كَتَب عن كلّ شيء، لكنه لم يؤلف الكتاب الموعود عن زوجته
ليست الكتابة عن الكاتب الفرنسي الكبير سيلين بالمسألة الهينة، ليس فقط لأن المرء مدفوع للدفاع عنه إذا كان يحب كتابته، وليس فقط لأنه سيجد نفسه يُدينُه وينتقد كتاباته بل ويجرّمه كما فعل الكثيرون، إذا ما نظر إلى كتاباته القاسية عن اليهود أو إلى ومضاته الساخرة التي لم تستثن أحدا.
الكتابة صعبة عنه، أيضا، لأنه عبقري، ولا يمكن للقارئ، تحديدا، وببساطة، البرهنة عليها والإمساك بها. لأن فيها يظْهَرُ تميّز لويس فيرديناند سيلين على من سواه، أي الأسلوب (السيليني)، أو الموسيقى الخفية أو هذه اللعبة التي لا تظهر إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا في كل جيل. أو هذا الاشتغال المتفاني البطيء الذي يتطور على مدى خمسمائة سنة. أو هذه الطريقة في كتابة عشرة آلاف صفحة من أجل اختيار 800 صفحة فقط.
لقد أوشك سيلين أن يفقد حياته ثمن اتهامات له بالعمالة للنازية ولهتلر ومعاداته لليهود. ولولا تواجده في الدنمرك، بُعيْد انتصار الحلفاء على النازيين، سنة 1945، لكان مصيره المشنقة كما كان حال الكاتب الفرنسي روبرت برازيلاتش Robert Brasillach.
كان من المفروض أن تكون سنة 2011 سنة فرديناند سيلين في فرنسا، بمناسبة مرور قرن على ولادته، أي فرصة إعادة الاعتبار لهذا الكاتب الكبير الذي مات في ظروف تشبه ظروف المشرِّدين المطاردين، في الوقت الذي كانت فيه أعماله ولا تزال (بل بوتيرة متصاعدة) تُترْجَم إلى لغات العالم المتعددة. لكن دوائر يهودية، بل صهيونية، حالت دون ذلك (تحت ضغوط المحامي الصهيوني سيرج كلارسفيلد وعائلته النافذة، التي لا تتوقف عن الافتخار بكونها من صائدي النازيين)، وأرغمت وزير الثقافة الفرنسي فريديريك ميتران (ابن أخ الرئيس السابق فرانسوا ميتران) على إلغاء الطابع الرسمي للاحتفال بِعَلَم من أعلام الثقافة الفرنسية، بل وبثاني أهم روائي في القرن العشرين، إلى جانب مارسيل بروست (ابتداء من سنة 1990 أصبح سيلين الكاتب الفرنسي الذي استفاد من أكبر عدد من المنشورات، من بيوغرافيات وأطروحات جامعية، ومراسلات ونقد أدبي ومذكرات وغيرها) كما أنه (منذ سنوات السبعينات من القرن الماضي بدأ قسمٌ مجهول من نصوص سيلين في الظهور: ويتعلق الأمر بمراسلاته. وعلى منوال فولتير تُقدَّرُ كتاباته في هذا المضمار ما بين 15000 و20000 رسالة، وما يقرب من مئات من المُراسلين). وقد اعتمدنا في هذه المقالة على الكتاب الضخم (1171 صفحة) الذي كرّسته دار روبرت لافونت، سنة 2011، للكاتب، والذي حمل عنوان DUN CELINE L AUTRE. وليس خافيا أن العنوان يستلهم عنوان رواية سيلين: D UN CHATEAU L AUTRE. وقد جاء الكتاب الذي أفسح المجال لمائتي شهادة عن سيلين، كمساهمة في هذه الاحتفالية المُجْهَضَة.
لقد أرادت السياسة شيئا ولكنّ الثقافة أرادت شيئا آخر، فالكاتب، الذي لم يُطلقْ اسمُهُ بعدُ على أي شارع ولا مدرسة أو مكتبة في بلده فرنسا، سكن قلوب قرّاء كثيرين في فرنسا والعالم، فصدرت عشرات المؤلفات عن هذا الكاتب غير العادي، بهذه المناسبة، جعلت منه أكثر الكُتّاب في تاريخ فرنسا موضوعا لكُتب وأطروحات جامعية وبورتريهات وبيوغرافيات وكتب هجائية ومعادية غيرها…
صحيح أن الكثير من الكُتّاب والمثقفين الفرنسيين، حتى من غلاة الصهاينة، كفيليب سوليرز وبرنار هنري ليفي وألان فينكلكروت وغيرهم، عبّروا عن مواقف مؤيدة للاحتفال بالكاتب، فالكاتب، مع نصوصه ومواقفه، أصبح في عهدة التاريخ، وبالتالي موضوعا لمُدرِّسي ومؤرّخي الأدب وغيرهم، ولكن المناخ السائد في فرنسا، وتولّي نيكولا ساركوزي رئاسة الجمهورية، وهو شخص لا يُعرف عنه أي ميل للثقافة والأدب، على عكس شارل دوغول وفرانسوا ميتران (تجرأ ساركوزي، علانية، على التساؤل عن الفائدة من قراءة رواية La Princesse de Clèves لمؤلفتها Madame de La Fayette، مما دفع كثيرين للردّ عليه وانتقاد فهمه للأدب من زاوية الفائدة وعدم الفائدة، ومن بينهم فينكلكروت والناقد بيير جُورْد!)، اضطر الحكومة، الأكثر موالاة لإسرائيل في التاريخ، لإلغاء هذه الاحتفالية التي طال انتظارها.
يُعتبَر سيلين في حقيقة الأمر كاتبا ملعونا. فالحظ لم يكن من نصيبه في اي مكان. ربما الحظ الأوحد(إذا استثنينا موهبته الأدبية وأسلوبه الكتابي الاستثنائي)، ذو الأهمية الكبرى في حياته، هو تعرفه على مَنْ ستصبح زوجته، فيما بعد. يتعلق الأمر بلوسيت ألمنزور Lucette AlManzor، التي تصر دائما على التذكير بأصلها العربي الأندلسي لاسمها، والتي سيصل عمرها يوم 20 يوليو 2012 إلى المائة سنة. وهي راقصة ومدرسة رقص، استثنائية، رافقت سيلين إلى ألمانيا المحترقة وفي المنفي الاضطراري في الدانمرك، بعد أن تزوجت به في سنة 1943 ولزمته حتى وفاته بحنان ورعاية نادريْن، قلّ نظيرهُما. وراء كل عظيم امرأة، سيلين لم يشذّ عن القاعدة!
