يظهر جليا الجهد الذي بذله الباحث والصحفي الفلسطيني محمد محمود البشتاوي في كتابه «ليس مجرد سرد- أصل الحكاية في التراث العربي» الصادر مؤخرا في عمّان عن دار الآن ناشرون وموزعون، حيث اشتغل المؤلف على معاينة أشكال الحكاية والقص في التراث العربي، ونفض الغبار عما التبسَ من مفاهيم حولها، مستنداً في ذلك على مصادر تاريخية لرواد الإخباريين العرب، إلى جانب اعتمادهِ على موسوعة الدكتور جواد علي «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» كمرجع لا غنى عنهُ في تاريخ العرب الجاهلي، يُضافُ إلى ذلك دراسات وأبحاث لمؤرخين معاصرين، كتوفيق برو، ومحمد مهران البيومي.
وخلافاً للسائد الذي رسَّخهُ النقد القديم، وكثير من النقد المعاصر، فإن المؤلف في كتابه الذي يقع في 128 صفحة من القطع المتوسط، تجاوز التصنيف القائم على أن التراث العربي ينحصر بين الشعر والنثر؛ إذ اعتبرت العرب أن كل كلامٍ لا وزنَ له، وغيرَ مقفى هو بالضرورة نثر، ويشمل ذلك الحكاية، والقص، والرسالة، والمقامات، وصولاً إلى نثريات النفري، والحلاج، وأبو يزيد البسطامي وغيرها.
ويلتقط المؤلف في كتابه، نماذج مختارة، أخضعها لعملية الدراسة والبحث، حيث قارنَ في أصل بعض الحكايات العربية، والجذور المشتركة لها مع ثقافات لحضارات أخرى، كما في «حكاية سنمار»، ووجود تقاطع، أو تلاقٍ، في بعض خطوط الحبكة القصصية لحكاية «الزباء والأبرش»، و«الضيزن بن معاوية» مع أسطورة طروادة، لاسيما في مسألة اقتحام حصن العدو واختراق أسواره المنيعة.
ويمايز البشتاوي في «ليس مجرد سرد» بين حكايات شبه الجزيرة العربية وتلك التي تدور أحداثها في بلاد الشام والعراق، فنجدهُ يعلق قائلا: «في وقتٍ كانت الحرب في حكايات الجزيرة العربية مكشوفةً في الصحراء، والمواجهة فيها وجهاً لوجه بين النخيل والكثبان الرملية والواحات – باعتبارها بيئة واقعية للمكان، فإن حكايات الشرق في العراق وسوريا كانت تتمُّ فيها الحروب عبر الخدع والمكائد ورسم خرائط الغزو والإغارة، والتفكير في كيفية الهروب عبر الأنفاق، واختراق الحصون لكسر قلعة الخصم من الداخل، علاوةً على وجود موانع طبيعية تمثلها بيئة المكان، من جبال وأنهار عازلة».
ومقابل هذه الاختلافات، فإن المؤلف يجمع الحكايات العربية في سلةٍ من المشتركات؛ إذ يشير في كتابه إلى الجذور المشتركة بين الحكايات العربية نفسها، إذ «أنها لا تجنح بعيداً في الخيال، ولا تعتمد على خوارق لتحقيق الإثارة، وربما يعود ذلك لاستنادها إلى التاريخ، مع التأكيد أن هنالك قسماً من الحكايات لجأت إلى الخوارق والأجواء العجائبية كسيرة سيف بن ذي يزن، وحكاية مصباح علاء الدين، و(السندباد البحري)، وقصة (حي بن يقظان)، و(العنقاء)، وحكايا (الغول / ـة)، وثمة «تخاريف في كتب التراث «أطلق عليها في الأثر «تكاذيب الأعراب»، وهي نوع من «الكذب الأبيض» الذي يلجأ إليه المتنافسون لمن يطلق كذبةً مبالغًا فيها أكثر من الآخر، وهنالك «قصص الفشر» وإن كان اصطلاحُها حديثًا».
ومن القواسم المشتركة للحكايات العربية أن هنالك صفةٌ يمكن تعميمها على أبطال الحكايات وهي (المنتقمون) فـ «الزير سالم ينتقم لأخيه من بني مرة، والزَّبَّاء تنتقم لوالدها عمرو بن الظرب من قاتله جذيمة الأبرش، وابن أخته عمرو بن عدي ينتقم من الزَّبَّاء لمقتل خالهِ، كما أن امرئ القيس ينتقم لأبيه، أما سابور ذو الأكتاف (الثاني) / أو الأول، فينتقم من الضيزن بن معاوية خاطفِ أخته «ماه»، وحيناً يقال إنها عمته، ثم ينتقم من (النضيرة) لأنها خانت والدها..، وهكذا دواليك، تستمر عملية الانتقام التي تُبنى على أساسها حبكةُ الحكاية».
ونظراً إلى مكانة الشعر في حياة العرب، فإنه كان من القواسم المشتركة للحكايات، كما يوضح المؤلف، فلا غرابةَ إن وجدنا جميع شخصيات الحكايات العربية شعراء، ومن المشتركات التي يتضمنها الكتاب، استنباط الأمثال في الحكاية، وكأن الحكاية وجدت لإنتاج الأمثال، كما في قصص حرب البسوس والزباء وسنمار..الخ، علاوة على أن هذه الحكايات العربية جاءت «في قالب (إخباري) لقصص الأولين».
