تنويه:
هذا النص كتب بتاريخ 28/7/2010، وأي تشابه بينه وبين أي أحداث لاحقة هو من مفارقات الصدف العجيبة.
أحدثت الليلة التي قضيتها في السجن تحولاً هائلاً في نفسي، كأن حجاباً سميكاً أو جداراً عالياً انهار فجأة وانزاح.. وتفجرت في داخلي مشاعر جديدة، وعميقة، وغامضة بها كثير من الشجى والأسى والغضب.. وقعت على ورقة التعهد بأنني لن أعود إلى كتابة أشياء تخل بأمن الدولة، وخرجت من السجن. صافحت زوجتي وقبلت ابنتي الصغرى وابني الأكبر منها. ركبت السيارة باتجاه البيت. كانت زوجتي تقود السيارة وتتحدث إليّ، وأبنائي يعبرون عن شوقهم بالكلمات والحركات الشقية، لكنني كنت صامتاً، وسارحاً في مكان بعيد. كانت روحي لاتزال في زنزانة السجن. بالأمس حين أخذوني لتمضية عقوبة السجن لليلة واحدة كما أمر الإدعاء العام فكرت كثيراً في زوجتي وأولادي، وفي جدوى الكتابة التي لا تأتي منها سوى المشاكل، وعن من سيرعى أبنائي لو تشردوا من الفقر والذل وأنا في السجن؟ وفكرت لأول مرة أن أطلب النقل بعد خروجي من السجن إلى قسم الرياضة أو المنوعات بالجريدة، ففي هذه الأقسام يمكن للمرء أن يكتب ما يشاء دون أن يتعرض للمساءلة أما السياسة فالأخطاء فيها لا تغتفر.
وأنا في الطريق إلى السجن بالأمس خطر في ذهني عدد من زملاء الدراسة في الجامعة، بعضهم أصبح في مراكز مرموقة، وأحدهم أصبح نائب مدير تحرير في إحدى الصحف الحكومية، بينما أنا محرر مغمور في جريدة خاصة، وبراتب قليل ومحدود، لولا عمل زوجتي ما استطعنا حتى استئجار شقة! كنت أفكر فيما لو فصلت من عملي، صحيح أنني أعمل في صحيفة خاصة، لكن كل شيء في هذا البلد ملك للحكومة، يكفي اتصال هاتفي من جهات عليا لمالك الصحيفة كي أجد نفسي في اليوم التالي دون عمل..كل تلك الهواجس التي كان يخفق بها قلبي خوفاً وفزعاً انهارت فجأة، أصبحت صغيرة جداً، إلى حد أنني أشعر الآن بسخافتها. أشعر وكأنني لم أعد ذلك الشخص الذي دخل السجن بالأمس. هل تكفي ليلة واحدة في السجن لتغيير الإنسان إلى الأبد؟!
عندما وصلنا البيت كنت ما أزال تائها، وغائباً في مكان بعيد، سألتني زوجتي أكثر من مرة، حاولت بأكثر من طريقة أن تجعلني أتكلم، لكنني كنت أرد بكلمات مقتضبة وأصمت. ونحن على طاولة الطعام كنت أشاهد مشاكسات الأطفال، وأسمع أصواتهم، وألاحظ نظرات زوجتي القلقة، المستطلعة، لكنني كنت سارحاً في البعيد. أحاول أن أمضغ الطعام وبالكاد أشعر بطعمه..استأذنت قبل إنهاء الطعام. قلت لزوجتي إنني متعب قليلاً، أحتاج أن أجلس لوحدي، دخلت إلى إحدى الغرف، وأغلقت الباب على نفسي، وتمددت على الأرض.. أغمضت عيني محاولاً أن أنام.. وشعرت أنني هناك، وأخذت أستعيد كل التفاصيل.. لحظة دخولي إلى زنزانة السجن.. غرفة صغيرة، خانقة، رطوبة كثيفة، ورائحة بول وعفونة. انتبهت إلى ثلاثة أجرام إنسانية تحتل زوايا غرفة السجن، اخترت الزاوية الخالية. جلست على الأرض. اتكأت بظهري على الجدار، ورفعت ركبتي باتجاه صدري، ووضعت كوعيَّ على ركبتيَّ، وبكفيَّ أمسكت برأسي، وأخذت أفكر عميقاً فيما حل بي، وكيف انتهى بي الحال في السجن مع المجرمين واللصوص والقتلة. لماذا ورطت نفسي بالكتابة عن الفساد، ونهب المال العام؟ صحيح أنني ألمحت بشكل موارب إلى قضية بيع الحكومة لأراض شاسعة لمستثمرين أجانب بأسعار زهيدة، وإلى الشائعات التي تتردد بأن هنالك عمولات تلقاها مسؤولين كبار، هذه القصة يرددها الجميع في كل مكان، لكنهم كانوا يترصدون لي منذ زمن بعيد، يبحثون عما وراء السطور، يريدون خطأ ما، مستمسكات لتأديبي. في تلك اللحظات مرت في ذهني وجوه عدد من أصدقائي، تخيلتهم ينعمون بالحرية والدفء مع زوجاتهم وأبنائهم بينما أنا في السجن! وعادت إلى ذهني فكرة أن أطلب نقلي إلى قسم المنوعات أو الرياضة حالما أخرج من السجن. رفعت رأسي بعد غياب طويل، انتبهت إلى سقف السجن الواطئ، كدت ألامسه برأسي عندما دخلت. تابعت عيناي شعاع الشمس الضعيف الذي يدخل من النافذة العلوية الوحيدة في السقف، بدا الشعاع ثقيلاً وكأنه يحمل ذرات من الغبار والعفونة. تطلعت إلى زملائي في السجن، كان أحدهم يجلس بذات الطريقة التي أجلس بها، لاحظت أنه يحدق فيَّ بنظرات مستطلعة، كان شعر رأسه الكثيف ولحيته الكثة تحجب الكثير من ملامح وجهه، وفي الزاوية على يميني يجلس شاب في مطلع العشرين من عمره، توحي ملامحه وحركات جسده المتواصلة بشيء من الخفة، أما الآخر فكان منبطحاً على جانبه الأيمن، ممداً رجليه. ظهره للجدار ووجهه باتجاهي. كان يبدو هزيلاً وطاعناً في السن، ولايكف عن الكحة.
قطع صاحب الشعر الكثيف واللحية الكثة الصمت:
– اسمي حاتم سعيد، وهذا الشاب مسعود علي والآخر الوالد سعيد منصور عرّفنا باسمك الكريم.
كان لوقع اسم «حاتم سعيد» أثر غريب أيقظ حواسي كلها، واتسعت عيناي لتتبينا ملامح صاحب الشعر الكثيف واللحية الكثة..
– اسمي يحيى أحمد
– ما التهمة؟ هل قتلت أو سرقت أم أنك كنت تبيع المخدرات؟
– لا هذا ولا ذاك. كتبت مقالاً في الجريدة عن قضية تتعلق بسرقة المال العام.
حرك الرجل المسن رجليه ورفع رأسه وكأن كلمة «سرقة» أثارت فضوله، وداهمته نوبة من الكحة المتواصلة، أما الشاب فكان يقهقه بسخرية ويململ رأسه. ضرب كفاً بكف، وقال كأنه يكلم نفسه: «والله هذا البلد مسخرة، لايوجد عدل أبداً.» ثم رفع عينيه باتجاهي وأضاف: «أتصدق سجنوني ظلم! ضربت أحدهم بسكين، أصيب فقط ولم يمت، ومع ذلك يسجونني! نعم لو كان مات من المعقول أن أسجن، لكن كيف يسجونني وهو لم يمت؟! أين العدل، أخبرني؟ اكتب هذا في الجريدة. أنا لو كنت أعرف أني سأسجن كنت طعنت ابن الكلب بالسكين طعنة أقوى». التفت الشاب إلى الرجل المسن الذي كان رافعاً رأسه مصغياً للحديث وقال: «أنت لا تتكلم. أنت سارق، ولص، وحرامي، خمسين مرة يسجنونك وما تتوب، وآخر مرة سرقت إمرأة مسكينة عمياء، أنت أبداً ما في قلبك رحمة، وينبغي أن يحكموا عليك مؤبد».
