عبد السلام الجعماطي
باحث وأكاديمي مغربي
لقد استخدم الإنسان على مرّ الزمان وسائل مبتكرة للتواصل وإشاعة الأخبار، كانت أدوات جلها مقتبسة من الطبيعة والبيئة التي كان يحيا في أحضانها، فكان الرعاة يستلهمون من قرون الماشية وسيقان القصب المجوّفة وسيلة لإصدار الأصوات، وفعلت الجماعات الساكنة قرب سواحل البحر فعلهم بواسطة الأصداف والقواقع البحرية، واستلهم السكان القاطنون بالجبال والأماكن المرتفعة طبوغرافيًا وسيلتي التنيير والتدخين، أي إشعال النار للإضاءة واستخدام الدخان المنبعث منها في إرسال الخبر إلى الجماعات المتاخمة لهم، وقد لجأ الإنسان إلى هذه الوسائل البدائية للاتصال مع عشيرته أو قبيلته عندما يكون بعيدا عنهم، أو عندما لا يقعون ضمن مجال الرؤية القريبة والتخاطب الشفهي1، واستخدمت أمم أخرى طريقة للتخابر بواسطة الحمام الزاجل، أو بقرع الطبول والأبواق، أو باستخدام الأسطح العاكسة للضوء والأشعة، كالصفائح المعدنية المصقولة اللامعة والمرايا العاكسة للضوء والحرارة.
ومع تطور العمران البشري، وتلاقح التجارب الحضارية بين الشعوب والحضارات الإنسانية، انتقل التواصل الإنساني إلى مراحل متطورة وتقنيات مركبة للتواصل، فقام بتشييد الأبراج والمنارات قرب المدن والبلدات، وعلى الرؤوس الصخرية الشاخصة في البحر، وقمم الجبال العالية، وسواحل المراسي والفرضات والثغور، كما ابتكرت أمم متحضرة لغة تواصلية متعارف عليها لتناقل الرسائل وتوجيه الإشعارات عن بعد، دون الحاجة إلى التواصل اللفظي أو المكتوب، وخاصة بواسطة ضوء النار ليلا أو دخانها نهارا، والتي اكتست في عدد من أقطار دار الإسلام طابعا مؤسساتيا، تشرف عليه هيئات رسمية، كالزِّماميّين وحُرّاس المنارات والمَطالع، بل قام بالإشراف على هذه الأنظمة التواصلية عدد من الموظفين كالقُضاة ونُظّار الأحباس والمحتسبين والعدول، بل كانت وسيلة «التنيير» (إيقاد النار) معتمدة من قبل الجيوش النظامية والملوك والأمراء والقادة، وأذيعت بواسطتها مجموعة من القرارات ذات الطابع السياسي كورود أمر طارئ أو خطب عظيم، أو ولاية جديدة أو عزل لعامل، أو وفاة حاكم، والطابع العسكري والأمني، كهجوم عدو أو لصوص، أو طلب نجدة أو وفود مدد ومؤونة، أو إسناد وتقوية للمدن والحصون المحاصرة، والطابع الديني كبيعة شرعية أو تعيين إمام أو تحديد مواقيت الشعائر الدينية، كاستهلال شهر رمضان أو حلول عيدي الفطر والأضحى، وذكرى المولد النبوي، حيث تضاء صوامع المساجد ومنارات المراسي بالأضواء الساطعة2.
