محمد برادة
كاتب وناقد مغربي
الآنَ فقط أنتبهُ إلى أنني كنتُ أتحاشى استحضارَ لحظاتٍ غريبة عِـشتُها خلال عمري المديد. ربما عن غير قصدٍ، لأنني كنتُ دوْما غائصا في اهتمامات ومشاغل وأوهامٍ تجعلني ألهث ُوراء إنجاز ما كنتُ اعتبره مفيدا لي ولمَنْ حولي. لا أدري بالضبط لماذا كنتُ أعيش كأنني في سباقٍ مع خيولٍ أصيلة تُنافسني وتستحثني. وعندما وَلِعْتُ بالإنترنيتْ والرسائل الإلكترونية والتعليق على كلّ ما يروجُ منْ أخبار وآراء، نسيتُ تماما أنني جاوزتُ الكهولة وارْتدْتُ ما بعدها. أحبّ ألا يُقاطعني أحدٌ، مُذكّرا إيّايَ بأنني ذو طبيعة رزينةٍ تُميّز بين التافه والمفيد؛ فأنا أيضا مقتنع أن الإنسان خُلِقَ ملولًا وأنه في بحثٍ دائم عـمّا يُسليه ويُخرجه من قـُمْقم الواجبات إلى فسحة التسلية والترويح عن النفس. أذكرُ أنني كنتُ أحيانا ألجأ إلى ردود فعلٍ غير مُنتظرَة دون أن أدرك دوافعها. مثلا، في سبعينيات القرن الماضي كنتُ مُمددا على الفراش والليل في أوّله، أعيدُ قـراءة رسالة كتبها الرسامُ ماتيس إلى صديقٍ، يـشرح فيها أسرار النُّورانية المتلألئة التي أسَرَتْهُ عندما زار مدينة طنجة وانجذب إلى الضوء الممتلئ بذخيرةٍ من خلايا شمسٍ لها دفءٌ مُنعش… يكتب في رسالته إلى صديقه أنه عندما كان يحرك الفـرشاة ليرسم تلك الدّفقات الشعورية، كان يخيل إليه كأنما تلك النورانية سكنتْ مسامّه ولا تزال. بينما أنا مستغرق في القراءة، أحسستُ أن السّرير أخذ يتحرك يمينا وشمالا، وكأن سواعد عملاقة تُهدْهِدُه. أنظر إلى السقف فأرى المصباح يهتز، وصياحُ مَـنْ في الدار يعلو، ودرْبكة الأقدام على الدرج تتوالَى، وصياح من يشاركونني الشقة يـنبّهني إلى ضرورة المغادرة لأن الزلزال مستمرّ. صحتُ بأعلى صوتي: لنْ أتحرك من غرفتي، انزلوا أنتم وسأظلّ لأحرس البيت. تـوقّفت الهزّات، وأطللتُ من النافذة لأجدَ الفسحة المقابلة للعِمارة ممتلئة بالسكان، رجال ونساء يحملون أطفالهم وشيوخ وعجائز يفترشون الأرض فوق ملاءاتٍ متجاورة، ومن حين لآخر يخاطبني أحدهم صائحا بأن الزلزال سيعود بعد قليل كما هي عادتُه. أستمعُ وأحرّك رأسي مؤكدا أنني باقٍ في غرفتي.