ثمة اعتقاد خاطئ أن سيلين لم يكنّ الحبّ للنساء، أو أن ثمة احتقارا من قبله لهنّ ولكن تتبعا لعلاقات سيلين النسائية تظهر لنا أنه كان عاشقا كبيرا لهن، ولدينا اعترافات الكثير منهن، ولعل زوجته الثانية والأخيرة تعلن ذلك بصراحة، ولكنها تشير إلى أنه كان محتشما…
ومن بين النساء اللواتي أغرم بهن سيلين الراقصة الأمريكية إليزابيث كريغ. وردّا على هذا السؤال الذي وُجِّه إليها: «كان سيلين يعتقد أنه مدين لك بالكثير!» تجيب: « هذا ما كان يحسّ به. لكنّ الأمر ليس صحيحا، ولكنه كان يعتقد هذا الأمر. وإذا كان يؤمن به، وإذا كان هذا قد ساعَدَهُ، فهذا كل ما أرجوه. لم أكن أريد أن أصبح امرأته العجوز، لأني كنت أعرفُ أنه لن يشيخ أبدا. ربما سيصير فظيعا، ولكنه لن يصبح عجوزا. كان لويس مثاليا يافعا، وكان يعشق ما يفعله، وكنت دائما أعتقد أن في داخله شيءٌ ما من المأساة. أتساءل عن السبب. لم يعش حياة مأساوية، على الأقل على المستوى العائلي. كانت لأمه شخصية كبيرة ولكنها كانت لطيفة جدا. رأيتُها بعض المرات. كان يقول بأنها تعمل كثيرا، الأمر صحيح، ولكنها لم تكن أبدا فقيرة، كما كان يقول. ولا حتى أبوه. لم يكن لويس على وئام مع أبيه، ولكنه كان بالغ الإعجاب بأمه.» «هل تعرفين أن روايته «سفر في آخر الليل» مهداةٌ إليك؟» تردّ: « الأمرُ يدفع لكثير من الفخر، لكني لم أكن على علم بذلك. كنت هنا في الولايات المتحدة الأمريكية حين أرسل لي لويس الكتاب. لم أقرأه أبدا، كنت عاجزة حتى عن فتحه، كما أني لم أستطع أبدا أن أفتح الرسالة الأخيرة التي بعثها إليّ.». «هل كان حنونا؟» تردّ: «يا إلهي، لقد كان حنونا، بشكل رهيب.» وتُفنِّد الراقصة كل ما أثير عن العجز الجنسي عند سيلين، وحين علمت أن صاحبي الإشاعة هما «مارسيل بروشارد» وصديق سيلين، «ماهي» تجيب: «لا بد وأن يكون غيورا منه.»
وإذا كنا نتحدث عن اللعنة التي أصابت هذا الكاتب الكبير، فإن الأمر، في حقيقة الأمر، يتعلق بلعنات كثيرة، أي بمسلسل لم يتوقف حتى رحل عن عالمنا. ابتدأت اللعنات بمشاركته في الحرب الكونية الأولى وخروجه منها بجرح كبير، جعله معوقا بنسبة 75 في المائة. ثم تأتي اللعنة الثانية، حين تعرض لمؤامرة دنيئة من قبل لجنة تحكيم جائزة الغونكور، سنة 1932، فيُحرَم من هذه الجائزة عن روايته العظيمة، سفر في آخر الليل، على الرغم من نيله جائزة رونودو، وكأنها كانت تعويضا (لكنه تعويضٌ لن يشفيه أبدا من هذا الجُرْح!). صحيح أن لا أحد يتذكر، اليوم، الفائز بالغونكور «غي مازلين»، ولا روايته «الذئاب»، في الوقت الذي تُرجِمَت فيه رائعة سيلين إلى معظم لغات العالم.
يكتب الكاتب والصحفي الفرنسي روني بارجافيل: في 27 مايو 1950 اختار 12 فردا من شخصيات أدبية رفيعة «اثنتي عشرة رواية من أهم روايات نصف القرن»، وفي نظر هؤلاء فإن الروائع هي: فيرمينا ماركيز (فاليري لاربود) والآلهة عطشى (أناتول فرانس)، والهضبة المُلهَمَة (بارّيس)، وحُبّ سْوان (مارسيل بروست)، واعتراف منتصف الليل (جورج ديهاميل)، وسيلبيرمان (جاك لي لاكروتيل)، والمزوّرون (أندري جيد)، وتيريز ديسكيرو (فرانسوا مورياك)، ويوميات قس في الريف (بيرنانوس)، والغثيان (سارتر)، ورِقّة الحياة (جيل رومينس).
يخال المرء نفسه في حُلم. إذْ لا وُجود لسيلين ولا لمارسيل أيْمي. ما عدا بيرنانوس، لا أحد سوى الموتى.
قام هنري موندور وجان بولهان، عضوا لجنة التحكيم «الإثنا عشر»، بنشر قائمة منشقة تتضمن أسماء سيغالين وراديغي وليمبور وفيليب وكينو وليوتود إلخ… وتتضمن سفر في آخر الليل.
بعد قائمة الأكاديميين جاءت لائحة المتصنعين. وحتى هؤلاء الأخيرين هم مخطئون، في نظر سيلين. فرائعة سيلين، تبقى في نظره، هي روايته MORT A CREDIT. إن رواية سفر في آخر الليل، التي لم تتحرر بعدُ من كل «أدب»، ليست سوى اندفاعة في اتجاه الروائع. مع ذلك فإن من المؤكد أن سيلين هو الكاتب الوحيدُ في هذه السنوات الخمسين الذي يمكننا أن نكون على يقين أنه سيعبُر قرونا عديدة. إنه الكاتب الفرنسي الأكبر. إنه فوق الآخرين, من دون أي قياس معهم.
