«يضربني ويلعنني جهرا. أضربه
وألعنه في خيالي. لولا الـــخـيـال
لانفجرت.» (الخبز الحافي).
1 ــ كثيرا ما اهتمّت الدراسات النقدية بما تقوله الكتابة الأدبية عن العنف، أي بالعنف باعتباره أحد الموضوعات الكبرى في الأدب الإنساني، قديمه وحديثه، معتبرة الأدبي وثيقة تعكس المكانة التي يحتلها العنف في تجارب الأفراد والجماعات والشعوب، أي في تاريخ الإنسان. ولاشك في أن هذا عمل هام وضروري، لأنه يساعد على معرفة العنف المعيش، العنف كما عاشه الإنسان في مكان وزمان محددين، وبلوغ حقائق حول العنف والمجتمع والتاريخ والإنسان.
وفي هذا الإطار، يمكن اعتبار الخبز الحافي وثيقة تصف واقع الجوع والجفاف والحرب والعنف والقتل والموت في شمال المغرب أواسط القرن العشرين، وتدين واقع العنف والتهميش الذي عاشته فئات من المجتمع المغربي الحديث.
ومع ذلك، نعتقد أن اللافت في كتابات العنف هو أن الكتابة لا تكتفي دوما بنقل العنف كما يقع في مجتمع وتاريخ معينين، بل إن فعل الكتابة نفسه يمكن أن يكون فعل عنف، أو فعل/ انفعال من مورس عليه العنف، ويمكن للكتابة وهي تكتب العنف أن تأتي هي نفسها كتابة عنيفة مدمرة انقلابية انتهاكية.
قليلا ما نلتفت إلى الكيفية التي يقول بها الأدب العنف، إلى لغة الأدب عندما يقول العنف، وقليلا ما ننصت إلى العنف من خلال محكيّـه الخاصّ، من خلال أسلوبه ولفظه الفريدين، من خلال ما يصاحب هذا أو ذاك من إيقاع وتقطيع وتنغيم وانفعال … وألم.
الكتابة والعنف: هذه الواو، هذا الرابط، يسمح باختيارين: الأول: رواية العنف، أي ماذا تقول الكتابة عن العنف في مكان وزمان محددين، وهذا اختيار العديد من الدراسات السوسيولوجية والتاريخية التي تعتبر الرواية وثيقة اجتماعية تاريخية. والاختيار الثاني: عنف الرواية، وهو يثير أسئلة من أهمّـها: كيف تقول الكتابة العنف؟ أليس للعنف شكل خاص وأسلوب فريد؟ وماذا عن عنف الكتابة؟ أي أنه الاختيار الذي يقود إلى مقاربة الرواية من زوايا مغايرة لا تتعلق برواية العنف فقط، بل وأساسا بعنف الرواية، وتكشف النقاب عن شعرية العنف، وتلقي الضوء على الدور النفساني الذي تؤديه الكتابة.
وفي هذه المحاولة، التي تتّخذ من رواية الخبز الحافي للكاتب المغربي محمد شكري نموذجا للدرس، لن نركز كثيرا على الاختيار الأول، ذلك لأن العديد من الدراسات قد اختارت الوقوف عند ما تقوله هذه الرواية عن العنف، مركزة على موضوعات الرواية ومضامينها المتعلقة بالعنف. ويبدو أن القليل من الدراسات اهتمت بالاختيار الثاني: كيف تقول الرواية العنف؟كيف يكتب محمد شكري العنف؟ ماذا عن عنف الكتابة عند محمد شكري؟ ماذا تشكّل الكتابة بالنسبة إلى هذا الكاتب الذي عانى في طفولته ومراهقته من شتّى أنواع العنف والقهر والألم؟
في حالة الخبز الحافي، لا يتعلق الأمر بعمل روائي أدبي يدعونا إلى التفكير في العنف من خلال الاستعانة بالأدب، بل إن الأمر يتعلق بكتابة أدب عنيف يخرج التفكير من طمأنينته، ويستفزه، ويرغمه على التفكير. وبعبارة أخرى، فان الكتابة هنا لا تطمح إلى نقل العنف كما هو في العالم فقط، بل تطمح إلى الدخول في احتكاك عنيف مع العالم، ومن هنا تأتي الكتابة عنيفة متوحشة، غريبة ومدهشة.