عـدتُ إلى قراءة رسالة ماتــيــس إلى صـديقه وهو يحدّثه عن لوحته الكبيرة التي تحمل عنوان «المغاربة» والتي أخذتْ من وقته عدة سنوات. قال إنه كان يستحضر ما رسمه دولاكروا قَبْله، ويحرص على أن يلتقط تلك الغلالة اللامرئية التي تُسرْبِل سحنات الرجال وهم مُـمدّدون تحت الشمس، مُسـتسـلمين لتلك «التّعـسيلة» التي لا تُلقي بالا إلى عقارب الساعة ودبيب الـزمان. أقـرأ وأعيد، لكن البالَ أضحى مُنشغلا بِتوابع الزلزال التي حذروني منها. كيف يتغيّر المزاج والمشاعر والأفكار في ومْـضةٍ أقـلّ من لمح البصر؟ أخلع المنامة وأرتدي ملابسي في أنــاةٍ ثم أتـوجّه إلى الباب لألتحق بسكّان العمارة بعد أنْ أفْـسح لهم الـزلزالُ فرصة ليلتقوا فيما بينهم ويَـنْغمروا في ثرثرةٍ وتخمينات تستبضِعُ من كلّ مـا يخطـرُ على البال… أستمع إليهم وذهني سارح مُنفلِتٌ، لا أقدر على ضبطه؛ بـل إنه في انفلاته، نقَلَني إلى تلك اللقطة السينمائية التي عـشتُها مع فتاةٍ كنتُ تعرّفتُ عليها في مطلع شبابي عندما كنتُ أمضي فترة تدريب مع مُحامٍ في مدينة الدار البيضاء. كانت على حظ من الجمال، لكنها مفتونة بكلّ ما تُروّجُه مجلات الموضة الفرنسية من أزياء وأشكال حِلاقة وملابـس داخلية وأخبار الممثلين والممثلات وهم يستعرضون جمالهم الأنيق وابتساماتهم المُغرية.. وكانت كلما احتوانا المكتب لِوَحْدِنا، تنطلقُ في ثرثرة تتسابق كلماتُها، مُـتنقلة من موضوع لآخر، حريصة على مقارنة نفسها بأشْهر الممثلات. وما استحضرْتُه، وأنا بين هزّات الزلزال وانتظار توابعه، هو ذلك اليوم الذي طلبتْ مني أنْ أصارحها هَـلْ فخِذاها تُشبِهان فخِذيْ المُمثلة صوفيا لورينْ؟ سألتني ثم رفعتْ الجزء السفلي من جُـبّـتها كاشفة ًعـن فخذيْن سمراويْن، ناقلة ًبصرَها بيني وبين الفخذيْن العاريتيْن. قـلتُ وأنا أبحث عن كلماتٍ تُنقذني من الحرج: لكنْ، أنتِ تلاحظين أن فخِذيْكِ سمراوان بينما هُما بيضاوانِ عند صوفيا؛ إنما الشبَهُ موجود وكِلاهُما يُـشعلانِ نار الاشتهاء بين فخذيْ الرجال. ضحكتْ وهي تشكرني على رأيي الصريح، ما جعلني أضيف بأن الجمال واحد لا يتجزأ، وإن اختلفتْ الألوانُ التي يتوسّل بها.
أوفْ.. منذ عقود انصرمتْ من عمري وأنا أحاول أنْ أحصّن نفسي ضـدّ تلك المشاهد التي تخـتزنُها ذاكرتي وتفرض عليّ نفسها من دون أن تكون لديّ رغبة في الزّوَغان عن السياق المعقول الذي يفرضه مجرى الحياة الطبيعي. فـجـأة، أجدُني مُنفلتا ممّـا حولي، باحثا عن تفاصيل حادثة سَـبَـقَ أنْ عِشتُها، تتسلّل خلسة لتفصلني عمّا أنا بصدده. تتداخلُ الأزمنة والكلماتُ وسحناتُ الوجوه، فأجدُني أنفق جهدا كبيرا لأستعيد مجرى السياق… منذ أكثر من عشرين سنة، عشتُ مع صديق حميم مشهدا طريفا لا يخلو من غرابة وفكاهة، وقد أدمنتُ على تذكره في لحظات السأم لكيْ أضحك في شراهةٍ وتلذّذ. ذاك الصديق ماتَ منذ أمدٍ ليس بالقصير، لكن ذلك المشهد الطريف، المُسلـّي ظلّ يُصاحبني وأستعين به على تبديد الكآبة كُلما حاصرتني. إلا أنني عندما أحاول أن أحكيه عـبر اللـغة لا أستطيع، لأن تفاصيل معينة تتأبّى على الكلمات. لذلك ظللتُ سجين استحضار الحكاية الطريفة في مخيلتي، مُستسلما للضحك الذي يُحاصرني كلما تذكرتُ الصديق والمشهد الفكاهي…