وفي شهادة رائعة لمارسيل بروشارد عن رواية سيلين، سفر في آخر الليل، يكتب: «إن الرواية هي كل ما قصه عليّ لويس ديستوش (هو اسم سيلين)، صديقي، ألف مرة، أو هي ما هي عشناه معا. رواية السفر هي حرب 1914، وأفريقيا وأمريكا وكواليس المسرح، ساحة كليشي والضاحية الباريسية الكئيبة والطب في المستوصفات أو في الملاجئ، توضحه شخوصٌ من قبيل روبنسون وهو في حالة هذيان، وكما يراه فيرديناند باردامو، أو كما يراه، في حقيقة الأمر، سيلين! إن رواية «سفر في آخر الليل» قنبلةٌ في مخزنٍ للخزف، هذا ما كتبته كخلاصة.»
امتدّت اللعنات التي رافقت كاتبَنا إلى مواقف الكاتب من اليهود، والتي أثمرت ثلاث كتب، جلبت له مشاكل لا تُعدّ ولا تحصى. وهي كُتُبٌ تناول فيها اليهود بقسوة شديدة. ولحد الساعة لا تزال الرقابة تُصادِر هذه الكتب، وليس رفض زوجته لنشرها، على الأقل في حياتها (لا تزال على قيد الحياة وتقترب من المائة سنة!)، وهي التي قاست كثيرا لهذا السبب ورأت منزلها يحترق مرتين، هو السبب، بل لأن المسألة اليهودية في فرنسا تحظى بحساسية كبيرة, كما أن تأثير اللوبي اليهودي الفرنسي كبير، على الرغم من موافقة كثير من الكتّاب الفرنسيين، حتى المنحدرين من الديانة اليهودية، على مبدأ نشرها، الآن بعد مرور كل هذا الوقت على رحيل صاحبها
وللحقيقة فإنه على الرغم من هذه الكتب الهجائية لليهود، التي جلبت الكثير من الأذى لصاحبها، فقد رفض سيلين، بشكل قاطع، يُحمَد له، الخضوع للشروط والإملاءات النازية، ورفض تلقي أدنى رشوة، ولم يتوانَ عن إدانتهم وانتقاد هتلر الذي كان يرى فيه يهوديا جبانا. ولعلّ الفيلسوف جان بول سارتر أخطأ في حقه، حين سمح لنفسه، في مقال له بمجلة «الأزمنة الحديثة» بالتشكيك في عدم تلقيه أموالا من الإدارة الألمانية المحتلة لفرنسا، وهو ما قرأ فيه سيلين دعوة لإعدامه من قبل مفكّر يُفترَضُ فيه ألا يتعجل كما يفعل الموتورون أو أصحاب السياسة الذين لا يرون سوى مصالحهم الآنية، وردّ عليه سيلين بمقال مقذع، لا يستطيع سوى سيلين أن يُدبَّجه، خصوصا وأن سارتر يَدينُ له بالكثير، وأثرُ روايته «سفر في آخر الليل» ظاهرٌ في رواية سارتر: «الغثيان». هل تعامل سيلين مع النازيين؟ يرد الكاتب بعصبية: « «أكاذيب! أكاذيب! أنا بريءٌ! أنت تقصد مقالاتي في مجلة LA GERBE إنها حوارات مزورة. مع هذا فإن كل كتبي كانت محظورة في ألمانيا!» ويضيف: «لمْ أكن أبدا عضوا في أي حزب. ولو أني أردتُ أن أستعرض كل الأخطاء التي طالتني، فإنه يتوجب عليّ ملء ما يساوي كل الكتب الموجودة في المكتبة الوطنية.»
يتحدث جاك روبرت، وهو صحفي فرنسي يهودي، عن هذه القضية فيكتب: «بينما كان سيلين لا يزال في السجن الدنمركي، صدرت اتهامات، عمومية، من سارتر، كفيلة بوضع حياة سيلين موضع الخطر (كتب جان بول سارتر في عدد ديسمبرمن سنة 1945 في مجلته أزمنة حديثة، هذه الفقرة: « إذا كان سيلين قد دافع عن أطروحات النازيين فلأنه كان مدفوع الثمن!»). وكانت ملاحظة سيلين أنه في الوسط الأدبي لا يجب أن يُتصرَّف بهذه الطريقة غير الشريفة. إذْ ما دام شخصٌ ما في السجن، يتوجب الالتزام بالصمت، ولكن حين يخرج من السجن، يصبح الكلام حرا. «ولكن الأمر لا ينطبق على سارتر! سارتر ليس سوى قذارة!».
وينقل جاك روبرت، (الذي رأى، بحق، أن سيلين لم يتسلم أموالا من النازيين لسبب ممتاز وهو أنه كان ثريا جدا. فقد طُبعت أعمالُه بأعداد كبيرة جدا: سفر في آخر الليل، بلغت مليونا و300 ألف نسخة، قد MORT A CREDIT وصل إلى 800 ألف نسخة!) الحديث عن سيلين وهو يحكي كيف أن «سارتر الصغير» (الذي ليست فلسفته إلا تكرار لكتابات الفيلسوف الألماني هايدغر)، حاول، قبل الحرب، دونما انقطاع، أن يلتقي به، داعيا إياه لحضور حفلات، لكن دعواته عرفت منه الصدّ. «ثمة انطباعٌ بوجود عقدة نقص لدى سارتر. والأمرُ، ربما، عائدٌ إلى الحَوَل.»
وبعد انهيار النازية سنة 1945، اضْطُرّ سيلين للهرب من فرنسا، خوفا من جوّ عدائي قاتل، فكانت لعنة إضافية، جعلته يخترق ألمانيا، متجها إلى الدنمرك حيث وضع بعض الأموال في مكان آمن، لساعة العُسْرة. والقارئ المتتبع لسيلين وكتاباته يكتشف الأمر في العديد من نصوصه. ثم يكتشف سيلين أن المنفي لم يكن رحيما. وهنا ستلاحقه لعنة المنفى، بكل ما حملته من السجن والمعاناة، خرج منه سيلين، المريض أصلا، أكثر مرضا. ولعلّ الحبّ الكبير، والذي لم يكن يستطيع أن يُظهره لزوجته، لوسِيتْ ألمنزور (كانت تحس أن سيلين يحبها، وكانت راضية على الطريقة التي يُعبِّر بها سيلين عن محبته لها!)، وهو بعيد عنها، تارِكا إياها في بلد غريب ومعاد، زادت من معاناته وأشواقه ومراراته وحقده.
