كان على المنبر قريباً من النجوم، مشعشعاً بأنوار اللغة، مهيمناً على رؤوس كثيرة مبهورة، تحدقُ فيه العيونُ فلا تراهُ، وتصغي الآذانُ إلى موسيقى حافلةٍ بالمعاني، فتصيرُ أيديها أجنحة وتطير صوب الأقمار.
وحين نزل تبركت الأيدي، ولمستْ نوراً في الثياب والجلد، وشمت راوئحَ الجنان، فذابت وجداً وهياماً.
سيدي حاذر هذا الدرب، إنه زلق، لم تقم الجهات المعنية برصفهِ وتركتْ مستنقعاته!
– أخرسْ يا ولد، تريدون أن يُصنع لكم كلَ شيء.
يمشيان بين الدواليب والبيوت، الصبيُّ يمسكُ يدَه ويسلط المصباح في الطريق المعتم، والشيخُ خطواتهُ حذرة، قصيرة، وحاسة شمهِ دقيقة، لكن الحذرَ لا يمنعُ من القدر، فتقفز قطة قرب وجهه، فـُيذعر، وتحدث معركة بين القطط وراء سعف الحقل، فيضربُ الشيخُ الولدَ !
– هل وصلنا إلى بيت سعيدة القدوم؟
– لا نحن في درب آخر..
– ولماذا لففتَ بنا، كان بيتها على رأس الطريق؟
– المستنقعُ أغرقَ ذلك الدرب، وإذا أردنا الوصول إلى بيت سعيدة الغارق معظمه في المياه فلا بد أن نلتف..
وشوح الشيخ بعصاه منزعجاً، وتذكر كيف كان يركضُ في هذه الدروب، ويقفزُ جدرانَ البيوت وأسيجة البساتين، ويصعدُ النخيل، فيتأوه متحسراً، ويدهش كيف إن كلَ أموالهِ المتجمعة لا تجلبُ له مثل تلك السعادة؟
– ها قد وصلنا يا شيخ لمنزل سعيدة..
– أشمُ رائحة عطنة.. !
– المستنقع يا شيخ يحملُ الكثير من جثث الفئران المنتفخة، والأوساخ الطافحة، قلتُ لك يا سيدي..
– أخرس يا ولد! وقل لي أين الباب؟
– الباب لا بد أن نخوض إليه، وسأرفع صوتي عل المرأة وعيالها يسمعونني!
– صّوتْ فإن صوتك غليظ ثقيل!
وراح الولدُ يصرخُ بملءِ شدقيه، مقلداً صوت الشيخ وهو يقرأ، ولكن المنزل شبه المتداعي الغارق في المياه لم يسمع، وحدق الولدُ في خرومِ النوافذ ورأى بصيصاً من نور، وتذكرَ فاطمة الصبية، فتركَ يدَ الكهل ورفعَ ثوبَهُ وخاض في المياه وهو يصطدمُ بفأر من هنا وقطة طافحة من هناك، وقد تقاربا وتوحدا في ملكوت المياه، حتى وصلَ البابَ وراح يضربهُ بقوةٍ، أفزعتَ الساكنين، فظهرتْ رؤوسُهم من كل الثقوب، وجهُ امرأةٍ مسنة تمضغُ بقلاً، وفتاة حسناء تلوكُ خبزاً، وحشدٌ من وجوهِ العفاريت الصغار طلعتْ من مسام الحجر.
– الشيخُ يريدُ فلوسَهُ وقد صبر عليكم كثيراً يا خالتي أم فاطمة!
– لعنك الله يا ابليس! تزعجنا في هذا الوقت، والظلامُ حلَّ، وليس في بيتنا رجل..
ورفع الشيخُ صوتَهُ من وراء المياه:
– لقد طال صبري وضاق عمري واهترأت نعلي لأجل تلك الدراهم الملعونة والفلوس المغبونة!
وقالت الأم:
– يهرفُ بالنحوي الآن، سوف يرتفعُ المبلغ أضعافاً!
قالت فاطمة برقة:
– سوف نعطيك المبلغ يا سيدنا قريباً.
