سلطان البـازعـي
كاتب سعودي
روى أبو مشعل أكثر من مرة بأن الشرارة التي أوقدت لديه شغف القراءة والمعرفة، كانت كلمة ألقاها عليه أخونا الأكبر محمد -رحمه الله-، إذ مر به وهو يجمع ألعابًا صنعها بنفسه ويرتبها في صندوق خشبي لعله كان من صناديق الفاكهة التي خلفتها وليمة في منزلنا، قال له: «أنت لم تعد طفلًا لتجمع هذه الألعاب، يجب أن تبدأ بتجميع الكتب والمجلات وتكون مكتبة». لا أعي هذه الحادثة تماما، وربما لم أحضرها، لكننا كنا جميعا نتطلع إلى محمد بصفته نموذجًا للشاب المتعلم في وقت عز فيه المتعلمون، وموظفًا حين كان موظف الحكومة في أعلى مراتب السلم الاجتماعي، وحداثيًا في مجتمع تقليدي غالبًا.
كنت أشعر أننا، سعد وأنا، توأم وإن كان سبقني في القدوم إلى الدنيا إذ يفصل بيننا ثلاثة أعوام وشقيقتنا قبلة (رحمها الله)، كنا مرتبطين بصفة عجيبة في الاهتمامات والرؤى في كثير من الأحيان، حتى أنني تعودت أن يخلط الناس بيننا في كثير من المحافل التي يحضرها أحدنا، وكدت أستمرئ أن يمنحني بعضهم لقب الدكتور بتأثير من سمعته، رغم أنه من أكثر الناس زهدًا في استخدام هذا اللقب فيما يكتب من مقالات أو يؤلف من كتب. حتى أن رئيس تحرير صحيفة الرياض الراحل الأستاذ تركي السديري مازحه مرة قائلًا له: إن تواضعك لا ينفعنا فالصحيفة تبيع باللقب الذي تحمله. وعيت بسرعة التغير الذي طرأ على محتويات صندوق «الفاكهة»، ولاحظت وجود «ألعاب» جديدة عبارة عن أوراق بها صور ملونة، وسرعان ما انجرفت في اللعبة بمجرد ما أنهيت قراءة كتاب الهجاء، وهو الكتاب الأول والأهم الذي أعطاني مفاتيح الدخول إلى عالم القراءة الساحر، وكنت أستمتع بمرافقة شقيقي الدكتور سعد في رحلاتنا الأسبوعية من بيتنا في شارع الريل إلى مكتبة المهدلي بالبطحاء لنشتري المجلات المصورة ونحجز نسخنا منها للأسبوع القادم، كما اقتنينا الأعداد الأولى من مجلة «العربي» الكويتية وملحقها الأثير «العربي الصغير».
وبسرعة انتقلت بتأثير من أبي مشعل من القصص المصورة وقصص «المكتبة الخضراء» إلى كتب المنفلوطي والكيلاني ثم نجيب محفوظ، ولم أنْهِ المرحلة الابتدائية إلا وكنت قرأت معه روايات مكسيم غوركي ودوستوفيسكي وفيكتور هوغو وغيرهم. وحين انتقل للدراسة في المدرسة المتوسطة القريبة من مدرستنا، فاجأنا يومًا بأن أحضر كتابًا ضخمًا فيه الكثير من الصور والقصص المشوقة، كان كتابًا لرحالة سوري أذكر أن اسمه عدنان تلو، طاف العالم على دراجة نارية، وزار مدرستهم ضمن جولة له على المدارس، وأعتقد أن هذا الكتاب هو أول كتاب حقيقي أقرأه بشغف. في أيامي الأولى في المدرسة عرفت معنى أن يكون لك شقيق أكبر، فقد دخلت مبنى المدرسة لأول مرة، وفوجئت بأنه لم يكن ليختلف كثيرًا في عمارته عن بيتنا، نفس الساحة الداخلية والغرف المتعددة المحيطة بها، والفرق هو هذا العدد الكبير من الصبيان يجتمعون في مكان واحد، ورجل يحمل خيزرانة يطوف بها بينهم ناشرًا الخوف والنظام، وغرفة غامضة مهيبة عرفت فيما بعد أنها غرفة المدير. لم يطمئنني اصطحاب والدي -رحمه الله- لي في اليوم الأول، بقدر ما طمأنتني معرفتي أن سعد معي في الصفوف العليا، أي أنه مع «الكبار» وهذا وفر لي حماية من تنمر الصبية، كما وفر لي إرشادًا تجاوزت معه صعوبات الأسابيع الأولى.
