انهمك زميلي البدين في البحث عن شيء ، فقد منه ، في غرفة المكتب المشترك بيننا . في صمت ، راح يقلب الأدراج ويخرج الأوراق . توقف في حيرة . سألته عما يبحث ؟ . أجاب : مفاتيح الدابة غابت عني . قلت : لا تقلق .. عندما انتهي سأحملك معي . استراح على مقعده ، في قلق . بعد مدة قصيرة قال ليحفزني على المسير : رفيقناعبداللـه الشاعر ينتظرني بالخارج . نظرت في ساعتي ، كانت تشير إلى مابعد منتصف الليل . قلت : مجرد دقائق ونمضي . صمت على مضض .
خارج المؤسسة يعم الظلام . تضوي الأضواء الشاحبة من بعيد . تنتثر الكواكب في القبة الزرقاء الخالية من نتف السحاب . وجدنا ثالثنا ، عبداللـه الملقب بالشاعر العليل ، يقف بجوار نافورة المياه ، يترنم بمقاطع من قصيدة .. ربما لم تكتمل بعد : مسقط . ياليلنا الحزين .. يادمعة على الخد الجميل . قال حمود البدين وهو يحثه على الذهاب : هيا.. أكمل قصيدتك في شوارع المدينة ، ستجدها خالية من البشر والقطط وشياطين الجن والإنس . قال الشاعرالهزيل البدن مستكملا بكلمات ذات مغزى : الناطور الليلي لايزال ساهرا . شاهرا سلاحه في وجه كائنات مملكة الليل المسقطي . يصيح في البيوت المرتجفة : « شايفينّك . مين هناك ؟! « . ضحك حمود البدين وعقب : لن يفهم كلماتك أحد ، فأنت شاعر حداثي !! .
ركبنا العربة وتحركت . دارت حول مبنى النافورة . اتجهت ناحية بوابة السور . عند البوفيه المغلق الذي يديره العامل الآسيوي القادم من كيرالا ، سمعت صوتا غير مألوف . توقفت . نزلت . نظرت إلى أسفل ، وجدت الإطار الخلفي فارغا من الهواء . قلت : الإطار .. عقب البدين : الدابة بنْشرت !! . كيف تسيرهذه المركبة هنا .. في هذا المناخ الحار وهي مصنعة في بلاد الثلوج والكفرة !! .
نزلنا . توقفنا في حيرة . قال حمود البدين : نأخذ تاكسي أجره . رد عبداللـه الشاعر : الحين لن تجد مركبات للأجرة . قلت لإهتمامي بالعربة أكثر منهما : نستبدل الإطار الخراب . ولم انتظر ردهما ، فتحت الشنطة الخلفية ، أخرجت الإطار الإحتياطي . تقدم حمود البدين وانهمك في معالجة الصماويل ، وبدأ عبدالله الشاعر في رفع جسم المركبة بالرافعة اليدوية . بعد الانتهاء ، تم استبداله . تأكدت من متانة الحل والربط ، لأن المسؤولية أولا وأخيرا سوف تقع على رأسي أنا . وضعت الإطار الخراب في المؤخرة . ركبنا وسرنا إلى الشارع العام . خال ، المركبات قليلة جدا ، تكاد تكون نادرة ، تعبر بنا وتمرق وتختفي .. البنايات الصغيرة ، متناثرة ، تبرز بين الصخور وفي بطون الجبال . فوق القمم العالية تبدو الأبراج القديمة كالأشباح التي تراقب الطريق في صمت وسكون . الشوارع المكتظة بالبنايات . كانت طرقاتها الضيقة ، شبه خالية . قال شاعرنا ، الهزيل كعود السمر اليابس ، قبل أن نصل إلى مسقط : أعرف مكانا هادئا . يظل ساهرا حتى الفجر ، على أنغام أم كلثوم . يعمل به شاب صعيدي وافد من الأقصر . عنده قط مصري سمين يحرس له المحل ..
جلس ثلاثتنا حول المائدة الصغيرة . طلب حمود الجبلي « شاورما « وعصير برتقال . وطلب عبداللـه الخروصي ، علبة مشروب مياه غازية ، وطلبت سندوتش فلافل ، وشايا ومخللات . التهمنا الطعام ، ثم مسحنا أيدينا بالورق الخفيف الناعم ، وتناولنا المشاريب على مهل . واتجهت إلى العربة …
توقفت وتسمرت مكاني ، كانت عينا قط أسود تبرقان في الظلام وهو يستريح فوق سطح العربة ، يصلب مقدمتيه بشدة ، يستريح على مؤخرته وساقيه الخلفيتين ، يرمقني بنظرات تحد . تقابلت عيناه مع عينيّ . ارتجفت .. توقف شعر رأسي . لوحت بيدي للقط أن يبتعد . لم يتحرك . نهرته . درت حول العربة . سألني الشاعر العليل : مابك ؟ أجبت : القط !! . ضحك : إنه قط مصري . كيف لم يتعرف عليك ؟! . أتيته من الجانب الآخر وحاولت دفعه بشدة من الخلف ، فسقط على مقدمة العربة الساخنة ، فزمجر وقفز على الأرض واختفي .