2 ــ العنف لغة هو ضد الرفق، وهو عنيف مع الشيء أو الشخص إذا لم يكن رفيقا به، وفي الرفق من الخير ما في العنف من الشر.وأعنف الشيء: أخذه بشدّة، واعتنف الشيء: كرهه وجهله وأنكره، والتعنيف التوبيخ والتقريع واللوم. (1). وعموما، فالعنف هو كل إكراه فيزيقي أو نفسي قادر على إثارة الرعب والخوف والألم والموت.
يمكن القول إن الخبز الحافي تنقل واقع العنف الفيزيقي واللفظي والنفسي الذي يسكن فضاءات اجتماعية عديدة: العائلة، الشارع، السوق، محلّ العمل، دور الدعارة…
لقد فرض محمد شكري نفسه في المشهد الأدبي لأن الخبز الحافي تصف عالما مترعا بالعنف والقسوة، فالعنف يحتل مكانة واسعة في جريان الرواية، إذ على طولها نلاحظ تطورا للعنف(من الطفولة إلى المراهقة، من الريف إلى طنجة، من العائلة إلى الشارع..)، أو على الأصح لا نلاحظ في الرواية إلا دورانا في عالم مغلق يهيمن عليه العنف.
يتعلق الأمر في الرواية بطفل وجد نفسه داخل عالم عنيف يسوده الجفاف والحرب والجوع. ومنذ بداية المحكي، ندرك أن الوسط العائلي الذي يعيش فيه الطفل محمد هو وسط لا يمكن أن تعيش فيه: هو عبارة عن غرفة واحدة وجوع وأب وحش عنيف متجبّر، يهيمن على البيت العائلي بحضوره العنيف الذي لا يمكن تحمّله:
«أبي يعود كل مساء خائبا. نسكن في حجرة واحدة.. إن أبي وحش. عندما يدخل لا حركة، لا كلمة إلا بإذنه، …، يضرب أمّـي بدون سبب» (ص 8).
الأب هو الرمز الأول والأكبر إلى العنف: في حالة محمد، الأب هو هذا الذي «يصفع ويصرخ مثل حيوان»(ص31)، وهو هذا الذي «يتكلم وحده. يبصق على أناس وهميين. يشتمنا. يقول لأمي: «أنت قحبة بنت قحبة». يسبّ العالم دائما، ويجذف على الله أحيانا..»(ص8)، وهو هذا الذي «أخذ يركلني ويلكمني… رفعني في الهواء، خبطني على الأرض، ركلني حتى تعبت رجلاه وتبلّل سروالي»(ص6).
والأب هو هذا الذي يكره ابنه فيقتله ويميته: «أخي يبكي، يتلوى ألما. يبكي الخبز … الوحش يمشي إليه.. الجنون في عينيه … يلوي اللعين عنقه بعنف. أخي يتلوى. الدم يتدفق من فمه…» (ص8 ــ 9) .
ولاحقا سيجد الطفل في الشارع الملجأ والحضن الأكثر دفئا من حضن العائلة/ الأب، فيتحول الشارع إلى هذا الخارج الذي يجعل الطفل يفلت من العنف الأبوي، ويمنحه الحرية والإحساس بالذات، وعن طريقه سيكتشف المراهق فضاءات الدعارة والجنس والمتعة واللذة.
