يسري الغول*
استيقظ متعباً، منهكاً من سهر دائم طويل. أقوم متعجلاً إلى عملي دون اهتمام بهيئتي أو ملابسي. الوقت يداهمني وفرصة الوصول مبكراً أمر مستحيل كالعادة. أتجهز أثناء الطريق نفسياً لتقريع مديري، لتنبيه خطي اعتدت عليه.
استيقظ معلقاً أحلامي على جدران هلامية، أصارعها بالسهر ولعب الورق وعب الدخان. استمر في حيواتي إلى أن يحين الفجر، فأقرر هذه المرة البقاء يقظاً إلى أن يحين موعد عملي الذي أكرهه. أرتشف القهوة مع صوت فيروز التي تمنح صباحاتي جمالاً بحجم القبح الذي تعيشه مدينتي وضيوفها الدائمين.
أسير في دروب معتمة، أشعر بغربة كأنني أكتشف المكان للمرة الأولى. الشوارع فارغة، عدا قليل من المارة. الضباب يغلف المحيط الذي أقف فيه بانتظار أي حافلة أو سيارة تقلني إلى عملي. أنتظر وأنتظر، أسند كتفي على عمود لإشارة مرورية، أوشك أن أغفو كالأشياء من حولي. وفجأة تطلع شمس صغيرة، تتفجر من جنوب أحد الأبراج القريبة من موقف السيارات؛ فتستيقظ حواسي كلها، توقظني وقلبي يخفق بشدة، والفتاة/ الشمس تكاد من فرط اللذة تبتسم. كأن الصباح يشرق من وجهها، ابتسامتها غريبة/ لذيذة/ شهية. انتصب جيداً وهي تسير بجواري، كأني احترم حضورها، أشعتها. أتنشق عطرها وهي تبتسم، ثم يمضي كل منا في طريقه.
ليلتها قررت النوم باكراً، وعزمت على الاستيقاظ فجراً، عشقاً في انبلاج الضوء من وجه فتاتي. أستيقظ لأمارس طقوسي في احتساء القهوة وسماع فيروز بشغف، لكنني أتعجل هذه المرة، أتمنى طلوع الشمس كي أبصر الشروق مرتين. أتجهز كأنني أغادر إلى حفلة صديق حميم، أضع كثيراً من العطر ثم أخرج بكامل أناقتي. أصل المفرق لأجدها هناك بكامل بهائها، كأنها في انتظاري كي توشحني أريجها.
مر أسبوع على هذا الحال، ثم فجأة اختفت الشمس. انتظرت وانتظرت، تمر السيارات من أمامي فأشيح بوجهي عنها، تليها حافلات وعربات، وأنا متصلب في مكاني أنتظر الشمس الصغيرة كي تشرق في قلبي، وحين أصاب بالإحباط والفشل أغادر إلى عملي بحزن.
التمست لها أعذاراً كثيرة، كأني أعرفها أو أعرف ماذا أو أين تعمل، كأني أعرف من تكون. تعللت بمرض داهمها، بفرح لأحد أقاربها، بامتحانات لها في الجامعة، وأيقنت أنها ستأتي في أي يوم، لذا لم أتوقف عن الاستيقاظ باكراً.
صبيحة اليوم السابع من غيابها، وقفت عند إشارة المرور، وكدت أصعد السيارة لولا أن لاح لي طيفها من بعيد، لم أصدق عينيّ، هل هي حقاً أم أنه سراب الشوق؟! اعتذرت للسائق، ثم عدت إلى مكاني في انتظار مرورها، وحين أبصرتني ابتسمت ابتسامة عريضة. تعمدت الوقوف إلى جواري كي أتنشقها كزهرة، وفراشات يحلقن حولنا كأننا في الجنة ثم مضت إلى جنتها ومضيت إلى جحيمي، دون أي كلمة منها تمنحني سكوناً أبدياً.
صارت بيننا ألفة صامتة، لغة لا تعبأ بالحروف، هي الخجلة وأنا الخائف.