نشأة نظام التواصل الضوئي
بالمشرق الإسلامي:
إنّ تقنية استعمال النار في التواصل، والتي يسميها خوان فرنيط -أحد مؤرخي العلوم العربية- بـ»التلغراف المرئي»، عُرِفَت بالشرق الأدنى منذ التاريخ القديم، غير أنها شهدت انتشارًا واسعًا فيما عُرف بدار الإسلام ودار الحرب على حد سواء3، فبموازاة إقامة الدولة البيزنطية لسلسلة من المنارات بآسيا الصغرى من قلعة اللؤلؤة إلى عاصمتها القسطنطينية، بهدف إرسال الأنباء عن طريق إشعال النار، عني العرب كذلك بالنظام نفسه، على غرار ما كان عليه الشأن بالثغور الشامية خلال العصر العباسي الأول (132-232هـ/ 750-847م)؛ فقد أسس الخليفة هارون الرشيد (170-193هـ) سلسلة من الحصون مماثلة لها بإقليم العواصم، والتي شملت حزامًا ممتدا من الداخل انطلاقا من حلب في اتجاه منبج وأنطاكية نحو الساحل، وجعل عليه ابنه المعتصم، وكان نظام العواصم هذا سلسلة من الحصون الداخلية تعصم الحدود وتعينها على صدّ غارات الروم، وكان إقليم الثغور في عهده ينقسم قسمين: الثغور الجزرية لحماية العراق، ومن حصونها زبطرة (Zapetra) ومنصور والحدث، والثغور الشامية، ومن حصونها المصيصة وأدنة وطرسوس4، كما أنها اتخذت أحيانا اتجاهًا من السواحل نحو المناطق الداخلية، مثلما كان عليه الحال بمصر خلال عصر الطولونيين (254-292هـ)5. ومن الطبيعي أنّ استخدام النار في التواصل اقترن عادة بالأماكن المرتفعة، وخاصة ما وُجِدَ منها على مشارف السواحل البحرية؛ لذلك وُجِدت بين القرنين الهجريين الثاني والخامس سلسلة من الرِّبَاطَات من الشام حتى المغرب الأقصى، كانت بمنزلة «مراكز للمراقبة والإشارات»، وفي نفس الآن عُدّت قلاعًا صغيرة للدفاع عن السواحل وضمان سلامة الملاحة بها6، وإبلاغا في حماية السواحل والمراسي من الغارات البحرية المباغتة، اتبعت طريقة النفير بالشام7. وكانت تكلفة حماية الثغور –حسب تقديرات قدامة ابن جعفر (ت. 337هـ)، وكان من عمال الدولة العباسية على الخراج- تبلغ نحو مائة ألف دينار، كانت تنفق في مصالحها وسائر وجوه شأنها، وفي المُراقب، والحَرَس، والفواثير، والركاضة، والموكلين بالدروب، والمخايض، والحصون، وغير ذلك مما جانسه من الأمور والأحوال، ويحتاج إلى شحنتها من الجند والصعاليك، وراتب مغازيها، الصوائف والشواتي، في البر والبحر في السنة على التقريب مائتي ألف دينار، وعلى المبالغة وهي أن يتبع ثلاثمائة ألف دينار… وعواصم هذه الثغور وما وراءها إلينا من بلدان الإسلام، وإنما سمي كل واحد منها عاصمًا لأنه يعصم الثغر ويمده في أوقات النفير8.
ومن بين تقنيات التواصل والإخطار المشابهة التي استعملت في مراسي الحوض الشرقي للبحر المتوسط، ما يشير إليه البكري عن الكيفية التي كان الرقباء بمنارة الإسكندرية يعتمدون عليها في إشعار الأهالي بوجود العدو في البحر: «فهم يوقدون النار الليل كله في أعلى الحزام الأول من ناحية البحر، فيؤم أهل السفن من جميع البلاد سمت تلك النار ويوقد صاحب السفينة النار، فإذا رأى المحترس [عدوا] في البحر زاد في وقوده وأوقد نارا أخرى إلى ناحية المدينة، فإذا رأى ذلك الذين بالمدينة زادوا في ضرب البوقات والأجراس حَذَرا من العدو، فاستعد أهل المدينة لذلك»9؛ إنّ هذه الطريقة في الإشعار بالمخاطر تدلّ على وجود منظومة قائمة على التواصل الضوئي بالحوض الشرقي للبحر المتوسط خلال العصر الفاطمي (296-567هـ)، ولعلها قد شملت سواحل الشام بدورها، بحكم أنّها كانت من بين المناطق الثغرية المتاخمة للبيزنطيين شمالًا وشرقًا.