كنت أستمع إلى الشاب وأردد بيني وبين نفسي اسم حاتم سعيد، هل يعقل أن يكون هو؟ أن ألتقيه هنا في هذه الزنزانة، أدرت وجهي عن الشاب نحو صاحب الشعر الكثيف واللحية الكثة، وقلت له:
– هل أنت حاتم سعيد الذي خرج في مظاهرة لوحده، وطاف في وسط العاصمة رافعاً لافتة كتب عليها: «نطالب بالديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة لكل أبناء الشعب» ؟
اتسعت مقلتاه وهو ينظر إلي كأنه دهش من السؤال. وافترت شفتاه عما يشبه ابتسامة وقال:
– نعم هو.
ساد صمتٌ طويل بيننا..استرجعت في تلك اللحظات ما كان يرويه لي عيسى ابن خالي عنه. كان حاتم سعيد أكثر شخصية أعجبت بها في سنوات دراستي الجامعية، وكنت أفكر فيه كثيراً. وكم تمنيت أن أراه أو أن ألتقيه ولو لمرة واحدة. ثم فجأة، ها هو الآن أمامي! كان عيسى ابن خالي الذي يكبرني بعشر سنوات يتحدث بحب وإعجاب شديد عن حاتم سعيد، وكثيراً ما غالب الدموع في عينيه واختلج صوته وهو يتحدث عنه: «مسكين حاتم. لا يستحق ما حدث له! كان ذكياً، وجريئاً، ومرهف الشعور.. ربى الكلاب، وطارد الثعالب في الجبال، وهام في البراري وحيداً منذ صغره.. كان يقرأ كثيراً، ولديه كاريزما خاصة جعلت حتى المعلمين يحترمونه، وبعض الطلبة أحب القراءة إعجاباً به. أسس في المرحلة الثانوية اتحاداً سرياً للطلبة، وكان يجتمع بنا كل يوم خميس لمناقشة شؤون المجتمع. وأحياناً كنا نجمع مبالغ بسيطة لشراء أصباغ، ومعدات نجارة، وسمكرة، ونذهب إلى الأحياء الفقيرة بالمدينة، نصبغ نوافذ وأبواب منازلهم المهترئة، ونصلح الأدراج، ودورات المياه، ونساعدهم في حمل بعض الحجارة والألواح القديمة من ساحات الدار.. كان حاتم يقول إن ما كنا نقوم به هو الطريقة العملية لغرس الشعور بالمساواة وإزالة الطبقية من المجتمع.. أتذكر حين تأخرت المدرسة في توفير حافلات لنقل الطلبة مع بداية العام الدراسي، يومها حرَّض حاتم سعيد طلبة المدرسة للقيام بمظاهرة صباح اليوم التالي.. وبالفعل ولأول مرة في تاريخ المدينة، خرجنا في مظاهرات إلى الشوارع نحمل لافتات كبيرة نطالب فيها المدرسة والحكومة بتوفير حافلات النقل، ونهدد بالإضراب عن الدوام المدرسي. حين وصلنا السوق تجمع الكثيرون إلى جانبي الطريق ينظرون إلينا بابتسامات تعبر عن الرضى، وبعضهم كان يتلفت بقلق، وانضم إلينا عدد محدود من الرجال وبعض النساء الفقيرات. كان حاتم سعيد يتقدم المظاهرة بهتافات حماسية، وكنا نردد وراءه بقوة وصوت عالٍ. في اليوم التالي جاء وفد من الوزارة. وتحدثوا للطلبة في طابور الصباح بأن المطالب تم تلبيتها، وأن الحافلات ستكون في الانتظار مع نهاية اليوم المدرسي».