مع الأيام، تفاقمت لـديّ عـادةُ استحضار أحداثٍ أوْ لحظاتٍ عشتُها في وقتٍ سابق وتأتي من غير استئذان لتفصلني عمّا أمارسُه في الحاضر. أكثر من ذلك، تسلّلتْ إلى ذهني ظاهـرة لا تخلو من غرابة، إذْ أصبحتُ أتخيّل مواقف مُحرِجَة تعيشها شخصياتٌ عمومية، مشهورة، وأبْعَـثُ أنا، نازلًا مِــن السماء أوْ مُنبَثِـقا مِنْ شقوق الأرض، لكيْ أحُلّ المشكلة وأخرِجَ الشخصية المرموقة من المأزق، وأفرض الحلول التي تروق لي وتجعلني بطلا في عيون مَنْ أتخيّل أنهم كانوا ينتظرون معجزة تنبثق من حيث لا يَدْرون. وعندما تفاقمتْ تلك البطولات التي أحققها عـبْـر التوهّم والانسياق لأحلام اليقظة، قصدتُ طبيبا نفسانيا استعرض أمامي حزمة من النظريات التي تربط سلوكي المنجذب إلى البطولات الوهمية بالانفصام وازدواج الشخصية والرغبة المكبوتة والقلق النفسي، إلى آخر المصطلحات المُتفرّعة عن خللٍ غامض في شخصيتي لم يتمكن الطبيب من تحديده، واقترح عليّ مواعيد أخرى ليتمكن من محاصرة الخلل؛ لكنني عـزفتُ عن هذا العلاج واسـتـمـررتُ في اللجوء إلى تلك التدخلات البطولية الوهمية، كلما أطبق الواقـعُ الصارم على ما يُحيط بي.
في الطريق التي أسلكها يوميا بِمنطقةٍ بعيدة عن قلب المدينة، لفَتَ نظري وجود حصانٍ في حديقة فيلَّا تُحاذي الشارع الذي أمرّ به. ووجدْتُني كلما وصلتُ إلى مستوى الحصان، مُـتوازيا معه، تلفّـظتُ تجاهه بتحية لا أغـيّر كلماتها: صباح الخير أيها الحصان. عندئذٍ يرفع رأسه نحوي وعيناهُ الوسيعتان تنظران باتجاهي، دون أن يبدو منه أيُّ تعبير. يظلّ يُحملق فيّ إلى أنْ أتحرك متابعا بحثي عن هواء نقي. واعـتدتُ أن أكرّر كلما مررتُ بالحصان نفس التحية بِـلغة عربية أحرصُ على أن تكون فصيحة في نطقها. لكن الحصان لا يحيد عن نظرته الجامدة والـمؤدّبة في آنٍ. هذا ما جعلني أتساءل عن كيف نربط صلة جـديدة بالحيوانات التي ما انـفكّ علماءُ الطبيعة والمدافعون عن صيانتها يُوصُونَنا بالانفتاح على عالمها الغنيّ بالأسرار والعلاقات الكفيلة بِاثراء عالمنا الحضري الذي بـاتَ يضيق من حولنا، يوما بعد يوم. وأمام فشلي في استنطاق الحصان، غدوتُ أقول مع نفسي: يبدو أن لغتي عاجزة عن النفاذ إلى دخيلة الحيوانات لأنها مثل أيّ لغةٍ أخرى، بعد التلفـظ بها تفقـدُ وجودها؛ فكأننا نُعدمها من الوجود، وعلينا أن نستمر في التلفّـظ لعلّ دفْق الكلمات ينفذ إلى مَنْ نُخاطبهم. وإذنْ اللغة لها وجود عابر، يتحقق كلما تلفظنا بـكلماتٍ، لكنها تظلّ سيْرورة منفتحة على المزيد من وسائط التعبير؟ عندئذ بدأت أقتنع أن الحصان عندما يُصـوّب عينيْه نحوي فإنه يـردّ على تحيتي، ولذلك عليّ أن أتعلم لغة الأحصنة.