***
ذات ليلة، انقلب الجو رأساً على عقب، فقررت عدم الخروج إلى عملي، لكن فكرة عدم رؤية رفيقتي الصامتة يؤرقني، شعور بالذنب من عدم مشاهدة الشمس وهي تشرق أمر مزعج حقاً. لذا قررت بعد سجال طويل بيني وبيني الخروج متدثراً ملابس ثقيلة تقيني البرد… حملت مظلتي ثم صفقت الباب خلفي وخرجت.
كانت الشوارع خالية تماماً، جعلتني أندم لخروجي في هذا الجو القارص، لأنني لن أرى شمسي.
كدت أعود أدراجي إلى شقتي، ليقيني أنه لا يمكن لعاقل أن يخرج في هذا الجو، لكنها خرجت من زقاق ضيق، هرولت تحت المظلات المنتشرة بالشارع؛ كأنها كانت بحاجة كي ترى شمسها أيضاً. هرعت نحوها دون خوف، فتحت المظلة رغم الريح العاصف، قلت: مرحبا، ثم أعطيتها غمامتي.
عدت فإذ بها تستوقفني:
– انتظر، إنها تتسع لكلينا.
سررت كثيراً، هل سأقف إلى جوارها دون خوف من المارة أو سائقي الحافلات؟ توقفنا تحت عمارة تسترنا من الندف، سألت:
– كيف لك أن تخرج في هذا الجو المرعب.
قررت أن أكون جريئاً، أجبت:
– لأنني لا أتخيل أن يمضي يومي دون رؤيتك.
– أنا…
– بالتأكيد أنت.
صوت فيروز يصدح من شقة قريبة مجاورة.. يا ناطرين التلج ما عاد بدكن ترجعوا
تقول والابتسامة لا تفارقها:
– هل لي أن احتسي القهوة معك؟
كأنها تمنحني ما أشتهي، ما أتمنى.
– يسعدني ذلك. هل ترغبين بالجلوس معي في مكتبي أم شقتي؟
تطلق ضحكة طويلة.
– أنت مجنون.
صرخ عليهن بالشتي يا ديب بلكي بيسمعوا
وحدن بيبقو متل هالغيم العتيق
وحدهن وجوهن وعتم الطريق
طلبت سيارة خاصة، تحضر بعد خمس دقائق، تقلنا إلى مؤسسة خالية من الموظفين. ولجنا المكان والعتمة تحاصر الأروقة، إلى أن أشعلتها ثم فتحت غرفتي. قلة من جاءوا بعدي، أحدهم وقف أمام الباب ثم تمتم مبتسماً:
– غريب أنت يا رجل، كيف صرت بهذا النشاط؟!
نجلس ورفيقتي تمنحني سعادة غامرة. نتحدث والتأتأة تظهر بين الكلمات العابرة.
– بالمناسبة، أنا ضحى.
ابتسامة تفتر بها شفتي، أتأملها هذه المرة بجرأة أكبر.
– أنا ديب، موظف بهذه المؤسسة.
نتحدث وصوت المطر في الخارج يمنح الجلسة مزيداً من الألق. كأن حبات المطر تغني.. كأن فيروز تصدح في خيالاتنا.. وحدهن بيبقو متل زهر البيلسان/ وحدهن بيقطفو وراق الزمان / بيسكرو الغابي بيضلهن/ متل الشتي يدقوا على بوابي على بواب.
– أعرف أنك كنت تتلصص عليّ كل صباح، تنتظر حضوري.
أشعل المذياع..
– سأكون صريحة معك، أنا كنت أنتظر تلك النظرات التي تمنحني شيئاً من أنوثتي.
أنا وشادي غنينا سوا.. أغني:
– الحقيقة أنني كنت أنتظر حضورك كل يوم، لأنني بت شعرت أنك جزء من عالمي.
أحضر ومعي فنجانين من القهوة. أرتشف سؤالها:
– لماذا؟!
– لا أعرف، ربما حاجتي لامرأة تمنحني السلام.