حكى لي عيسى ابن خالي كثيراً عن الظروف الأسرية والنفسية التي عاشها حاتم سعيد في طفولته «مقتل والده بتلك الطريقة البشعة زلزل كيانه. كان والداه قد انفصلا وهو في الثانية من عمره. تزوجت أمه بضابط في الجيش، وتزوج والده بعدها مرتين وطلقهما معاً، ويقال أنه ظل يحب زوجته الأولى أم حاتم، وبسببها ربما أدمن الخمرة. عاش حاتم أغلب فترات طفولته مع جده لأمه، ومنه اكتسب حب القراءة والمعرفة. جده سافر كثيراً، وعاش في مدن بعيدة، قبل أن يعود ويستقر في المدينة، وكانت لديه مكتبة كبيرة متنوعة من كتب التراث والأدب والتاريخ والسياسة والفلسفة، وقد أصر على تحفيظ حاتم الكثير من القصائد والمعلقات الشعرية، وكثيراً ما كانت تدور بينهما نقاشات ومساجلات شعرية. أما والده فقد تدهورت أحواله بسبب إدمانه للخمرة، إذ أصبح لا يرى إلا سكراناً، رث الثياب، يتعاطى أرخص أنواع الخمور ويرتاد الخرابات، إلى أن انتهى به الحال مقتولاً على يد أحد رفاقه السكارى إثر شجار نشب بينهما. كان حاتم حينها في السابعة عشرة من عمره، وبعدها بأشهر داهمته أولى نوبات الصرع التي ظلت ملازمة له!»
ومن بين القصص التي رواها لي عيسى ابن خالي وظلت عالقة في ذهني قصة الجحش: «في إحدى رحلاتنا الطلابية بالمرحلة الثانوية، وكان ذلك بعد مقتل والد حاتم بأشهر، أخذنا نطارد الحمير في الوديان، وحاصرنا جحشا أبيض على تلة مرتفعة، كنا نريد الإمساك به، ولم يكن الجحش يجد مهرباً، وبدا أنه استسلم أخيراً، غير أن أحد الأشقياء اندفع للجحش ورماه من أعلى التلة، وأخذ يضحك بينما الجحش يتدحرج، ويتلوى.. انسلخ الجلد، وتنافر الدم من أنحاء متفرقة من جسده، وحين استقر في السفح، أخذ ينهق، ويئن، ويتوجع، ويبكي، ولم يقوَ على الحراك.. كان حاتم بعيداً في المخيم.. وحين جاء ورأى الجحش مضرجاً بدمائه ويصدر ذلك الأنين المتوجع المكتوم انحنى عليه، وأخذ يمسح وجهه برفق، ويمسد عنقه، ويبكي، واشتد بكاؤه، طوق الجحش بيديه وكأنه يعانقه، وأخذ يبكي، وينشج.. وتشنج جسده، وأخذ ينتفض، ويرفس بقدميه الأرض. أصابته نوبة صرع حادة متأثراً بألم الجحش..وعندما اقتربنا منه رأينا حاتم سعيد يكز بأسنانه بقوه، والزبد يغطي فمه، ويداه متخشبتان، وبقوة استطعنا فك يديه عن عنق الحمار، وليومين متتاليين كان حاتم ينام ويصحو ويسأل عن الجحش، وكنا نطمئنه في كل مرة أنه بخير!».
بعد المظاهرات التي قام بها الطلبة احتجاجاً على عدم توفير حافلات النقل أصبح حاتم سعيد حديث المدينة -كما قال عيسى ابن خالي- وفي تلك الفترة ساءت العلاقة بينه وبين زوج أمه الضابط في الجيش كثيراً، وربما تلقى الضابط بعض التأنيب على سلوك ابن زوجته فخشي على مستقبله الوظيفي. بعدها بعام سافر حاتم للعمل في العاصمة، وانقطعت أخباره لعدة سنوات، ويقال أنه تنقل في عدة وظائف بمؤسسات حكومية، ثم تواردت الأنباء عن اعتقاله بعد خروجه في مظاهرة لوحده صباح يوم الخميس في وسط العاصمة. كان يمشي لوحده في الشارع الرئيسي وسط المدينة حاملاً لافتة كبيرة كتب عليها «نطالب بالديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة لكل أبناء الشعب»، البعض كان يمر بسيارته وينظر إليه متعجباً، وعدد من المارة أوقف سيارته وأخذ يتابعه من بعيد، وحين دخل السوق المركزي ترك الناس ما كانوا فيه وأخذوا ينظرون إليه ويقرأون اللافتة مبهوتين، مصدومين، مصعوقين، ولا يستطيعون استيعاب ما يحدث إلى أن تم اعتقاله من قبل الشرطة!. هذه المظاهرة التي قام بها شخص واحد أربكت أجهزة الأمن، ويقال أنهم رأوها بادرة خطيرة قد تشجع الكثيرين على تقليدها. وتسربت الأنباء أن حاتم سعيد أصيب بعد اعتقاله بنوبة صرع حادة تم نقله على إثرها إلى المستشفى، وبعد أيام تم تحويله إلى المستشفى الخاص بالأمراض النفسية، وطوال هذه السنوات يتم نقله بين المستشفى والسجن دون محاكمة.