والشارع فضاء قد لا يخلو من عنف يمارس على الأطفال والمراهقين، ذكورا وإناثا: الاغتصاب الجنسي، كما أن الشارع قد يعلّم الإنسان أن يكون عنيفا علامة على الحرية وفرض الذات:» أنا أزداد شراسة مع أمّي أو مع أطفال الحيّ» (ص 22) يقول محمد، ويضيف غير بعيد معلنا تشهير عنفه في وجه عنف الآخرين، محدثا انقلابا في القيم: «سأسرق كل من يستغلني حتى ولو كان أبي وأمي. هكذا صرت أعد السرقة حلالا مع أولاد الحرام» (ص 28 ــ 29). وفي الشارع، سيجد في رفاقه من النشالين العائلة التي تحميه حتى من العنف الأبوي، فبعد أن كان الأب هو من يمارس العنف على محمد، صار العنف يمارس على الأب من طرف رفاق ابنه:
«ذات يوم كنت مع نشالين … قررنا أن نسرق لنقضي ليلة في البورديل. ذهبنا الى السوق الجديد. الزحام خانق. فاجأني من الخلف وقبض عليّ من ياقة قميصي… هاجمه رفيقاي. ضرباه باللكم ونطحات الرأس. سمعته يصرخ ويئنّ ويستغيث. رأيته يغطي وجهه بيديه والدم يسيل من بين أصابعه بغزارة» (ص 75).
يظهر العنف داخل البيت العائلي بشكل سلبي، لأنه علامة على الظلم والقهر والقمع، ويظهر العنف في الشارع مزدوجا، فهو قد يكون قهرا واغتصابا واعتداء، وقد يكون علامة على الفعل والحرية وفرض الذات. ومع الأيام، سيتحول الشارع إلى فضاء للحرية التي تعني تصورا للحياة كسلسلة من اللذات، بل يتحول الشارع نفسه إلى لذة: بعد طرده من عمله بالمقهى، توجه محمد إلى دروب المدينة المظلمة، إلى غياهب المدينة وظلماتها، ورأسه مليء بالطيور، ولم يكن خائفا من أشباح الناس ولا أشباح الجنّ.
ومع ذلك، فالشارع هو ما سيفضح نقصانا فادحا في شخصيته، ويتعلق الأمر بجهله وأميته. كان محمد يعتقد أن الشارع كفيل بجعله يكتشف حريته، ويستعيد كرامته، ويستعيد قدرته على القول والفعل، ويفرض ذاته وشخصيته، لكنه اكتشف عن طريق الشارع أن الإنسان الأمّي الجاهل لا مكان له في العالم، وأنه من دون القراءة والكتابة لا يمكن للإنسان أن يواجه كل هذا العنف الموجود في العالم. ومن هنا ليس غريبا أن تتوقف الرواية عند اللحظة التي قرر فيها محمد الانتقال إلى العرائش للالتحاق بالمدرسة، بشكل يبدو معه السارد ــ الشخصية المحورية ــ كأنه لم يتمكن من الخروج من دائرة العنف المغلقة(بيت العائلة، عوالم الشارع) إلا بعد اكتشاف عالم جديد: عالم القراءة والكتابة.
وإذا اعتبرنا الخبز الحافي لا تحكي إلا حياة كاتبها، وأن محمدا، الشخصية المحورية، ليس إلا المؤلف نفسه، فان أهمّ خاصية لافتة في محمد شكري هي أنه كاتب خرج من العنف، بالنظر إلى المكانة التي احتلّـها العنف في حياته كما في كتاباته.
هرب محمد من بيت العائلة خوفا من أن يقتله أبوه كما قتل أخاه، فاستوطن الشارع، وصاحب اللصوص والمهربين والمتشردين، واستلذّ الحياة في فضاءات الحرية والتشرد واللذة ، خاصة بعد اكتشاف المرأة والجنس ودور الدعارة، ثم انتهى به الأمر إلى اكتشاف عالم جديد: عالم القراءة والكتابة.