– وهل تعتقد أنني قادرة على منحك السلام؟
– ربما.
صرخ عليهن بالشتي يا ديب بلكي بيسمعوا…
صمت يتملكها، تطفر دمعة على خدها، فتزداد العينان جمالاً ورقة. أحاول الحديث لكنني أشعر بالعجز.
– إنني متزوجة.
قنبلة تلقيها في وجهي، القنبلة تسكب القهوة على الطاولة، تعتذر.
– لا عليك، المهم أن تكوني بخير.
– بوجودك في حياتي، بت بخير.
أرتعش، حيرة تتملكني، من تكون، ومن زوجها هذا الذي يسمح لمثلها أن تبكي.
– أتدري يا … .
– هاااه، قلت لك ديب.
– لقد رأيتك فشعرت أني أعرفك، ربما كنا معاً في الخلود قبل أن نسقط إلى هذه الحياة.
عم يقطعوا الغابي
وبإيدهن متل الشتي يدقوا البكي وهني على بوابي
– أنت شاعرة!
– أنا امرأة تكتنز بالكراهية، الحقد على كل الرجال، لزوجي.
– لا يجب أن نكون عبيداً للكراهية يا عزيزتي.
ركوة القهوة تصنع قلباً..
– تصرفه السيئ معي، تمرده على كل شيء أقوم به، سرقته لراتبي، صلفه. صرت أكرهكم، حتى زملائي بالعمل بت أكرههم دون أي سبب.
يا رايحين و التلج ما عاد بدكن ترجعوا
صرخ عليهن بالشتي يا ديب بلكي بيسمعوا
– ديب.
– نعم!
– هل خرجت في هذا الجو الماطر من أجلي؟
– نعم، وصرت مواظباً على عملي من أجلك أيضاً.
– لم؟ هل شعرت بشيء تجاهي؟
الاعتراف شيطان يبوح بنزواته السرمدية.
– لا أعرف، لكني اهتديت إليك.
– رأيت القشور فقط، ربما أكون أسوأ مما تظن.
– ربما، لكنني قلبي أخبرني أن أدق باب عينيك كي تعرفي شغفي بك.
– والآن؟
– سعيد بهذا المطر الذي منحني الفرصة كي نسير معاً ونجلس هنا في غياب معظم الزملاء.
– ألم تشعر بأنني وقحة حين طلبت احتساء قدح من القهوة معك؟
– كنت سعيداً.
رجعت الشتوية…
– لكن أخبريني هل انتهت علاقتك بزوجك؟
– لا، ما زالت معلقة، نحن ننتظر قرار المحكمة.
يزداد المكان ألفة، الدفء يعتري أجسادنا.
لا تحزن يا حبيبي إذا طارت العصافير
و غنية منسية ع دراج السهرية
– غرفتك جميلة، ما كل هذه الصور؟
– إنها صور تروق لي فأقوم بجمعها وإلصاقها كي أتميز بها عن غيري.
– إنك مميز حقاً.
– ضحى.. هل بينكما أطفال؟
– طفل واحد يعيش معي الآن……..
ظل افتكر فييّ.. ظل افتكر فييّ.. رجعت الشتوية
– وماذا ستفعلين يا صديقتي؟
– لا شيء، قررت أن أتنازل عن كامل حقوقي له مقابل الاحتفاظ بطفلي.
– ألا تشعرين بالخذلان؟
– خذلتني الحياة كثيراً، ولم يأت الأمر على زوجي فقط.
– يبدو أن لديك الكثير من الهموم.
– لست وحدي، نحن هنا نعاني بصمت. لا مكان للانتصارات في مجتمع ذكوري لعين.
– ……………
تصمت.. أصمت، أشعل سيجارة، ندخن سويةً حتى تغيب ملامحنا بين الدخان. نغيب مع المطر.
رجعت الشتوية.
يا حبيبي الهوى غلاب
عجل وتعى السنة ورا الباب
شتوية وضجر وليل
وأنا عم بنطر على الباب
رجعت الشتوية.