رضا عطية
تبدو الشاعرة الأمريكية لويز جليك (1943) التي حصدت جائزة نوبل في الآداب لهذا العام 2020- صاحبة رؤيةٍ في الشعر، ووجهة نظرٍ حول عناصر التّشكيل الشعريّ ومكوّناته الضرورية ودور كلٍ منها في النسق الشعري، وعمل عناصر النوع الشعري في تأكيد خصوصيته وتحديد هويته. لويز جليك شاعرة تفكِّر في الشعر وتعبِّر بشعرها عن رؤيتها للشعر، وعمّا يجب أن يكونه، وفقًا لما تراه، مثلما هو الشعر، لديها، تمثيل جماليّ للوجود ومعرفة به، بقدر ما هو، أيضًا، صوت الذات في هذا العالم.
رُبَّما تنتمي لويز جليك إلى المدرسة الأمريكية في الشعر، التي تتّخذ موقفًا مغايرًا ووسطًا بين المدرسة الإنجليزية التي تعتمد على صرامة البناء المنطقي للشعر، والمدرسة الفرنسية التي يتأسس مفهومها للشعر على الرمزية المُفرطة، والجنوح نحو الغموض أحيانًا.
لغة الشعر
تتركّز رؤية لويز جليك للشعر حول عدد من المفاهيم المؤسّسة لكيفية الأداء الشعريّ وطرائق التّشكيل الجماليّ للنصّ الشعريّ، وأوّل ما تطرحه جليك من تصورات حول الشعر يتعلق بالمكوِّن الأول له، الكلمة أو المفردات، فتقول عن ذلك:
“من المتعارف عليه أنَّ علامة الذكاء الشعري أو الصنعة الشعرية هي الشغف باللغة، التي يُعتقد أنَّها تعني التجاوب المحموم مع أصغر وحدات اللغة: الكلمة. يُفترَض أنَّ الشاعر هو الشخص الذي لا يشبع من الكلمات المعقَّدة. بيد أنَّ تجربتي لم تكن كذلك. منذ سن الرابعة أو الخامسة أو السادسة بدأت بقراءة القصائد، وبدأت أرى الشعراء الذين كنت أقرأ أعمالهم بوصفهم رفاقي وأسلافي- منذ البداية آثرت تبسيط المفردات. ما فتنني كان الاحتمالات التي ينتجها السياق الذي توضع فيه المفردة. ما كنت أتجاوب معه، على الصفحة، هو الطريقة التي تسطيع القصيدة من خلالها أن تمارس فعل التحرير، عبر الإطار الذي توضع فيه الكلمة، عبر التوقيت والإيقاع الخفيّين… وبدا لي أنَّ اللغة البسيطة تناسب أكثر مثل هذه المغامرة… أحب الوزن لكنني أفضله خفيًّا…”1.
تبدو لويز جليك أميلَ إلى عدم تعقيد اللغة الشعريّة، ليست من أنصار اتجاه التغريب اللغوي الذي اختاره عددٌ من شعراء ما بعد الحداثة، بتغريب الدلالة وقطع الصلة بين الدالّ والمدلول. فتكون الشعرية أو الصنعة الشعريّة، بالنسبة إلى لويز جليك، متبدّية في النسق التركيبيّ الذي تُوضع فيه الكلمات، لكي تُستخدَم بمعنى جديد أو لكي تُعطي عددًا من المدلولات المحتملة. فيتجلى انتباه لويز إلى دور النسق التركيبيّ والإيقاع الخفي في توظيف الكلمات في البناء الشعري وإنتاج دلالتها ودلالات النصّ من خلال فعل الصياغة، كما تؤمِن لويز بضرورة الوزن مع تفضيل أن يكون خفيًّا، أي عدم طغيانه على آليات الأداء الشعري، في وعي بماديّة الدال المُشكَّل عبر الكلمات وتآلفها التركيبي في النسق الشعري.
