سلبادو بينيا مارتين
أستاذ الثقافة العربية بجامعة مالقا
ولد حنوش حنوش في الكوفة، على ضفاف نهر الفرات. ثمة أسباب عديدة لتذكر مدينة الكوفة والتفكير فيها، لكني سأقتصر على سبب واحد فحسب، وعرضي إلى حد ما. الكوفة تمنح اسمها لأحد أهم نماذج الخط العربي: الخط الكوفي. إنه أسلوب قديم في الكتابة، يُحتفل به دائمًا لأثره، وربما لأنه بالإضافة إلى استخدامه تاريخيًا في المخطوطات، فالخط الكوفي معروف جيدًا للمهتمين بالفن الإسلامي لاستخدامه لعدة قرون لعمل نقوش، في كثير من الحالات الدينية، على جدران البنايات المختلفة وعلى أشياء أخرى مختلفة، مزخرفةً بالأساطير أو النقوش العربية. في قصر الحمراء في غرناطة، على سبيل المثال، ثمة عدد هائل من الأدعية والعبارات أو المقاطع الكتابية المنقوشة بالأحرف الكوفية. لقد اعتقدت دائمًا أن فِدِريكو جارثيا لوركا عندما تحدث عن “الحروف العاجية التي تقول دائمًا”، لا بد أنه كان يلمّح، بطريقة ما، إلى النقوش العاجية الملونة في قاعات قصر الحمراء، التي غالبًا ما تكون مكتوبة بالأحرف الكوفية. وكنت محقًا، ولِمَ لا، في أن قصر الحمراء كان الملهم للوركا في كتابة ديوانه “ديوان تماريت”، والمسألة أننا، إن توقفنا أمام تلك النقوش، فنحن أمام عمل ذي جمال بصري هائل له ثلاثة أبعاد، بمعنى، شديد البروز. لكن هناك ما هو أكثر من ذلك، إذ نقش جداري معماري إسلامي يحيلنا إلى بعض النصوص الأدبية أو المقدسة، وهي بدورها تمثيل مكتوب لنصوص يمكن أن نقرأها بصوت عالٍ، وإنها بالتأكيد ولدت كاستجابة للتمثيل الصوتي (سواء أكانت منطوقة أو متلوَّة قبل أن تُكتب). إلى أين أريد أن أصل بهذه الفكرة، إلى تنوع الوسائط، إلى الحاجة إلى اعتبار الأعمال البشرية، وبالأخص الأعمال الفنية، ليست من منظور أوحد، ولا وسائط واحدة، وإنما تفرض جميعها وسائط مختلفة، وتقدم نفسها بوجودها الواقعي أو الافتراضي. بالعودة إلى قصر الحمراء، إلى بهو السفراء، على اليسار، وعلى ارتفاع في حدود البصر، نقرأ (هذه المرة بخط ليس كوفي) توصية لافتة، وموازية لتوصية شبيهة جدًا نجدها في “ألف ليلة وليلة”. العبارة بقصر الحمراء هي “قليل الكلام تخرج بسلام”. إنها نصيحة غالية، إذ إننا في صالة اجتماعات أهل السلطة بالمكان، لكن بالإضافة لمحتواها المفهومي، فهي قطعة خطية فنية بصرية من النحت البارز. يمكننا أن نلمسها، إن لم يكن في ذلك أي طيش. ويمكننا أن نسمعها: “قليل الكلام تخرج بسلام”، بل ويمكننا تخيلها ونحن ننطقها بنبرة عربية غرناطية من القرون الوسطى.
في “ألف ليلة وليلة”، عادة ما يجري الحديث عن تمثيلات بصرية في ثلاثة أبعاد. كثيرة هي الأماكن الداخلية بالقصور والحدائق ومستعرضة بالوصف، وبفضل القراءة، يمكن أن نتخيل حجمها وهيئتها. لكن ثمة أحلامًا مروية كذلك، شديدة الأهمية لمستقبل بعض الحكايات، يمكن أن تتجلى لنا في خيالية الأحلام، الأكثر حقيقية من الواقع. نحن نتحدث عن كتاب، غير أنه لا يمكننا أن نحصر أنفسنا في مستواه اللغوي والنصي والأدبي. “ألف ليلة وليلة”، كما نعرف جميعًا، كان أكثر من ذلك: لقد قفز إلى السينما (باولو بازوليني)، وإلى المسرح (ماريو بارغس يوسا)، وأعيد استلهامه في الكتابات السردية بصيغته العربية (نجيب محفوظ، أميلي نوثومب، إيكتور آباد فاثيولينثي)، بل وفي الرواية المصورة (نيل جيمان، جريج رسل). وبالطبع أعيد استلهامه في الفن التشكيلي. ولا أشير فحسب إلى الرسومات التي ترافق كتبًا مطبوعة (سلفادور دالي، فرديريك أمات)؛ إذ ثمة أعمال تصويرية كذلك تتناول الكتاب لتأويله من الخارج (هنري ماتيس، رينيه ماجريت). إنما الأبعد من ذلك: ألف ليلة وليلة تمخض عنها أعمال موسيقية (كودسي إرجونير) وأنواع عطور (أرابيان عود) دون أن ننسى ترجمات (رفائيل كانسينوس أسينس). إنه كتاب متعدد الوسائط. كتاب (ورقي ومنذ زمن طويل) يلهم بتمثيلاته المتنوعة ممثلًا وقاص قصص (نمر السلمون) سواء بالعربية أو بلغات أخرى، نراها ونسمعها؛ كما نرى ونسمع ونشعر بالأفلام، وكما نشم الروائح، وكما نلمس أغلفة الترجمات المطبوعة بأناقة (الطبعة الفرنسية لجاليمار، والكتالونية لـ بروا). متعدد الوسائط، لأن الإنسان متعدد الوسائط. نرى ونفكر، نلمس ونسمع، نشم ونتذوق، ونحلم.
