إلى سيادة المفتش..
وردنا بلاغ بتاريخ 22/6/2014 عن رائحة مزعجة تخرج من شقة بإحدى البنايات السكنية. وبعد دخول الشقة وجدنا رأس المجني عليه مقطوعاً وموضوعاً على كرسي. وفي الجهة المقابلة كان جسده يقف أمام لوحة رسمت لرأسه المقطوع حاملاً فرشاة رسم. وفي الأرض رسمت نقوش غريبة.
لم يكن هناك أي آثار لعبث أو تخريب. كل شيء كان مرتباً وموضوعاً في مكانه. ووجدنا مجموعة من الكتب المريبة تحمل النقوش نفسها الموجودة على الأرضية وبجانبها وجدنا رسالة في الرسالة يعترف بقطع رأسه لكن الطب الشرعي يؤكد استحالة هذا الأمر.
ستجد في المرفقات نسخة من اللوحة والرسالة.
« أكره هذا الضجيج الذي يملأ رأسي، أنه يمنعني من الرسم. هذا الرأس المزعج يجب أن يقطع. لقد حاولت أن أفعلها مرة عندما كنت طفلاً، يومها رأسي الصغير لم يحتمل رحيل أبي، لكن أمي منعتني. أمي كانت تحبني كثيراً لكنها لا تريد أن أصبح مثل أبي. لم يبق لي من أبي سوى مجموعة من كتبه وأدوات رسم جلبها لي عندما أكملت الثانية عشرة. ومن يومها والرسم هو كل حياتي.
كل شيء كان جميلاً عندما كانت لوحاتي لي أنا فقط. إلى أن رأيت إعلان معرض لأفضل الرسامين، ويضمن دعوة إلى المشاركة ليكون أكبر معرض يقام في البلد. كان المعرض أفضل فرصة لأن يعرف الناس من أنا، ويعترفون بوجودي. لكن المسؤول عن المعرض رفض أن يعرض لوحاتي. هاجمها وقال بأنها لا تناسب الذوق العام، وإنه لن يسمح بأن تعرض لوحاتي على النساء والأطفال. كان يتحدث وعينه لا تفارق جسد الفتاة العاري في إحدى اللوحات.
كل ما كان يهتم به هو رأي الناس وزيادة عدد زوار المعرض. الجودة الفنية والجمال لم يعنيان له أي شيء.
عدت إلى المنزل وأمسكت ريشتي وبدأت بالرسم. ودون أن أعي وجدتني أرسمه كشيطان يرتدي ثوب ملاك ويسقط من السماء نحو خازوق ضخم ثبته عشرات النساء والأطفال. شعرت بعدها براحة لكنها لم تكن كافية. لقد أهان لوحاتي، و كان لا بد لي من أن أنتقم، يجب أن يراه الناس على حقيقته.
الإنترنت كانت الوسيلة المناسبة، لذا قمت بنشر اللوحة في مختلف المواقع. وحدث ما لم أكن أتوقعه. انتشرت لوحتي في كل مكان، وأخذ الناس يتجادلون حولها. مع أنهم لم يفهموا قصدي، إلا أن الضجة المثارة حولها أثارت نهمي لنشر المزيد. ومنذ تلك اللحظة تمركزت حياتي على الرسم، والنشر، والمتابعة بصمت. شعرت بشيء جديد ينمو بداخلي. كان صمتي على مهاجمة الناس لي ولأعمالي الفنية يتحول إلى لوحات جديدة. وكانت كل لوحة تتحول إلى مرآة تريني ما لا أعرفه عن نفسي. هذا جعل لوحاتي تأخذ منحى جديداً ووعياً أكبر، وبالأخص في لوحاتي الثلاث الأخيرة.
