تستطيع أن تدرك التطور المذهل في قصيدة الشاعر محمود قرني من خلال نظرة بسيطة على ديوانيه «حمامات الإنشاد» و«خيول على قطيفة البيت» , ثم هذا الانتقال الفارق في الديوانين التاليين «هواء لشجرات العام» و«طرق طيبة للحفاة»، أو بين هذين التجربتين وبين ديوانيه «قصائد الغرقى» و«لعنات مشرقية». فالمتابع لتجربة الشاعر منذ البداية يدرك هذا الصراع المبطن بينه وبين القصيدة . فقصيدته ذات طبيعة نهرية , متدفقة , هادرة , وحشية , تمتح من مصادر شديدة الخصوبة : الذات, الواقع المعيش ,والأسطورة , المعرفي , الأحلام والكوابيس , السرد بصفة عامة وسرد ألف ليلة وليلة خاصة ,السرد الشفاهي, والمسامرات. والأحاجي, والموسيقى الشرقية, التي أكسبت القصيدة إيقاعا حسيا منتظما, هذه الحزمة الخصبة تحتاج إلى دأب استثنائي وجهاد صوفي لكي يسيطر على وحشيتها ليضبط إيقاعها البدائي ويشذب من حوشيتها , وهنا يظهر هذا الصراع المبطن ما بين المعرفي , والرغبة العارمة , في السيطرة على القصيدة ,والحواس, في ظل مأزق وجودي , يعاني منه الشاعر ,حيث روحه المنهكة والمحملة بإرث نستطيع أن نقول عنه إنه إرث المحنة , سواء محنة الإحساس الهوسي بالمرض وحمل الجسد المعطوب، وأنه في سبيله إلى الفناء , وتجلى ذلك في تحول الموت, المرضى, والمرض, المقابر. الصبار, الأدوية, الشاهد , الكوليرا , الطاعون , المعددون , , كموضع جوهري يحتل فضاء القصيدة , ويصل ذروته في طرق طيبة للحفاه , وهواء لشجرات العام , في قصيدة , من أجل مزرعة الكوليرا «
« قلت يانجمة عظيمة/ فوق روح أخي /اتركي عظامي للحجرات التعسة في الضواحي /الحظوة لم تكن للميلاد
ولا كانت القواديس قبل اليوم /تطحن طبائعنا
بيد أن الطيور ماتت في خيلائها/
وانتشر المعددون في التلال والينابع
هذا مساء يمضي /وأنت مملوءة بالرغبة في الانتقام
ماذا أفعل من أجلك إذن ؟! /العافية مرشوقة كإبرة
في خرقة جوّال /وأزهار العالم تنام في أنابيب/ أنا منشد الأصابع الصغيرة تحت الشمس /أخذني الشعب نزيلا /في ضحكات الأطفال /هذا الوعد كان من أجلي /مجدتُ صانعي قفاطين التوبة /ألقيت الفيضان من النافذة /سأقاضي /إخوتي الثلاثة /الذين نزعوا عينّي /فلم أرهم بعد ذلك في نومي /إنها وحدة مملوءة بالقش والسبات /فكم أحتاجك الآن /يانجمة عظيمة /وسوف أكون في كامل هيئتي .. /من ديوان «هواء لشجرات العام».