ينضم إلى هذا العرض المتنوع (وبالتالي الألف ليلي) الفنان حنوش حنوش، بسلسلة من اللوحات المسماة “شهرزاد والليالي العربية”. أتأمل واحدة منها، اللوحة رقم 15. ماذا نرى؟ سلسلة من الصور البشرية المنعزلة في عوالم تحتية متنوعة، تجاور أشياء مختلفة، ويعلوها، في المركز، صورة مسجد يذكرنا بمسجد آيا صوفيا بإسطنبول كما تخيلها سنان. المعلومة شديدة الأهمية. في خيالنا المقسوم، ألف ليلة وليلة قصة نربطها ببغداد في المنحى التاريخي والأسطوري، لكننا نربطها بالاسكيلاين بإسطنبول وبقاعات قصر الحمراء الداخلية. يبدو الجامع العثماني في اللوحة 15 من سلسلة حنوش يترأس مجموعة من الحكايات والمواقف التي يمكن أن نجدها في ألف ليلة، لكن لا، أو على الأقل لا أتذكرها. وعلى اليسار، ثمة شخصية تمثل رجلًا وحيدًا ملتحيًا ويرتدي عمامة، ربما يمكن أن نجده في أي من حكايات “الليالي”، لكن ليس في حكاية بعينها (إلا إذا اعتبرناه شهريار، الملك القاتل). في المستوى الأول، وبجانب، نخلة؟، ثمة امرأة بلا وجه، لا أعرف لماذا، تذكرني بممثلة مصرية تمثل في أحد أفلام ستينيات القرن الماضي. في الجزء العلوي ناحية اليسار، وباللون الأزرق، ثمة مجموعة من ثلاثة أشخاص (ربما أحدهم، على اليسار، فتاة شابة تضحك)، بتوزيع هندسي بارع. سواء هذا العنصر أو عناصر أخرى، تظهر كلها مؤطرة بمثلثات حمراء صغيرة وغامضة (ماذا تعني؟). أرى كذلك مرآة، عدة أشجار، أشكالًا لا أعرفها. (معذرة، لست قارئ لوحات مميزًا، لكن ربما هكذا أفضل. أتحدث كمتفرج صرف لعمل من الفن التشكيلي). ماذا فعل حنوش؟ لقد جمع حكايات متعددة ربما كان يمكن أن تحكيها شهرزاد، لكنها لم تحكِها. هي، إذن، حكايات ألف ليلية جديدة، مبتدعة، وليست منقولة، انطلاقًا من العمل العربي العظيم. لكن، وهذه النقطة هامة، لا تتجلى كنصوص أدبية، ولا كتمثيلات بممثلين، وإنما عبر لوحات. إن تحولات ألف ليلة تبلغ مع حنوش درجة لم تبلغها من قبل، على الأقل لم تستخدم هكذا، درجة مؤطرة بتعدد الوسائط. لكن ليس ذلك فحسب، وإنما كذلك بالإبداع: حنوش ليس مترجمًا (أو محولًا، إن فضّلتم مصطلحًا تقنيًا حديثًا). وفائدة ذلك أن من يتأملها يساهم، إبداعيًا، في قص القصص المتوافرة هنا، دون أن تكون مروية بشكل صريح. من الضروري أن يتطلع المتفرجون على هذه الليالي المعاد إبداعها إلى تأويلاتهم. لكن ذلك يحدث مع الكتاب ذاته، الخاضع إلى تأويلات مستمرة على مر القرون. وبالتالي، حين نتساءل عن محتوى سلسلة شهرزاد والليالي العربية في مقترح حنوش، وعند محاولة حكيها انطلاقًا من لوحاته، ربما نتعلم كذلك شيئًا عن رؤيتنا وطريقة شعورنا بالواقع والحقيقة.