إلى عبدالكريم الرازحي…
قبل ظهيرة ذلك اليوم غير البعيد، كانت قدماي قد توقفتا فجأة عن المشي للحظاتٍ عندما لمحتُ ظِلهُ مرسوماً على الممرِّ المبلَّط للحديقة التي تتوسط بناياتٍ لها وقعُ متاهاتٍ وبرودةُ كهوفٍ مظلمة. واقفاً كان عند أحد أركان الممر، يرنو نحو أزهارٍ أينعت في أحواضها الترابية لأول مرة منذ زمنٍ بعيد.
كان مستغرقاً في التفكير دون شك؛ إذ أنه لم يأبه للتحية التي أرسلتها له بإيماءة من يدي. حينها لم أتذكر من أين جئت، ولا إلى أين كنتُ ذاهباً، أو حتى لماذا توقفتُ فجأة عن المشي! نعم… لم أتذكر أي شيء… وكعجلات قطارٍ صحا فجأة من سباتٍ عميق تحركتْ قدماي مرة أخرى، لكن باتجاهه هذه المرة… وقبل أن تتوقف آخر خطواتي المتسارعة بالقرب من ظلٍّ ارتسم على الممر، نظر إليّ وابتسم… أراد أن يقول شيئاً ما، لكنه لم يقل، ثم ما لبث أن غادرني مبتعداً دون سابق إنذار.
[ [ [
– هانئةً بموتها كانت الحديقة… زهورها نائمةٌ في تراب الذكريات… لماذا أفسدوا عليها سكونها الذي أنست إليه وزرعوا كل هذه الأزهار؟
لم يسمعه أحد.
[ [ [
كان إطار نظارته قد تهالك، لكن مشيته ظلت راقصة على عهدها دائماً… قدماه ترسمان على الممر المبلَّط خطوطَ ظلٍّ لا يراها إلا هو… منشغلاً بقصيدة جديدة لا يعرف من أي كوةٍ في جدار الحلم هبطت! بالأمس كتب سطورها الأولى، وأهداها إلى مجرم حربٍ في الكونغو كان يوزع على العالم بطاقات تهنئة بالعام الجديد!
«عندما استيقظتُ من نومي صدفةً هذا الصباح لم أجدها… بحثت عنها كثيراً لكن دون جدوى»، حدَّثَ صديقاً لم يكن بجواره…
«لماذا تضيع القصائد قبل أن يكتمل حزنها؟»، تنهد… ثم وقف عند أحد أركان الممر ينظر بإمعانٍ وبدهشة لأزهارٍ أينعت في أحواضها الترابية لأول مرة منذ زمن بعيد… تدحرج سؤالٌ حائرٌ من جبهته وسقط تحت قدميه: «هل يزرع الإنسان أزهاره خلسةً كي يحصد موتها عطشاً؟».
كان ما يزال مستغرقاً في التفكير… شخصٌ ما كان يومئ له من طرف الحديقة، ثم ما لبث أن اقترب منه… نظر إليه وابتسم… أراد أن يقول له شيئاً لكنه لم يقل… قدماه، دون سابق إنذار، سحبتاه نحو البعيد…!
[ [ [
– كأرواحنا هي هذه الأزهار… عطشى… فمن سيسقيها؟!
لم يسمعه أحد…
[ [ [
كانت زخاتُ مطرٍ ربيعي قد أعلنت عن حضورٍ مفاجئ… والكائناتُ التي عادةً ما تهيم حوله غادرت الممر المبلَّط راكضةً نحو بناياتٍ لها وقع متاهاتٍ وبرودة كهوفٍ مظلمة… «هل يؤذيها المطر إلى هذه الدرجة؟»، فكر ملياً، يحاولُ أن يجمع شتات صورٍ لأصدقاء لم يكونوا بجواره، بينما كانت قدماه تسيران ببطءٍ وبإيقاعٍ راقص على الممر المبتل، وزجاج نظارته التي تهالك إطارها يعكسُ طيفَ أزهارٍ ممددة على سررٍ تحتضر… تساءل بقلقٍ واضح وهو ينظر عالياً:
– حَتّامَ حتام ينهمر المطر، والغيومُ «تسحُّ ما تسحّ من دموعها الثقال»؟
كان وحيداً في الحديقة، ولذلك لم يسمعه أحد.
[ [ [
ها هو صباحٌ خريفيٌ آخر يستيقظُ فيه صدفةً، ومن على بعد أكثر من تسعين مليون ميل كانت الشمس ما تزال ترسل أشعتها الدافئة، عبر نسيج الزمن الكوني، ليموت بعضها على تراب الحديقة البارد. كانت قدماه لا تزالان ترسمان على الممر المبلَّط خطوطاً لا يراها إلا هو. حلق عالياً ثم نظر ببهجة إلى سطورِ قصيدة ضائعة… كانت أشجار الحديقة هياكل شبحية لوجوهٍ متعبة…. والأزهار التي أينعت في غفلة من التنين صارت بقايا فتاتٍ متعفن ينتشر بشكل هندسي غريب على أحواضها الترابية الجافة… الكائناتُ التي عادةً ما تهيم حوله سئمتْ نفسها، وصارت دمامل يبتلع بعضها بعضاً… نظر حوله مرة أخرى… «يعود كل شيء إلى أصله إذن!»… ابتسم ساخراً، ثم صاح بأعلى صوته:
– الخراب جليٌ والحلمُ تائه… وها هي الحديقةُ من جديد هانئةٌ بموتها!
هذه المرة أيضاً، لم يسمعه أحد..!
قاص وشاعر من اليمن