هواتفهم النقالة. الشرفة مفتوحة، والحمام يطير ويحط على الشرفة، والكلُّ ينتظر الآلهة أن تطلُّ. في وسط الساحة نبتت شجرة وأزهرتْ ورود حمراء.
طالبة من جامعة بكّين تدرس علم الأديان تُسجّلُ ملاحظاتها عن المكان وعن تفاصيل الزوايا والنقوش في الجدران في دفتر صغير، سائحة من أوروبا تسأل المرشد عن عمر الآلهة. شاعر من صحراء الجزيرة العربية يرصد التفاصيل ليكتب قصيدة في ديوان قادم. العصفور الجائع غافل السياح والمرشد السياحي والآلهة ونزل في الساحة وأكل طعام الآلهة.
في الثانية عشرة عندما ينتصف النهار، تطل الآلهة/ الطفلة. تقف على الشرفة لدقيقة واحدة وتحدّقُ في وجوه الغرباء. دقيقة واحدة تكفي لتقرأ الغموض والطفولة والرهبة، عيناها تختزلان طفولة ضائعة وقداسة المكان، المرشدان السياحيان ضمّا أيديهما ورفعا رأسيهما بخشوع المكان واللحظة إلى الطفلة. العصفور هو الكائن الوحيد الذي انشغل بأكل وجبته الصباحيّة. وبعدها طار ووقف في سطح المعبد، أطلَّ على المشهد بفرح.
3)
على مدخل نهر «باجماتي» المُقدّس جوقة من العميان تعزف الموسيقى، هم لا يرون السياح والحجاج والمتسولين وبائعي الماء والسجائر، فقط يسمعون صوت خطواتهم إلى النهر، النهر الذي يجرف رماد الموتى وخطايا البشر وصلوات الرهبان. جوقة العميان التي تعزف على مدخل معبد «باسوباتيات» (معبد القردة) لا تتوقف، وخطوات البشر لا تتوقف كذلك. القليل منهم ينصت لهذه الجوقة، والقليل من هذا القليل يرمي بعض النقود لهؤلاء العميان الذين يقودون الخطايا إلى نهر باجماتي.
الجثّةُ الممددة على حافة النهر، تسّتعد لتصير رمادا في النهر، ولتصير ماءً ودمعا، قدما الجثّة في الماء، عدسات السائحات الصينيات تلتقط صوراً تذكارية، أيادي أقارب الميّت تحمل الماء من النهر وتسقي جثّته، وتضع أوراقاً نقدية على صدر الرجل.
يحمل كل قريب للجثة الممددة في كفيه ماء من النهر ليسقيها. وجه الجثّة كان مكشوفا وكان الفم مفتوحا نحو الشمس.
صلوات تصعدُ، ورائحة بخور تعطر المكان، وورود تنثر على الجثة. وعلى الضفة الأخرى من النهر كانت عدسات السياح والزوار تلتقط المشهد الأخير للرجل الميت. وقرود تقتل بحر الظهيرة تحت الظلال.
4)
في الطريق الممتد بين الجبال والماء، وفي الحافلة الصباحيّة التي تخرج من العاصمة كتمندو إلى بخارا، يضع المسافر سماعة الهاتف في أذنيه يسمع أغاني لغته، تُدهشه الصور الصباحيّة الخاطفة للعابرين، طلاب مدارس يتبعهم كلبهم، عجوز تبيع الشاي على الرصيف، جنود يهتفون لعلم بلادهم، شرطي وسط الدوّار يُنظّم حركة السيارات، امرأة تحمل طفلها على ظهرها وتبحث عن رزقها في الشوارع. هذا اليوم يصادف عيد ميلاده، هل كانت صدفة وجودية أنّ يُسافر سبع ساعات في عيد ميلاده، ولا أحد يتذّكرُ عيد ميلاده الآن.
طوال الرحلة كان يُفكّرُ في فكرة العمر والرحلة وحياته. كل منحنى في الطريق كان يسترجع العمر، كان يسمع صوت طفولته، كثيرا أقلقته فكرة الزمن؛ الزمن الممتد، والزمن المسترجع، الزمن المختبئ خلف التلال والجبال. الظلُّ يداعب الماء، هل يجرح الماء الظلال؟، صور كثيرة تمضي معه في الرحلة، وجوه أشخاص عبروا الذاكرة، معلمين وعمّال ورفاق ونساء وأودية وسيوح ومقاه وشوارع ومدن وأحلام، وطفولة لم تكبر بداخله.
( 5 )
Pokahare على بحيرة ( فيو ) في Mint’ s hut في مقهى
أُمارس كسلي الصباحي بمتعة. أشربُ قهوتي السوداء، أتأمل أمامي صلاة الماء في البحيرة. وصوت طفل يبكي تحمله أمه على ظهرها، وهي تصعد إلى المعبد. أطفال يحملون حقائب أحلامهم، وضحكاتهم يتبعون الطريق المحاذي للبحيرة، ويحملون فوق رؤوسهم مظلات بلون أحلامهم، رجل عجوز يحاول أن يصيد رزقه من البحيرة، يُغري الأسماك بالأغاني التي يترنّم بها. قارب يحملُ حجاجاً من الهند إلى الضفة الاخرى ليصعدوا إلى المعبد في رأس الجبل. نادلة المقهى ممددة على الكرسي الخشبي المصنوع من أغصان شجرة البامبو، أصابعها تُداعب شاشة هاتفها الجالكسي وردي اللون، وعيناها في شاشة التلفاز تتابعان مسلسلاً رومانسياً. صوت كلب في الجوار. شاب من القارة العجوز يدفن وجهه في شاشة الحاسوب المحمول، ربما يكتب يومياته أو يرسل أشواقه إلى امرأة بعيدة.
الرعاة ينزلون من الجبال المجاورة يحملون الحطب والأغاني والتعب.
ستدخل الشابة الروسيّة في الثامنة والنصف، وتطلب قهوة وسجائر، ستدفن وجهها في حاسوبها، تندمج مع أغاني بلادها، تشرب عبوات الهمالايا، تمدُّ رجليها العاريتين، تطلب وجبة للكلب الجائع تحت طاولتها.
—————————–
حمود سعود