وجاءت مرحلة العفو من قبل الدولة الفرنسية، بفضل عمل دؤوب قام به محامون عنيدون إضافة إلى نخبة قليلة من الكُتّاب الذين ظلّوا أوفياء لسيلين، رغم الجو المشحون ضد كل من اعْتُبِر من الموالين لحكومة فيشي وألمانيا النازية. فيعود الكاتب وزوجته إلى فرنسا، ولكنه يعيشُ حياة صعبة، اضطرت معها زوجته إلى امتهان تدريس الرقص من أجل سدّ رمق العيش، في ظلّ مَعارك دونكيشوطية طاحنة لسيلين مع ناشره، غاليمار. ولكن المرض، هذه اللعنة الكبيرة التي رافقته حتى النهاية، لم يكن رحيما مع الكاتب، الذي تحمّله بصبر نادر، يشهد على ذلك استمرارُهُ في الكتابة، وموته بعد يوم واحد، فقط، من انتهائه من روايته الأخيرة.
كتابات فيرديناند سيلين:
من يتتبع كلمات لويس فرديناند سيلين التي تصدر منه حين يفتح فمه، يكتشف كمْ هو قادرٌ على الإدهاش. يتحدث كما يكتب. ولعلها موهبة نادرة، في مملكة الكُتّاب. ولا يخلو أيّ مقطع من حديث يشارك فيه من جواهر ولُمَع. وحتى سخريته، رغم قسوتها، أحيانا، تصبح شاعرية، حين يطلقها، ببراءته الخبيثة وتلقائيته الماكرة.
كتب سيلين إلى صديق له: «أذناك لا بد وأنهما تثيران طنينا… ليس ثمة سوى مشاعر ندم وتأسف على رحيلك- السكان الفقراء أصبحوا أكثر فقرا- وليس الأمر بالشيء القليل… الأمور، للأسف، لا تتحسن. إنها تتفاقم!- كل سكان هذه البلدة أصابهم الهزال- الكل يموت من الجوع والبرد- لكن لا بد أنكم تعانون في الريف- الروح فيها شهيدة، بمعنى الكلمة. أنت لست متعودا على العيش في الريف. إنه رهيبٌ، ولكنك سعيدٌ ومُثقلٌ بالكدّ وبما هو أهمّ. إن موهبتك الإدارية العالية ستظهر على أحسن مظهر. لا أزال أراني في طاقمك. أستعيد الرنة! لحظات سعيدة، خاطفة جدا، مُقتَلَعَةٌ من الكابوس! الممرضات مريضاتٌ- وها أنا لوحدي- يا له من انتصار! انتصار معكوس! عقبان الخراب! غراب! بومة! مودتي لك. لويس فيرديناند ديستوش».
ويرد على أحد محاوريه، في موضوع الكتابة: « كيف أصبحتُ كاتبا؟ لم أفكر في ذلك أبدا. كنت أرى أنه من المضحك شغل الوقت في إسالة كلمات. ولماذا هذه الكلمة من دون أخرى؟ يبدو لي في الأمر ادعاء استثنائي. لا. أنا كنت أمتلك موهبة في الطب. أحسستُ بالغبطة منذ فترة طويلة بشفاء رشح في الدماغ، أو معالجة جُدري الماء أو التعارك مع مرض الحصبة. وكنت أجد هذا الأمر جيّدا. كنتُ «مُعالِجا» للأمزجة. معاناة الإنسان تؤثر عليّ. كنتُ أقول في نفسي: « إذا كان هذا العليل يُكابد فإنه سوف يكون أكثر قسوة من المعتاد، وسوف يمارس الانتقام. إذن فمن الأفضل أن يحسّ بصحة أفضل… «الإنسانُ الذي أحبّه إنما هو الإنسان البنّاءُ، وما أكرهه هو الإنسان الهدّام. نفس الشيء ينطبق على الكُتّاب، الذين أفضل من يمتلك أسلوبا من بينهم، لأن الحكايات لا تنقصنا. الشوارعُ تعجّ بها، أرى الحكايات في كل مكان، في مراكز الشرطة وفي المَحاكِم، كل إنسان له حكاية، حكايات. ولكن من النادر العثور على أسلوب. لا يوجد إلا أسلوب واحد أو اثنان أو ثلاثة في جيل بكامله، بينما يوجد آلاف من الكُتّاب. إنهم كتّاب ضعفاء يزحفون في جُمَل. يرددون ما قاله آخرٌ. الأمر ليس مُهمّا… أمّا حالتي فمختلفةٌ: لقد توقفتُ عن أن أكون «كاتبا»، حتى أُصبح مُراسلا إخباريا، فوضعت جلدي على الطاولة، لأنه لا يجب عليكم أن تنسوا أن الموت هو المُلهِِم الحقيقي. إذا لم تضعوا جلودكم على الطاولة (هذا تعبير سيليني، لم يُوجَد قبل! mettre sa peau sur la table ) شيء. ما هو مجانيٌّ يطفح مجانية، ويفوح مجانية. يقول ديكارت: «لست أكثر عبقرية من أي إنسان آخر، ولكني أمتلك مَنْهجا (طريقة) بشكل إضافي.» أما طريقتي فتتمثل في الإمساك بشيء، والاعتناء به. ولكن المصيبة هي أن الناس، الآن، مستعجلون جدا. يشبه الأمر الأغنية الخفيفة، يصيح الناس «نريد أخرى، نريد أغنية خفيفة أخرى!». الأمر غباءٌ. إنقضيّةً مَا يمكن عدُّها بالدقائق لا تدوم طويلا، بينما الجديدُ هو، في الحقيقة، مسألةُ خمسمائة سنة. لكن العالم الحديث، للأسف، يموت من سرطان: الإشهار. إنه يحثّ الناس على الاكتفاء بأشياء سريعة. أما أنا فأعترف لكم أني لم أحْظ بكثير من الأفراح في العالَم. لست كائنَ فرح، ولستُ عابرا…أعترف أني سأكون سعيدا حين أموت. ولكن بموت غير مُؤلم، فأنا لستُ متعطّشا للمعاناة… لو كان لي أن أموت الآن، فسيكون الأمرُ مُريحا…»