لكن إيثار جليك للوضوح الدلالي للغة الشعرية من حيث الكلمات المستعملة لا يعني لديها مجانية التلفُّظ الشعري أو سطحيته:
لا أعتقد أن الإكثار من المعلومات يصنع دائمًا قصيدة ثرية. ما يجذبني هو المضمر، الذي لا يُقال، الإيحاء، الصمت المتعمَّد البليغ. ما لا يقال في القصيدة يضمر قوة أكبر. غالبًا ما أتمنى أن تصنع قصيدة كاملة من هذا التعبير، أي ما لا يقال، فهو يوازي غير المرئي مثلاً، قوة المخرِّب، العمل الفنيّ الذي به بعض الخراب أو الذي ليس بكامل. أعمال فنيّة كهذه تُلمح دائمًا في سياقات أكبر؛ إنَّها تلازمنا لأنَّها غير كاملة، وإن كان الكمال متضمنًا فيها: زمن آخر، زمن كانت فيه كاملة، أو كانت ستكون كاملة فيه، متضمن فيها. كل التجربة الدنيوية جزئية. ليس ببساطة لأنَّها ذاتية، لكن لأنَّ ما نجهله، عن الكون، عن الفناء، أوسع بكثير مما نعرفه. ما هو غير منجز أو ما دمِّر يعزِّز هذه الألغاز. المسألة في صنع كامل لا يضحِّي بهذه القوة2.
يتبدّى أن ثمّة وعيًا لدى لويز جليك بمفهوم فجوات النصّ التي يملؤها فعل القراءة بحسب ياوس، أو بضرورة أن يكون النص الشعري أثرًا مفتوحًا بحسب إمبرتو إيكو، أو أنَّ النص هو بمثابة علامة لغوية أو نسق علاماتي يتسم بالاختلاف المرجئ، بحسب التصوُّر التفكيكيّ، أي هو علامة غير محسومة الدلالة. فما تنشده جليك هو وضوح المكوّنات المشكِّلة للعلامة الشعرية، كالكلمات والمفردات، مع التجديد في طرائق التوليف وعدم تقيُّد الدالّ بمعنى أحادي أو بمدلول نهائيٍّ محسوم.
صورة الشاعر أو الفنان
ممّا يتضمنّه الخطاب الشعري للويز جليك تقديم صورة للفنان أو الشاعر في هذا العالم، الفنان الذي يكافح هذا الوجود ويحمل حلمًا يوتوبيًّا لا تواتيه الأقدار أن يحققه، وهو ما يضاعف الإحساس لدى الفنان أو الشاعر بالاغتراب، مثلما تعلن جليك عن ذلك في قصيدة بعنوان “الجبل”:
ينظر إليَّ تلاميذي بترقُّب.
أشرح لهم أنَّ حياة الفن
مشقّة لا تنتهي. بالكاد تتبدّل
ملامحهم، يريدون أن يعرفوا
المزيد عن هذه المشقة.
لذا أخبرهم قصة “سيزيف”،
وكيف حُكم عليه أن يدفع صخرة
إلى أعلى جبل عالمًا أنَّ لا نتيجة
لجهده هذا سوى أنّه سيكرره بلا نهاية.
أقول لهم ثمة فرح في حياة الفنان
يصعب إدراكه، وبينما أتحدث
أدحرج صخرتي سرًّا،
إلى أعلى الجبل3.
توظِّف جليك موقفًا قد يتكرر من عملها كأستاذ جامعي للأدب، حين تشرح لتلاميذها المعاناة التي يقاسيها الفنان، في تمثيل للمشقة التي يلاقيها الفنان في معاندة أقدار الواقع لأحلامه التي يحملها بـ”الجبل”، في ترميز أسطوري، يضع الفنان/ الشاعر، محل “سيزيف” الذي يكابد مشقة كبيرة بمحاولة دفع صخرة ضخمة لأعلى الجبل، أي أنَّه التطلع المستحيل لبلوغ ذروة الجبل. يتطلَّع الفنان إلى ذروة يوتوبية، لما ينبغي أن يكون، لكن الواقع يدافع حلمه هذا، ويعيقه عن تحقيقه.
تتكشَّف من هذا المقطع آليتان بارزتان من آليات التشكيل الجمالي للبناء الشعري لدى لويز جليك؛ الأولى آلية الصورة المعتمِدة على الاستعارة الأمثولية، ذات الامتداد المشهديّ والموازاة الرمزية والبعد الأسطوري، في تمثيلٍ لمكابدة الفنان/ الشاعر بأسطورة “سيزيف”، والآلية الأخرى، خاصة بالتركيب وإيقاع النص، المتمثِّلة في بنية التّدوير المعنويّ والتركيبي، وذلك بالإتيان بالكلمة المتمّمة لمعنى الجملة في سطرٍ تالٍ، غير السّطر الذي بدأت فيه الجملة، كما في الإتيان بالخبر (مشقة) في سطر تالٍ على السّطر الذي ورد فيه المبتدأ [اسم إنَّ هنا بحسب الترجمة العربية] (حياة الفن)، وكذلك الإتيان بالفاعل (ملامحهم) في سطر تالٍ للفعل (تتبدل)، ويعمل هذا التدوير الذي يأتي صوتيًّا بفاصل زمنيٍّ ضيئل يكاد يبلغ برهة من الزمن، وبفاصل كتابيّ ممثل في الفصل الذي يقسم الجملة الواحدة معنويًّا ونحويًّا على سطرين- على إبراز الصدمة أو الكشف الصادم عن حقيقة حياة الفن في كونها “مشقة” على عكس ما يعلنه الفنان، أو ما يظنّه الناس، وكذلك الكشف عن هوية التبدُّل، بأثر المفاجأة التي قد تُصيب المستمعين لاعتراف الفنان/ الشاعر، بتبدُّل ملامح هؤلاء المتابعين لهم، حين يعرفون حقيقة معاناته.