مشترك آخر يشير إليه البشتاوي إلى أن «الشخصيات الرئيسية من النساء في الحكاية العربية كُنَّ – على الأغلب – زرقاوات الأعين، فحين أراد الجاحظ في كتابه (الحيوان) أن يعرِّف اليمامة ذكر «أنها كانت من بنات لُقْمان ابن عاد، وأن اسمها عنْزٌ، وكانت هي زرقاء، وكانت الزَّبَّاء زَرْقَاء، وكانت البَسُوس زرقاء»، ولا ننسى أن فكَّ طلسم (حصن الحضر) كان بدم حيض جاريةٍ (زرقاء) كما تؤكد المصادر، وثمةَ مؤشر واحد حول (زرقة العين).. أنها فألٌ سيئٌ يعود على أهلهِ بالخراب».
ومما يستدعي الانتباه، في كتاب البشتاوي، أن التراث العربي كان غنيًّا بالحكايات، إلا أنَّ اختلاطها بالتاريخ، والوقائع، والأحداث، جعل منها جزءا من عملي التأريخ لدى المؤرخين، والإخباريين، فيما كانت مقولة «الشعرُ ديوان العرب» عنوان عريض لاختزال تراثنا في الشعر، لذا حاول المؤلف في كتابه أن يعيد الاعتبار للسرد العربي القديم الذي راح يتقزم أما هجمات غير مبررة من مثقفين وأشباههم في عصرنا الحالي، بهدف تشويه التراث العربي وحصره في الشعر فقط مقابل جعل فنون السرد والقص والحكاية ماركة محتكرة من قبل الغرب.
يقول البشتاوي في مقدمة كتابه «ثمة فئة من مثقفينا تنظر إلى تراثنا بازدراء وعداء، والحط من قدرهِ، في حالةٍ تتطابقُ تاريخيًّا مع «الحركة الشُّعُوبية»، مقابل التغني بما لدى الأمم الأخرى، فنكون بذلك أمام حالة استلاب للغرب، وانسلاخ عن «العربية» وتراثها وحضارتها، لدرجةِ أن البعض طالب بأن تكون الكتابة بأحرفٍ لاتينية في بعض الدول العربية، أو استبدال العامية بالفُصحى. وفي سياق هذا التجاهل المتعمد للتراث السردي العربي، نتيجةَ الاستلاب لثقافة الآخر، والتبعية، وتعمية العين عن المخزون الثقافي الحِكائي، نجد أن هنالك نخبة تتجه نحو الغرب – نقديًّا وسرديًّا – باعتبارهِ منشأَ الحكايةِ، والروايةِ، والقَصّ».
كما يرى البشتاوي أن التراث في جلِّ مصنفاتهِ رُويَ باعتبارهِ جزءاً من التاريخ، وتقزّمَ أمام حالة «الشعرنة» العربية، فتداخلَ بذلك التاريخ والسرد الحكائي العربي.. وباتَ من المهمِّ تناولُهُ كما نشأَ في أصلهِ، لا كما جاءت بهِ نظريات العصر، إلا ما وردَ كأداةٍ يمكن توظيفها لصالحِ الفهم والقراءة.
المؤلف يؤكد في كتابه أن الأمم تنطلق من التراث كبيئة محلية إلى العالمية، في سبيل إثباتِ وجودها وذاتها حضارياً، في حين يتجه بعض المثقفين الأمميين إلى حضارات أخرى لإغناء رصيدهم الثقافي، وإضافة ما هو جديد ومختلف عمّا خُلِّد في تاريخهم الأدبي، وخلافاً لذلك؛ أصيبت الحالة العربية بإنكارٍ للذات وتنكُّرٍ لها، إذ إن «التراث» في نظر شريحة معتبرة من مثقفينا، ليس إلا حجرَ الزاوية لمقام الشعر الذي عُنونَ نقديًّا باعتبارهِ (ديوان العرب)، في حالِ الحديث عن الشعر الكلاسيكي، وأحياناً (التفعيلة)، أما (قصيدة النثر) فلا جدالَ لدى هذه النخبة في «أوْرَبَتِها» و»أمْرَكَتِها»، متناسين نثريات (النفري) و(الحلاج) و(أبي يزيد البسطامي) وآخرين.
يقول البشتاوي: أُهمِلَ السرد باعتبارهِ نثراً، أدنى من مرتبة الشعر، وكثيراً ما خالطَ «السرد» التاريخ والتوجهات الفكرية، وإن أردنا فرز القائمين على السرد في التاريخ العربي نجد أنهم إخباريون، وحاملو فكر، ومدونون لتاريخ الحقباتِ السابقة، فانطبع في الأذهان أن السردَ وعظيٌّ (كرسائل ابن حَيَّان وبعض المقامات)، أو فلسفيٌّ (كقصة حَي بن يقظان وبنسخ مؤلفيها الأربعة)، أو فكاهيٌّ (بخلاء الجاحظ ونوادر جحا)، أو خارجٌ عن المألوف (حكايا السعالي والجن وغرائب الصعاليك كتأبطَ شرًّا)».
وخاتمةُ الكتابِ جاءت مع مختارات انتقاها المؤلفُ من حكايات السرد العربي، قدمها بافتتاحيةٍ تناولت أهمية التفريق بين أجناس السرد العربي القديم، وألوانه، وضرورة عدم معاينته نقديًّا بأدوات معاصرة.
إسلام سمحان