نظام التواصل الضوئي بالغرب الإسلامي:
لم يكن الجناح الغربي لدار الإسلام بمنأى عن جل التقنيات المستخدمة في الإخطار والإرشاد الملاحي، فقد شهدت سواحل بلدانه الممتدة من تخوم الصحراء المصرية نحو سواحل البحر المحيط إقامة سلسلة من المنارات والمحارس والمناظر ما بين رباط ماسّة جنوب المغرب الأقصى ومدينة برقة بالمغرب الأدنى، وكانت تؤدي دور الإرشاد للسفن المبحرة في اتجاهات مختلفة، كما كانت تراقب حركة الأساطيل النصرانية المعادية لبلاد المسلمين. أمّا في الأندلس، فقد استخدمت تقنية التواصل بالضوء على متن السفن العربية من أجل التخابر فيما بينها أو مع قواعدها ومراسيها على اليابسة10؛ كما عرفت سواحلها وجود رباطات يقيم بها الحرّاس والمتطوعون، وكانت الحراسة تتم انطلاقا من أماكن عالية تسمى الطلائع أو المناور، يسهر بها الحرّاس المعروفون بالسُّحّار، والذين استعانوا بالنار والدخان على التواصل مع المناطق المجاورة في حالة ظهور عدو في البحر11، غير أن تقنية التواصل هذه استخدمت لأغراض أخرى مثل الإشعار برؤية الهلال من قبل سكان هذه القرية أو تلك لإخطار القرى المجاورة بمستهل الصيام12.
ومن الملاحظ أنّ الممالك النصرانية بشبه جزيرة إيبيريا دأبت على استخدام نفس النظام التواصلي المعمول به لدى المسلمين؛ فقد سجّل أمير غرناطة عبدالله بن بلقين (ت. 489هـ) في مذكراته أنّ الجنود المسيحيين المقيمين بحصن لييط (Aledo) قرب مرسية بشرق الأندلس، والذين ضاقوا من حصار ملوك الطوائف وجيوش المرابطين لهم، بقيادة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين اللمتوني (462-500هـ)، عَمِدُوا إلى التمويه على القوات الإسلامية المحاصرة، إذ كانوا «يريعون الحيلة بالتنيير كل ليلة»13، كأنهم يلوّحون بأنهم يتواصلون مع القوات القشتالية تهديدا للمسلمين بذلك. وبما أنّ النيران قد تنبئ بموضع الجيش، فقد لجأ مسلمو الأندلس أحيانًا إلى إخفاء تحركاتهم عن الجيوش المسيحية، نظير ما اتبعه المنصور بن أبي عامر (371-392هـ) حاجب الخلافة الأموية بالأندلس (316-422هـ) في إحدى غزواته إلى جليقية (Gallicia) شمال غرب إسبانيا، حيث نهى في ليلة «عن وقود النيران، ليخفى على العدو أثره ولا ينكشف إليه خبره»14. فكانت النار في هذه الحالة سلاحا ذا حدين، يصلح إيقادها للتواصل والإعلام، كما تكشف أماكن وجود القوات المعادية في ساحات الحرب.
أغراض التواصل المرئي ومجالاته:
لقد شملت تقنيات وأساليب التواصل في الحضارة العربية مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والدينية (كالإخطار بظهور هلال رمضان وعيد الفطر)، كما تم تداولها بين فئات عريضة من المجتمع الإسلامي، كقادة الحصون ومراقبي المنارات الموجّهة لحركة الملاحة البحرية والجواسيس والمخبرين والحرفيين وأصحاب المهن الحرة، من أطباء وعدول وشعراء15؛ ناهيك عن أصحاب الأخبار من الرقاصة والعيون وسعاة البريد، واستعملت في نقل الخبر عدة أساليب، فإلى جانب إيقاد النار، والتدخين، كانت رسائل الحمام الزاجل من الوسائل الفعّالة والأكثر تداولا بالأندلس، بالإضافة إلى الخيالة التي أوكلت