يكتب سيلين عن الرواية فيقول: «الطابع الوصفيّ للرواية تم تدميرُهُ، بشكل كامل، من طرف السينما. طابعها التحليلي تلقَّفَه المُحلِّلون النفسانيون. في حين أن الباقي جاء تحت ريشة كُتّاب أغبياء وعاجزين، وتم اختزالها في النقد والكتابة الصحفية. الكاتب أندري جِيدْ هو المثال عن الكاتب الذي كان بإمكانه أن يصبح ناقدا. إنه ليس فنانا. إنّ ما يهُمّ هو « الحصيلة الانفعالية»». ويواصل: «يجب جعل الصفحة المكتوبة سحريةً بِفِعل انفعاليّتها الحادة والخاصّة بها، ورفعها إلى ما فوق الوصف أو التحليل عن طريق قوتها الداخلية الخاصة بها. إنها لعبة، ولكنها ضرورية، بشكل مطلق.» ثم يصل إلى أن «العالَمَ يعاني في هذه الأوقات. الحروب توجد في كل وقت، ولا نعرف سوى الهدنة. لنأخذ كمثال هذا النداء الذي وجهته هيئة الإذاعة البريطانية من أجل وضع قوائم… قوائم أناس يتوجب قتلهم في منازلهم. إنه اكتشاف… غيّر الناس، وتم خلق مناخ مقصود… الكائن البشري ليس سلميا، ولم يعد سلميا… إن الناس بهم وَهَنٌ، في أفضل الأحوال، ولكنهم على أهبة الاستيقاظ، وفي وضع القوائم وفي القتل… وهنا يتجلى دورُ اللغة.
ويقول سيلين، مخاطبا صحفيا دنماركيا: «أنا على يقين أنك لن تستطيع أن تفهم شيئا عن الأسلوب. لا. إن إيقاعي يفترض صُوَرا وترابطات أفكار تُفلِتُ منك لأنك لست فرنسيا».
يتحدث سيلين عن الأسباب التي تدفعه للكتابة، وهو المريض المزمن: «أكتب لأني محتاج إلى المال. غاليمار، هذا المصّاص للدماء، أنا مدينٌ له بخمسة ملايين. إذن يجب علي أن أنصاع. هل كنتُ سأستمر في الكتابة لو كانت عندي أموال؟ سخافة! لو كانت عندي أموال، لأخذتُ تقاعدي. أنا في سن الثالثة والستين، وليس لدي الحق في التقاعد؟ كم أنا غبي! كنت غبيا، طيلة حياتي. كنت أريد ألا نعود إلى الحرب. بعد ذلك، أردتُ أن تتحد أوروبا، مع الجيش الألماني وليس مع الجيش الروسي أو الصيني. ولكنْ، أُلقي بي في السجن. كان يتوجب عليّ أن أغلق فمي، مثل الآخرين، وأهتم بنفسي. كنت غبيا، حقيقة… لكن أية أهمية، فأنا، على كل حال، سأموت!… »
« ما الذي يقوله النقاد (عن سيلين)، أيضا؟، «آه، نعم، سيلين، الذي يستخدم نقاط الحذف الثلاث… أي كاتب يستطيع أن يفعل مثله. الأمر سهلٌ. ما عليه سوى أن يجمع ما يتدحرج في الشارع» آه، هؤلاء الأغبياء! هل هؤلاء هم الذين يكتشفون بلزاك كل صباح! من أجل إنجاز رواية، أكتب 10 آلاف صفحة، وأستخرج منها ثمانمائة. سيلين الذي يتحدث مع الكلماتِ كل يوم…(أنت تمزح!) إنه عملٌ، إنها مهنة، إنه تغيير للوضع. القارئ يتوقع (ينتظر) مني كلمةً، وأنا أضيف إليها كلمة أخرى. هذا هو الأسلوب. الموضوع، لا قيمة له. يمكن أن نعثر عليه في أي صحيفة. على كل حال، فإن الأدب، اليوم، لم يَعُد سوى صحفيين ومُحلّلين نفسانيين. لهذا السبب ضاع كل شيء. الأسلوب مات وتمّ دفنُهُ. أنا الأخيرُ وبما أني سأموت قريبا، ولهذا فلن أتعب طويلا. يا إلهي، منذ قرون عديدة تم تلقين الفرنسيين كيف يصنعون جُمَلا جميلة غبية، من اللاتينية إلى الفرنسية، بينما أتيتُ بموسيقاي الصغيرة وزعزعتُ كل شيء… أن يحب القارئ ذلك أو لا يحب، لا يهمني الأمر، ولا أكترث له. أنا لا أكتب من أجله. أنا لا أكتب من أجل الفعل ولا من أجل وضع كلمات، ولكن في تمرير انفعالات. الفعل يحضر الانفعال. يجب قتله (الفعل)… الخلود؟ أنتم تمزحون! يجب على المرء أن يموت في بادئ الأمر، ثم نرى الأمر. أثناء عيشكم لا قيمة لكم، ولكن حين تلتهمكم الديدان حينها يبدأ تذوقكم. وعلى أي حال، لا شأن لنا. سيأتي الصينيون، قريبا، لإيجاد حلّ لكلّ هذا.»
وفيما يشبه الحِكْمة يقول سيلين: « لا يمكن معرفة بلدٍ ما، من دون معرفة سجونه!»
ولكن كيف يمكن أن يقول هذا وهو لم يعرف سجون فرنسا، يشرح سيلين القصد: « آه، ولكني كنت في الجندية. الفوج العسكري والسجن.. هما الوسيلتان الوحيدتان لمعرفة بلدٍ ما.»
لم يتعلم سيلين اللغة الدنمركية فكيف كان يتعامل مع السجناء: « كنّا نتفاهم، اللغة غير مفيدة. الناس لا يتكلمون إلا حين لا يكون عندهم ما يقولونه. حين يكون لديهم ما يقولونه، فإن الأمر يأتي من تلقاء نفسه. كنا نحس بالحقد الذي كان لدينا تجاه بعضنا البعض.»