لكنَّ الشّطر الثاني من القصيدة يحمل تحوّلاً في موقف الفنان/ الشاعر نفسه في خطابه إلى جمهوره أو الأستاذ في حديثه إلى طلابه عن موقفه كشاعر:
لمَ أكذب على هؤلاء الأولاد؟ إنَّهم لا يصغون،
لم يخدعهم كلامي، وها هم يطرطقون
بأصابعهم على المقاعد الخشبية..
لذا أتراجع عن الخرافة؛
أقول لهم إنَّها تحدث في الجحيم
وإنَّ الفنان يكذب
لأنَّه مهوس بالبلوغ،
لأنَّه يتخيل أنَّ الذروة
ستكون موطنه الأبدي،
مكان على وشك أن يحوله ثقله:
مع كل نفس،
أقف على قمة الجبل.
يداي حرّتان.
والصخرة أطالت
قامة الجبل4.
ثمة تحوُّل مضادّ في موقف الشاعرة/ الفنان، يكادُ يكون انقلابًا على الموقف السابق في خطابها لهؤلاء “الأولاد”، بما يشي بمسافة زمنيّة، اختلاف أجيال، وكذلك الوضعية التقابليّة بين الأستاذ، صاحب الخطاب الإقناعي، والتّلاميذ، أصحاب وضعية المتلقّي، والتموضع الإصغائيّ، الذين يقرّرون قبول أو رفض أطروحات الخطاب الأستاذيّ المُلقى عليهم، فيتبدى الانقلاب المعاكس في خطاب الشاعرة/ الأستاذ بالتخلي عن “الكذب” أو لنقل الادعاء أو التوهّم بفرح الفنان، على الرغم من معاناته بمعاندة الواقع لتطلعاتها لبلوغ الذروة وقمة الحلم.
يتجلى أنَّ تراجع الشاعر/ة عن كذبته بادّعاء السعادة مع تكبُّد الألم والتعسُّر في تحقيق غايته ببلوغ القمة لمقاومة الوجود لهذا الجهد المبذول للوصول إلى القمة بأثر الإخفاق في إقناع متلقّي خطابه، “هؤلاء الأولاد” بذلك، حيث “إنَّهم لا يصغون/ لم يخدعهم كلامي، وها هم يطرطقون/ بأصابعهم على المقاعد الخشبية…” في استثمار لبلاغة الكناية تدليلاً على المعنى المقصود بانصراف المتلقي/ التلميذ عن خطاب الشاعر/ الأستاذ.
ثمة تحوّل في نبرة الصوت الشعري حدّ التقابل، بالانتقال من الادّعاء الواثق والتظاهر بالفرح إلى الاعتراف بالكذب وإقرار المعاناة والمكابدة التي يقاسيها الشاعر بسبب تطلعاته للقمة وما يحمله من أثقال عاتية في مصعده نحوها، بأثر الاستجابة لرد فعل التلاميذ/ المتلقين إزاء خطاب الشاعر/ة، وعدم اقتناعهم به.
ويحيلنا هذا التراوح أو التّذبذب في نبرات الصوت الشعري والتحوُّل المساراتي في موقف الشاعر/ة في هذه القصيدة إلى رؤية لويز جليك حول ضرورة التعدد في نبرات الشاعر والتحوُّل في صوته في القصيدة الواحدة:
كلّ ما أريدُ فعله هو تغيير النّغمة عدة مرّات في القصيدة الواحدة، لدرجة أن يظنّ القارئ أنَّها عدة قصائد مختلفة. أحب أن أحقّق هذا الانطباع لدى القارئ. أعتقد أنَّ القصيدة يجب أن تشبه الأوبرا.. تجد فيها الغناء والبكاء والمزاح والصّياح في الوقت نفسه5.