إلى أصحابها مهمة إخطار المناطق البعيدة بطلوع هلال شهر رمضان16، وكانت هذه العادة شائعة في بلاد الأندلس إبان مقتبل شهر رمضان، حيث يشرع أهل البلدة التي تثبت لديهم رؤية الهلال في إعلام البلدات المجاورة لها؛ ويبدو أنّ الإعلام بدخول الشهر الكريم كان يتمّ في المساجد أو الأسواق أو غيرها من الأماكن العامّة في المدن الكبرى، أمّا في الريف الأندلسي، فكانت القرى تحتفل برؤية هلال رمضان عبر إيقاد النار لإشعار القرى المجاورة ببدء شهر الصيام؛ ففي نوازل «المعيار» للونشريسي (ت. 914هـ)، سئل الشيخ القاضي أبو القاسم بن سراج عن إضرام النار من قرية إلى أخرى إعلامًا برؤية الهلال، فأجاب أنّ النار تُوقد علامة على رؤية الهلال، حسبما ذُكِر، إذا كان قد حصل لأهل القرية ثقةٌ من أهل القرية الأخرى أنهم لا يوقدون النار إلا إذا رأوا الهلال17؛ وهو ما يفيد شيوع هذه العادة، وهي طريقة شبيهة بأسلوب إشعال النار في الأبراج الساحلية للإنذار بقدوم غارات بحرية محتملة؛ ومن ثمة فإنه من المرجح أنّ إيقاد النار مع غروب الشمس بقرى الأندلس مع استهلال رمضان، كان يتم في أبراج مخصصة لهذا الغرض، حتى يصل الدخان إلى أقصى ارتفاع ممكن18، غير أن إحدى نوازل ابن الحاج القرطبي (ت. 529هـ) تشكل حالة استثناء: ففي رمضان عام 510ﻫ، صام الناس يوم السبت في المرية، بينما صام أهل قرطبة أول رمضان ذلك العام ابتداء من يوم الأحد؛ ويعود سبب النازلة إلى اعتماد الناس على كتاب قاضي غرناطة، الذي كان واسطة فقط، في توصيل ذلك الخبر الوارد عن نظيره بالمرية19؛ مما يشير إلى وجود عوائق في التواصل بين بعض المناطق التي لم يكن معمولا فيها بنظام الإخطار بواسطة النيران أو الدخان، أو بسبب تعذر الرؤية بفعل أحوال الطقس وكثرة الأمطار والسيول أحيانا أخرى.
المنشآت المعمارية المرتبطة
بالإنارة وخصائصها:
اعتمدت دول المرابطين والموحدين والمرينيين بالغرب الإسلامي (432-872هـ) على سلسلة من الإنشاءات الساحلية ذات الطابع التواصلي الصرف، ويتعلق الأمر بالمَنَارَة؛ وهي منشأة معمارية ذات دور إرشادي ودفاعي، اشتقت تسميتها من النور والإنارة؛ وقد أدّت وظيفة الإخطار والتوجيه إلى مداخل المراسي والرؤوس الجبلية الشاخصة على السواحل، بُغية تيسير الملاحة البحرية وتفادي عطب السفن أو ضلالها عن مقاصدها20؛ كما يفيدنا ابن خلدون (ت. 808هـ) أنّ المنارة الشاخصة على جبل المينا بسبتة أقصى شمال المغرب الأقصى، قد استخدمت إبّان عصره في التواصل مع العدوة الأندلسية وطلب النجدة إبان حصار سبتة21. وعادة ما كان سريان عمل المنارة ضروريا منذ الساعات الأولى من الليل، ويشير إليها الرحّالة التجاني (ت. 721هـ) عرضًا، في سياق وصفه لمنارة جزيرة شريك بإفريقية؛ ويفيد هذا الوصف في تحديد بعض الخصائص المعمارية لهذا الصنف من الأبنية بالغرب الإسلامي، في قوله: «وذلك المبنى المعروف بالمنارة هو بناء مستدير الشكل، مفرط الارتفاع، قد انتظم من فصوص الحجارة المربعة الضخمة؛ ينسب بناؤه لابن الأغلب، باني هذه القصور والمحارس الإفريقية كلها، وهي متصلة فيما بين الإسكندرية وبحر الزقاق الذي بسبتة»22.