«لابدّ لي أن أتعلم القراءة والكتابة» (ص 230) يقول الراوي محمد في نهاية كلامه وحكايته. لماذا هذا الإلحاح على تعلّم القراءة والكتابة؟ لماذا أصبحت القراءة والكتابة ضروريتين بالنسبة إلى شاب في العشرين من عمره قاسى كثيرا من العنف الأبوي واستوطن الشارع وعوالم التشرد والصعلكة؟ ألا يعني الانتقال إلى عالم القراءة والكتابة مجهودا جبارا للانفلات من العنف والهيمنة، بحثا عن الحرية، بحثا عن الذات؟ ألا يتعلق الأمر باكتشاف جديد فطن من خلاله محمد إلى أنه من دون القراءة/ الكتابة لا يمكنه أن يفرض ذاته في عالم ذوّقه من أصناف الألم الكثيرة والمتنوعة؟ ألم ير محمد في الكتابة الإمكانية الوحيدة التي تبقّت له ليواجه العنف وينتصر عليه؟ أليست الكتابة أفضل وسيلة لمقاومة كل هذا العنف الذي يملأ العالم وفضحه وإدانته؟
في الخبز الحافي، محمد هو الشخصية المحورية والسارد الرئيس كما أنه اسم الكاتب نفسه، يحكي حياته هو، يكتب واقعه، وواقع العنف بالضبط، ويكشف أشكاله وألوانه الاجتماعية المسكوت عنها، ويحرص على أن يكتبه كما هو، فجاءت كتابته، من جهة أولى، صادقة في قول الواقع المعيش العنيف وإبلاغ حقيقته ووجهه المتوحش، وكأنه بذلك ينقل الكتابة، كما عرفها الأدب العربي الحديث، من «الكذب» الرومانسي، الشعري بالأخصّ، إلى «الحقيقة» السردية، الروائية خاصةّ. ثم جاءت كتابته، من جهة ثانية، متوحشة عنيفة: «أنتظر أن يفرج عن الأدب الذي لا يجترّ ولا يراوغ»، يقول محمد شكري في الكلمة التي افتتح بها الخبز الحافي. فالأمر يتعلق بكتابة لا تهادن ولا تساكن، ولا تعرف الليونة والمرونة، فهي كتابة عنيفة انقلابية انتهاكية، في معجمها ولفظها، في أسلوبها ولغتها، في شكلها ونوعها، في شخوصها وعوالمها. والكتابة لا تنقل العنف فقط، بل هي تواجهه بما يلزم من العنف أيضا. فماذا عن عنف الكتابة؟ وما معنى أن تكون الكتابة عنيفة؟ ما المقصود بكون الكتابة تمارس هي الأخرى عنفا؟
3 ــ إذا أخذنا عبارة «كتابة» في معناها الأصلي، فهي هذه الرموز والعلامات التي ننقشها بالقلم(أو بالة ما) على ورقة بيضاء. وبهذا المعنى، فالكتابة فعل مادي ملموس لا يخلو من عنف. ويمكن أن نتساءل: أليس هذا الفعل المادي الملموس، فعل الكتابة، فعل عنف؟ ألا تتألم الصفحة البيضاء لأن هناك قلما، عنصرا خارجيا، يخدش جسدها ويستبيحه، ويلوث بياضها الصافي الطاهر؟ أليس هذا عنفا يمارس على الصفحة البيضاء؟ ألا تعني الكتابة اغتصابا لجسد صامت طاهر؟
يقول غوستاف فلوبير إن الكاتب هو الإنسان ــ الريشة L homme – plume ، ويتحدث عن نفسه فيقول: «أنـا إنـسـان ــ ريـشــة». وكثيرا ما يتحدث هذا الكاتب ـ الإنسان ـ الريشة عن فعله، فعل الكتابة، باستعارات جنسية، وهو يرى أن الإنسان لابد أن يختار: إما المرأة وإما الكتابة. ويقول محمد شكري في إحدى حواراته: «اخترت الزواج بكتبي، بالكتابة… ضحيت بالمرأة والأسرة من أجل الزواج بالكتابة والقراءة..» (2).
يبدو كأن العنف الذي تستلزمه الكتابة هو أشبه بالعنف الذي تقتضيه العلاقة بالمرأة، أي أن العنف الذي يمارسه الإنسان ـ الريشة على الصفحة البيضاء ليس علامة على الظلم والقهر والقمع، بل هو علامة على الحب والزواج والجنس واللذة، هو نوع من الاحتكاك الطبيعي بين جسدين، جسد راغب وجسد مرغوب فيه، وقد لا يخلو من لذة سادية لاشعورية.
