تقديم وترجمة حسونة المصباحي
كاتب وروائي تونسي
كان ليون-بول فارغ (1876-1947) يحبّ التسكّعَ في باريس خصوصا في الليل قاطعا مسافات طويلة راجلا. لذا سُمّي بـ”مُترجّلُ باريس”. وفي البداية تردّدَ على حلقات ستيفان مالارميه التي كانت تنتظمُ كل يوم ثلاثاء، ثم ارتبط بعلاقة صداقة مع اندريه جيد، ومع بول فاليري، وبول كلوديل، ومع آخرين كانوا مثله يتطلعون إلى التجديد في الكتابة الشعرية. والشعر بالنسبة له “حياة النجدة التي نتعلم فيها الهروب من ظروف الواقع، لكي نعود إليه بكل قوة ونجعله أسيرا لنا”. وقد تميزت لغته الشعرية بغنائية عالية، وباستعارات بديعة جعلت منه أحد الورثة الشرعيين للمدرسة الرمزية التي كان لها تأثير كبير على العديد من شعراء القرن العشرين. وهو يميل إلى المواضيع البسيطة، راسما صورا حيّة لمشاعره وهو يطوف في باريس ملتقطا حركة الناس، والمشاهد العادية التي قد لا تثير انتباه أحد.
من أقواله:
– أن نكتب يعني أن نعرفَ كيف نسرقُ الأسرار.
– تمييز همس الذكريات، همس العشب، همس الصّنوج… الأمر يقتضي أن نكون صامتين لكي يُعيدَ لنا الصمتُ أنغامه.
– لقد حلمت كثيرا، حلمت كثيرا حتى أنني لم أعد أعرف أنني من هنا.
الشارع حزين
الشارع حزين مثل حاملة خبز مطرودة، وكلّ المنازل لها مئزرها الرمادي. هناك في الأعلى المدارجُ والأقبيةُ القديمة تُلامسُ هذه السماء الحالمة التي هي جبهةُ كل الأشياء. مسرحة خزّان تحني رأسها المُجَوّفَ حيث ما تزالُ تشتعلُ فيه مثل استعادة حمّى في شمس جديدة، قُنْزَعَةُ فكرة قديمة لم يتمّ قتلها.
رائحة ليليّة
رائحة ليليّة لا يمكن تحديدها تحملُ لي شكّا غامضا لذيذا، ورقيقا، تدخلُ عبر النافذة المفتوحة في الغرفة التي أعمل فيها…
قطّي يُراقبُ الليلَ، مُستقيما مثل إبريق. كنْز بنظرة خفيّة يُراقبني بعينيه الخضراوين…
المصباح يُطلقُ أغنية خفيفة عذبة مثل تلك التي نسمعها في الأصداف. يَمدّ يديه التي تُهدّئ وتُلطّفُ. أسمعُ الابتهالات، والجوْقات، ورُدودَ الذباب في هالته. وهو يُضيءُ الأزهار على حافّة الشرفة. الأكثر قربا تتقدّم بحياء لكي تراني، مثل فريق من الأقزام يكتشف غولا…
الكمانُ الصغير للبعوضة يُعاند لكي يبقى. وقد نظنّ أن عازفا مُنْفردا يعزفُ في منزل قصيّ. حشرات تسقطُ سقوطا مائلا، وتهتزّ بلطف على الطاولة. فراشة شقراء مثل قشّة تبن تتسكّعُ عبر الوادي الذهبيّ لكتابي… ساعة تبكي، ذكريات تُؤدّي رقصة دائرية طفوليّة. القطّ يتصدّعُ بعمق. أنفه يرسمُ في الهواء طيرانا لا مرئيّا. ذبابة وضعت مقصّها في المصباح. ضجّةُ المطبخ تتراكم في الفناء الخلفي. أصوات مُتناقضة تلعب دور الحمامة لحظة الطيران. سيّارة تتحرك. قطار يصرخُ في المحطة المقبلة. شكوى بعيدة طويلة ترتفعُ. وأنا أفكر في إنسان أحبّه، وهو صغير جدا لأنه بعيد جدا، ربما خلف بلدان سوداء، ومياه عميقة. ونظرته لا مرئية بالنسبة لي.
قلب سيئ
قلب سيئ، يهمسُ بصوت ليليّ. وانا أفكّرُ في الصبيّ الذي ضربته بالأمس في حديقة خريف مَحْبُوسة في قفص ذهبي. وفي الحقيقة كان يوما حزينا، وكانت الشمسُ قد بسطتْ ذُبولَها وفتورَها على كل شيء. نصائح من الحبّ ومن الموت كانت تتكلّمُ عبر الأصوات الأشدّ غموضا. وكانت لنا رغبة في تقبيل الأطفال الجميلين وهم يلعبون في الحدائق، بالقرب من أمّهاتهنّ الجميلات، أو في ضربهم. كنّا نركضُ تحت أشجار عالية جدا، يغمرها الضوء، وكانت أحيانا تهزّ سلاسل أحلامها، بكلّ قامتها، وبأذرع حزينة. وكانت الريحُ تُحرّكُ أذرعها القويّة لكي تؤدّي في ما بعد، في مكان آخر، جولة رمليّة على شكل عُكاز، بصوت ناعم ينتهي بأن يهدأ. مجموعة الوريقات تتسكّع هاربة على الأكفّ الدافئة للهواء الكثيف للغاية حتى نخالُ أننا نراه. في الناحية الأخرى للمشهد، مُغْلَقا بباب سميك ومظْلم، شارع كان يبكي أغنيته الباهتة. الأرجوحة التي تركناها للتوّ أصدرت أنينَ حيوان يتمّ تعذيبه. أعتقد أنه لم يكن هناك أحد على مرمى أصواتنا. الصبيّ العزيز… ما زلت أراه بثبات رائع ورهيب، جالسا على مقعد حجريّ، حالما ومُنْحنيا في بدلته البحرية بقبّعة وبمرساة ذهبية مثلما حدث في يوم الكرب ذاك عندما ضربتُ وجهه الوديع.