لكنْ، على ذكر الأصدقاء والأحِبّة الذين رحلوا عن الدنيا وتركونا مُعلقين بأطيافهم وكلماتهم، استمعتُ أمس في الإذاعة، إلى حوار مع كاتبة من أصلٍ فـرنسيّ-جزائري، عاشت أسرتُها مِحنة التهجير بعد استقلال الجزائر في منتصف القرن الماضي. قالت إنها لم تقصد في روايتها أن تكتب تاريخ الجنود «الحَرْكِيين» الذين تطوعوا في الجيش الفرنسي الذي استعمر الجزائر، ثم وجدوا أنفسهم عند الاستقلال يعبرون البحر ليعودوا إلى بَلْداتٍ وأقاليم فرنسية ليستأنفوا فيها العيش مـنسـيّـين، مُهملين، وكأنهم يبدأون رحلة الحياة من الصفـر؛ لا يهمني التأريخ لهذا الجانب السياسي، قالتْ: ما قصدتُه في روايتي، هو أن أنقل صدى ما كانوا يُطالبون به عند ترحيلهم، أيْ تشبثهم بأن يأخذوا معهم إلى الوطـن/المنفى قِطعا من رُخام قبور أحبّائهم الذين دُفنوا هناك في الجزائر عندما كانوا يظنون أنهم مُخلّدُون في الجنة التي احتلوها فوق ضفاف المتوسط الجنوبية. أقصدُ، قالت إن رُخامَ تلك القبور سينوبُ عن تلك الوجوه لأحبابٍ ماتوا، لكنهم ظلوا يسكنون في ذاكرة الجنود المُرحّلين… وعندما طُلِب من المؤرخ الكهل أنْ يُعلق على رأي الروائية الشابّة، قال في احتراسٍ: ينطوي الــتاريخُ على فتراتٍ حاسمة تُحدثُ خلخلة شاملة وتجعل النظام السابق لها عاجزا عن الاستمرار؛ وإذا ما استمرّ فإنه سيغدو مُفتتّا، مُنهكا، مُضادّا لِمنطق الزمان… ردّتْ الكاتبة بأنها مُوافقة على ما قاله المؤرخ، لكن ما يهمّها بالذّات هو أن تُحيي نُتفًا مِنْ ذلك التاريخ الكامِن ما يزال في ثنايا وَأجداثِ بعض الجنود، ولوْ أن ذلك يبدو رهانا خاسرا. أستـمـعُ إلى الحوار الإذاعي وأقول مع نفسي إن لُغْزية التاريخ تستعصي على الفهم، ومع ذلك لا أحد يتحرر من أوهام القبض على فحوى الأحداث المنصرمة. أبتسـمُ وأنا استحضر صديقي المؤرخ الذي كلما شكوتُ له زئبقية التاريخ قال لي: الأمرُ بسيط؛ عليك أن تنفخ صدرك وتـحدّق بكلتا عيْنيك في التاريخ، مُتحدّيا إياه مُختصرا كلّ أحداثه في الحاضر. عليك أن تعيد كل ما يندرج في حولياته إلى الزمن الذي نعيشُه الآن. عندئذ ستَحُسّ أنك داخل مجرى الحياة ولستَ مُـجرد مُعـلّق على وقائعها. يقول لي ذلك وهو ينفخُ صدره واثقا ممّا يقول.
الأصعبُ، بالنسبة لي، هو لحظاتُ الارتداد إلى النفس، أقصد تلك المساحة الغامضة، المستقرّة بأعماقي والتي تفاجئني من حين لآخر بأسئلةٍ أو خواطر تخلطُ ما كان يبدو لي واضحا، وتقلب عاليها إلى أسفل. ففي هـذا الصباح، استيقظتُ مُنشرحا وشـرعتُ في تحضير الشاي الأسود المخلوط بنكهة الليمون الحامض، وأنا أدندن بصوتي الأجش مقطعا من أغنية «هَـلّ الـربيـع…»؛ وفجأة انبثق صوت من تلك المساحة الغامضة الـثاوية في دخيلتي ليهمس لي: لكنْ،يمكن أيضا أن تموت من دون أن تستمتع بغروب الشمس وراء الأفق الأرجواني، ويمكن أن تحاصركَ قـبل النوم، صُورُ الذين يلفظون أنْفاسَهم جرّاءَ وباء كورونا؛ أو صُورُ الذين قطّع أْوْصَالَهم زبانيـةُ الحرب في «بُوتْشا»، عندئذٍ سيضيق بك الفضاء وتتقلصُ الذكرياتُ الهنيّة، ويُحاصرك ذلك البؤسُ الذي يستعصي على التسمية والتحليل.. تظل ساعاتٍ مُسـتسلما لِهَوْجَة الصور القاتمة قبل أن تتذكر صديقك الراحل الذي كان يُعيدك إلى حومة الحركة والتحدّي حين يقول لك: الحياة لا تكون إلا مرّة واحدة لأنها بمثابة شرارةٍ تضيء لأمدٍ قصير بين ظلاميْن. لا بأس يا صديقي من أنْ تعانق تلك الكثافة التي تنطوي عليها الحياة ولو كانتْ سَرْمَدية. ليس مُهمّا الحِرصُ على راحة الجسد والنفس، فستكون لديْنا الأبدية ُلكيْ نستريح… ولم تَمْض سوى بضعة أسابيع ثم رَحَــل الصديق ليعانق الأبدية طلـبًا للرّاحة.
