هدى حمودة
ولدت الشاعرة الفرنسية ليدي داتاس Lydie Dattas عام 1949 لعائلة فنية، فوالدها كان عازف أورغن في كورال كاتدرائية نوتردام باريس وأمها ممثلة مسرحية، بدأت بدراسة المسرح ثم توقفت، واتجهت إلى التعليم الكاثوليكي لكنها انقطعت عنه،واستقرت مع عائلتها في بريطانيا حيث درست بالثانوية الفرنسية التي اشتغل فيها والدها كمدرس موسيقى.
ثم عادت إلى فرنسا لتشارك في مهرجان أفينيون Avignon، واستقرت من جديد في بلدها.
بدأت الكتابة مبكرا، فنشرت أول أعمالها “لا أحد” No One وهي في سن العشرين.
تعد من أقوى الأصوات النسوية في جيلها، ربطتها صداقة قوية بالشاعر الفرنسي جون غروجون Jean Grosjean الذي كتب مقدمة أهم كتبها “كتاب الملائكة”. Le Livre des anges
قرأت الشعر العربي وألف ليلة وليلة وفُتنت بعوالمه الساحرة.
سافرت إلى باريس لدراسة الفلسفة حيث التقت بالشاعر الغجري ألكسندر رومانيس Alexandre Romanès الذي ارتبطت به ومعه انغمست في الحياة بعيدا عن الشعر الذي كانت تحياه بدل أن تكتبه، فأسست برفقته سيرك ليدي رومانيس الذي كان يقوم على فكرة تغيير الصورة النمطية عن الغجر.
بعد انفصالها عنه التقت بالشاعر الفرنسي كريستيان بوبان Christian Bobin الذي تقاسمت معه حياة العزلة والشعر بعيدا عن الأنظار في ريف صاون إي لوار Saône-et-Loire. هذه العلاقة التي منحت الكثير للشعر كانت نتاج الاستيعاب الكبير لروح الشاعرة وعوالمها المتفردة، فهي تكتب الشعر كما تراه في الحلم والتأمل، صافيا من منبعه، لا تلتزم بقواعد ولا قوانين حرة في شعرها الذي حررها من الجسد ورفعَ صوت الدَّاخل.
وفي مقدمة الكتاب الذي جمع أهم أعمالها والصادر مؤخرا عن دار غاليمار كتب عنها كريستيان بوبان: “ليدي داتاس وعند الولادة ،حملتها عاصفة رملية الآلاف من ذَرات آلام الأمهات وبلورات سوداء صغيرة وحادة دخلوا عيون المولودة الجديدة. فردت على هذه العاصفة بأَيام من الصَوم، الذي هو في كل التَّقاليد الصوفية عبور إلى الصحراء، الارتِعاشَةُ الأولى لشَهية مطلقة للحياة. كانت الطفلة أمَام مشكلة عليها حلها.
“أأقحم نفسي في صراع مُربك للكل ضد الكل، أم أعود إلى اللَّيل، من حيثُ أتَيت؟”،من أهم أعمالها:
دفتر غاوية: دار غاليمار2017
الحياة العفيفة لجون جونيه: دار غاليمار 2006
الليلة الروحية: دار غاليمار 1994
ردا على جون جونيه.
الصاعقة: ماركير دو فرانس 2011
كتاب الملائكة: غاليمار 2003
الشقراء، رموز بيير سولاج البربرية: دار غاليمار، 2014.
النصوص:
– -1
إن كَلَّمتُكَ، فليس من وعي سَاطعٍ، لكن من جهة الروح هذه المُحَاكة من لَيلٍ ورَهبة حيثُ التَّفكير ليس علامة ثراءٍ دَاخلي أو سُموٍ أخلاقي إنَّما الأثرُ البسيط لمحنة روحية كبيرة جدا كانت دائما مَخفِية، مِحنَة جَليلة لا تعرفُ اسمها وبأنها مشكلةٌ تماما من جَهلِ لعنتها الخاصَّة.
