ما شغلني في فترة مبكرة، ولا يزال، البحث عن حكاية مفقودة في النصوص المنجزة وبكل أجناسها في جغرافيا استثنائية حيث ولدت ونشأت وترعرعت… وكلما تكثفت تجربة تواصلي مع الآخر/ الآخرين ومع نصوص متنوعة كتبت في سياقات مختلفة وحملت ذاكرة أخرى مختلفة، كلما تفتقت أسئلة أخرى خلاصتها، مع هايدغر، … ليس المحكي ولا في أي لغة، هو المقال.
كلما توغلت في تلك النصوص أحاطتني الأسئلة بفتنتها وإغوائها، وأجد أن لدي فيضا كثيرا من النور؛ ذلك الذي فاض وانداح عند بوذا، ووجدت أن الشعراء قد أفصحوا لي عن مروياتهم، ووجدتني أحلم بشكل أكثر غرابة من الآخرين. قلت النصوص المنجزة، وأختزلها هنا لطرائق الكتابة والتأليف في السودان، بعد زمن ليس بالقصير، من بعد التواصل مع العالم وسردياته بدعوى أن السرد ظاهرة كونية، يتوسل بها لتمثيل الذات والآخر في آفاق صراعاتها وعنفها الأبديين.
انتبهت في فترة مبكرة إلى ذلك اللغز الذي يسمى لغة أو لسانا أو قل مع بارت «إمبراطورية العلامات»، واشتغالات الخطاب المبهمة والملتبسة التي ترسم وتشكل صورة للذات والآخر والعالم، تشكل هويات وفقا لشروط الخطاب وآلياته التي لا يمكن تجنب الأيديولوجي وحمولات الأيديولوجي والسياسي فيها… وهكذا ما أزال تائها وأكثر غربة وشردني الوقوف عند اللسان أو اللغة بعينيها الاثنتين، كما زعم دريدا: إحداهما هوة سحيقة لا قرار لها والأخرى بركان محتقن يوشك على الانفجار، لذا ليس ثمة من تاريخ يصنع خارج اللغة.
سعدت بالملاحم الكلاسيكية وعتباتها المتواترة، «الإنسان بطبعه كائن سردي» وكان أن سكن تيهي، مؤقتا، عند مرافئ السرد والرواية التي اختزلتها فقط لذاكرة السرد في السودان، وأكثر انشغالي كان باشتغالات شفراتها لتشكل الإنسان الذي يسمع صوته من هوة سحيقة بلا قرار… أوليت عناية خاصة لأي كتابة موغلة ومتوغلة في تلك الجغرافيا في قلب متونها حكاية، تلك الجغرافيا التي أوحت للشاعر الروماني هليودوراس (حوالي 460 م) بعد أن أقصى سرديات إمبراطوريته من نصوصه، أن يكتب أجمل حكاية عن «فتاة من إحدى ممالك النيل المفقودة»، حيث كتب عن نساء امتلكن قدرة فائقة على الحكي و«رطانتهن» لبضعة ألسن تنوعت في نبراتها وتنغيماتها.
توقفت كثيرا عند أفق الكتابات الكولونيالية من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر التي حولت الجغرافيا وأهلها إلى أشباح عجزت عن صنع تاريخ لها وتشظت هويتها ونشأ خطاب لاسترقاق الذات ونشطت أسواق النخاسة؛ وكل ذلك صنع من كلمات هي لحمة وسدة ذلك الخطاب، تلك هي مطالع رق خطاب السرد واسترقاقه، ليس بالأبعاد التاريخية فحسب، بل في الكلام وفي الخطاب الكولونيالي الذي قذف بذات الإنسان خارج التاريخ.