كل هذه التفاصيل حول حاتم سعيد كانت تتداعى في ذهني بسرعة في تلك اللحظات.. وإذ بصوته يقطع الصمت الطويل:
– من أخبرك بقصة المظاهرة.
– هذه الحكاية مازال الكثيرون يرددونها.
– يقولون عني مجنون؟!
– البعض نعم، والبعض الآخر يتحدث بإعجاب شديد.
كنت أود أن أحدثه عن عيسى ابن خالي لكنني لسبب لا أفهمه فضلت ألا آتي على ذكره! أخبرته عن اعجابي به من خلال القصص الكثيرة التي رواها الكثيرون عنه.. ساد الصمت بيننا للحظات، وتخللته كحات متتالية من الرجل المسن، أما الشاب فكان ينظر إلينا فاغراً فمه قليلاً، قال حاتم بصوت متعب:
– صباح اليوم أخروجوني من مستشفى المرضى النفسيين، كنت أعاني مؤخراً من نوبة صرع حادة. هذه سادس مرة أذهب إلى هناك. أحضروني هنا هذه الليلة ريثما يعيدونني غداً مرة أخرى إلى السجن المركزي…صمت كأنه يتأمل وأضاف:
– أحب كثيراً أن أكون في المستشفى. المرضى النفسيون هم أطفال العالم، ليس مثلهم أحد في البراءة، ولا يجاريهم أحد في المكر! إنهم يفهمون ما يرمي إليه الأطباء، لكنهم أحياناً يتحايلون عليهم، ويضحكون سراً من غبائهم. الأطباء هم المرضى الحقيقيون، صدقني. وإلا قل لي لماذا ينفق إنسان سنوات من عمره لدراسة الطب النفسي؟! هل لإنقاذ البشرية المعذَّبة؟! إنه حتماً يبحث عن علاج لعلله النفسية الشخصية، ودراسته للطب النفسي ما هي إلا غطاء لإخفاء رغبته في البحث عن علاج لمعاناته!
ضحكت لفكرته الغريبة..كنت أود أن أتحدث، لكني شعرت أن لديه المزيد ليقوله.. قال بعد فترة صمت:
– أتعرف أنا لا أشعر برغبة كبيرة في الخروج من السجن، أحياناً أفكر بأن الحياة في الخارج لاتطاق!
– ألم تعد تحلم بالحرية والعدالة والديمقراطية؟
– لا أدري. أحياناً أظن بأنني لم أخرج في تلك المظاهرة المجنونة رافعاً تلك اللافتة لوحدي إلا لأهرب من وضع نفسي حاد.. كنت على شفى الانهيار. لم أستطع التأقلم مع الوظيفة، كما أن أشياء كثيرة كانت تعذبني.. النشاط السياسي أحياناً تنفيس عن الكُرَبْ والمشاكل الشخصية..عندما لا تطيق نفسك ماذا تفعل إذا لم تشغل نفسك بشيء أكبر منك، كالعمل من أجل المجتمع، الوطن، الأمة ؟ إما أن تدمن الخمرة وينتهي بك الحال مقتولاً مثل أبي، أو تؤخذ إلى السجن أو مستشفى الأمراض النفسية!
صمت كأنه يضغط على جرح ما كي لا ينفجر.. ثم أضاف بصوت مجروح متألم:
– أتعرف أنا يومها لم أفكر في معاني الكلمات التي كتبتها في اللافتة! كانت محاولة للهروب أو الانتحار.. أحياناً أظن أنها كانت طريقة للانتقام لمقتل أبي بتلك الطريقة الوحشية أو ربما كنت أريد توجيه صفعة لزوج أمي الضابط !