– 2 –
أكتبُ من مكان قَاحِل حيثُ الفكرةُ لم تَهبَّ يَوما، ولن تهبّ مطلقا: منذورة للَّيل، لن أَعثرَ على أي نَجم، على أي عالم غَريب، ولن أَعتَلِي أي قِمة، لن أخلقَ أي لغة، لأن كُلَّ ما أَملكهُ قد مات، ومَمْلكتي مَهجورة، كالمتعَة ليست سوى عدمٍ… مَطرودة من الجنَّة الروحية، مُبعدة عن الجمال -هذا الذي لا يمكنهُ أن يكون سوى أخلاق- نحو أراضٍ هي دائما حَالكة، وبلا روح أكثرَ، محكومة بظلمة لا تُحتَمل بَينما الإنسان الأكثر بؤسا -الأكثر حرمانا من الوعي- لا يزَال يَقتاتُ بالأوهَام والأمَاني، عليَّ أن أتبَع، دون أي أَمل بنهايتهِ يوما، تِيهًا أبَديَّا خارج التَّجَلي.
– 3 –
إنْ أَنشَدتُ فبصَوت خَافِت: ما مِن دافعٍ ، ولا زينةَ هنا تَدينُ بجمالهَا للضوءِ، إنّما كلّ يَجْذبُ بريقَهُ من الَليل، ووهجَهُ من الحُزن، ويُفاقمُ مِحنتَهُ…. كل ما يُواسِي في أناشيدكَ سيفزعُ هنا، وكل ما يُضيء سيعتمُ. كالقمر في عبورهِ بالشّمس يَحجبها، تَعبرُ فكرتي فكرتك فتَغمرُها، وعلى روحك تُسدلُ روحي ظلًا لا تُشفى منه وحتى الوقت ذاَته لا يستطيع محوهُ. تمامًا كالهلال الأسودِ يُعمي ولا يُمكن تأملهُ دون خسائر، كل من سَينظرُ إلى هذه الصَّفحَاتِ عند كُسوف الجمال سيُكَدَّرُ إلى الأبد، وكل من سيتأملُ وجهَ الجمال الملعونِ في هذه العبارات فهو مصابٌ إلى الأبد.
– 4 –
إنْ كانت أناشيدُكَ الأكثرُ يأسًا والأكثر قَتامةً، وأوهامكَ الأكثرُ حِلكةً ما تزال تُبقي شيئًا من نَهار أضَاءها، فهي الشَّمس من يَسكبُ ليِ اللَّيل، هو النُّور من يُعتمُ العالمَ لأَجليِ…. حين آتِي على ذِكرهِم، كلمات الشمس والوردة ذَاتهم يُعتِمون، ولا أستطيعُ النُطق بكلمة دون أن يُسدَل عَليها طَيفُ اللَّعنةِ. و كلُّ ما أبذلهُ من جُهد لتَخليصِي لا يُوقفُ تعتُّم هذه الصفحاتِ البطيء، والانعكاسَ القَاتِم لهذهِ العِبارَات، حيث الجمال يَنفخُ بِحدَّة في مَعنى مَعكوسٍ، وفي انطِفاءِ النُّور تَشتَعلُ العَتمَة..
– 5 –
كنتُ سأقعُ
أَنكرتُ الجمالَ لمّا أبصرتُ الفَجرَ،
وهَجَرتهُ لأجل نَظرة الملائكة.
كانتِ السَّماءُ كلُّها تَبحثُ عَني في زُرقة الزَّنابِق،
وهذا كل ما تَدينُ به الرُّوح لِعُذوبةِ السَّماء.
طَعنَت الملائكة قَلبي بِزنبقَة:
انحَنت روحي تحت وَطئهَا الشَّفاف.
فَتَنبَّأتْ بحزني الإِلهي،
على عِطر الزَّنابِق الخَالصِ كانت تَتَّكئُ رُوحيِ
وسأقعُ إن لَم تَسندني.
– 6 –
صلاح اللئيم
لم أَفقِد يوما عادةَ الحب،
والرَّهبةَ من خَدشِ أولئك الذين آذَونِي.
أكثرُ ما يَمسُّني هو رِقَّة السَّيئ
وهذا التَّحول في الروح نحو اللازوردي.
لستُ نادمَة على ضياع حياتي:
منذ أن ضَممتُ الزنابقَ البيضاء لقَلبي
لا أقدر إلا أن أُجِلَّ جَمال الشَّر.
