عبدالرحمن المسكري
شكّل سرّ الحياة عبر تاريخ الإنسان الطويل محلّ بحثٍ وجدل لم ينتهِ، وظل سؤال الخليقة ونشوء الكائن محاطًا بتفسيرات ميثولوجية ودينية وفلسفيّة يتداخل فيها الأسطوريّ والخرافي، والواقع بالخيال. وما زال ارتيادُ مفازات هذا السؤال الأزليّ والأساسيّ وعر المسالك، محفوفًا بقداسة الاتّكاء على الموروث، ومحاطًا بالإكراهات الأيديولوجيّة.
في كتابه «لغة الخلق» الصادر عن دار الفرقد 2018، يقدم عبدالله المعمري نظاما مفهوميًّا لاختبار المواقف البشرية تجاه الظاهرة الحيويّة، وموقع الإنسان منها، بهدف اقتراح المنهج الأقرب إلى اكتناه الحقائق، المنهج العلميّ الخاضع لكفتي الفرضية والتجربة، الحقيق بتفسير الظواهر الكونيّة عموما، والحيوية منها على وجه الخصوص.
كان في نية المعمري البحثُ في ماهيّة اللغة البشرية، وتاريخ ظهورها، وسر تعدد ألسنتها كما يقول؛ غير أن مسارات البحث وما استوجبته من استتباع منطقي، قادته إلى البحث في الإطار الأكبر للغة البشرية، عن تاريخ نشوء الكائن الذي يُنتج اللغة ويتداولها ويتفاعل معها «الإنسان». وهو الأمر الذي حدا به في نهاية المطاف، إلى التفتيش بدأب الباحث المتسلح بالعدّة العلميّة عن «لغة الخلق»، أو بالأحرى عن لغة الحياة التي صيغت بها كافة أشكال الظاهرة الحيويّة.
لا تقع هذه الأطروحة في خانة الكتب الأحيائية التي تذهب إلى التفاصيل الدقيقة المرتبطة بنشوء الكائن، والتي تبرهن الحقائق العلميّة من خلال المعادلات والنتائج المختبرية الدقيقة البالغة التخصّص، بل هو خطاب علميّ يستهدف «اقتياد» القارئ العام إلى الطريق الأكثر دقة لاكتساب المعرفة، إلى وجهة ذهنية تعتمد المنهج العلميّ للإجابة عن السؤال الجوهريّ: ما الإنسان ؟ وكيف بدأ خلقه ؟ وما علاقته بكافة أشكال الحياة الحيوانية والنباتية ؟!
هذا هو السؤال المركزي للكتاب، وللإجابة عليه، عَمَد المعمريّ إلى عقد المقارنات بين الإنسان وبين غيره من المخلوقات، لاستجلاء صفات التشابه والاختلاف بين الإنسان وبين نظرائه من المخلوقات الحية في هذا الكون الفسيح، مستعينا بما توصلت إليه العلوم المختلفة: الأحياء، والفيزياء، والجيولوجيا، والأحافير، والتاريخ …. من رؤى مختلفة كي يصل بنا إلى سرّ الخلق.
إرساء المنهج
في سبيل إرساء المنهج الأنسب لاكتشاف أسرار الخلق وعوالم الحياة، عمد الكتاب أولا إلى ما يمكن تسميته بتفكيك المفاهيم، فراح يستعرض أشكال الإدراك البشري التي نظر بها القدماء لأنماط العلائق والتشابهات بين الإنسان ونظائره في الخارطة الأحيائية. يغوص المؤلف في مسارب الوعي البشري القديم والحديث، من خلال المنظومات المفهومية المسافرة عبر الأجيال والحقب التاريخية المتعاقبة، التي تتجلى في الروايات الشفهية والنصوص الدينية والملحمية والأدبية، والتأويلات المجاورة لها. وخلص إلى تأسيس نموذج مفهومي يختزل أنماط الإدراك البشري اتجاه علاقته بالحيوان والنبات، نموذجٌ قوامه ثلاثة مفاهيم: (الأرواحية، الأنسنة، الأنسلة).
فالأرواحية تمثل النقطة الموغلة والمتطرفة في التماهي مع كائنات الوجود الأخرى، حيث يجعل الأرواحيّ: «الحدود بين الإنسان والحيوان مُنعدمة تمامًا ويجعل التحدّر منه حقيقة مستقرّة، والتحول إليه أو منه حدثا طبيعيّا، وتعظيمه أمرا يتسم بالعقل والحكمة». ص24. فالمجتمع الأرواحي يقوم على اعتقاد أن لموجودات الطبيعة وكائناتها أرواحًا قادرة على إلحاق الضرر أو جلب الخير إلى الإنسان.
