يبدو الشاعر السوري لقمان ديركي في ديوانه الأخير "كما لو انك ميت " منشغلا بشؤونه وذكرياته واسرافه بلحظات تكتسب قوتها وحدتها من سعيه الى جعلها موثوقة ومنبسطة وأكثر قربا، تلك التي يستعيد بها عالمه الموضوعي المعزول ، من كون أسلوب وجود هذا العالم ليس أكثر من جملة ، هديرها الجواني الأعمى غير مكتشف ومطمور ويجب البحث عن النار المشبوبة داخله ، وتحويل ما هو منسي وغير متخيل وسريع الزوال الى أثر وأرض يقيم عليها ظلام غريب وهو هنا إذ يهتم بالاشتغال على ما هو عابر وآني ، والتقاط ما يبدو بديهيا أو بوصفه مجرد قول ، ومعروفا في لغة التخاطب اليومي، فإنه بكتابته لها يتحرر من انشائيتها بتغيير اتجاه مسارها ومن ثم شحنها بإيماءات وجهات أخرى غير معلومة إلإ في الهوة العميقة لتحقق صورة الواقع شعريا بتحويل خياله أي (خيال الواقع ) الى واقع شعري.
هكذا نكتشف ما يقيمه لقمان ديركي خارج الهم الميتافيزيقي واحداثياته من خلال استنفاد أقصى طاقات التعبير في جملة المشاعر اليومية بشفوية خالصة ذات منحى وبعد واحد والتقاط ما هو نادر ومفارق في المحكي ومشهد الكلام بحيث تكون صورة ذاتها وباستطاعتنا النظر اليها باعتبارها إنجازا متكاملا، لا يمكن تجزينه من حيث البنية والسياق والتوتر الذي تحمله والأهم من ذلك أن نصوصه تظهر تقشفا شكليا في مظهرها الخارجي ولكنها كثيفة وغنية جدا من الداخل .
لن نلمس بعدا رومانتيكيا تقليديا أو صوفيا تتوق الى عناق اللامرئي، فالمستوى الأشمل لكل هذه الأبعاد ينمحي في تدرج انمحاء الأنا الشعرية وتمزقها الوجودي. وكأن الضعف والنسيان والوحشة تشيد تاريخها الشخصي.
"أنا" متجردة من أية بطولة أو كرنفال أو عصيان ، تستفيض بشرح آلامها وانكساراتها:
"لا تفعل شيئا من أجلي
فأنا مجرد شخص منسي وموحش
مثل وردة في مزهرية جف عليها الماء
مثل خشب في باب بيت مهجور
مثل ريح تهب وحيدة في صحراء ." (ص 13)
كما لو أنك ميت هوذا وبعيدا عن تقاليد عاطفية انشائية ذات جاذبية وخيال طللي تقليدي وتحت تأثير تلك الروح الأقرب الى الخلاء يتجه عن الذي قد يبسطه حيز ذلك الإرث الشعري بالوقوف الطويل أمام الأثر والمكان ورجع الصدى.
لا يتمثل الماضي ولا يحن بقدر ما يقيم مسافته في اللحظة الواهنة بوصفها حاضرا ينجز التناهي الأعمى للحواس وشكل إصغائها وحدوثها ونهبها:
"ألن أبقى للحظة وحدي
ألن أجلس لساعات دون أن أنتظر أحدا
ألن يتوقف قلبي عن المشاعر
كي أستريح
كي أستمتع بصوت طرقاتك على الباب
وأنا أعرف الا رغبة لي بالنهوض لأفتح ."
ما يلفت أيضا حركة الحكاية داخل نسيج القصيدة سر حكاية شعرية "بزمن ممزق " ومفرد لا يملك إلا حواره مع داخله في مونولوج طويل كأنه وصف لتلك الأعماق البائسة والمنعزلة في حدادها ووحدتها التي هي خليط من الرقة والغياب والتيه ، ولتظهر تلك الروح الهشة والمعرضة للزوال وهي تهرب من إحساسها الدائم بأنه مهددة ولا تهتدي إلا الى موتها ، لكنها "ستئن تحت وطأة أرواح الآخرين " كتابة تؤرخ أحوالها ، لا تبرح تقيم ذلك الخيط الواهي للدقائق والنهايات وعذوبة الهزائم الصغيرة ، وهي تضني أو تسند أبوابا مائلة حيث الخرابات تكتب حكمة كلامه ولا جدواه، سائرا أمام نفسه بلا مناورات أو متاريس ، حاملا خطاياه وروحه الصفراء ، وثمة ألم ثقيل وبقايا كسل وأناشيد زرقاء وآلة موسيقية حيادية كأي امرأة تشبه سلما ناقصا أو مدينة لا تعرف فيها أحدا.
لا مناص من تلك الجاذبية أو الاستدعاء أو النداء المركون داخل جمرة الكلمات المستكينة بدعة واستسلام وهي تعيد تكوين صلة القرابة مع السكينة والأصوات التي تنبسط تحت رماد لا خلاص من رواية قلب نوره الحاد:
"سقطت الوردة من الكف
وما لمها أحد
والذي أحبك أيضا
سقط
وما لم كلمته أحد
والذي كرهك
عاش الى الأبد في جسدك
لأنك خنت سيدك
أمام حارسك
أضحى داخلك وحيدا
مثل ثقب في إبرة مرمية
أمام نجمتي الساطعة
وتحت قمري الساطع
كنت تقبلين سواي. " (الكراهية ص 29 – 30, 31) .
يفرط في مديح تداعية وعزلته ونأيه ، ويأخذ كل من الحب والكراهية والغيرة والضعف صورة ملاذ أو مسودات حرائق وتواريخ تنحاز الى حقيقة امتلاكها لألم فريد في سماته ، إذ عبره تتأسس كل هذه القدرة على كتابة ميثولوجيات صغيرة غير مألوفة ، والانتباه الشديد الى ما يمثلها شعريا.
وهو هنا يختلف في مساره عن ديوانه الأول "ضيوف يثيرون الغبار" الذي امتلا بتدرجات دراسية اقتربت أحيانا من أن تكون ذات نفس ملحمي ولكن بشيء من عدم اكتمال .. وفائض "الأنا " من الرموز والأساطير والمنسيين والأمكنة تستدعي ما هو مخفي وممحي في أعماقها المنفية والكشف عن لون صراخاتها المدونة هناك في الأقاصي ورسم خط انكسارها وسعير الى ردم الذاكرة المفقودة حيث الحنين في أعلى تجلياته ، والأصوات المتداخلة للدم ، والماء، والكتب ، والمكائد وأسئلة الحديد. بينما ينعطف في " كما لو أنك ميت " باتجاه تدوين شديد الاجتزاء لوقوف عار ووحيد ، هكذا مشدودا في الأصداء الموغلة وهي تستحضر تلاشيها المؤثر وشكل اندحار الأنا الفردية وجحيمها الهندسي ، وكأن الكتاب كله عبارة عن مونتاج تكثيفي للألم وانا هو روحي مبدد ولا يهتدي الى ما يدوم .
أكرم قطريب (شاعر من سوريا)