وعن الدنمركيين الذين سجنوا سيلين وساهموا في قتله البطيء، يقول: « الدنمركيون هم «ألمان البحار» ولكنهم، وخلافا للألمان، ليست لديهم حساسية للموسيقى ولا لأي شيء روحي أو ميتافيزيقي. لا يتعدّى عددُ المُصلّين عشرة أشخاص في الكنائس الدنمركية».
قالوا عن سيلين:
من هو الذي لم يُصدِرْ رأيا فيما يخص سيلين الإنسان والموقف والروائي والطبيب، والأب والزوج والعاشق والعشيق، والمعادي للسامية وغيره؟ باختصار إن هذا الكائن الفرد متعدّدٌ، ولا يمكن الإحاطة بتمظهراته جميعا، وهي آراء متناقضة بطبيعة الحال، لأنه من الكتاب الأكثر إثارة للجدل في تاريخ الأدب الفرنسي:
تقول عنه أرليتي ARLETTY: «سيلين كائنٌ متفرد، شخص على حدة، وفي واقع الأمر نظر إليه النّاسُ من زاوية اللغة العامية، ولكنه لم يتحدث العامية أبدا، ربما تفوّه بكلمة عامية واحدة، من فترة لأخرى. كان شاعرا. شاعراً كبيرا. كان سيلين عبارة عن صُوَر، ويا لها من صُوَر !»
وتضيف: «أتصور أن بيكاسو كانت له انفعالات أكبر من انفعالات سيلين. بنظره كان يستطيع أن يُسقِط من يشاء. لم تكن لسيلين عينا بيكاسو اللتان تُسقطان. ثم إني لم أرَ شخصا ذا أهمية من حول سيلين، عدا مارسيل أيمي أو مهرجين مثل جين بول أو لوفيغان. لا أحد استثنائيا… لم يستطع أي فنان رسم بورتريه له. لقد كان كاتدرائية أدبية.»
أما أبيل بونارد ABEL BAONNARD فيكتب، عن سيلين وهو في ألمانيا:
«آخر صورة أحتفظ بها عن سيلين حدثت في نهاية يوم ربيعي مشرق، حين قمت بوداعه في المحطة. كان يستقل قطارا في اتجاه الشمال، القطار الأخير أو ما قبل الأخير، فيما أعتقد، الذي سُمِح له بالمرور قبل أن يحتل الأمريكيون الخطوط. كان يحمل معه قطه، بيبيرت BEBERT، أشهر فرنسيّ في مدينة سيغمارينجن. فكّر في البداية في تركه عند أناس طيبين كانوا سيعتنون به بالعطف الذي يُكنُّه الألمان للحيوانات.»
وقد كتبت عنه إلزا ماريان فون روزن، وهي راقصة سويدية: «لقد شارك سيلين في الحرب الكونية الأولى ولكنه خرج منها جريحا ومقعدا بنسبة 75 في المائة. بعد الحرب درس الطب وابتداء من سنة 1928 مارس المهنة كطبيب في حي عمالي بكليشي. تجارب هذه الحقبة تمثل قاعدة أول رواية أوتوبيوغرافية له، سفر في آخر الليل، كان لها بالغ الأثر، وظلت إحدى أهم الأعمال الروائية في القرن العشرين. واعتبر سيلين، حينها، كاتبا يساريا بسبب الأفكار المعادية للعسكرتارية وللكولونيالية التي عبّر عنها في رواياته. ولكنه في السنوات التي سبقت الحرب الكونية الثانية نشر نصوصا هجائية وحارقة صب فيها جام غضبه على كتّاب معروفين، وتسبّبتْ كتاباته المعادية للسامية، بعد نهاية الحرب، في متابعته قضائيا، على الرغم من أنه لم يكُن أبدا عُضوا في أيّ حزب ولم يُطلِق أي تصريح لمصلحة المحتلّ الألماني. هرب مع زوجته ومعهما قطّهما في اتجاه ألمانيا التي خربتها القنابل من أجل الالتحاق بالدانمرك، حيث كان قد وضع مالَهُ في مكان آمن».
يخبرنا الفنان بيير مونيي أن سيلين كان ضد النبيذ: «أنا من أنصار النظافة، النبيذ والكحول والتبغ، أشياء يجب رفضها. كيف تريد لرجل يدخن طول النهار أن لا يكون عقله أسودا وملوَّثا.» ويضيف بيير مونيي أن «سيلين كان يحبّ أن يكرّر أن الطبّ وحده منْ يَشغلُهُ… « قرّرتُ الكتابة لسببين اثنين… كُنت طبيبا في منطقة كليشي وكنت أربح قليلا من المال، ولم أكن أنام الليل. إن الأرق الذي تسببه الدوخة والصمم هو الذي أتاح لي تشييد روايتي «سفر في آخر الليل». لقد تطلَّب الأمر كثيرا من الإزعاج!» إن الكاتب بومارشي على حق حين يقول: «الشعب الفرنسي شعبٌ طائش وقاس…».
يكتب بيير مونيي: «… بعد لحظاتٍ تدخلُ حيوانات في الحلبة من أجل العشاء… الكلبة بيسي، التي تخلى عنها الألمان حين مغادرتهم للدنمارك، وهي حيوان واثق بنفسه ومتوحش، ويصعب الإمساك به، والتي يتحدث إليها سيلين بحنان، والتي تهرب إلى الغابة خلال ساعات من أجل صيد غامض…وبيبيرت (القط) السيد، الذي يكفي مواؤه لإسكات صراخ القطط الصغيرة ونطّاتها. يتأمل سيلين هذا العالم، مبتسما». «[…] أمام المنزل همّ لاستقبال العصافير. وحين ينسدل الليل يأتي اثنان من القنافذ لشرب الحليب الموضوع في طبق عُمِل من أجلها أسفل الستار. « أمتلك سيركا… الراقصة… والحيوانات العالمة…»
ويكتب روني بارجافيل في يومياته، في التاسع من حزيران 1950: «[…] إن ضحك سيلين الضخم، الضحك الوحيد الذي كان بِحَجْم تفاهتنا وبؤسنا، الضحك الرائع في رواية MORT A CREDIT انطفأ في المنفى، تحت ثقل الحقد وعدم الفهم والغيرة.»
