ضياء أحمد
لم تقل أمي شيئا لما أخبرتُها أنني أريد الزواج من كريستينا.
اعتقدتُ أنها كانت تتوقع الخبر. لقد التقيت بكريستينا عدة مرات منذ تخرجنا -أنا وكريستينا- من الجامعة في ولاية ماساتشوستس الأمريكية قبل عامين. عندما زرتُ أسرتي في كراتشي، حاكتْ كريستينا وشاحا صوفيا وأرسلتْه إلى أمي هدية. «تعرفين أنّ الطقس هناك حار طوال السنة؟»، قلتُ لها برقة لكنها تجاهلتني مبتسمة.
يومئذٍ -السبت، أتذكر بدقة- كنا نجلس بعد الفطور على أريكتنا الزرقاء في شقتنا. كنتُ أتحدث من بوسطن على الهاتف مع أمي في كراتشي وكريستينا تحدق فيّ صامتة.
أخيرا، قالت أمي: «لا أستطيع الكلام. كلم أباك».
بدا لي أن أبي يعرف تماما ما حدث لكنه استمع إليّ بلا تعليق، وأنا أكرر خطابي الذي قد تدربتُه أكثر من مرة.
قال بلا انفعال: «أأنت متأكد؟»
استمعتُ إلى أصوات البكاء العالية من الخلفية.
«نعم»، أجبتُ، لكنه قد غادر. رجعت أمي.
صرختْ: «افعل ما تريده. لكن اعرف شيئا واحدا: لن تكون سعيدا أبدا».
«عفوا؟» قلتُ مرتبكا.
قالتْ: «أنا ألعنك بلعنة الأم، وهي أقوى من لعنة الرب. لن تكون سعيدا أبدا أبدا، لا تجرح أمك إلى حد التعذيب».
أغلقتْ الهاتف.
ذلك المساء، نزلنا -أنا وكريستينا- إلى حديقة محلية لتناول الهواء والسكون الذهني وشاورما الدجاج. نقرت بطتان فضوليتان على قدمي. أخذتُ أبكي. بطبَطَت البطتان وفركت كريستينا ظهري بصمت.
تلك الليلة، حاولتْ أمي، بعزم لكن بشكل أخرق، الانتحار.
بعد بضع ساعات، كنتُ على متن طائرة متوجهة إلى باكستان. ظننتُ أن رحلة السيارة من مطار كراتشي الدولي كانت كئيبة، حتى وصلتُ إلى بيت طفولتي ووجدتُ بيئة تذكرني بكربلاء حينما فعل يزيد ما فعله. أقسم بالله، أنني حضرتُ جنازات أكثر بهجة. من صمت أمي البارد إلى غضبها الحارق، كان ذلك اليوم أصعب أيام حياتي.
دون تأخير، تكشّفت لي عيوب كريستينا الثلاثة.
أولا، الديانة. كيف تتأقلم مسيحية مع عائلة مسلمة تقية؟
لم يكن هذا السؤال متماسكا بسبب بعض الشكوك التي أُثيرتْ حول تقوى أبناء تلك العائلة التقية، بمن فيهم أنا، الذين لم يظهروا أي اهتمام بالشؤون الدينية.
ثانيا، العرق. كيف تعيش شقراء أمريكية في مدينة طاهرة عرقيا، وغدت أطهر منذ 11/9 عندما هرب كل السياح الغربيين بسرعة؟
صراحةً، لا أنا ولا الشقراء الأمريكية أردنا العيش في كراتشي، رغم أنني ولدتُ وتربيتُ هناك، لذا لم يشغل موضوع الاندماج العرقي ذهني.
ثالثا، الثقافة. كيف تتعايش امرأة من أبوين مطلقين مع أسرة تقليدية؟
بعد بضع سنوات، واجهت أمي بلاء الطلاق في دارها المثالية، عندما تطلقت زوجة أخي الباكستانية التي لقبتْها أمي «الخبيثة». كان في وسعي حينها الكلام بإقناع عن ظاهرة الطلاق في المجتمعات المعاصرة وآثارها على نفسيات الأطفال. في تلك اللحظة، رمشتُ ببطء.
