سالم الرحبي
«نظرتي الشاردة
تنسجُ فخًا من ماضيَّ البعيد».
كيف تبدو البلاد من خارجها عبر تلك النظرة الشاردة؟ والطفولةُ، كيف تبدو إذ تستعاد كتابةً في مدينة غريبة، في صباح متأخر من الحياة؟ كيف تبدو ظلال الأم والأب، وجوه الأصدقاء الموتى، والصور العائلية على جدارِ ذاكرة متنقلة؟ وكيف يبدو موت الشاعر في مدينة باردةٍ بعيدةٍ عن مسقط الرأس؟ لا بدَّ من منفى للجواب على ما سبق… تجربة زاهر الغافري، في الكتابة والحياة معًا، مناسَبة كاشفة لاستدراج هذه التسؤلات، فالإزاحة المكانية (الحركة) عن الموقع الأصلي كانت دومًا الآلية الأساس لتوليد المعنى واكتشاف السؤال قبل الإجابة في تجربة شاعر نقدمه في هذا الملف بوصفه واحدًا من أبرز ناثري القصيدة المعاصرة في عُمان، أحد الناجين من شراسة الإيقاع وسطوته المهيمنة على الذائقة الكلاسيكية.
غير أن الناقد التونسي محمد زرّوق يرى رأيًا آخر عند تناول سمة المنفى وخصيصته في شعر الغافري، إنه يقف ضد هذا المنحى؛ إذ «ليس المنفى هو العبارة الملائمة لارتحال الشاعر، وإنّما هو اغترابُ المكان والوجود» كما يقول زرّوق في مقالته «زاهر الغافري.. ضيف العالم». ولعل ما يميز هذه التجربة المكتوبة فصولها على سفر في أكثر من مدينة، أنها غير مسكونة بحنين مرضيّ إلى وطنٍ أول أو فردوس مفقود. هذا التحرر من عبء المكان الأول مفهوم، فالشاعر لم يجد نفسه في منفى قسري يُحرّم عليه أرض الخطوات الأولى، وإنما كان يجرب السفر والتنقل خيارًا وأسلوبًا وفلسفة حياة.
يُلمَح هذا الاغتراب عن المكان والوجود من انتشار معجم الطريق والسفر والتنقل في مساحات واسعة من قصيدة الغافري. هذا ما يلفتنا إليه الباحث العماني أحمد الحوسني، مسترشدًا بسطر لبورخيس يقول فيه إن «الشعر يترصد عند المنعطف». في مقالته «بين الشاعر والطريق.. شعرية العناوين وبلاغة الصمت لدى الغافري»؛ يستقرئ الحوسني شعرية الطرق والمنعطفات في ديوان «الصمت يأتي للاعتراف». إننا أمام اعتراف قادم يوشك «الصمت المعبأ بالكلمات» أن يدلي به. فالصمت ليس عطبًا في اللغة؛ وإنما هو بلاغة جديدة تنطق بها الأشياء في سكتات القصيدة.
أما الشاعر والناقد المغربي صالح البريني فيذهب ناحية اليوميّ في ديوان «في كلّّ أرضٍ بِئرٌ تَحلمُ بالْحَديقَة». والانتباه لليوميَّ بقدر ما يبدو عادةً شعرية سهلة إلا أنها تتطلب حواسَّ يقظة ومدربة بوعي وصبر، فليس ثمة تفصيل مبتذل في نظر الشاعر، كل رفة جفن في المرئي من حوله تترك أثرها في طريقة استقباله للعالم.
أما الشاعر أيوب مليجي، فقد قدم شهادة صديق في حق زاهر الغافري، شهادةً يأخذنا كاتبها إلى المغرب حيث أسَّس الشاعر الراحل منتبذًا أليفًا للحب والصداقة، في حين كانت الأمنية الأخيرة لأثمار عباس، أرملة الشاعر في حوارها مع الخطّاب المزروعي عن زاهر الغافري «أنْ تقدَّر ذكراه، ففي بلدان العالم يخلّد الشعراء والكتّاب، وتسمى شوارع أو قاعات بأسمائهم، أتمنى أن يحدث هذا في عُمان. في النهاية يرحل الشاعر، ولم يعد يُذكر عنه سوى أشعاره وكتاباته التي ستبقى خالدة». آمل أن تتحقق أمنيتها يومًا ما، كما آمل أن يكون هذا الملف نافذة على أجيالٍ جديدة من القراء الموعودين بقصيدة الغافري، فالقراء الحقيقيون وحدهم القادرون على مواصلة نص الشاعر بعد رحيله.
إننا لا نودع زاهر الغافري هنا، بل نستقبله بتحية مرفوعة شاعرًا عائدًا إلى عناصر تكوينه الأول.. إلى أرض لغته.