ويتبين من بعض القرائن أنّ المنارة عادة ما كانت تنتصب عالية في مكان مرتفع يشرف على حيز كبير من السواحل المقابلة لها؛ ويشير لسان الدين ابن الخطيب (ت. 776هـ) إليها في السياق ذاته بصفتها أبرز معالم المدينة خلال القرن الثامن الهجري، فحسب قوله: إن «المنارة منارة أنوارها”23، وهذه المعلمة هي المقصودة بقول كل من ابن الخطيب وابن فرحون -في ترجمة القاضي عياض-: أنّه «بنى في جبل المينا الراتبة الشهيرة”24؛ وقد رجّح الدكتور محمد بن شريفة أنّ «الراتبة»، هي مجرد تصحيف للفظة «الرابطة»، وبنى على رأيه هذا تخريجه لنص «التعريف بالقاضي عياض» من تحقيقه25؛ ومع أنّ هذا الاصطلاح قد أثبته المقري في روايته عن ابن عياض نفسه26، فنحن لا نرى من ضرورة لاستبعاد اللفظ الأول لوجهين؛ أمّا أحدهما، فكون مفردة «الراتبة» جاءت مثبتة في الأصل المعتمد في التحقيق، كما وردت الصيغة نفسها لدى ابن الخطيب وابن فرحون؛ وأمّا الوجه الآخر، فإنّ اصطلاح «الراتب»، جاء لدى ابن القاسم الأنصاري السبتي (ت. بعد 821هـ) في سياق حديثه عن المنشأة نفسها؛ ويتأكد هذا التخريج من حديث ابن مرزوق عن أبراج جبل طارق التي أمر بتعميرها السلطان أبو الحسن المريني، وهو قوله: «وعمّر هذه الأبراج كلها بالسُّكّان المرتّبين، والذهب والقمح يشملهم في كل شهر، وشحن مجموع أبراج الجبل والسفح ودوره بالأبطال والشجعان من الرجّالة والفُرسان، يجري على كل منهم ومن معهم من العيال والأولاد المرتبات الكافية، واستمر على ذلك العمل إلى الآن»27. كما يذكر الحُرّاس المكلّفين بالمنارات في موضع آخر بقوله: «وفي كل محرس منها رجال مرتّبون، نُظّار وطُلاّع يكشفون البحر»28؛ واللفظة -على ما يظهر من مبناها- اشتقت من ترتيب المراقبة والمداومة على الحراسة بها يوميا.
وعلى غرار المنارات، أدّت المحارس والمناظر بالغرب الإسلامي الوظيفة نفسها في التواصل بواسطة أضواء النيران الموقدة؛ والمحارس هي أبراج وحصون قامت بدور مراقبة البحر، وحماية السواحل من الهجمات المباغتة، ويتبين من حديث التجاني29، أنّ المنارات هي المحارس نفسها، ولعلها كانت صنفا من المحارس، تميز عنها بشكل بنائه أو بوظيفته المرتبطة بالتنيير للسفن، أو الإخطار بظهور العدو في البحر، والجدير بالذكر أنّ المحارس الممتدة على طول سواحل الغرب الإسلامي خلال عهد السلطان أبي الحسن المريني (731-752هـ)، كانت تتوفر على نظام فريد للإشعار بوجود العدو في البحر؛ ويذكر ابن مرزوق التلمساني (ت. 781هـ/ 1379م) في هذا الصدد ما يلي: «وحسبك أن مدينة آسفي، وهي آخر المعمورة، إلى بلد الجزائر، جزائر بني مزغنان، آخر وسطى الغرب وأول بلاد إفريقية، محارس ومناظر، إذا وقعت النيران في أعلاها، تتصل في الليلة الواحدة أو في بعض ليلة، وذلك مسافة تسير فيها القوافل نحوا من شهرين»30. وهذا النصّ الذي دوّنه أحد المؤرخين الرسميين لدولة المرينيين، يثبت أنّ نظام التواصل الضوئي ظلّ العمل به ساريًا بالجناح الغربي لدار الإسلام طيلة العصور الوسطى.
خلاصة:
ختامًا، نرى أنّ إبداع المسلمين في مجال التواصل الضوئي خلال أوج الحضارة العربية الإسلامية، بلغ مستويات عالية من الإتقان في وضع أساليب فعّالة في تبادل الخبر، وتحقيق قدر رفيع من التناسق بين الإنسان والطبيعة، بتحويل ظواهرها إلى أداة طيّعة في خدمة الحياة البشرية بمختلف أوجهها العسكرية والمدنية والروحية، فلم تَحُل العوائق الطبيعية وتباعد النواحي وتنائي الأمصار دون تحقيق قدر كبير من التنسيق فيما بينها في أوقات السلم والحرب، وفي التآزر والتعاون والدفاع المشترك عند وقوع حدث أو طروق عدو لأطراف بلاد المسلمين وثغورهم، كما كانت تقنية التواصل بالنار عاملا حاسما في توحيد مواقيت الشعائر الدينية بين أقطار جناحي دار الإسلام مشرقا ومغربا في الصيام والاحتفال بالأعياد.
الهوامش
1 – د. مهندس مظفر شعبان، «نقل المعلومات من مورس إلى شانون»، مجلة الفيصل، العدد: 131، السنة الحادية عشرة، جمادى الأولى 1408ه/يناير 1987م، ص. 76.