قال أخي منزعجا: «هل الزواج ضروري؟ لماذا لم تستمر في العيش مع كريستينا، دون علم أمي وكل هذه الدراما؟».
وجهة نظره كانت معقولة. كنا -أنا وكريستينا- نعيش معًا لعامين. لا أعرف إذا علمت أمي هذه الحقيقة ولكنها لم تذكر شيئا. عند عيد ميلاد كريستينا الأخير، أعطيتُها خاتم ياقوت أزرق وطلبتُ منها أن تتزوجني. لم نكن نعرف سعادة مثل تلك من قبل. بعد أسبوعين طويلين، وجدتُ في نفسي ما يكفي من الشجاعة لأخبر أمي.
والآن، لقد تم الأمر: رُميتْ اللعنة، ابتُلعت الحبوب، حيك الوشاح. حاولتُ عبور الأنقاض بأفضل ما لدي.
رجعتُ إلى بوسطن ووُضع أي حوار بشأن الزواج في الثلاجة -كما قال أبي- حتى تعافتْ أمي واستأنفت المعركة.
قال أبي: «أمك هشة جدا الآن. أي عمل سلبي من قِبلك سيؤدي إلى عواقب رهيبة».
«رهيبة»، كرر وهو يفرك جبينه بشكل هادف. أومأتُ برأسي، كأنني فهمته.
لم تتعافَ أمي حتى بعد سنتين من السلام غير المستقر. وباستثناء بعض المناوشات الطفيفة، لم يكن ثمة أي اشتباك جاد. أنا شخصيا أكره المواجهة -«جبان»، كما لاحظت كريستينا بسخط- فقد تعاملتُ مع الصراع بطريقة مألوفة: تجنبتُه. شننا نحن -أنا وأمي- حربا باردة بسلاح الكياسة السطحية مستخدمين أبي وأخي كرسولين يترددان بيننا. تمتعت أمي بميزة استراتيجية فعالة، أسميتُها الابتزاز العاطفي، بينما كنت أؤمن، مثل أي شاب ساذج، بأن الحب يتغلب على كل المصاعب.
رفضتُ بعناد الزواج بدون إذن أمي، حتى ولو كان متصنعًا. تمركز صراعنا حول الأفكار، وليس الأعمال. لم يكن الانتصار يكمن في الحصول على المرغوب فحسب، بل أيضا على موافقة العدو. تمسكتْ أمي بنفس الفلسفة ولم تستخدم الأسلوب الباكستاني التقليدي، أي التبرؤ من الابن الآثم حتى إنه لا يُذكر اسمه قط، كأنه لم يولد، مثلما فعل عمها بعدما تزوج ابنه من أمريكية قبل أربعين سنة. «لم ير عمي وجه ابنه، ولا حتى على فراش الموت»، هددت أمي هاتفيا.
استمر عزمي وصبر كريستينا لعامين. في النهاية، أعلنتُ أننا نبحث عن قاعة مناسبة لحفل الزفاف في بوسطن وبدأنا نناقش قوائم الطعام ونتفاوض على عدد الضيوف. فجأةً، رُفعت الستارة الحديدية وسط ابتهاج وارتباك عام. بالطبع، رأينا بعض المقاومة الفاترة. قالت أمي متنهدة: «لقد وصلت الأمور إلى هذا الحد». لكن بدا أن نار الماضي قد انطفأت، كأن الرفيق غورباتشوف اعتنق الانحطاط الرأسمالي في بيته لكن وجب عليه أن يتمسك بأيديولوجيا فاشلة أمام زملائه الشيوعيين.