عند لويز جليك تُمسي القصيدة أشبه بمعزوفة متعدّدة النغمات ومتراوحة النبرات، في تجلٍّ لبولوفونيّة التلفُّظ الشعريّ، ودراميّة نبرات الصوت الشعريّ تعبيرًا عن انقسامات الذات الشاعرة وتحولاتها الموقفيّة وتقلباتها الشعوريّة.
الاغتراب الوجودي
في خطاب لويز جليك الشعري يتّضح الشعور بالاغتراب الوجودي الذي يُثقل كاهلَ الذّات ويؤثِّر في موقفها من العالم ويتجلّى بوضوح في صوتها الشّعريّ وتعبيرها الجماليّ عن حالها، ثمة شعورٌ يلوح بفقد ما، أو عدم توافق مع العالم الذي لا تجد فيه الذاتُ نفسَها، ما يجعل الذات في حالة تأمّل وجودي مستمرّ لتموضعها في هذا العالم، كما في قصيدة بعنوان “ثلج”:
نهاية ديسمبر: أنا وأبي
ذاهبين إلى نيويورك، إلى السيرك.
يضعني على كتفيه
في الريح العاتية:
قصاصات من الورق الأبيض
تطير فوق السكة الحديد6.
تتعدد طبقات الدلالة ويتوالد المعنى في القصيدة الواحدة التي أحيانًا ما تكون مراوغة في دلالتها، فقصيدة لويز جليك، على بساطتها ووضوحها، إلا أنَّها تحتوي طبقات دلالية غائرة مباطنة، فإذا كان الموضوعي الرئيسيّ والمعنى الأوليّ الظاهر للقصيدة هو مشهد تموضع الطفلة فوق كتفي أبيها في بؤرته الرئيسية ونواته المركزيّة (الشّكل البارز من المشهد)، أما المشهد المكمِّل والموازي هو طيران قصاصات الأبيض فوق السكّة الحديد. فهل يكون هذا المشهد الفرعيّ (Subscene) لطيران قُصاصات الورق على السكة الحديد بمثابة تمثيلٍ استعاريٍّ للمشهد الرئيسي (Master scene) لتموضع الابنة (الطفلة) فوق كتفي الأب في ذهابهما إلى نيويورك؟ هل توازي الرؤية الشعرية في موازاة استعارية بين الطفلة وأبيها في رحلتهما وقصاصات الورق في طيرانها فوق السكة الحديد؟ قصاصات الورق علامة شيئية وترمز للضآلة وطيرانها فوق السكة الحديد هو بأثر فعل آخر، خارج عن إرادتها، فهل قصدت الشاعرة المماثلة بين الذوات (الطفلة وأبيها) وقصاصات الورق، في الحركة الوجوديّة بأثر دفع قوى أخرى عاتية أكبر من تلك الذوات. فهل يُضمر صوت الذات الشاعرة إحساسًا بالتناقض الوجوديّ بين غايات الذوات، المتبدّية هُنا، في الذهاب إلى نيويورك، إلى مدينة كٌبرى مركزيّة من أجل المتعة والسعادة (الذهاب إلى السيرك)، في حين تعبث الرياحُ الوجوديّة العاتية بالذوات كقصاصات الورق فوق السكة الحديد؟
يحمل خطاب لويز جليك إحساسًا بالاغتراب إزاء المدن المركزية الكبرى مثل نيويورك، كأنَّ ثمة نزوعًا يتمسك بالمدن والأقاليم البسيطة والريف والقرى البعيدة عن المركز، مثلما يتجلّى هذا في قصيدة “أسطورة”:
جاء جدي إلى نيويورك من “دلوا”:
وتوالت العثرات.
في هنغاريا كان أكاديميًّا، صاحب امتياز.
ثم جاء الفشل: صار مهاجرًا
يلفّ التبغ في مستودع بارد.
كان مثل يوسف في مصر.
يسير ليلاً في المدينة،
ويتحوّل رذاذ الميناء
دمعًا على وجهه.
دموع الحزن على “دلوا” التي هي أربعون بيتًا
وبضع أبقار ترعى المروج الوفيرة…
يقال إنَّ الروح العظيمة
ليست أكثر من نجمة أو شعاع،
لكنها أكثر شبهًا باللؤلؤ:
إذ ليس في العالم كله
ما هو صلب كفاية ليغيرها7.