2 – غوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، منشورات مؤسسة هنداوي، وندسور، 2013، ص. 433.
3 – يقرّ الباحث خوان فرنيط بالسبق الذي أحرزه المسلمون في استخدام الإضاءة من أجل التواصل والإشعار بالمخاطر؛ انظر: Juan Vernet, Ce que la culture doit aux Arabes d’Espagne, traduit par Gabriel Martinez-Gros, SINDBAD, 1985, p.246.
4 – أسد رستم، الروم: في سياستهم، وحضارتهم، ودينهم، وثقافتهم، وصلاتهم بالعرب، منشورات مؤسسة هنداوي، وندسور (المملكة المتحدة)، 2018، ص. 265-266.
5 – حسين مؤنس، تاريخ المسلمين في البحر المتوسط: الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الطبعة الأولى، القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 1411ﻫ-1991، ص. 59.
6 – موريس لومبار، الإسلام في مجده الأول: من القرن 2 إلى القرن 5ﻫ (8-11م)، ترجمة إسماعيل العربي، ط. 3، الدار البيضاء، 1990، ص.96.
7 – شمس الدين أبو عبدالله محمد بن عبدالله المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، تحقيق دي خويه، ط. 2، ليدن، 1906، (أعيد طبعه ببيروت عن دار صادر، د. ت.)، ص.177.
8 – أبو الفرج قدامة بن جعفر الكاتب البغدادي، المنزلة الخامسة من كتاب الخراج وصنعة الكتابة، تحقيق محمد حسين الزبيدي، ط. 1، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، بغداد: دار الرشيد للنشر، سلسلة كتب التراث (110)، 1401ﻫ-1981م، ص. 186.
9 – البكري، أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز، المسالك والممالك، تحقيق أدريان فان ليوفن وأندري فيري، ط. 1، تونس: الدار العربية للكتاب، 1992، ج. 2، ص. 638.
10 – Ce que la culture doit aux arabes d’Espagne, op. cit, p. 246.
11 – عثمان، محمد عبدالعزيز، “البحرية العربية في الأندلس: منذ تأسيسها إلى عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر”، مجلة المورد، العدد الرابع (عدد خاص: الفكر العسكري عند العرب)، 1404ﻫ- 1983م، ص. 67.
12 – إبراهيم القادري بوتشيش، المغرب والأندلس في عصر المرابطين: المجتمع، الذهنيات، الأولياء، ط. 1، بيروت، دار الطليعة، 1993، ص. 87.
13 – الأمير عبدالله بن بلقين الزيري، كتاب التبيان، تحقيق أمين توفيق الطيبي، الرباط: منشورات عكاظ، 1995، ص. 127؛ ويجدر التنبيه إلى أن مترجمي الكتاب أَوَّلَا استعمال تلك الوسيلة بالخوف الذي اعترى مسيحيي لييط من خطط المحاصرين لهم، تحرزا من مباغتتهم ليلا، مع أن سياق الرواية لا يؤيد هذا التخريج؛ انظر الترجمة الإسبانية للكتاب وتعليقها على الحادث: El siglo XI en 1ª persona: Las memorias de ‘Abd Allah, último Rey Zirí de Granada, destronado por Los Almoravides (1091), traducidas con introducción y notas por: E. Levi-provençal y Emilio García Gómez, Madrid, edi., Alianza, 6ª reimpresión, 1995, p. 206.
14 – أبو نصر الفتح بن محمد بن عبيدالله بن عبدالله ابن خاقان القيسي الإشبيلي، مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس، دراسة وتحقيق محمد علي شوابكة، ط. 1، بيروت، دار عمار- مؤسسة الرسالة، 1403ﻫ – 1983م، ص. 161.
15 – الخشني، محمد بن حارث، أخبار الفقهاء والمحدثين، تحقيق ماريا لويسا آبيلا ولويس مولينا، المجلس الأعلى للأبحاث العلمية، مدريد، 1992، ص. 261.
16 – بوتشيش، المغرب والأندلس في عصر المرابطين، م. س، ص. 87.
17 – أبو العباس أحمد بن يحيى الونشريسي، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، خرجه جماعة من الفقهاء تحت إشراف محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1981، ج. 1/ص. 412.