ولأني ضَحيتُ بأكثر مِمّا أُحبُّ
أَبَى الحبُّ أن يُبقِيني أُعاني.
مَحبَّتي مكتملةٌ لأنيِ لا أُحبُّ شيئا:
في قَلب اللَّئيم أَعثر على الخير،
من الذين يَكرهونني أتَلقَى المحبةَ
وأَلقَى الإلهَ في كل أعدَائيِ.
– 7 –
طعم الجنَّة
أنا مَذهُولة من دون أن أفهمَ لمَ:
للحزنِ عِندي طعمُ الجنة.
آه يا حزنًا أشَاعهُ بهاءُ المسَاء،
الملائكةُ لَيست رقيقةً كما نَظنُّ
ولَطالما كانَت مَعي.
أرادَ الشَّقاءُ أن يَعرفَ وَجهي،
فتَظاهرت السَّماء بِنسياني.
وأنا لَم أنسَى الشَّقاء لَحظةً.
– 8 –
عمرُ الزنابق
وهبتُ وَجهي مرةً للرَّبيعِ،
هذا الوجه الطُّفولي الذي تُعِيرنا إيَاهُ الملائكة.
كانَ الفَجرُ يَطلَعُ معي،
وكان لي عمر الزَّنابق وهي تَفتحُ بَتْلاَتِهَا،
لقد كنت الربيعَ لأولئكَ الذينَ عَرفونيِ.
وَيلٌ لمن يَغشُّ الجَمَال:
السَّماء لا تَرحمُ من يَخُونهُ،
هذا الجَمال الزَّائِفُ احتقَرتهُ النُّجوم.
كل لَحظة كانت تَحملُ حَقيقتهَا الخاصَّة،
والحقيقة لا تَقول ذَاتَ الشَيء مُطلقًا.
ولأنهَا لا تَدومُ سوى لَحظة،
ولأني شَهدتُ موْتَ العدمِ.
كيف يُمكنهُ أن يَموتَ ما هو مَوجود؟ .
يُوقظُني الجَمال في مُنتصف اللَّيل،
الذي تَجَلَّى بِبَهاءِ القَلب.
– 9 –
موتٌ مُكتمِل
أَرغَب في مَوت مُكتملٍ:
نحن نُجازف بِموتنَا كَما بحياتنَا
لأن المَوت أجملُ من الحياة،
ومن قيامة الورد القرمزية.
موتكَ خلَّفَ حُبيِ مَذهُولًا
حينَ حَفَّ الألمُ رُموشي بِدمُوع
زينَت عُيوني بجمالها.
لا أرَى كيف لروحِكَ أن تَموت،
كهذه اللمسة المتناهية الرقة، التي يمنحنَا إياهَا الورد،
ذاكَ الذي كان يَذوِي بطريقةٍ مُدهِشة
وهذه الحركة الخَفيفَة للملائكة نحو رُوحيِ،
وكالثَّلج المُتَبقِي في الزَّنابِق البَيضاء.
-10-
الدموع والقبلات
لاَ أَحد يَستحقُّ أكثَر ممَّا عَانَى.
كم مرة لاَقَتْنيِ السَّماء راكعةً،
كم مرة وَجدني الحبُّ بَاكية!
على خُدودي تَعاقبَتِ الدُّموعُ والقُبلاَت
حِينَ كان عَليَّ أن أختَار بَينَ الحبُّ والإله.
و لستُ نادمةً على اختيَار الدُّموع
لأن الحَقيقةَ مُتعةٌ خالصَة.
أرض الجنَّة صَعبَة الحَرثِ،
والجمال جَعل حُزني إلهيًّا.
ولأني أُومِنُ بالإلهِ، لم أعُد أُومنُ بشيء:
فَكلُّ ما هو زَائفٌ يَستِحقُّ الفَنَاء.
الهوامش
من الكتاب الذي أصدرته دار غاليمار وجمع ثلاثة أعمال من كتبها: كتاب الملائكة، الليلة الروحية ودفتر غاوية.
Le livre des angesSuivi de La nuitspirituel et de Carnet d›uneallumeuse. ÉditionsGallimard 2020