لاحظت عبر الضوء الخفيف الذي يصل إلينا من الممر خارج الزنزانة أن شفتيه كانتا تختلجان من الانفعال، خشيت أن يسقط في نوبة صرع أخرى، قلت محاولاً أن أغير الموضوع، أو ربما لأبحث عن تأييد لما أفكر فيه:
– أنتم كجيل كانت لديكم مساحة أكبر، السلطة السياسية لم تكن قد أحكمت قبضتها على كل شيء، على الأقل كانت هنالك أفكار وتيارات تعبر عن توجهات سياسية مختلفة وإن كانت سرية، عندما تفتح وعينا وجدنا الأرض يابسة، تم تجفيف كل منابع الأفكار المختلفة، ولم نعد نسمع سوى الأناشيد والأغاني الوطنية والحديث عن المنجزات العظيمة التي تحققت..تصور لم يعد هنالك الآن مجال للكتابة في الشؤون السياسية المحلية، ربما المجال الوحيد هو أن تكتب في الرياضة أو المنوعات.
نظر إليّ طويلاً وكأنه لا يراني، ثم تبسم وكأنه قرأ هواجسي الداخلية:
– هل تخشى أن يكون مصيرك مثل مصيري؟
وأضاف كأنه لا ينتظر إجابة لهذا السؤال:
– أحياناً أفكر ما الذي سأفعله لو خرجت من السجن بعد هذه السنوات، أين سأذهب؟ ماذا سأعمل؟ الحرية عبء!. على الأقل في السجن وفي مستشفى الأمراض النفسية تعرف سبب وجودك! أحياناً أحلم أن أؤلف كتاباً بعد خروجي من السجن..هل تظن أنهم سيطلقون سراحي؟.. لا يهم.. سأؤلف كتاباً أسميه «تأملات سجين» لن أتحدث عن السياسة، السياسة تأثيرها محدود… لدي أفكار خطرة كونتها أثناء وجودي في السجن!
نظر إليَّ بتأمل عميق ثم قال بصوت عميق واثق:
– يبدو لي أنك لم تحرث تربتك جيداً حتى الآن. إذا أردت أن تغير المجتمع بكتاباتك عليك أن تفكر، أن تكون لك أفكارك الخاصة، كف عن ترديد ما تعلمته في البيت والمدرسة وما تقرأه في الكتب. عليك أن تعيد التفكير في كل شيء. السجن مكان مثالي للتفكير، لأنه يمنحك الوحدة لساعات وأيام طويلة، ولابد أن تفكر وتعيد التفكير في كل شيء، وحينها ستبدأ تنظر للحياة بشكل مختلف تماماً، لكن السجن ليوم واحد لايكفي. اسمع عليك أن تحرص في المرة القادمة على أن يسجنونك سنة أو سنتين..
ضحك وأخذ يقهقه بصوت عالٍ.. وضحكت رغماً عني.. وضحك الشاب الذي يبدو أنه كان منصتاً لحوارنا وقال: «السجن يصنع الرجال.. أفضل الناس في السجن». وكح الرجل المسن وهز رأسه كأنه يؤكد على الكلام، لكن الشاب أضاف وهو يلتفت إليه: «أنت ما محسوب بهذا الكلام.. أنت تظن نفسك من أفضل الناس؟ صدق ما تستحي على وجهك. أحسن لك تتوب. روح الحج. رجل في الدنيا ورجل في القبر وبعدك تسرق إمرأة فقيرة، مسكينة وبعدها عمياء!. يا الظالم يا الحرامي.. أسرق الناس الأغنياء إذا كنت صدق محترم!».