بينما الأنسلة، تمثل الموقف المتطرف من الجهة المقابلة، الذي ينظر إلى الحيوان باعتباره مجموعة من المستشعرات التي تستجيب لمؤثرات مختلفة لكن دون وعي أو شعور. « والأنسلة ليست موقفا هامشيا، وإن لم يتبناها السواد الأعظم من البشر، فقد أثقل كفتها عملاق الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت، الذي اعتبر الحيوان محض آلة ميكانيكية بلا روح، واعتبر جسد الإنسان كذلك إذا افترضنا خلوه من الروح ، واعتبر الروح صفة مفارقة للعالم المادي». ص42.
وبين اعتبار الحيوان إنسانا خالصا (أرواحية) واعتبار الحيوان آلة خالصة (أنسلة) يندرج طيف من المواقف يمكن إدرجها ضمن ما يعرف بـ «الأنسنة»، حيث يسقط الإنسان بعض صفاته على الموجودات من الكائنات، فيرى فيها ما في الإنسان من قدرة على الإدراك والشعور.
يرى الكتاب أن صعوبة الإشكال الأنسني تكمن في غموض العلاقة بين الإنسان والحيوان، لماذا يتشابهان على هذا النحو؟ ولماذا يختلفان؟ إن هذا المفهوم لم يفلح في الإجابة على هذا السؤال الملح. فالأنسنة كما يقول تتغذى على المجاهيل، إذ كلما عجز الإنسان عن اكتشاف الحقيقة مال إلى الأنسنة.
لذا يقودنا الكتاب أخيرا إلى ضرورة الاحتكام إلى منهج موضوعي، يسمح باكتشاف الحقائق، وبناء المفاهيم الأقرب إلى الواقع، ويجنب الإنسان مغبة الوقوع في إسقاطات الأنسنة، ومغالاة الأرواحية وتمحّل الأنسلة. فالطريق الأدقّ إلى المعرفة هو المنهج العلميّ، الذي يوفر إمكانية الاحتكام إلى حكم موضوعي محايد هو الطبيعة وقوانينها. فالحقيقة العلميّة حتى تكتسب صفتها الموضوعية لا بد أن تصمُد أمام إجراءين أساسيين هما: الفرضية والتجربة، وهما أساس المنهج. فإذا كانت الفرضية تمثل مرشحا محتملا للحقيقة العلمية، فإن التجربة وتكرارها هي شرط ثبوتها ونجاحها.
«لغة الدنا»: سر الخليقة الأعظم
عبر سرد من المشاهدات والمرئيات ومستخلصات العلوم والمعارف العلمية يسرد الكتاب أنماطًا من التشاكل والتشابُه بين مخلوقات الأرض جميعها، على اختلاف أشكالها وألوانها، بدءا من تشابهها في الهياكل العظمية: « ها نحن أمام تشابه مدهش بين آلاف الحيوانات والإنسان، فالعظام جميعا تنتظم في شكل متشابه، قالب عظمي عام يطول بعضه ويقصر بعضه الآخر» ص126.، مرورًا بالأجهزة وأعضائها المتناظرة. «هذا التشابه مع الحيوان يكتسح جميع أجزاء جسم الإنسان، ولا يتوقف عند تشابه الأجهزة ووظائفها، بل في تفاصيل هذا التشابه: في الأعضاء التي تقوم عليها هذه الأجهزة» ص131. وصولا إلى الأنسجة والخلايا «تتركب الأجسام من أجهزة، الأجهزة من أعضاء، والأعضاء من أنسجة، والأنسجة من وحدات صغيرة متشابهة تعرف بالخلايا»ص141.
وإذا كان الكائن الحيّ على هذا النّحو الشديد من التشابه والتشاكل، فثمة سؤال بدهي: أين يكمن الاختلاف؟ ما الذي يجعل الإنسان إنسانا خلافا لأشكال الكائنات الأخرى؟! الإجابة تكمن في البروتينات التي تشكل أكثر من نصف كتلة الخلية، البروتينات باختصار بمركباتها الكيميائية شديدة الاختلاف هي التي تمنح عالم الأحياء اختلافاته وتمايزاته وتنوعه. كيف تتشكل البروتينات وتختلف؟ هنا يصل الكتاب إلى سرّ الحياة الأعظم، إلى لغة الخلق التي صاغت أبجديتُها كافة أشكال المخلوقات، عظيمها ودقيقها، إنها لغة الدنا «لغة الحياة على الأرض» كما يصفها. و»الدنا» جزيء كيميائي معقد التركيب، عبارة عن شريط يتكون من أربع قطع ثابتة، وهو موجود في جميع الكائنات الحيّة، ويتركب من الأحرف الأربعة بعينها، ما يختلف هو تسلسل هذه الأحرف، فمثلما يتغيّر المعنى بتغيّر حروف الكلمة وزيادة هذه الحروف ونقصانها، تتغير الكائنات وتتمايز وتختلف باختلاف الأحرف الأربعة، فيكون لهذا جناحان، ولذلك مخالب، وللآخر ريش.. وهكذا، فجميع أشكال الظاهرة الحيوية هي تنويعات متفاوتة لمادة واحدة، كما يقول.
