لا أجازف بالقول، على الإطلاق، إن كمال الصليبي لم يكن مجرد مؤرخ مهم، بل هو مفكر ذو قامة علمية باسقة. هناك فكر يتنزه، وهناك فكر يغيِّر، وكمال الصليبي غيِّر أفكارنا جذرياً، إذ جعلنا، منذ صدور كتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب» في سنة 1985، نفكر بطريقة مختلفة، أي أننا أصبحنا، بعد قراءة هذا الكتاب التأسيسي، غير ما كنا عليه قبل قراءته. وهذا ما تفعله، من غير شك، الأفكار الكبرى.
أراد كمال الصليبي تصحيح ما هو مستقر في الأذهان كاستقرار أهرامات مصر فوق هضبة الجيزة، فصحّح تاريخ لبنان المملوء بالخرافات والأضاليل، وصحّح تاريخ بني إسرائيل واليهودية، و«شقلب» أفكارنا المستقرة على ما ورثته من يقينيات منذ مئات السنين. وكان دائماً يريد أن يصحح ما علق به هو شخصياً من تأويلات سياسية بعيدة عنه تماماً، فشدد على تأكيد انتمائه إلى العرب، وكان يصرّ على عدم القول هذا لبناني وهذا سوري وهذا فلسطيني وهذا عراقي، بل كان يقول: «هذه بلادنا».
أراد كثيرون أن ينتقدوا نظريته في نشأة الديانة اليهودية وجغرافيتها، فقالوا إنه اعتمد المقابلة اللغوية وحدها لبرهان نظريته. والصحيح أنه، وإن أعطى المقابلة اللغوية بين الأسماء الواردة في التوراة وأسماء الأماكن في جنوب غرب الجزيرة العربية حيزاً كبيراً في نظريته، إلا انه استخدم ذلك في سياق تاريخي، وفي ميدان جغرافي في الوقت نفسه. وعلى سبيل المثال، لو أخذنا قصة دخول يشوع بن نون إلى الأرض المقدسة الواردة في التوراة، نجد أن النبي موسى قاد يشوع إلى جبل نبو وقال له: دونك هذه الأرض، وقدم وصفاً بصرياً لها تظهر من خلاله مدينة أريحا. والحقيقة أن مَن يقف اليوم على جبل نبو في الأردن وينظر صوب أريحا في الأرض الفلسطينية يرى مشهداً مدهشاً وساحراً هو البحر الميت. وهذا المشهد الساحر خلت منه رواية التوراة. لكن لو وقفنا على جبل نبوه في بلاد عسير، ونظرنا إلى بلدة «يرحو» (يرحو = أريحا) لما شهدنا أي منظر مدهش. إذاً، فإن رواية التوراة في شأن دخول يشوع بن نون إلى أريحا تلائم جغرافية بلاد السراة من عسير وتكاد تتطابق معها، بينما تتنافر مع جغرافية فلسطين بوضوح.
التاريخ التوراتي المقلوب
ليست التوراة تاريخاً تحول إلى أسطورة متخيلة، بل هو خيال تحول إلى تاريخ. وأراد الصهيونيون تحويل علم الآثار من علم إنساني ينشد اكتشاف الحقائق العلمية، إلى علم سياسي غرضه البرهان على صحة مرويات التوراة، مع أن معظم الدارسين اليوم باتوا مقتنعين بأن معظم ما ورد في التوراة يرجع إلى أصل قديم جرى اكتشافه في المدونات السومرية والأكادية والبابلية والأشورية والمصرية والأوغاريتية، فسفر التكوين التوراتي، ولا سيما في قصة الطوفان، يتشابه إلى حد الدهشة مع ملحمة غلغامش. وقصة قايين وهابيل التي ترمز إلى الصراع بين الفلاح والراعي هي نفسها قصة غلغامش وانكيدو، وهي تطابق حكاية يعقوب وعيسو، مثلما تطابق قصص قحطان وعدنان، وبني هلال الرعاة والزناتي خليفة المزارع، وداود حامل المقلاع وغوليات حامل الرمح. وسفر الشريعة في التوراة مسروق من قوانين حمورابي، ومزامير داود مستلة من نشيد الموتى المصري ومن المدونات الإوغاريتية المكتشفة حديثاً.