لحظة الروائي أبوبكر خالد (1930 – 1976) حملت تلك الهموم وعملت على صياغتها سرديا، نصوص مفتوحة على فضاء سوسيولوجي بالغ التعقيد لم ينفك منه الساردون حتى اللحظة، منذ روايته الأولى «بداية الربيع» 1958 ومرورا بـ «النبع المر» 1965 وحتى آخر مجموعة قصصية، صارت الآن ذاكرة سردية يستدعيها معظم الناشطين في مشهد الكتابة السردية، خاصة مطالع تسعينيات القرن الماضي. في ذات السياق كتب خليل عبدالله الحاج روايته «إنهم بشر» 1960.
شكلت لحظة الطيب صالح (1929 – 2009) وعيا سرديا حقق كشوفات وفتوقات للكتابة السردية في السودان، وقد تشكلت بمنجزه هوية للقول السردي بل والنقدي كذلك، الذي أولى عناية خاصة في مقارباته لمشروعات الروائيين السودانيين، فقد خرج من جبة الطيب صالح العديد من المبدعين، بل وما لا يمكن تجنبه التناصات المحتملة فيما بين نصوصه ونصوص من كتبوا بعده أو حتى معاصريه.
إن كانت الكتابة الروائية تتشكل بثلاثة عناصر، حسب زعم الروائي المكسيكي فوينتس، لغة ومخيلة وذاكرة، فقد عمل الطيب صالح علي نحت اللغة التي كشفت ذات المكان وذات الإنسان فيه، ومخيلة نشطة استدعت التراث وقطعا ذاكرة المكان، كما هو نصه المحوري في هذا السياق «عرس الزين» 1963. وهكذا روايات إبراهيم اسحق وعيسى الحلو وعثمان الحوري وآخرين، حتى لحظة جائزة الطيب صالح ? التي ظلت لأربعة عشر عاما ترفد المشهد بمبدعين حملوا هم الكتابة عن جيوبوليتيكا استثنائية يسعى الناس فيها للخروج من عزلتهم ليحققوا انتماءً لتاريخها وذاكرتها المتخمة، حتى قعرها، بتعدد الألسن والغناء والأساطير والحكايات. تلك الجغرافيا تدعونا إلى أن نسعى لقراءة سياقية تأخذ في الاعتبار ذلك الاختلاف وذلك التعدد الذين شكلا هويتها وهوية الإنسان فيها، ألسن متعددة وفضاء اجتماعي يضج بثقافات وأعراق وإثنيات ظلت لقرون في تواصل حميم، هذه هي اللحظات التي أمسك بها والتقطها المشتغلون بالكتابة الروائية والتي طالما سعت لتسكينها في متونها السردية.
جنون اللغة، عته المخيلة هما اللذان ميزا منجز السرد في ذلك السياق الجيوبوليتيكي بالغ التعقيد، خرج منه صوت نسوي سردي مطالع خمسينيات القرن الماضي، سيدة خدمت آفاقا بيداغوجية بإخلاص ووفاء وآلت تجربتها الحياتية إلى الانتماء لجوقة المشتغلين بالكتابة القصصية، السيدة ملكة الدار محمد (1915-1969) كتبت كتابة متوغلة في الاجتماعي ورمت ببضعة مداميك باتجاه تحرير الكتابة بآليات أيديولوجيا ذكورية، وكان أن سمعنا، من خلال قصص قصيرة ورواية واحدة – الفراغ العريض- الصوت النسوي وما زال.. في مشهد الكتابة عموما والسردي منها على وجه الخصوص.
المشهد السردي، في تحليل ليس بنهائي، وفي مستوى من مستويات التفسير، ظهرت ملامح «حقيقته السردية»، بعبارة أمبرتو ايكو، وكشف عن وعي لغوي بالسرد ووعي سردي باللغة، وتعددت أسئلته بل وتعقدت وجدير بنا أن نحتفي بذلك لطالما أنه يثير أسئلة تاريخية ووجودية حتى لا يصير هذا الكون قفرا والوجود عبثا وسخرا.
أحمد صادق أحمد*