تاريخ الكائن : النشوء والتخلق
عبر رحلة مدهشة في تاريخ نشأة الكون والكائنات، يسافر بنا الكتاب بين أرتال من الكائنات الحيّة، يعبر بنا مليارات السنين من التحوّلات التي طرأت على الخليقة، بين فناء وخلق، في رحلة تطوّر لا تنتهي. والإنسان بوصفه جزءا من هذه الظاهرة الحيوية الخلّابة، شهد مسارًا من التحولات التكوينية، تبعا لقوانين هذه الظاهرة القائمة على التغيّر والتبدّل. فمنذ أن بدأت الحياة في الماء قبل أكثر من 4 مليارات سنة، والخلق يمر عبر مسارات من التشكّل والتنوع والانتشار العجيب. تتأثر الكائنات بتغيّرات قد تحصل في عناصرها وخصائصها، وبما يحيط بها من ظروف بيئية وجغرافية وأحيائية، فتفنى حينئذ أنواع وتتشكل أخرى في مسير الحياة المديد.
«وكان الإنسان موجودًا منذ البدايات السحيقة ، لكن على أشكال وهيئات دائمة التغيّر، فقد تخلق من الطين، وكانت المركبات الكيميائية تتدافع داخل الماء في حراك لا يكل، وتشكّلت أوائل الكينونات القادرة على تكرار ذاتها، لتظهر بعد ذلك وحيدات الخلية الغابرة، وكان الإنسان محمولا في «أرحامها». لقد كانت عملية الخلق بطيئة جدًّا بمقاييسنا وحساباتنا، وكانت الأشكال تظهر، ثم كلما أنضجت التجارب شكلا ونجح في الاختبار الصعب، حصل على شكل جديد، إلى أن ظهر الإنسان بشكله الحاليّ المؤقت، الذي يخضع بطبيعة الحال لقوانين التغيير ذاتها»! ص289.
وعبر هذه الرحلة التي ابتدأت منذ ذلك الزمن السحيق، تكوّنت أشكال لا نهائية من الخلق والجمال، ومنذئذ أخذ الكائن البشري يتموقع في خارطة الممالك الحيوية عبر تاريخ تحولاتها الطويل، وينتظم في سلاسلها ونطاقاتها الممتدة. فالإنسان وفقا لهذا التدرج التصنيفي – بحسب الكتاب – هو «أيسن»، كبير، رئيسي، ثدييّ، فقاري، حبلي، حيواني، من نطاقات النوى بكل ما تحمله هذه الأسماء من إحالات في خارطة الظاهرة الحيوية.
حروب الألائل: الانتخاب
كيف تتحول الأنواع وتتحدّر ؟ واحدة من الأفكار المثيرة للدهشة والتعقيد في آن معا، هي ما يوضحه الكتاب بشيء من التفصيل عن تحدّر الأنواع وتحوّلها، وفقا لتحوّلات جينية قد تحدث في الألائل (جمع أليل: والأليل هو نسخة جينية تمتلك صفاتٍ ما تتمايز عن نسخ أخرى في النوع نفسه) ، إذ يتعرض الأليل للتعديلات والتحوّلات على مرّ السنين وفقا للبيئة المحيطة، فالأليل المتسيّد هو الذي يتمكن من التكيف أو التغلب على الظروف المحيطة به، وهو ما يعني بقاءه على حساب الألائل الأخرى في حركة انتخاب طبيعي دائبة.
إن هذا التنوع الجيني كما ينص الكتاب هو أحد ضمانات بقاء الجماعة واستمرارها، فهو يسمح لها بتجنب الأخطار الطارئة والأمراض المكتسحة للجموع، وهو يظهر لنا كيف يصمد النوع أمام تقلبات وتغيّرات المحيط: إنها معركة بين المحتوى الجيني للجماعة بأكملها، والطبيعة من حولها، بل بالأحرى هي سلسلة معارك عندما يصمد أليل تنتقل الطبيعة إلى مناوشة أليل آخر، لكن لا أحد يدخل المعركة ويخرج منها سليما تماما. فتأثيرات هذه المعارك تلقي بظلالها على الكائن، فيستحيل شكلًا آخر على مرّ الأزمنة، ولذلك فإن التحدّر مع التعديل يقول لنا إن الكائن الحيّ بناء تاريخي متعدد الطبقات، فكما تخبرنا طبقات الأرض عن تاريخ الأرض وتغيّراتها، يخبرنا جسد النوع عن الطرق التي سلكتها التعديلات المستمرة في جسده.