وذهل الشيخ، فهذا صوتٌ ملائكي يطلعُ من الطين والسبخ، وكلُ الأصوات التي يسمعها معدنية مجلجلة، وأيقن بفراستهِ أن فاطمة لم تعد طفلة، فذابَ وجداً، وتمنى البصر، وقال بهدوءٍ غريبٍ ولطف عجيب:
– لا والله لا تستعجلوا ولا تغضبوا، فإنني فقط اردتُ التذكير ولأنني مررتُ من هنا، وحتى لو.. تتمهلوا أسبوعاً فلا ضير، هيا يا ولد ولا تزعج الناس ودعهم يرتاحون وإذا أرادوا أي معونة فرقبتي سدادة.
قالت الأم:
– الحمد لله صار يتكلم بالعامي.
جاء الصبي مندهشاً من تغير الشيخ، وأيقن بأن لفحةً إيمانيةً هبطتْ عليه، وطالعَ السماءَ بفضول، خاصة ان الشيخ أخذ يدَهُ برفقٍ على غير العادة، ومضيا في الدرب، وعيونُ الصبي ازدادت اتساعاً وفضولاً.
قال الشيخ:
– كيف ترى فاطمة، كبرت أليس كذلك؟
– كثيراً وفجأة، كنا نلعبُ معاً، ولكنها قفزت إلى الأنوثة وتركتني!
– جاثمة في البيت، مستورة ؟ !
– ألم تر منزلهم.. ؟!
زلقَ لسانهُ، ثم كادَ أن يقضمه. وشعر بأن الرجلَ صار مريباً في هذه اللحظة، وقد راح يقترب من حماه وهو مذهول من إن هذا الأعمى المحروق الوجه، البخيل، يريد تلك الصبية!
قال:
– إنها تشتغل في معمل مع الرجال، وهي عوراء دميمة، ورائحتها كريهة!
– يا إلهي.. هل بعدنا كثيراً؟ ألا نستطيع أن نرجع لهؤلاء الذين لهم دخل جيد ومع هذا يتلكأون في دفع ديونهم!
وبغتة ظهر عملاقٌ مضيء، ذو عيونٍ كثيرة، يتطاول إلى رؤوس الأشجار فذعر الصبي ذعراً شديداً، وترك يدَ الشيخ، وصرخ فزعاً:
– يا سيدي.. ثمة غول.. غول كبير!
– اخرس يا ولد!
– إنه حيوانٌ.. مخيف.. سأترك.. لا أستطيع..
واندفع بين الشجر والنخيل وهو يصرخ :
– أنت سيد وتستطيع.. أن تنقذَ نفسك وتطير.. أما أنا فيتيم.. فقير!
جثم الشيخُ وحده، وأصداء صيحات الصبي تملأ روحه قلقاً، وهو يشعرُ بالدرب المعتم، وبهذا الفحيحِ الغريبِ القريب، ويسمعُ هسهسة أوراقِ الشجر وكأن رأساً عملاقةً تهزها، وكان ثمة حرارةٌ لاسعةٌ تقتربُ من وجهه، وانفجر صوتٌ معدني في السكون:
– ما هذا يا شيخ.. كيف تفعل ذلك؟
– من.. يكلمني.. من هذا؟
وكأنه كان يرى الجسم العملاق المتطاول إلى السماء، بجناحيه الكبيرين اللذين يعلوان الشجر ويجثمان عليها، وكأن الرأسُ الكبيرةُ رأسَ إنسانٍ وصقرٍ معاً، وظنَّ إن ساعته حانت، فتأوه وتذكرَ الديونَ الكثيرة التي عليه أن يحصلها، وزوجته الجديدة، وملمسها الناعم وجسدها المثير، فقال:
– أي صوت هذا؟ لماذا تتعرضُ لضرير مسكين وشيخٍ حزين جامع للصدقات وقارئ للآيات؟
– أخرجْ محفظةَ نقودك لنوزعها على الفقراء أيها الشيخ الملعون!
– لا، لا، إلا هذا، خذْ روحي يا سيدي واترك.. جيوبي!
– اخرسْ!
وجاءتهُ ضربة من علبةٍ صغيرة فارغة، شم فيها رائحة طماطم. لكنها كانت مؤلمة. فأخرج المحفظة وانتزعها الشبح بقوة.
كان الأولاد قد فكوا العروسة الكبيرة التي صنعوها، وأخذوا النقودَ واندفعوا بين البساتين وهم يضحكون.
عبدالله خليفة
كاتب وروائي من البحرين