أبحثُ عنه. وأفكر فيه في الاحتفالات التي تََتَخَمّر، وفي الجموع الصاخبة، وفي الشوارع المُزدحمة التي تكون أكثر طولا بعيدا عن خلْجان الأضواء، حيث الظلال تحلمُ على البرك، أفخاذها مُنْثَنية ومتّصلَة تحت ثقل الذكرى التي تقفزُ على أكتفاها مثل قرد سيئ. ثمّة أفكار نشعر أنها مُخْتبئة خلف أفكار أخرى ولا تأتي أفكار جديدة إلاّ لها هي التي تسدّ للحظات المساحات الصفراء حيث الموتُ مُتعب من إظهار وجهه المثقوب مثل الفلّين.
الصبيّ يُعكّرُ صفْوَ الليل السّاخن. عيون العاصفة المطريّة تُضيء شكله. هو يقفز على شبكة شجرة. ويركضُ في رائحة شارع مزروع بأشجار السماء حيث فراشات ترفّ مثل الجفون. في المساءات التي آخذ فيها جزءا من نصيبي من الحفل، تكون لي رغبة في أن أنطلقَ للتوّ حين أّفكّرُ في ذلك، وأن أركض إلى حيّ فقير لأتألم فيه في ركن مُعْتَم. ويحدث لي أن أحلم أني أعثر عليه أخيرا، “الرجل الأسود الغبي”، الفظ وغير المؤلم، والقاسي، وهو جميل وقوي وغنيّ في مكان من المتعة، بربطة عنق لا توصف، إلاّ أن ندمي البائس لا يرْقَى إلى كتفه.
رسائل فوق جثّة
تمّ العثورُ على رسائل فوق جثّة.
– “وجدنا رسائل فوق جثة وقَلَما وبعضَ السجائر الإسبانية”. تمّ وصْف للملامح الجميلة، ولتعبير الحزن العميق على الوجه، ولأشياء أخرى كثيرة، وللإهمال المُرعب…
أجدُ صعوبة في المُتابعة. لماذا يتوجّبُ عليّ وأنا أقرأ هذا أن أرى مرة أخرى وبثبات، الوجهَ الوديعَ لواحد من معلّمي طفولتنا، بذلك التعبير الذي يتجلّى عندما يُراقبُ واجباتنا. ما زلتُ أراه في قوة سلطته ذات مساء عمل. كان يتحدّث إلى والدي. وكنّا نشعرُ في أصواتهما المُقيّدَة بمرور يقين دقيق، وكلّ تقدير عامل لآخر. كان مصباحنا قد ضعف ضوؤه. وكانت العصافير نائمة في القفص. وجاء ظلّ القضبان ليحطّ على صفحتي البيضاء. كنّا نسمعُ النارَ وهي تتحرّك مثل نائم، وتصعدُ في حلمها، ثم تنهار على أعمدتها الذهبيّة بهدوء ونعومة ثمرة ناضجة.
هل كان ذلك صحيحا؟ إنه مُمَدّد هناك خلف الخيْط الليلي الرفيع حيث تضعف الأضواء.
أيام الأحد
حقول مثل البحر، الرائحة القوية للعشب، ريح نواقيس على الأزهار بعد هطول المطر، أصوات الأطفال الصافية في حديقة المطر الزرقاء. شمس باهتة مفتُوحة على الحزانى. وكلّ هذا يندفعُ على فتور هذه الظهيرة. الساعة تُغني. الطقسُ لطيف. الذين يُحبونني جميعهم هنا. أسمع كلمات طفل هادئة مثل النهار. الطاولة التي أعدّت بسيطة وفرحة مع الأشياء النقيّة مثل صمت الشمعدانات الحاضرة. السّماء تقذف حمّاها للأسف مثل بَرَكَة. يوم كبير للقرية يُبْهجُ النوافذ. أناس بُمسكون مصابيحَ. إنه الاحتفال والأزهار. بعيدا أرغن يُطلق أنينا مَعْسُولا.
…
أوه، أريد أن أقول لك…
كشْفُ الطّالع
قدري هو جُهْد كلّ ليلة نحو نفسي، هو العودة إلى القلب بخطى بطيئة، على طول المدن المُسْتعْبَدَة من قبل بيروقراطيّة الغموض… أنا من الذين يزرعون المصير، والذين اكتشفوا غرفةَ خلع الملابس قبل أن يُخاطروا بحياتهم في أوْجها. وكنت قد وصلتُ عاريا تماما، من دون وُشوم كونيّة. العملاق اللطيف الذي يُزعجني عندما أشعر أنني لا أزال مُتعبا بسبب النوم، هو العالم الذي ابتكرته لنفسي، والذي أمْسك به ساخنا في الحلم. وإذا ما أنا متّ غدا، فسيكون ذلك بسبب نوْبَة عصيان.