ثم هذا الصراع اليومي البسيط المنهك للروح من أجل لقمة العيش والذي يجعله ممزقا , مندفعا , هادرا , عنيفا , هجاء , رثاء , سوداوي , مغترب , يستدعي , تفاصيل كثيرة جداً من سنوات الطفولة ,يستدعي خلالها , الأب , الأم , الأصدقاء , الأخوة , العوالم الريفية علي أعتاب القرية :
رفقائي الذين لازالوا ينظفون أجسادهم/من جروح الطفولة
غادرتهم إلي الحلكة /التي أخذتني كقبر يكتظ بالحلوي /
وهكذا أعادوا عظامي في قفة إلي أمي /وهاهي /تندبني بأبيات قصيرة من الشعر /وتعيدني مرة أخري إلي خزانتها
هذه هي الواجهات /التي تستحق أن نكتب علي شواهدها
الكثير والكثير ممايؤلمنا /رغم أن كلابا كثيرة ـ بالتأكيد ـ
ستبول في الصباح علي ماكتبنا . /من ديوان «طرق طيبة للحفاة»
إن هذه المرحلة هي المرحلة الأكثر براءة , والأكثر فطرية, والأكثر تشويشا , والأكثر ربكة للشاعر هذه ذروة مرحلة دفاع الشاعر عن ذاته في مدينة قتله , مجرمين , فاسدين , متجردين من أي أخلاق أو ضمير , هذا المدينة البائسة , التي تحتضن الأثرياء وتلفظ الفقراء وتمسخهم , سيكتشف بعد ذلك أن المدينة ليست كل هؤلاء في المطلق ,وأن المدينة لها جانب أخر لم يكن يراه ,وهم ضحايا المدينة ,الفقراء , الذين تسحقهم المدينة , مثله تماماً , هناك شراكة روحية لكل فقراء المدينة / العالم , سواء في الريف او في الحضر , يجمعهم , البؤس الإنساني وعسف السلطة وجبروتها وظهر هذا , في قصائد شرفات بولاق، فستان كيم أدونيزيو، العابر. من ديوان أوقات مثالية لمحبة الأعداء ومن قصيدة الكنز يقول :
«بعد أن حطت الحرب أوزارها/ وجدت الكنز في يد القتيل/ كان ملقي تحت أصوات مشؤومة/ الحراس قضوا نحبهم إلي جواره/ والنسوة كن يتبركن بالضريح/ لا شيء يتحرك هناك/ فقط أصابع القتلي/ كانت لا تزال دافئة/ لكن حشرجة نهائية/ أخذتها إلي الله/ الوطن الآن ينام قرير العين».
ويمكن إجمال سمات تلك المرحلة بالجملة الشعرية الطويلة, واللغة الحسية الطازجة الحية , البناء الفضفاض، ما جعل كثيراً من قصائد تلك المرحلة تتسم بالترهل, والزوائد السلبية , والذي كان حذفها ضروريا لسيولة النص , مما أدي لطول القصائد حتى وصلت القصيدة في ديوان «الشيطان في حقل التوت» إلى 45 صفحة تقريباً , وعدم توظيف الرمز بصورة جيدة فأضفي على النص غموضا مربكا بدا واضحاً حتى في تكوين الجملة الشعرية, أو في متن القصيدة راجع ديوان حمامات الإنشاد- ورغم المحاولات الدءوبة للشاعر في الانفتاح على الإنساني الرحب , إلا أن القصائد كانت في العموم متمركزة حول هموم الذات الآنية ولم تفلح في الانفلات من أسر الذات وتشرنقها إلا في ديوانيه «قصائد الغرقى» ولعنات مشرقية «رغم قناعتي أن الفصل بين الذات وجوهر الروح الإنسانية, نوع من ضيق الأفق, والتعسف فلا يمكن أبداً , انتزاع الذات من روح الشاعر , أو انتزاع الإنساني, ولكن الذي اقصده, أن القصيدة هنا ليست ثابتة , جامدة, تأسرها مقولات ذهنية سلفاً , ولكن حرة , متحركة, ديناميكة, ليس لها مركز , ولكن عدة مراكز متحركة إذ يندفع مركز , الإنساني إلى الأمام, وهو أمرلا يعني سقوط , وموت الذات, ولكن خبرة الشاعر جعلته يكتشف جوهر الذات وعلاقتها بالعالم, و أن تحرير الذات من تمركزها حول ذاتها والانفتاح على رحاب الإنسانية يحتاج إلى جهاد , لكي تشتعل طاقة النور داخل الذهن وتحرك تلك المراكز وفق نظام دقيق وليس اعتباطياً في انتظار هبة قد تأتي من الأم :
« .. كانت الأمُّ/- التي تتكلم من بين أسنانها –/تحملُ عُكازيها في تُؤَدة/وتقولُ وهي عائدةٌ إلى البيت :/يا ولد ..
اتبعِ النور الذي في رأسك/فأشكرها ..»/«من ديوان قصائد الغرقى»
وقد وصلت تجربة الشاعر لذروة النضج في ديوانيه» قصائد الغرقى , ولعنات مشرقية «وهما يتسمان بالشفافية , والغموض البسيط , والاقتصاد في استخدام الرمز والتقشف في استخدام اللغة, وشفافيتها حتى أن اللغة تتحول لكائنات مضيئة بذاتها ,لتنتج دلالات متعددة , مع ضبط بناء القصيدة , دون الوقع في خنقها وتحويلها لدوائر مغلقة .