يحمل الخطاب الشعري لجليك إدانة واضحة للمدينة ولا سيّما المدينة المركزيّة في استلابها للريفيّين النازحين إليها وإهدارها قيمتهم الإنسانية، بعقد مقارنة تبرز التفاوت الفادح بين وضعه في منشأه، “هنغاريا”، وفشله في نيويورك وتدني وضعه الاجتماعيّ والمهنيّ، وتستعمل الصيغة الشعرية للويز جليك التمثيلَ الاستعاريّ الأسطوريّ تشبيهًا لاغتراب الجد في نيويورك باغتراب “يوسف في مصر”، بما يحمله ذلك الاغتراب من مضامين الشعور بالوحدة والوقوع تحت ظلم قاسٍ والتيه في أرض لم تكن أرضه، وتشي استعارة (ويتحوّل رذاذ الميناء/ دمعًا على وجهه) بالحزن البالغ والانفجار الشعوري إزاء ملامسة أشياء المدينة (رذاذ الميناء) للذات (وجهه)، بما يعكس مركزية الذات في تمثيل الألم والوجع في المدينة، ثم تكون “الدموع” بمثابة جسر يعبر من خلاله التلفُّظ الشعري لاستعادة المنشأ الريفي، “دلوا”، وبساطة العيش ونقاء الحياة فيه.
ثم تنحو الصياغة الشعرية إلى استعادة القرية الريفية “دلوا التي هي أربعون بيتًا” وبضعة أبقار في تفضيل للمجتمع البسيط على المجتمع المديني المعقَّد، فيكون التمثيل الاستعاري للروح العظيمة للقرية أو الريف، في بساطتها وعمقها الروحاني، بـ”نجمة أو شعاع”، مع التمدّد الاستعاريّ بتمثُّلها وبمشابهتها “باللؤلؤ”، تأكيدًا على قيمتها الثمينة وندرتها العزيزة ولمعانها المتّقد، فضلاً عن محافظتها على أصالتها وهويتها دون نسخ أو مساسٍ بها. فتتبدّى، بوضوح، البنية المتمددة للصورة الاستعارية لدى لويز جليك، بتعدد الاستعارات التي يشبَّه بها العنصر المركزي، محورَ الصورة، كما في تعدّد الاستعارات التي تصوَّر بها القرية.
الشعر كرسم
يقترن الشعر لدى لويز جليك باستكشاف العالم وتأمّل الوجود مصحوبًا بحسّ الدهشة وبإعادة تعريف الأشياء وتشكيل ماهيّات جديدة لعناصر الوجود من خلال رؤية فنيّة خلّاقة، ووعيٍ جماليٍّ متمرِّد على تقليدية الصور، فالشاعر هو بمثابة فنانٍ يُعيد رسم الوجود بريشة الكلمات، مثلما في قصيدة بعنوان “بورتريه”:
ترسم طفلة إطار الجسد
ترسم ما تجيده، الإطار الخارجي فحسب،
أما الباقي فيملؤه البياض،
لا تستطيع الطفلة ملء ما تعلم أنَّه كائن هناك.
تدرك أمها: داخل خطوط الإطار الهشّة
ليس من حياة؛
لقد فصلت بين الاثنين،
وكطفلة تلتفت الآن إلى أمها.
وها أنتِ ترسمينَ القلب
في الذي صنعته.
في شعر لويز جليك تلوح حالاتُ من الارتداد الاستعادة، بالعودة إلى حال الطفولة، كما هنا، حيث عهد البراءة والفطرة النقيّة، مثلما تكون الارتدادات الكثيفة استرجاعًا للماضي، كتمظهر نفسيٍّ دالٍّ على مأزوميّة الأحوال التي تعيشها الذات في واقعها، الآن وهنا، فيبدو فعل الرسم تعبيرًا نفسيًّا جماليًّا عن رغبة الذات في الانسلاخ عن واقعها، فيبدو رسم الطفلة أمها كإطار مفرَّغ من التفاصيل ويملؤه البياض، ربما تعبيرًا عن وجهة نظر في الأم التي تراها كشخصية بلا ملامح أو هوية، وهو ما تؤكِّد هشاشة خطوط الإطار الذي رسمته للأم، أما رسم القلب في الفراغ فيعكس انفصاميّة القلب الذي هو موطن المشاعر عن الذات، في ملمحٍ سورياليٍّ للصورة الشعرية/ البورتريه، ويتبدّى في هذه القصيدة استعمال جليك للعبة التفات الضمائر بالانتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب إشارة لتلك الطفلة، وكأنَّ الصوت الشعري ينتقل من العرض إلى المواجهة، فيما قد يُمثِّل ضمير المخاطب الذاتَ نفسها التي هي في حالة وعيٍ شقيٍّ منقسم على نفسه.