في تلك الليلة، وبعد أن نام الجميع، حدثني حاتم سعيد عن الكثير من أفكاره الخطيرة! وعن حكايات المساجين والمرضى النفسيين، وباح لي بذكريات كثيرة وأحداث تركت آثارها في نفسه.. تحدث كثيراً بمرارة عن مقتل والده، قال أنه اعتبر والده ميتاً منذ زمن بعيد حين تركه وأدمن الخمرة، وأصبح يترنح في الشوارع رث الثياب، ولكن موته بتلك الطريقة الفاجعة فجَّر في داخله طوفان من الألم والأحزان، لكنه قال أنه ينظر إلى والده الآن باعتباره ضحية ظروفه «لا أحد يريد تدمير ذاته باختياره، عندما تفهمت أبي وعذرته شعرت أني تصالحت مع أشياء كثيرة داخل نفسي» تحدث أيضاً عن زوج أمه، وكيف طرده من المنزل بعد المظاهرة التي حرض عليها طلبة المدرسة، ومن بين ما قاله وأثار اهتمامي»أتصدق، أصبحت الآن أتفهم موقفه مني، من حق كل إنسان أن يدافع عن مستقبله الوظيفي، لماذا على الجميع أن يؤيدنا في كل قناعاتنا وأفكارنا؟» وفي آخر الليل وقبل أن ننام أسمعني بعض قصائده الغزلية القديمة..نمنا قبيل الفجر. وفي الصباح تحاشينا الحديث إلى بعضنا البعض. كنا صامتين، واجمين، كأننا نخشى الوداع القاسي، أن لا نلتقي أبداً مرة أخرى! كان ذلك إحساساً فاجعاً، وشديد القسوة، اللحظات كانت تمر حادة، مؤلمة.. كان الشاب يغمغم بكلمات غير مفهومة، والرجل المسن يعبث في كيس كأنه يبحث عن شيء ما، وأنا وحاتم صامتين كأحجار الوادي الصماء!
عندما ناداني الحرس للخروج سلمت على الشاب وعلى الرجل المسن اللذين وقفا لوداعي، كان حاتم جالساً على الأرض ينظر للجهة الأخرى، وعندما اقتربت قال لي «مع السلامة» دون أن يرفع رأسه لينظر إلى وجهي، مددت يدي إليه فوقف وصافحني، جذبته وعانقته، ولم أستطع أن أقاوم الدموع، شد على كتفيَّ بقوة بقبضتي يديه وقال: «لا تنسى أن ترسل لي نسخة من كتابك الأول.» قلت له «سأفعل، وأنا سأنتظر منك مسودة كتاب (تأملات سجين) ابتسم بتواضع حزين، وشيء من الأمل الغائم.
خرجت من الزنزانة. لكنني وأنا أغادر وقبل أن أغيب في الممر التفت كي ألقي النظرة الأخيرة على حاتم سعيد، ورأيته ينظر إلي وبحيرة من الدموع تتلألأ في عينيه، واصلت المشي ومسحت بظاهر كفي دموعاً حرصت ألا يراها الحارس الذي قادني للخارج.
في الساعة الرابعة عصراً خرجت من المنزل، كنت أشعر بالاختناق، وكأن غرفة السجن انطبعت في روحي للأبد. طفت في أرجاء المدينة بسيارتي، أنظر إلى كل ما حولي وكأنني لا أراه، كانت روحي في السجن، وكنت أسمع صوت حاتم يتردد صداه في داخلي، كأننا نواصل حديثنا بالأمس!
أوقفت سيارتي عند سفح الجبل المطل على وسط المدينة من جهة الغرب، وتسلقت سفح الجبل نحو القمة، جلست عند الحافة، وتركت رجلي تتدليان في الهواء، وأخذت أنظر إلى المدينة من أعلى.. أضواء المنازل، وأعمدة الإنارة، وأضواء المركبات التي اختلطت بحمرة الغروب القانية جعلت كل شيء يبدو شاحباً، وهزيلاً، ويبعث على السقم..استعدت تفاصيل وجه حاتم الحالم الحزين..وخطر في ذهني ابن خالي عيسى، تذكرته ذاهباً بسيارته القديمة إلى عمله، غارقاً في الأعباء الوظيفية -كما يقول- وتوفير لقمة العيش لأبنائه، وكيف أنه لم يعد يهتم الآن سوى بمتابعة مباريات كرة القدم!
أخذت أنظر للفضاء الرحب للمدينة من أعلى وأتساءل: ترى هل يتسع هذا الفضاء لشخصيات مثل حاتم سعيد أم أن السجن ومستشفى الأمراض النفسية هو المكان الأرحب لها؟! وفكرت في أشياء كثيرة وخطيرة.. وأخذت أتخيل وجه حاتم بنظراته الحالمة والحزينة يبتسم لي بتواضع ومحبة، وكأنه يشجعني على أن أذهب أبعد في التفكير والحلم!
ناصر صالح
كاتب من عُمان