قال العامل الوافد : هذا القط أحضرته معي من الأقصر ، بالطريق البري ..
قال عبداللـه الشاعر : مازال ليلي طويلا ، وبيتي بعيدا ، ولا داع للركوب .. سأمضي على قدمي إلى هناك . عقب حمود البدين : لابد أن تكتمل القصيدة هذه الليلة . لم أعقب ، لكنني أحسست بشيء غريب في تصرفه ، ممازاد من حيرتي . وجلس البدين بجواري وانطلقنا في الطريق العام ، عندما شاهدنا زرقة مياه الخليج قال : ناحية اليسار بهدوء ، ثم يمين زقاق ضيق . دخلنا منه حتى نهايته . وجدنا أشجار نخيل كثيفة ، وشجيرات النبق الصغيرة وحديقة وطريق غير ممهد . قال : عند نهاية سور المعلم عبدالرزاق . سألته : مدرس ؟ أجاب : الباصر ، الذي يعاقرالسحر …
عند نهاية السور توقفت بهدوء . نزل . سألته: هذه المنطقة غريبة عليّ .. أنا غير ملم بها ، كيف العودة ؟ قال : سأدلك على سكة مختصرة وقصيرة ، لكنها ملتوية قليلا ، وبها مطبات ، سير بهدوء وعلى مهل .. لأنها وسط القبور . وأشار بيده ، واختفي في الظلام ..
الطريق مظلم . جبلي . نحت من الصخورالتي في بطن الجبال .. بعد قليل بدت الأشجار تبرز من وراء الأسوار والأسلاك وبعض البنايات الصخرية البالية . أكوام النفايات حولها القطط تأكل وتتعارك معا . عند المنحنى برقت عيناه فجأة !! . اقشعر بدني . توقفت.. وجدته يقترب مني في خطوات غريبة . وبدا كأنه ينقض عليّ . انطلقت بالعربة فصدمته . لم أحس بالإطار وهو يمر من فوق بدنه النحيل . قلت في نفسي ، لو حدث هذا لكنت أحسست به . هدأت قليلا ، قليلا .. كأنما أمشي على قدمي . سمعت أنينا ، أشبه بالمواء . ماهذا الصوت الذي يشبه النحيب . ينبعث من بطن العربة . توقفت .. فتحت الباب بهدوء . وبسملت . ياخفي الألطاف نجنا ممانخاف . درت حول العربة . الأنين لم ينقطع . استخرجت أوراق الصحيفة القديمة وفرشتها على الأرض . ركزت عليها بساقي ونظرت بهدوء وحذر .. أسفل العربة . كان ينام ممددا . ياااللـه . علق ذيله الأسود الغزير الشعر بالجكمان الساخن وبرقت عيناه . سمعت أنينه . أخرجت رأسي من بطن العربة وقمت واقفا لأرى كيف اتصرف .الباصر .. وجدته يرتدي البياض . ملاصقا لي . طويلا . طويلا .. عينان تبرقان مشرومتان كعيني القط الأسود !! من أنت ؟! من أين أتيت . ماذا تريد مني ؟ لم يجب . أشار بيده أن ابتعد عن المكان . وانثنى ، كانت قامته أطول من العربة مرتين . تمددعلى الأرض طويلا . هالني طوله . ومد يده واستخرج الصغير الجريح وهمس وهو ينظر بنظرات غـل : ماذا فعلت بولدي ؟! .
لم أجب . حاولت النطق . التهتهه . تلعثمت . حمله على ذراعيه وابتعد . اختفى عن ناظري في لحظات . نظرت مكان أن جذب الصغير ، كانت نقاط الدم على الأرض تبدو سوداء واضحة ، نقطة وراء نقطة ، كالرذاذ المتساقط من آنية مملوءة حتى الحواف . ماذا حدث وأنا لا أدري ؟!