لوحة «ولادة أخرى» كانت بداية تحرري وبداية التغير. فيها تحررت من أبي. أبي الذي ثار على كل ما حوله ورفض الحياة في مجتمع يرى نفسه بمرآة الفضيلة. مات وحيداً بين كتبه دون أن يعرف أحد شيئا عنه. أنا أحبه كثيراً لكنه كان حاضراً في كل ما أقوم به؛ فقد رسمت كل لوحاتي بالطريقة التي أتخيل أنها ستعجبه. أردت أن تكون لوحاتي لي وحدي ونابعة مني أنا فقط؛ لذا كان علي أن أقتله وأولد من جديد دون أب. رسمته ملقى على الأرض وسكيني مغروزة في صدره، وأنا كنت متجهاً إلى رحم أمي لأولد من جديد.
رسمت بعدها « حوار مع الرب»، كانت أكثر لوحاتي انتشاراً وأكثرها إثارة للجدل. قبل هذه اللوحة لم أكن مؤمنا بالرب كنت أريد منه أن يقنعني بوجوده. وقد فعل لكن لم يلتفت أحد إلى هذا الأمر. لم ينتبهوا لتناسق الألوان ولا كيف كانت اللوحة تنبض بالحياة ومن يراها يعتقد بأنها تتحرك. ولم يروا كيف نبتت الأزهار في موطئ قدمه ونحن نمشي ونتحدث.
جميعهم ثاروا وغضبوا لأني صورت الرب كما أريد وكما أراه، ولأنه كان يشبهني قليلاً. لست أرى أي ضرر في أن يشبهني الرب. فمنذ القدم وحتى الآن والبشر يصورنه بصورة بشرية ويهبونه صفاتهم. لم يحاول أحد أن يفهمني أو بالأصح لم يستمع لي أحد ليفهمني. كل ما فعلوه هو مهاجمتي ومهاجمة لوحاتي.
لوحتي الأخيرة هي أكثر ما أذهلني وأقل ما أثار اهتمام الناس، أسميتها « الحقيقة».
استيقظت ذات يوم وبداخلي رغبة جامحة في أن أرسم كل شيء. الكون بكل ما فيه كان يدعون إلى أن أرسمه. أنها المرة الأولى التي لم أعرف فيها كيف أبدأ أو ماذا أرسم. غمست رأس الفرشاة في اللون الأسود.
ومن ثم جعلت طرفها يلامس منتصف اللوحة. تكونت نقطة صغيرة سوداء. شعرت لحظتها بأن كل شيء اكتمل. تركت اللوحة كما هي وعدت إلى النوم.
أردت أن أرسم لوحة بعنوان « سر الحقيقة». كان كل شيء واضحاً في ذهني وعلي فقط أن أرسمه. لكن قبل أن أبدأ أتى رجال الشرطة واقتادوني إلى القسم. الضجة المثارة حول أعمالي جعلتها تنتشر أكثر واكتشف المسؤول عن المعرض أنه هو المقصود في لوحة الشيطان.
حكم علي القاضي بدفع غرامة كبيرة أجبرت أمي على بيع منزلنا، وأمر بإدخالي مصحة نفسية.
لم تكن لوحة الشيطان سبب الحكم الحقيقي بل كانت مجرد غطاء فقد أرادوا إسكاتي وجعلي أتوقف عن رسم ما يزعجهم. لم أهتم كثيراً أين سيضعونني؟ كل ما كان يهمني وقتها أن أرسم السر.
احتجزتُ في المصحة لتسعة أشهر وأعطوني الكثير من الأدوية لتهدئتي، وبسببها فقدت تركيزي وإرادتي وأصبحت كالدمية بين أيديهم. لم أرسم سر الحقيقة بل قمت برسم ورود وأشجار وعصافير تغني. وعندما خرجت من عندهم كانت أمي قد توفت والحقيقة هربت مني وعاد الضجيج إلى رأسي مجدداً، ولم أعد قادراً على الرسم كما كنت أفعل من قبل.
كل شيء قد انتهى. لم يبق لي سوى لوحة واحدة لأرسمها. سوف أقطع رأسي المزعج وأضعه على الكرسي لأرسمه ويكون لوحتي الأخيرة».
حسام المسكري