2
رغم عدم افتقادي للتقسيمات النقدية المدرسية للشعر من المدارس الأدبية للتنظير الشعري , رومانسي , واقعي , رمزي , سريالي , الخ لكن من خلال قراءاتي الدؤوبة للشعرية الجديدة لاحظت أن هناك في الأفق يتبلور شكل أقرب إلى الاتجاه الرومانسي الجديد في قصيدة النثر, نوع من الرومانسية التي تحمل داخلها كل مميزات المدارس الأدبية الفاعلة , رمزية , سريالية , واقعية ,الخ متخلصة من أمراض الرومانسية البائدة , وأنا أشير لهذا الأمر, كدعوة للنقاد, والباحثين للتأصيل, لهذه الظاهرة الجديدة ,فلن يخدعنا العنف والقسوة في شعرية فتحي عبدالله مثلا للكشف عن الروح القلقة المعذبة والمحبة , أو الاختفاء تحت الرصد الموضوعي للأشياء البسيطة , المقتصدة عند إبراهيم داوود في اكتشاف الرومانسي الحالم , أو الروح الساخرة الشفيفه عند إيمان مرسال , أو المتأملة عند أسامة الديناصوري في عين سارحه, أو عند جرجس شكري , أو السريالي المتدفق عند أسامة الحداد أو الرومانسية المفرطة في قصائد محمود خير الله, وعماد أبو صالح , وكريم عبدالسلام , وغيرهم من متن قصيدة النثر, أو الرمز والأقنعة عند العاشق المتخفي عند الشاعر محمود قرني فمنذ ديوانه الأول والأنثى بتجلياتها وأقنعتها هي محور عالمه فمرة تكون هذه الأنثى كما أشار الناقد النابه صبحي حديدي , في ديوان , الشيطان في حقل التوت , نخلة أو الأنثى الحلم المستحيل في ديوان «قصائد الغرقى»
« ..تلك الحانةُ/التي سكرنا فيها/وغنّينا لغرامٍ/كان يستذكرُ دروسَهُ بين قلبين ./في تلك الليلة المطيرة/أغارتِ السماءُ على قدمين ناعمتين/فظنّا أنها القيامة/وعندما رَأَيَا الصحراء/على صفحةِ المياه/أدركا أنهما في سرابِ الأبدية ..»/من ديوان «قصائد الغرقي»
أيضا هناك الأنثى الفاعلة في ديوانه لعنات مشرقية فهنا يدخل عالم ألف ليلة وليلة وسحر الأسطورة الذي يخايله ويتألق ليجدلها في نص أو يقطف وردة ليزين بها مفتتح لنص او يعيد صياغة أمثولة , أو في جسم النص فلنقرأ هذه القصيدة من ديوان مبكر للشاعر هو « طرق طيبة للحفاة:
«.. رأي في ليلته الأولى /خنازير هائلة تتقاطر علي لحمه
فلم يستطع ترتيب حكايته كما ينبغي /رغم أنه كان ينوي إنشادها في الضواري /منذ ذلك الحين /لا زال صوته محتبسا في مؤخرته /وهكذا مات الراوي /قبل اكتمال بقية الأغراض /لم يطلب له أحد عذرا ولا مغفرة /أكلته الحيوانات ببساطة متناهية /ولا أحد يعرف شيئا عن الأم الساخرة /التي كانت تربط له طوبة عند مؤخرته /حتي لايطيل الجلوس تحت أذيال النساء /هكذا تسكعت دون أغراض /في سحر ضرير بلا مأوي .. » /من ديوان طرق طيبة للحفاة/« أغنية الحمال والزوجة العاقر»
ولكنه لم يتخل أبدا في أي ديوان من دواوينه عن روح ألف ليلة التي تحلق دائماً في روح الشاعر أو كوشم مطبوع على حواسه و جسده, هل يمكن أن ننسي قصيدته الحمال والزوجة العاقر , ومن البداية تعلن الذات الشاعرة لكليهما الليالي /الأنثى/, والذي يكشف عنه مفتتح ديوان «لعنات مشرقية», المأخوذ بتصرف عن ألف ليلة وليلة :