وينقل رأيا فريدا عن مواقف سيلين السياسية: « إن معاداة السامية التي اتُّخِذت مبرِّرا لمعاملته معاملة المجذوم، لم تكن سوى القفزة الأخيرة لتفاؤله، محاولة يائسة للحفاظ على ذرة إيمان. بفضل عينيه الرؤيويتين كان يرى، بوضوح، وصول الفظاعة التي لا تحمل اسما، والتي لم نكن عشنا سوى نُذُرها. كان يبحث، بشكل غريزي، عن الميكروب. كان ردة فعل من طبيب غارق في الخطأ الباستوري (نسبة إلى باستور واكتشافاته). المذنب ليس هو الميكروب، ولكنه المرض. ولكنه بمنحه للألم مولّدات محددة كان الطبيب يأمُل العثور على علاج. وباتهامه اليهود، كان بوسع سيلين الاستمرار في إيمانه ببشر آخرين.»
ويتحدث وزير الشؤون الخاصة في الحكومة الدنمركية (بير فيديرسبيل)، عن سيلين، وقد كان من الذين وقفوا ضد تسليم سيلين لحكومة فرنسا بعيد الانتصار على النازية بسبب ما يتهدد الكاتب من عقوبة الإعدام، فيقول: «تحدثتُ إليه كثيرا قبل هذا اللقاء، أثناء صيف 1945، لدى المحامي ميكولسن. انطباعي عنه أنه شخص لا أحبه كثيرا. كان سيلين ضد كل شيء. حين كان يتحدث كان الأمر يشبه رعودا وبرْقا وانفجارات. ولكنه كان يستطيع، في ذات الوقت، التحدث عن الأشجار. كان رجلا مأساويا وغنائيا…[…]»
ومن جهتها تتحدث الممثلة فرانسواز فابيان عن حياة البؤس التي يعيشها سيلين في نهاية حياته: «قلتُ لسيلين بأني لم أقرأ بعدُ كتبه، فأجابني: « سيحصل الأمر. أنت لا تزالين شابة صغيرة. الكتبُ تشبهُ قصصَ الحبّ. توجد أعمار لبعض أشكال الحب وأعمار لأخرى.»
ويصف لنا أولي فيندينغ OLE VINDING إقامة سيلين في الدنمرك: «لا يُوجد أيّ زوجيّ التقيْتُ به أكثر مُكابَدة للمنفي من هذا الزوجي. كان سيلين وزوجته بعيديْن، ليس فقط عن وطنهما، ولكن أيضا عن المَصادِر الحيويّة لفنّهما. كانا يتواجدان وسط أناس يستطيعون على أكثر تقدير، حمايتَهُما، وليس التخفيف من بؤسهما الفكري والأخلاقي. لم تكن زوجته تستطيع سوى ممارسة فنّها في الرقص وليس تطويره. أما سيلين فلم يكن يجد أحدا يستطيع أن يفهم استعماله للغة. ولكنهما كانا متضامنيْن، أحدهما مع الآخر، كانا يوغلان في الليل، مُصمِّمَيْن على الذهاب حتى النهاية، ولو كلّفهما الأمرُ حياتهما.»
ويضيف: «كانا يقيمان في بيتهما القريب من الغابة، بصحبة أسنّ قطّ في العالَم: البيرت، الذي تحوّل اسمه إلى بيبيرت، الذي كان في البداية في مِلكية روبرت لو فيغان، الذي مثّل دور المسيح في فيلم دوفيفيي. وقد استطاع سيلين وزوجته إنقاذه من مختلف المَخاطر المرعبة، في شوارع مشتعلة، تحت أسوار منهارة. كان القط بيبيرت في السابعة عشرة من عمره. وها هو الآن يُقضّي تقاعدا مريحا، في قلب البيت، وسط سرير سيلين، في عُمر الواحد والعشرين، لا يمسه أحد، وقد فقد أسنانه ونتف نصف شعره: كان طوطما. ولكنه كان راضيا جدا في الحياة وفي خلوده الشخصي الواضح. وقد شهد القطّ بيبيرت العودة إلى فرنسا بعد طول منفي وكان في سنّ الخامسة والعشرين، تقريبا، حين لفظَ نفَسَه الأخير ونام في سكينة.
كان سيلين، هذا الرجل المستحيل، يُحبُّ الحيوانات، وكان موهوبا بحبّ لا يُرْوى ولكن بحبّ استبدادي. لم يكن يعرف أن يُحِبّ بحنان، ولكن فقط، باستبداد. كان، فيما يبدو، يحسّ بالاطمئنان حين يُظهِر الحقد، ولكن، فقط، على السطح.
زوجته، الراقصة لوسيت ألمنزور، تخرجت في المرتبة الأولى من كونسرفاتوار باريس، وكانت كائنا استثنائيا. لم تكن تتفوه بشيء ذي أهمية. تبتسم بأدب، ولكن كان يبدو أنها تُغلّف شخصها بدائرة سحرية يستحيل اختراقُها.»
ولعل من المفيد أن ننهي هذه الفقرة بذكر ما كتبه جورج جوفروا عنه، لما يحيل إلى صعوبة الأسلوب السيليني، وإلى إحساس سيلين بالغربة وبالرغبة في الموت: «إن سيلين، بالنسبة لي، رجل منبثق من القرون الوسطى أو من عصر النهضة، وقد عاد إلى الأرض ولا يتحمل القرن العشرين.»
النهايات الحزينة:
لعل الصور الفوتوغرافية التي وصلتنا عن المرحلة الأخيرة من حياة سيلين تدلّ على حالة الفقر والإنهاك التي عاشها الكاتب، والتي تشبه صُوَرَ وحياة المُشرَّدين، حقَا. وقد استمر في العمل، إلى آخر دقيقة من حياته، وهو الذي كان يحلم بتقاعد مريح، يُكرّس فيه كل ما تبقى من حياته لإنجاز الكتاب الموعود عن طُرُق ومناهج الرقص التي ابتكرتها زوجته أو التي طورتها.