18 – خالد عبدالكريم البكر، «رمضان في الذاكرة الأندلسية”، مجلة الفيصل، العدد: 291، رمضان 1421ه/ نونبر – دجنبر 2000م، ص. 13.
19 – أبو عبدالله محمد ابن الحاج القرطبي، كتاب النوازل، ميكروفيلم المكتبة العامة والوثائق بالرباط، رقم: 55ج، ص. 318.
20 – عرّفها محمد عمارة بقوله: «منارة ـ للأرض ـ: هي الأعلام والعلامات التي تحدد حدودها وفواصلها عن سواها»؛ محمد عمارة، قاموس المصطلحات الاقتصادية في الحضارة الإسلامية، الطبعة الأولى، بيروت: دار الشروق، 1413-، ص. 566.
21 – عبدالرحمن ابن خلدون، رحلة ابن خلدون، تحقيق محمد بن تاويت الطنجي، تحرير وتقديم نوري الجراح، ط. 1، أبو ظبي ـ بيروت: دار السويدي ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003، ص. 308.
22 – أبو محمد عبدالله بن محمد بن أحمد التجاني، رحلة التجاني، تحقيق حسن حسني عبدالوهاب، ليبيا ـ تونس: الدار العربية للكتاب، 1981، ص. 23، 220.
23 – المقري، شهاب الدين أحمد بن محمد التلمساني، أزهار الرياض في أخبار عياض، تحقيق جماعة من الدارسين، القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1358ﻫ- 1939م (أعيد طبعه تحت إشراف اللجنة المشتركة لنشر التراث الإسلامي بين المملكة المغربية والإمارات العربية المتحدة)، المحمدية: مطبعة فضالة، د. ت.، ج. 1، ص. 31؛ ابن الخطيب، لسان الدين السلماني، معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار، تحقيق د. محمد كمال شبانة، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي بالمغرب، الرباط، 1397ﻫ- 1977م، ص. 72؛ وقد تصحفت اللفظة لدى ابن الخطيب، فجاءت «شوارها»، بدل «أنوارها».
24 – أبو إسحاق إبراهيم بن علي ابن فرحون المالكي، الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، تحقيق الدكتور محمد الأحمدي أبو النور، القاهرة، 1972، ج. 2، ص. 48.
25 – ابن عياض، أبو عبدالله محمد بن عياض بن موسى اليحصبي السبتي، التعريف بالقاضي عياض، تحقيق د. محمد بن شريفة، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافة، المحمدية: فضالة، د. ت، ص. 10، راجع: التعليقين رقم: 48 و49.
26 – أزهار الرياض، ج. 3، ص. 10.
27 – المسند الصحيح، ص. 392.
28 – نفسه، ص. 398.
29 – رحلة التجاني، ص. 23.
30 – محمد ابن مرزوق الخطيب التلمساني، المسند الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن، دراسة وتحقيق ماريا خيسوس بيغيرا، إصدارات المكتبة الوطنية، الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1401- 1981، ص. 398.
المصادر والمراجع المعتمدة في الدراسة:
أولا: المصادر العربية
ابن بلقين، الأمير عبدالله الزيري الصنهاجي، كتاب التبيان، تحقيق أمين توفيق الطيبي، الرباط: منشورات عكاظ، 1995.
ابن الحاج، أبو عبدالله محمد القرطبي، كتاب النوازل، ميكروفيلم المكتبة العامة والوثائق بالرباط، رقم: 55ج.
ابن خاقان، أبو نصر الفتح بن محمد بن عبيدالله ابن عبدالله القيسي الإشبيلي، مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس، دراسة وتحقيق محمد علي شوابكة، ط. 1، بيروت، دار عمار- مؤسسة الرسالة، 1403ﻫ – 1983م.
ابن الخطيب، لسان الدين السلماني، معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار، تحقيق د. محمد كمال شبانة، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي بالمغرب، الرباط، 1397ﻫ- 1977م.
ابن خلدون، عبدالرحمن، رحلة ابن خلدون، تحقيق محمد بن تاويت الطنجي، تحرير وتقديم نوري الجراح، ط. 1، أبو ظبي ـ بيروت: دار السويدي ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003.
ابن عياض، أبو عبدالله محمد بن عياض بن موسى اليحصبي السبتي، التعريف بالقاضي عياض، تحقيق د. محمد بن شريفة، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافة، المحمدية: فضالة، د. ت.