ويمكن القول إن العنف الموجود بين الإنسان ــ الريشة والصفحة البيضاء كالعنف الموجود بين فم الطفل الرضيع وثدي أمّه. والمحللون النفسانيون يعتبرون الصفحة البيضاء تلك المساحة من الجلد اللبني للثدي المغذي الذي يعتبر عند الإنسان أول مدرك حسيا، ويعتبر الانفصال عنه أول عنف يمارس عليه صغيرا. ويعني هذا أن الصفحة البيضاء هي ذلك الثدي العزيز اللذيذ الذي كان الانفصال عنه عنيفا مؤلما، وأنها هي التي تسمح لنا بعودة رمزية إلى ذلك الفضاء اللبني المفقود والمفتقد. ألا تعني الكتابة عند شكري عودة إلى فضاء الأمّ بعيدا عن ذلك الأب الوحش؟
من الممكن أن نذهب إلى أن شكري اختار الكتابة ولم يختر المرأة، ولم يتزوج، لأنه لا يريد أن يكون له ولد، لا يريد أن يتحول إلى أب. وبهذا المعنى، فالـكـتـابة، بهذا الشكل أو ذاك، مرتبطة بعقدة الأب، والــواضــح أن أهمّ عنصر يهيمن على البنية النفسية للسارد/ الشخصية، أي محمد، هو كراهية الأب. وبعبارة أخرى، نقول إن الجرح البنيوي المتجذر الذي يشكّـل الدافع الرئـيـس إلـى الـسـرد والـكـتـابـة عند محمد/ شـكـري هو هذا الأب الوحش، والذي لا يعني حضوره المهيمن إلا غياب ذلك الأب الآخر، الأب الإنسان، الذي لم يعرفه محمد. وبهذا، فالكتابة قد نفهمها على أنها كتابة ضد الأب، وقد نفهمها كتابة تكتب غياب الأب وفقدانه.
وإذا أخذنا الكتابة بمعنى الخيال والتخييل، فان الخاصية اللافتة التي ميّزت محمدا في طفولته ومراهقته لا تتعلق إلا بخياله، وظهور خياله واشتغاله ليست وراءه إلا قساوة أبيه وعنفه: في صغره، وأبوه الوحش يمشي إلى أخيه الجائع الذي يبكي ويتألم ليخنقه ويقتله، كان محمد يستغيث في خياله (ص ص 8_9). ولمّا كبر قليلا، صار يشتم أباه ويضربه ويلعنه في خياله: «تعثرت وسقطت. أهوى عليّ بالعصا. عويت. شتمته في خيالي. يدفعني برأس العصا الى الأمام … يضربني ويلعنني جهرا. أضربه وألعنه في خيالي. لولا الخيال لانفجرت.» (ص 53).
بدل أن ينفجر محمد في وجه أبيه، وأن يبادله بعنف ماديّ مماثل، لجأ إلى الخيال، إلى هذا العنف الرمزي الخفيّ، الذي وان لم يعلم به الأب ولم يؤذه، فهو نوع من المقاومة، ونوع من التلطيف والتخفيف من شدّة الألم.
ومع الأيام، ترتّـب عن قساوة الأب وعنفه أمر آخر: اشتهاء الجسد/ المرأة: «قساوة أبي عليّ توقظ شهواتي نحو كل ما هو جسدي» (ص36). وقبل أن يكتشف السارد دور الدعارة، وقبل أن يضاجع امرأة حقيقية، كان يضاجع كل اللواتي يعرفهن في خياله، ومنهن ابنة صاحب المقهى الذي كان أول من اشتغل عنده وهو ما يزال تحت سيطرة الأب وقساوته:
«دخلت إلى دار صاحب المقهى. ابنته فاطمة تغسل الثياب منحنية. ثوبها من الأمام منحسر … تلتفت اليّ باسمة. ثوبها الخفيف أراه في الخيال ترفعه الريح … رفعت رأسها، قبضت بيديها على خصرها، تألمت، تمططت، فخذاها ممتلئان عاريان، أطلقت ثوبها على ركبتيها، دنوت منها في خيالي، أعدت انحسار ثوبها في الخيال …
أختلق أسبابا كاذبة عندما ألم أنها وحيدة في المنزل. أعرّيها بنار خيالي متى أشاء…» (ص ص 36 ــ 37).