ركبت العربة ، واصلت سيري في الزقاق ، كل شيء هادئ ، لا أثر لمخلوق ، بعد مدة انتهيت من السير في الزقاق الموحش ، وأصبحت في الساحة الواسعة المؤدية إلى الطريق العام . أحسست بالهواء البارد النقي يأتي من ناحية الخليج ، أخذت أجفف عرقي الغزير .. ومع ذلك أحسست بأن ظهري يتساقط منه حباب العرق وتتجمع داخل تجويف العمود الفقري . عند الإنحراف ، انحرفت بشدة وكدت اصطدم بالصخور ، وسلكت الطريق المؤدي خارج بنايات المدينة الموغلة في القدم ، النائمة في أحضان الجبال . اسرعت ، قبل الخروج عن نطاق البيوت العتيقة وجدته جالسا كالشحاذ وهو يمد يده ناحيتي . هل هو ضال يود الركوب ، أو شيخ عجوز يود المساعدة . هممت بالتوقف ، عندما برقت عيناه . عرفته . ضغطت على دواسة البنزين بشدة ، فانطلقت العربة فوق المنحدر المائل والمرتفع ، تصعده بقوة والإطارات تكحت الأرض محدثة صوتا عاليا وجلبة في هذا السكون . المركبة تتمايل على الجسر المرتفع ، كأنما تود الإنطلاق في الهواء ، كأنها تطير في الفراغ ، اختل توازني ووجدت نفسي وسط الوادي الجاف وحولي زوبعة من الغبار الكثيف يخفي المكان . لايود أن يتركني هذه الليلة ، إنه مصمم على النيل مني بأية وسيلة . دخل الغبار من نوافذ العربة وكل المنافذ الأخرى ، أحسست بالغبار كالدبابيس وهي تخترق جلدي ، وترامى إلي مواء آتيا من بعيد . إنه هو . تمالكت نفسي وعدت متراجعا للخلف ، خارج المنطقة الجرداء ببطء ، كانت العربة تتحرك للوراء بهدوء كأنما لم يصبها شيء أو تهوي من فوق الجسر، وصلت إلى الطريق الممهد ، نظفت نفسي من الغبار بسرعة وارتباك ، وانطلقت كالريح ..
عندما وصلت البراح الواسع أمام مسكني ، جذبت نفسا عميقا ، وحمدت اللـه . أوقفت المحرك ، وتذكرت بعض الأوراق كنت وضعتها في مؤخرة المركبة ، قررت أن أحملها . بهدوء رفعت الغطاء ، قفز في وجهي .. سريعا مع زمجرة قوية . تراجعت للوراء . بسرعة تراجعت للوراء أكثر ، تعثرت وسقطت على ظهري ، ولم أدر ماذا حدث ؟
في الصباح قالت لي زوجتي ، لقد تأخرت كثيرا الليلة الماضية ، قلقنا عليك بعد أن انتصف الليل بكثير ، ونظرت من النافذة ، فوجدت العربة تقف فى طرف الساحة ، وأنت ملقي على الأرض خلفها . هرعت إليك وجدتك في غيبوبة ، قلت ربما صدمتك سيارة وأنت تهم بالنزول وفرت هاربة . ساعدتك في الوصول إلى الداخل ، وأرحتك على السرير ، كانت ثيابك مغبرة .. ماذا حدث لك ؟!
نظرت حولي في غرابة . لا أكاد أصدق . قلت : أين القط الأسود ؟ لم يتوقف عن مطاردتي . نظرت إليّ في حيرة وغرابة : أي قط ؟! . أكنت تحلم ؟!. أجبت : لا…
سألت : أو شاربا ؟! قلت معترضا : أنت تعرفين بأنني لا أشرب …
بعد مدة عدت أسأل : ماذا حدث لي ليلة الأمس ؟ .
عقبت زوجتي وهي تهز رأسها : أسأل روحك !! أين كنت …
قال ولدي بهدوء : استيقظت قرب الفجر ، وجدتك منكبا على بعض الأوراق . تنبهت على صوتك وأنت تردد ، القط . القط !! عندما سألتك قلت ، ظل يطاردني طوال الليل ، كان معي طوال الوقت !! . عندما نظرت أمامك ، لم أجد سوى الحبر والأوراق والأقلام ، وعدة صفحات .. كتبتها أنت بخط يدك .
ٍسألت : أين هي ؟ أحضرها حالا …
غاب ثم عاد وفي يده رزمة من الأوراق ، عندما أقترب من مرقدي ، رفعها أمام وجهه . قرأ بصوت عال :
ـ ليـلة القـط الأسـود ..
عبدالسـتار خليف
روائي مصري مقيم في عُمان