ابن فرحون، أبو إسحاق إبراهيم بن علي ابن فرحون المالكي، الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، تحقيق الدكتور محمد الأحمدي أبو النور، القاهرة، 1972.
ابن مرزوق، محمد التلمساني، المسند الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن، دراسة وتحقيق ماريا خيسوس بيغيرا، إصدارات المكتبة الوطنية، الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1401- 1981.
التجاني، أبو محمد عبدالله بن محمد بن أحمد، رحلة التجاني، تحقيق حسن حسني عبدالوهاب، ليبيا ـ تونس: الدار العربية للكتاب، 1981.
الخشني، محمد بن حارث، أخبار الفقهاء والمحدثين، تحقيق ماريا لويسا آبيلا ولويس مولينا، المجلس الأعلى للأبحاث العلمية، مدريد، 1992.
قدامة بن جعفر، أبو فرج الكاتب البغدادي، المنزلة الخامسة من كتاب الخراج وصنعة الكتابة، تحقيق محمد حسين الزبيدي، ط. 1، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، بغداد: دار الرشيد للنشر، سلسلة كتب التراث (110)، 1401ﻫ-1981م.
المقدسي، شمس الدين أبو عبدالله محمد بن عبدالله، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، تحقيق دي خويه، ط. 2، ليدن، 1906، (أعيد طبعه ببيوت عن دار صادر، د. ت.).
المقري، شهاب الدين أحمد بن محمد التلمساني، أزهار الرياض في أخبار عياض، تحقيق جماعة من الدارسين، القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1358ﻫ- 1939م (أعيد طبعه تحت إشراف اللجنة المشتركة لنشر التراث الإسلامي بين المملكة المغربية والإمارات العربية المتحدة)، المحمدية: مطبعة فضالة، د. ت.: 1/31.
الونشريسي، أبو العباس أحمد بن يحيى، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، خرجه جماعة من الفقهاء تحت إشراف محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1981.
ثانيا: المراجع العربية والمعرّبة
البكر، خالد عبدالكريم، «رمضان في الذاكرة الأندلسية»، مجلة الفيصل، العدد: 291، رمضان 1421هـ/ نونبر – دجنبر 2000م.
بوتشيش، إبراهيم القادري، المغرب والأندلس في عصر المرابطين: المجتمع، الذهنيات، الأولياء، ط. 1، بيروت، دار الطليعة، 1993.
رستم، أسد، الروم: في سياستهم، وحضارتهم، ودينهم، وثقافتهم، وصلاتهم بالعرب، منشورات مؤسسة هنداوي، وندسور (المملكة المتحدة)، 2018.
عثمان، محمد عبدالعزيز، “البحرية العربية في الأندلس: منذ تأسيسها إلى عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر”، مجلة المورد، العدد الرابع (عدد خاص: الفكر العسكري عند العرب)، 1404ﻫ- 1983م.
عمارة، محمد، قاموس المصطلحات الاقتصادية في الحضارة الإسلامية، الطبعة الأولى، بيروت: دار الشروق، 1413-1993.
لوبون، غوستاف، حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، منشورات مؤسسة هنداوي، وندسور (المملكة المتحدة)، 2013.
لومبار، موريس، الإسلام في مجده الأول: من القرن 2 إلى القرن 5ﻫ (8-11م)، ترجمة إسماعيل العربي، ط. 3، الدار البيضاء، 1990.
مؤنس، حسين، تاريخ المسلمين في البحر المتوسط: الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الطبعة الأولى، القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 1411ﻫ-1991م.
مظفر، مهندس شعبان، «نقل المعلومات من مورس إلى شانون»، مجلة الفيصل، العدد: 131، السنة الحادية عشرة، جمادى الأولى 1408هـ/ يناير 1987م.
ثالثا: المراجع الأجنبية
El siglo XI en 1ª persona: Las memorias de ‘Abd Allah, último Rey Zirí de Granada, destronado por Los Almoravides (1091), traducidas con introducción y notas por: E. Levi-provençal y Emilio García Gómez, Madrid, edi., Alianza, 6ª reimpresión, 1995.
Juan, Vernet, Ce que la culture doit aux Arabes d’Espagne, traduit par Gabriel Martinez-Gros, SINDBAD, 1985.