سيكبر محمد، سيتعلم القراءة والكتابة، سيحكي حياته ويكتب سيرته، لكن ألم تكن قساوة الأب هي التي تقف وراء اشتغال خياله؟ ألم يكن عنف أبيه هو ما أيقظ شهوته إلى هذا الجسد الآخر: جسد الصفحة البيضاء العذراء؟ ألم تكن قساوة أبيه وراء رفضه الارتباط بالمرأة والزواج بالكتابة؟
4 ــ في الخبز الحافي يترجم عنف الكتابة، بمعناها الاصطلاحي الأدبي، من خلال انفجار الشكل أو الجنس الأدبي، والدخول إلى منطقة الصدام بين الأشكال والأجناس: يعلن الكاتب في الغلاف عن جنس مؤلّفه، فيعتبره رواية، ويقول في الكلمة التي افتتح بها المؤلّف: «… هذه الصفحات عن سيرتي الذاتية كتبتها …»(ص4).
هكذا يأتي المحكي منقسما مزدوجا متناقضا يمكن اعتباره محكيا أوتوبيوغرافيا أو محكيا روائيا، كأنما يريد أن يكون مخلصا للواقعي المرجعي من دون أن يتخلى عن الروائي التخييلي، وأن يكون محكيّ حياة لكن من دون أن يسمى أوتوبيوغرافيا أو سيرة ذاتية، وأن يكون رواية دون أن ينفصل عن مؤلّـفه. يريد أن يكون أوتوبيوغرافيا وروائيا في الوقت نفسه، فالأوتوبيوغرافي والروائي يتصادمان، وربما بعنف، في هذا النوع من المحكي، وربما لا غرابة في ذلك، فمحمد كما رأينا أعلاه هو الآخر منقسم بين الواقع والخيال، والأنا التي تتشكل عبر النص هي متعددة منقسمة موزعة بين الخيال والواقع.
قد يتعلق الأمر في الخبز الحافي بــرواية أوتوبيوغرافية تنقل المعيش إلى الرواية، وتعالجه من منظور تخييلي روائي. تقوم الرواية على أساس التخييل، أي أن ما تقوله ليس دائما حقيقيا وصادقا، وتنطلق الأوتوبيوغرافيا من يقين القدرة على قول الحقيقة حول الذات، ملتزمة بقول الصدق. والسؤال الأساس هو : ماذا تضيف الرواية إلى الأتوبيوغرافيا، وماذا تضيف الأتوبيوغرافيا إلى الرواية عندما تمتزجان؟
كثيرا ما اهتمت الدراسات النقدية المعاصرة بإدماج التخييلي داخل البيوغرافي، وركزت على الجاذبية التي للرواية والتي تمنح المحكي الأوتوبيوغرافي، في حالة دمجهما، بريقا خاصّا لا توفره الأوتوبيوغرافيا، لكن السؤال الآخر الذي تطرحه رواية أتوبيوغرافية من مثل الخبز الحافي هو: ماذا عن إدماج البيوغرافي في داخل التخييل؟ وعندما ينقل شكري الأوتوبيوغرافي إلى الروائي، ألا يريد بذلك أن يشيّد «ميثاقا جديدا» يستتبع أن الروائي التخييلي يمكنه هو أيضا أن يقول الحقيقة والصدق؟ ماذا عن الرواية التي تدمج في داخلها إحدى الخصائص الجوهرية للأتوبيوغرافيا: قوة المعيش؟
لاشك في أن الأوتوبيوغرافي يضيف إلى الرواية قوة المعيش وتلك القيمة التي تمنح للمرجعية، وأن الروائي يضيف بريق التخييل إلى الأوتوبيوغرافيا. ولاشك كذلك في أن الرواية الأوتوبيوغرافية تستدعي قراءة خاصة لا تأخذ النص على أنه مجرد شهادة، وتأخذ بعين الاعتبار أن المعيش قد تمّـت صياغته روائيا.