«يا وجهَ الأحباب ، /إن أصبهان بلادي ،/وَلِي فيها بنت عَمٍّ كنتُ أحبها ،/وكنتُ مُتولعا بها ،/فغزانا قومٌ أقوي منا
وأخذوني في جُمْلة الغنائم /كنتُ صغيرا فقطعوا إحْلِيلِي ،
وها أنا عَلَي حالي ،/بَعْد أنْ باعوني خادما ../تَقَدّمْ يا «أنس الوجود»/فـ « الورد في الأكمام» /تركتْ اسمَكَ عَلَي فَمِ طائر القمري /لَكِنْ لا تنس من يريدون أن يفكوا قيودهم .. »
إن شرط الانعتاق من سجن النأي والاقتراب من معيتها «الأنثي» هو إبطال الذكورة ليكتسب ثقة ورد الأكمام ـ الملاكة ـ الأميرة – كعاشق طهراني منزه عن الدنس وخادم مخلص في حضرتها, ويصبح هذا الشرط الوحيد لاستمرار هذه العلاقة المازوخية / السادية المأساوية التي تفرضها الأنثى نحو الذوات المحيطة لتحولهم لجثث مثل قائد الشرطة الذي عاد جثة هامدة لأنه تجاوز المحرم وهو تجاوز في العلاقة حد إنجاب أولاد لذلك يموت مسموماً عائدا وراءه أولاده فقط يبكون ، أما المعذب الأبدي والحكيم الذي يتبعها كظلها يصرخ من الألم , فتتهكم منه وتسخر منه سخرية مرة :
« .. العبدٌ يشكو وحدته /وأنت خزانة اللذة ومآب الصالحين
فاجعليه مآبي /فتقول الملاكة /يا جدي لثغتك عميقة
ولا أكاد أتبين ما تقول /اقترب أكثر وقل لي :/من الذي أوقع منك كل هذه الأسنان»
أو يتحول إلى السخرية من ذاته أمام خيانة المحبوبة كالسيد جوته تاجر البن أو يفقد النطق كالقاضي , أو القطيعة كما في علاقتها بطاغور .
وتصل ذروة المأساة في هذه العلاقات السادية /المازوخية لهذه العلاقة في المقطع التالي :
في القصر الذي شق سراب الرمال/كانت وردة البيت العالي مريضة /والوزراء يرتدون السواد /معزوفات قصيرة يرددها الصحراويون بثبات /يؤدون التحية للعجلات الحربية/غير آسفين على ذكورتهم التي أكلتها الرمال .
ولكن هل خرجت ورد الأكمام ـ الملاكة ـ الأميرة من صراعها الذي أرادته صراعا داميا من معركتها بدون خسائر روحية ومادية , بالتأكيد لا . لماذا؟ لأن هذا الصراع لا يحكمه قانون أخلاقي ,بل قائم على الغلبة وعلى السطوة وكسر الإرادة وفي كلا الحالتين هما الخاسران , لأن فكرة النصر في العلاقات الإنسانية في تلك الحالة ملتبسة فما تتصوره نصر قد يكون هزيمة وما تتصوره هزيمة قد يكون نصراً وواضح ذلك في النص التالي
في المشفي صرخت بأعلى صوتها :/أيها الطبيب /ساعدني على ترميم روحي/أريد رقصة واحدة
تمجد العاشقات والأزهار والمخطئين
إن هذه العلاقة المشوهة التى تسم العلاقة بين المرأة والرجل لتنعكس بالتالي على الأوضاع السياسية والاجتماعية ليست وليدة تجربة قاسية محدودة للشاعر محمود قرني بل هي استبطان نابه لعائق جوهري من عوائق تحديث المجتمعات الشرقية التي ترزح تحت نير التخلف والفقر والمرض، ولذلك فتح القوس واسعاً لحوارات كاشفة وشفافة من اللحظة الآنية ومن عمق التراث ليكشف عن كم الأعطاب التي تعوق التحديث ومنها تحرير العلاقة بين الرجل والمرأة من إرث العادات والتقاليد وإعادة صياغة تلك العلاقة من جديد ، بحيث تكون قائمة على الحرية والتناغم ، علاقة تتخلص من التبعية والاستعباد كصفتين سالبتين إلى علاقة ندية , استقلالية وإيجابية .