وكما يقول الكتاب، يشكل الغذاء والطقس والأنواع الأخرى ومسببات الأمراض بيئة تحيط بالنوع من كل جانب وتضع ألائل أفراده في حالة منافسة، إنها أشبه بمسابقة، تضع شروطها البيئية، ويتنافس فيها أفراد النوع، والفائزون هم من يتصدر إلى المرحلة التالية، في دورات لا نهائية، والجائزة هي البقاء على قيد الحياة، والانتقال إلى الأجيال اللاحقة، أو التصفيات التالية التي تنتج أفرادا أكثر لياقة، فاللياقة هي كل ما يحتاجه الكائن للبقاء، والبقاء للأليق، والبيئة هي الفيصل. ص249.
سك المصطلحات
من الملاحظ اعتناء الكاتب بقضية المصطلحات الدالة؛ إذ يعمد عبدالله المعمري في هذا الكتاب إلى سكّ مصطلحاتٍ جديدة مخالفة لما استقرّ في الترجمات العربية كما يقول، فالمصطلحات لا تأتي إلينا عارية منبتة من الأنظمة التي ابتكرتها وحوتها، ولا تأتي طازجة كما خبزها مخترعوها، بل محملة بركامات من كل عصر. فمثلا نجد أن الكتاب لا يستعمل مصطلح « الإنسان العاقل» وهي الترجمة المستقرة لمصطلح (Homo sapiens)، إذ يرى أن هذه المفردة تحيل في أصلها اللاتيني إلى الحكمة أو المعرفة أو إلى الحكيم أو الفيلسوف أو العارف، ولأن المعرفة أشمل من العقل، فنجده يطلق عليه «الإنسان العارف» في جميع سياقات الكتاب.
كما يجترح الكتاب مفهوم «الأنسلة» للدلالة على الرؤية الكونية التي تنظر إلى الحيوان بوصفه مجرد «إنسالة» (أي الإنسان الآلة: الروبوت) واعتباره محض آلة ميكانيكية بلا روح، مجردة من الشعور والوعي.
غير أن المصطلح الأهمّ الذي يَعدِل الكتاب عن استخدامه، هو التفريق بين (monkey) وبين (ape) إذ إنه من المستقر – بحسب الكتاب- في الأدبيات العلمية أن المفردتين تحيلان إلى مجموعات حيوانية مختلفة، في حين أن ترجمة هذين المصطلحين إلى (قرد) أمر يلغي الفرق بينهما، ويمنع المصطلح عن القيام بوظيفته وتوصيل معناه، بل يتحول المصطلح حينها إلى عنصر لبس وتشويش. فإذا كانت (monkey) تعني عائلة القرود، فإن المعمري راح ينبش في النص المعجمي العربي لإيجاد المقابل العربي حتى عمل على نحت مصطلح (الأيسن) مقابلا لـ (ape).
خطاب بليغ
لا يمكن لقارئ الكتاب أن تفوته ملاحظة اللغة البليغة التي تنساب بين ثناياه؛ فالكتاب منسوجٌ بلغة أدبيّة رفيعة، وأسلوب سرديٍّ شائق، فالشاعر عبدالله المعمري لا ينفلت -وهو هنا يقدّم خطابًا في العلوم البحتة- من إسار اللغة الجزلة، والمجاز الخلاق، مما جعلنا إزاء كتاب علميّ في غاية التشويق والإمتاع. كما سهلت الرسومات التوضيحية إيضاح بعض غوامض المفاهيم العلمية للقارئ غير المتخصص.
وثمة ميزة أخرى تسم هذا الأثر العلميّ البليغ؛ إذ بالنظر إلى الكتاب بوصفه خطابًا يتغيا اقتياد القارئ للاقتناع بنتيجة محدّدة، يمكننا أن نلحظ بنية حجاجيّة تنتظم وحداته الخطابيّة، فقد جاءت خارطة الكتاب ومساراته وفق سلّم حجاجيّ متدرّج، اتّخذ مسارا تصاعديًّا؛ إذ تمثل نتائج فصوله مقدمات تتضافر وتتعاضد حتى تفضي إلى نتيجة واحدة، بحيث تأخذ نتائج الفصول السابقة بكل سلاسة منطقية إلى الفصول اللاحقة، حتى يصل الكتاب في نهاية المطاف إلى النتيجة المركزية، وهي هدف الكتاب الأساسي.