وإذا نظرنا إلى الخبز الحافي من هذا المنظور الذي لا يخلط بينها وبين الأتوبيوغرافيا، كما لا يخلط بينها وبين الرواية، فانه يمكن أن نقول إننا أمام نص هجين، روائي ــ أوتوبيوغرافي، يبطن لذة خاصّة، يسميها بعض الدارسين المعاصرين لذة التدمير: تقوم الرواية الأوتوبيوغرافية على أساس تدمير الحدود بين جنسين أو أكثر، وتدمير المواثيق السردية السائدة، والأنا الأتوبيوغرافية، والشخصية الروائية، وتدمير لغة السرد والحكي. كأنما يريد الكاتب أن يخلق جنسا أو شكلا سرديا جديدا، وأن يفرضه في الواقع، وهذا ما يمكن اعتباره برنامجا عنيفا للكتابة.
بهذه الخصائص تصبح الكتابة انتهاكية مدمّـرة، غايتها أن تستعيد تلك اللغة الأصلية المتوحشة، لغة ما قبل البلاغة، وما قبل الأجناس. والعنف يوجد في هذه اللغة التي تقول الواقع كما هو، وترفض احترام قانون الصمت، وتزيل القناع عن المسكوت عنه وما لا يجب قوله، وتنقل الأحلام والاستيهامات والتخيلات الأكثر حميمية وسرية، وتستعمل اللفظ السوقي الفاحش العنيف…
وإجمالا، فالحديث عن عنف الكتابة يعني في الخبز الحافي الانفتاح على كل الغيابات في الأدب العربي: الجسد، الجنس، الشذوذ الجنسي، الاغتصاب الجنسي، العنف الأبوي، عوالم الأطفال والمراهقين، عوالم المتشردين واللصوص والمهربين، لغات الشارع وأصواته…وبعبارة أخرى، من أهم خصائص الكتابة عند محمد شكري هذا التعلق بالكلام السوقيّ الفاحش العنيف، وهذا الافتتان بعوالم التشرد والصعلكة والدعارة والخمرة، وهذا النزوع إلى قول ما يزعجنا ويشوش على طمأنينتنا.
5 ــ تحدثنا عن الكتابة التي تكتب العنف وتنقله من الواقع إلى الأدب، وتحدثنا عن الكتابة التي تمارس العنف باليات التكسير والتدمير والتهجين، بقي لنا أن نشير إلى أمر طريف لافت: ألّـف شكري أعمالا أخرى، قصصية وروائية، لكن ما من عمل جديد استطاع أن يفرض نفسه، وظلّ شكري لا يعرف إلا بعمله الأول، وبهذا يمكن القول إن الخبز الحافي تمارس العنف على كاتبها. وشكري نفسه عبّر عن ذلك في حوار حيث قال: «إن الخبز الحافي لا تريد أن تموت، وهي تسحقني… فالخبز الحافي لا تزال حيّة رافضة أن تموت. ابنة ….. الأطفال في الشوارع لا ينادونني شكري، بل ينادونني: الخبز الحافي»(3)
الهوامش
1 ــ ابن منظور: لسان العرب، مادة: عنف، ت. عبد الله علي الكبير وآخرين، ج.4، ص 3132.
2 ــ حوارات مع محمد شكري، حسن أحمد بيريش، جريدة الاتحاد الاشتراكي، العدد 7745، 26 أكتوبر 2004، ص 5.
3ــ حوار أجراه خافيير فلانزويلا مع محمد شكري، جريدة الباييس 5/ 10/2002.
حســن المـــــودن ناقد من المغرب