جاءت أكبر مفاجأة لما أعلنتْ أمي أنه إذا كان هناك حفل زفاف، فعليها تنظيمه شخصيا بكل ما فيه من العناصر الضرورية: عقد نكاح وحفلة الحناء وملابس العروس الباكستانية التقليدية، ويكون في مدينتها. «أنت لا تستطيع إمساك لسان المتكلم»، ضربتْ مثلا باكستانيا على الهاتف وأنا أفرك رأسي. أكملت أمي: «إذن لماذا نحاول؟ سوف نعقد أحسن حفلة لكما على الإطلاق».
بعد شهر سريع، في ليلة حفلة الحناء، رشفتُ «سفن أب» من زجاجة خضراء تحت قمر حائر وأنا أتساءل عن تطورات الحياة. هل كان سلوك أمي مجرد سياسة واقعية مبنية على الاستسلام أمام ما لم تستطع إيقافه؟ لقد اعتقدتُ أن الناس لا يتغيرون قط. أليس كذلك؟ فعلا، قامت أمي باحتضان كريستينا كبنت لم تلدها لكن رغبت فيها طوال الحياة. أخبرتْها كم كنتُ محظوظا أن أجدها وعلّمتْها طبخ «دال مسور» واشترتْ لها أساور وأمطرتْها وابلا من الهدايا والقبلات.
«لم أتحدث عنها بسوء قط»، فسرتْ لي أمي بصدق مشكوك فيه وهي توضح موقفها السابق عن غريمتها السابقة. قالتْ: «عارضتُ الفكرة، الأجنبية التي لن تفهم أسرتنا وسوف تفككها». من الجدير بالذكر أن في تلك الفترة كانت أمي أيضا تصارع غريمتها الجديدة، زوجة أخي الأولى -الباكستانية- ولذلك قد تطورت كثيرا أفكارها عن التوافق الثقافي وصراع الحضارات.
أؤمن بأن مشاعر أمي كانت حقيقية. عندما زارتنا في بوسطن، بدت سعيدة حقا، لم أرها أسعد مما كانت عليه في تلك الأيام. عندما مشينا بجانب سوق «كوينسي»، أمسكت بيد كريستينا بمحبة، كما تفعل الأمهات ببناتهن في مخيلتي. في يوم ذكرى زواجنا الأولى، أهدتْها «ساري» وأخذتنا إلى مطعم على سطح فندق «بيرل كونتيننتال» في كراتشي. كان ثمة كعكة وضحك ورضا. لاحقا تلك المساء، لما أرادت كريستينا ركوب الجمل على شاطئ «سي فيو»، تفاوضت أمي على سعر مناسب مع صاحب الناقة، قائلة: «إنها بنتي أنا، ليست أجنبية لكي تغشها»، وهو يتلعثم عن أولاده المساكين. أكان ينبغي أن أشعر بالقلق؟ ربما، لكن ما شعرت به في تلك اللحظة كان مجرد الامتنان.
أيمكن رفع اللعان، حقا؟ أو هل هي، مثل المنايا، خبط عشواء؟
بعد سنة، حين سقطتْ كريستينا في اكتئاب عميق ومظلم، فكرتُ كثيرا في لعنة الأم. اللعنة، السحر الأسود، الإصابة بالعين: حاولتُ دون جدوى أن أتمسك بأي شيء يفسر حياتي المفككة. «لستَ أنتَ، إنه خلل ما فيّ»، قالت لي باكية خلال إحدى لحظات التعقل النادرة.
ذات يوم، اختفتْ تاركة رسالة قصيرة مكتوبة على ورقة مسطرة وأرفف كتب فارغة، وقلبا فارغا في صدري. وضعتُ الرسالة في سلة المهملات البيضاء وأحرقتُها، ثم حدقتُ في ألسنة اللهب حتى انطفأت.
بعد أشهر، عندما تمكنتُ من مواجهة أطلال حياتي إلى حد ما، اتصلتُ بأمي لأخبرها عما حدث وما لن يحدث. استمعتْ إليّ صامتة حتى نفدت الكلمات.
«لن تجد فتاة مثلها مرة أخرى»، قالت، لا منتصرة، بل بحزن، وبلا حقد: «لن تجدها قط».