تعوّدتُ، حين أحتار وأفقدُ البوصلة أمام أسئلة شائكة تتقاذفني إلى مهاوي الشك والحيرة، أن ألجأ إلى قلمي الأحمر وإلى حزمة الأوراق البيـضاء، وأنغمر في رسوماتٍ لا رأس لها ولا ذنَب، قبل أن أكتب كلماتٍ تسعفني على وضع حدّ للغليان الداخلي، وتجعلني أستكين إلى تصور يُبدّد الشكوك. هذه المرة وجدتُني أكتب: يمكنُ أن نلخص الحياة في لحظتيْن: الأولى،أسميها مؤقتا اللحظة الـمُميّزة وهي التي تغمُرني عندما تتألق الطبيعة وتشملني هدأتُها وسط أشجار ومـياهٍ وشمس (إنْ لم أكن قريبا منها،أتخيّلها) فتسطعُ حينئذ الإضاءةُ الأبدية التي تفتح النفس تجاه كل الملذّات والشهوات النائمة، فيتخايلُ لي نَهْدان نافِران، يَعْلُوَانِ جسدا أنثويا يوقظ الغريزة في أوصال حجَرٍ يابس، ويُحرّك في عُـروقي نشوة توهِـمني أنني أنا مَنْ يُحدّد محتوى تلك اللحظة المُميزة، على رغم أنني أعلم أنها إلى زوال.
والثانية، هي «اللحظة المُنطفئة» التي تسود عندما يُخيل إليّ أن أمارات الشيخوخة وسيميائيتها تحاصرُني من كل جانب، فـأتوَهّـم أنني على أهبة الولوج إلى دروب التوحد والعزلة العدمية. أجدُني عندئذ أتساءل في أسىً: كيف سأتعايش مع التراب وديدان الأرض المتناسلة؟ ولكيْ أخفف من وطأة ذلك المصير، أردّد: ما دام الموت يعني فناءَ الجسد وتلاشي الحواسّ، فلن أشعر بضيقٍ أو ألم، خاصة أن الروح ستكون في مكان آخر.
لا أخفي أنني شعرتُ بنوع من الارتياح بـعد أن سجلتُ على الورقة البيضاء أن هناك لحظتيْن تتحكمان في حياتي وأن عـليّ أن أراعي ذلك التمييز لأستطيع أن أتابع في اطمئنان نسبي، ما تبقّى لديّ من زمنٍ في ضيافة الحياة التي لا أستطيع التخلص من جاذبيتها. لـكنْ، بعد أيام عاودتْني تلك الأحلام التي تبلبِـلُ الفكر و تزرع التساؤلات المقلقة في ثنايا رتابة العيش التي أسـتـسـلم لها. تكاثرت الأحلام وتـشعبّتْ مسالكُها وفضاءاتُها، فاستيقظت الـغيلانُ والأشباحُ والأسئلة الشائكة التي ظننتُ أنني دفنتُها في غَـيابَةِ الجُـبّ. ووجدتُني أردّد جملة قرأتها أو سمعتها في الحلم، تقول: ليس الشكّ هـو ما يُعذّب، بلْ اليقين. هـذا ما جعلني أمضي فترة مـن دون أن أدرك كيف يمكن لليقين أن يُصبح مُولّدا للعذاب. وذات مساء انقشع غبائي ووجدتُني أردّد: طبعا اليقين يُعذب لأن مَنْ يستظلّ به ينتابُه الشك في يقينه. يـا إلهـي، كَـمْ هي الأشياء البسيطة مُراوغة حين نسعى إليها. عادت إذن تلك الأحلام الملتبسة التي أعجز أن أعيدها إلى سياق معين، أو إلى غرائز كَبَتُّها أو مواقف عشتها …هي أحلام، في مجملها، غامضة ومتشعبة لا أتذكر سوى نُتفٍ متداخلة منها، تظل متلكئة