ومن بين آخر من رأي سيلين قبيل وفاته كريستيان ديديت CHRISTIAN DEDET، وهو طبيب وكاتب، كتب ما يلي (قبيل يومين من وفاته): «يا لَهُ من حزن! كان متكئا على ساقيْن منهكتين! من حالة الحيوان المحتضر التي كان عليها، كان نظره مرعوبا، وبه ارتجاجات دقيقة. ولكن حركة يديْه مندفعة إلى أمام، أصابعه مائلة ومُهدِّدَة وتحفر في الفراغ تتحدث بلسان إنسان. ثمة رغبة في الرد على هذا اليأس الصامت.
الضحك، ضحك سيلين. المتوثب دوما. المُشعّ، المُتصاعد، الفظيع. أحيانا يضيع في الحدة. أمام اشتداد الشمس، يضحك فرديناند سيلين ويبكي ويحكّ إبطيه ويحتجّ ويزمجر ويتجشأ ويدعو السماء ويضرب بيديه على جبهته. ها نحن في صلب الموضوع، سيلين يلعب دور سيلين. سيلين بقلمه. سيلين السعيد، الذي استطاع، إلى آخر نفس من حياته، أن يحافظ على طفولته، دون أن تتعرض لأي عطب.»
وفي مقطع آخر، عشيّة رحيل سيلين، يقدم لنا كريستيان ديديت هذا المقطع الواصف: « إن الذي أثارني بشكل أكبر هو هيئة سيلين. كانت ملابسه تشبه هيئة شحاذ. كان عجوزا متعبا. وكان جسمه أكثر تفسخا من عمره. وكان يتحدث، بصعوبة، ويتأتئ. وكان بالإمكان رؤية الموت في عينيه. كانت ملابس ثقيلة تغطي جسمه، وفي نفس الوقت كان يرتعد من البرد، رغم القيظ.»
كتب عنه كليبير هيدينس KLEBER HAEDENS بعد موته، وهو يؤبّنُهُ: «هذا الشخصُ المُنحدِر من منطقة بروتاني الذي كان يحلم بأعالي البحار والذي ظلّ مُكبَّلاً إلى الأرض، بحّار العبورات الشبحيّة، ضائعٌ، في النهاية، في الجانب الآخر من الحياة.» وأضاف: « إن صوتَ سيلين، منذ هذا الصباح، يسْحقُ القوى الممنوحة، هذا الصوت الرائع الذي أريد خنقُه تحت الرماد والذي سيرنّ إلى الأبد.»
ولعلّ ما كتبته زوجته لوسيت ألمنزور عن اللحظات الأخيرة من حياة سيلين يُعتبر الأكثر قوة ونفاذا: « حين أصِلُ (حين تعود إليه بعد انتهاء فترة التدريب على الرقص)، في الليل، يقول لي: « هيّا، سجّلي هذا، سجّلي!» كان الأمر يتعلق بأشياء تأتي إلى ذهنه. فكنت أسجّل. أسجل ولا أنام. في الصباح، ما بين السادسة والسابعة، تكون لديه بعض القِوى، فيبدأ في العمل. أثناء النهار، أحسّ بأنه يستطيع أن يشتغل، فحينها أدع جانبا دروسي(في الرقص) وآتي إلى جانبه. نتبادل الحديث قليلا، فيشتغل عبر هزّات، ثم يحاول أن يستريح. ولكن بما أنه لم يكن ينام فقد كان يتناول كميات ضخمة من العقار GARDENAL. وبطبيعة الحال ساهم هذا الدواء في إخراجه من طوره، بل إنه ساهم في تغييبه بشكل كامل. منذ خروجه من السجن (الدنمركي) تحول إلى إنسان آخر، مريض بشكل حقيقي. ولم تعد الحياة تهمه. وبالفعل فإن فُضولَهُ كان دائما متجها نحو الكتابة، وقد توقف. لم يَعُد الأمر يهمّه. كان يعيش حياة موت وانتظار. ولهذا السبب، لم أكتشف أنه في هذا اليوم كان أكثرَ سوءا من العادة. وإذن عملتُ في غرفتي. قبيل منتصف النهار، قدم سيرج بيرو SERGE PERRAULT, ولكن سيلين لم يشأ رؤيته. لم يكن يريد رؤية أحد. ولكنه قال لي: « عندي رسالة يجب وضعها في البريد، مُوجَّهَة إلى غاليمار، الكتاب (رواية RIGODON) إلى غاليمار، أشيري جيدا إلى أنه تم الانتهاء من كتابة الرواية، وعليهم أن يبعثوا لي بالعقد.» لأنهم لم يرسلوا أبدا أيّ شيء قبل تسلُّم الكتاب. خذ وهات. كان قد انتهى للتوّ من كتابة رواية RIGODON. أراني المخطوطة. كانت عبارة عن جذاذة. ولكنها مكتوبة بشكل جيد. أي أنها جاهزة للرقن. في يوم وفاته، انتهى من كتابة روايته، RIGODON، الأخيرة. لم يعد يود الكتابة قط. كانت كلمتَهُ الأخيرةَ. وقد عثر جيبولت على GIBAULT الرسالة التي كتبها سيلين إلى غاليمار، وتقول: « عزيزي وصديقي الناشر، أعتقد أنه حان الوقت أن نرتبط معا بعقد آخر فيما يتعلق روايتي القادمة، RIGODON. نحتفظ ببنود العقد السابق باستثناء مبلغ المكافأة، وهو 1500 بدل 1000، وإلا فإني سأكتري جرّارا وآتي لهدم المكتب وتخريب كل شيء. يجب أن نكون صريحين.» ناولتُهُ بعد الظهيرة دواءه، وكان يرفض دائما حضور أيّ طبيب. قال لي: «والآن انتهيتُ من الكتابة ROGODON سيكون بمستطاعي أن أؤلّف لك كتابك عن الرقص. سأكتب كتابا في طريقة رقصك.» لقد أنجزتُ آلاف الرقصات، الرقصات القديمة، كل رقصات «كوبرين» COUPERIN، وكل رقصات «رامو»RAMEAU. أنجزتُ كلَّ هذا بطريقتي. كان هذا يثير اهتمامه. كان يريد إنجاز كِتابٍ. ثم مات في الساعة السادسة مساء.»