رعاية الأخ الأكبر استمرت معي لسنوات طويلة وأظنها حمتني من كثير من حماقات المراهقة والشباب، ولا يمكن أن تمحى من ذاكرتي نظرات خوفه عليّ وهو يمد يده لي لينتشلني من هاوية كدت أسقط بها حين زلت قدمي ونحن نرتقي جبلًا من الجبال المحيطة بالرياض في نزهة مع عدد من الأصدقاء، هي ثوان طال أمدها، لكنها كانت كافية لمنحي القوة لمقاومة السقوط حتى لا يحزن. راقبت بإعجاب انتقاله من طالب يعاني صعوبات في تعلم اللغة الإنجليزية في المرحلتين المتوسطة والثانوية إلى طالب يتخصص في الأدب الإنجليزي بكلية الآداب، ثم يصبح معيدًا ومبتعثًا لدراسة الماجستير والدكتوراه، وأعجبني عدم ارتياحه لكتابة بحث الدكتوراه في الأدب الإنجليزي دون أن يربطه بالثقافة العربية، كما أفخر حين أسمعه يتحدث أو يحاضر دون أن يستخدم مصطلحًا واحدًا بلغة أجنبية رغم تمكنه.
يعرف الكثيرون عن سعد البازعي أنه لا يجامل في الفن والإبداع، وأعرف عنه أنه لم يجامل نفسه فلم يقدم نفسه شاعرًا رغم أنه كتب الشعر، ويعرف الكثيرون عنه أنه على معرفة وثيقة بشعراء العرب والغرب، وأعرف عنه أن له القدر نفسه من المعرفة بشعراء النبط، ويتمثل كثيرًا بقصائد العوني وابن سبيل والهزاني ومحمد السديري ويحفظ الكثير من هذا الشعر، بل إنه يتغنى به في جلسات السامري الذي يجمعنا عشقه مع أصدقائنا المشتركين. يحرص أبو مشعل على أن يقرأ ما أكتب أحيانًا من مقالات صحفية، فإن أطرى على هذه الكتابة عرفت أنني أجدت بالفعل، أما إن سكت فإنني أبدأ بالبحث عن مواطن الضعف، وهو لا يكف عن تحريضي على مواصلة الكتابة، وقد غمرني بفيض من السعادة والزهو حينما وضع اسمي في صفحة الإهداء لكتاب «مصائر الرواية»، أحد إصداراته الأخيرة.
لا أكتمكم أنني أشعر بالغرابة أن أكتب هذه الشهادة عن شقيقي في هذا الملف الذي تنشره مجلة « » الغراء، فهي شبيهة بالكتابة عن الذات وبما تحمله من محاذير «شهادة المحب»، وكدت أعمد للتكاسل والتشاغل حتى يفوت موعد النشر، إلا أن المتابعة الحثيثة من الصديقة الشاعرة هدى الدغفق تغلبت على هذه المشاعر، وأظن أن هذه الكتابة تعطيني فرصة لأن أقول ما لم تتح لي الفرصة لقوله من قبل. فأنا مدين لمرحلة «صندوق الفاكهة» لما أنا عليه الآن من معرفة ووعي، وإن كنت بقيت قريبًا من السطح ولم أنزل إلى الأعماق التي وصل إليها شقيقي ورفيق طفولتي، كما أنني أشعر بالفخر أن سعد البازعي الأكاديمي البارز الذي تخرجت على يديه أجيال من المثقفين، والذي أصبح ـ بما يكتب ويؤلف ـ مؤثرًا في الثقافة العربية، هذا الرجل أفخر أنه كان معلمي الأول، وأنني كنت أول تلاميذه.