في زوايا الذاكرة تثير غرابة مُـقلـقة. وذات صباح قصدتُ مقهى وسط المدينة، كنتُ ألتقي فيه بعض الأصدقاء، فالتقيتُ صحفيا طُلَعة، يتابع الأخبار والأسرار والشائعات، ولا يخلو الحديث معه من متعة وسلوى. سألني عن أحوالي فوجدتُني -على غير عادتي- أحدثه عن تلك الأحلام المختلطة التي تنِدّ عن فهمي وتُخلّف لـديّ -بعد اليقظة- تساؤلات تعكر المزاج. ضحك الصديق الصحفي وهو يقول: عـندي حلّ لمشكلتك . أنتَ ابن حـلال، فقد تعرفتُ منذ شهر على شـابّ جَـمَع بين علوم الـدّين والدنيا، وتخصّص في تفسير أحلام الناس، واكتسب شهرة جـعلته يخصص مـواعيد، في أحد المقاهي، ليُفـسر أحلام مَنْ يستعصي عليهم فــكّ رموز المنامات. يمكنني أن أتصل به الآن ليحدد لك موعدا. أنا أوصيك بـه، لأنني أجريتُ معه حوارا صحفيا ووجدت أنه متمكن من اختصاصه وثقافته لا تقتصر على كتب الـتـراث، بل هو مُلم أيضا بما كتبه سيجموند فرويد عن تفـسير الأحلام… وافقتُ على اقتراحه، فاتصل فورا بـمُفسّـر الأحلام الغامضة، وأخذ لي موعدا في اليوم التالي .
كنتُ أظن أنني سأقابل كهلا وقورا يفسر لي ما غمض عـليّ من أحلامي، لكنني فوجئتُ به شابّا في مُقتبل العمر، يرتدي جلبابا أبيض ويلفّ حول رأسه شالا أصفـر، ولحية شعرها خفيف تـحـفّ وجهَه والبسمة لا تكاد تفارق مُحيّاه. بعد محادثة قصيرة للتعارف والاستئناس، طـلب مني أن أقصّ عليه ما أتذكره من حلمي الأخير. بـدأتُ أحكي مشاهد من حلم غـريب تـردّد عليّ في المنام أكثر من مـرة:
«رأيتُ نفسي في الحلم محمولا على الأعناق، وجُموع بشرية من حولي تُردّد ما أتفوهُ به من شعارات. كنتُ أهتف بكلّ قواي أنّ علينا أن نكشف النقابَ عن الحقيقة ونُعلنها جهارا، لأنها هي وحدها القادرة على تبديد الشكوك التي تراكمتْ منذ قرون. كنتُ أصيح في مَنْ حولي: لا يمكن الاستمرار في العيش وسط حُلكة تتفاقمُ كل يوم. لا تُصدقوا أن وسائط الإعلام المتنوعة ستجعل العالم أكثر يُسرا على الفهْم. فالعالمُ أصبح هشا، مصنوعا من تناقضات يصعـب حلها والتخفيف من وطأتها. لا تخافوا من الشكّ في ما تُردّده الأبواق…». وفتحتُ عيني تحت إلحاح «كـلاكسون» يعوي عبْر نافذةِ غُرفة نومي التي كنتُ أظن أنها أبعد ما تكون عن الأصوات الشاردة. فتحتُ عيني فلمْ أجدْ جموعا تتقاذفُني فوق الأكتاف، ولا هُتافات تشقّ عنـان السماء. وجدتُ فقط دموعا تنسكب من عيني».
قـال الشاب مُفسر الأحلام، بعد لحظة صَمْتٍ وتقطيبٍ للحاجبيْن: لديْك أزمة إيمان. مَنْ فَقَدَ حقيقته تخلـّى عَنْهُ إيمانُه. تلفّظ بِجُمْلتِه في صوتٍ جَهْـمٍ لا يخلو من وقار، ثم وقف مُنْهِيًا الجلسة.