مهما يكن الأمر، فإن علم الآثار الإسرائيلي فشل في إثبات وجود الإسرائيليين في مصر، وفي تحديد مكان جبل حوريب الذي نزلت فيه الوصايا العشر، والمحطات التي توقفت فيها أسباط بني إسرائيل في أثناء رحلة التيه في برية سيناء. وجميع الحفريات في الضفة الغربية بما فيها تنقيبات كاتلين كينيون في القدس بين 1961 و1976 لم تتمكن من اكتشاف أي آثار معمارية يمكن أن تُنسب إلى داود أو إلى سليمان. حتى أن زئيف هيرتسوغ، الأستاذ المحاضر في جامعة تلك أبيب، قال في سنة 1999 إن علم الآثار الإسرائيلي الذي يهدف إلى إثبات الرواية التوراتية بالمعطيات الأثرية وصل إلى طريق مسدود. أما يسرائيل فنكلشتاين، وهو أستاذ علم الآثار في جامعة تل أبيب، فيقول إننا لم نعثر على أي شواهد من مملكة يهوذا بعد 150 سنة من الحفريات في القدس، وان قصة يشوع بن نون تنتمي إلى عالم الأساطير، ففي الزمن المفترض لاحتلال أريحا لم تكن في فلسطين مدن محصنة، ولم تكن هناك مدن ذات أسوار.
قصارى القول، إن فشل علم الآثار الإسرائيلي في البرهان على صحة الرواية التوراتية، يقوي، بطريقة غير مباشرة، نظرية كمال الصليبي في أن منشأ التوراة كان في عسير وجنوب الحجاز.
التاريخ يمشي على رأسه
في سنة 1838 جاء إلى فلسطين المبشر والجغرافي الإنجليزي إدوار روبنسون، وبدأ رحلته ماشياً من مدينة بير السبع في جنوب فلسطين نحو شمال فلسطين، وكان يسير وفي يده «العهد القديم». ولما لم يتمكن من مطابقة جغرافية التوراة على الأرض الفلسطينية، راح يطابق الأسماء التوراتية على أسماء البلدات والقرى، فجعل نابلس هي «شكيم» التوراتية، والخليل هي «حبرون»، وقرية أم القيس صارت «لاخيش»، وقرية الجيب باتت «جبعون»، وقلعة هيرود في القدس تحول اسمها إلى «قلعة داود»، و«عقرون» الواردة في سفر يشوع صارت عاقر، و«أيلون» باتت يالو، و«صرفت» التوراتية أصبحت الصرفند… وهكذا.
لم يحاول أحد من المؤرخين العرب أو من علماء الآثار العرب، نقض هذا الركام التوراتي، إلى أن بدأت تظهر في العراق، خاصة منذ سنة 1920 فصاعداً، المدونات السومرية والبابلية، ثم المدونات الأوغاريتية والآرامية في سوريا (رأس شمرا ثم مملكة ماري)، ليتبين أن معظم أسفار التوراة هي نصوص منحولة من النصوص العراقية والسورية القديمة. ومع ذلك لم يقدم أي مؤرخ أو عالم على بناء نظرية مغايرة للنظرية التقليدية في شأن التوراة، إلى أن جاء كمال الصليبي وقدم نظرية متماسكة في هذا الحقل من المعرفة.
منهج النظرية والبدايات
في عام 1977 نشر العلامة الشيخ حمد الجاسر «المعجم الجغرافي للمملكة العربية السعودية» (اشترك في التأليف عدد من المؤلفين منهم حمد العقيلي وعبد الله بن خميس وعلي بن صالح الزهراني). وعندما اطلع عليه كمال الصليبي اكتشف أن معظم الأسماء التوراتية موجودة في منطقة يبلغ طولها نحو 600 كلم وعرضها نحو 200 كلم تدعى عسير أو بلاد السراة بين الطائف ومشارف اليمن. واستناداً إلى ذلك شرع في دراسة التوراة مجدداً، فأهمل الحروف الصوتية الموجودة حالياً في التوراة، واجتهد في فهم المقصود من النصوص كما وردت بالأحرف الساكنة، وأدى ذلك إلى فهم جديد لمقاطع «العهد القديم»، وقارن ذلك بأسماء الأماكن التاريخية والحالية القائمة في بلاد عسير التي وردت لدى الجغرافيين العرب القدامى أمثال الحسن الهمداني في كتابه «صفة جزيرة العرب»، وياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان»، وعاتق بن غيث البلادي في كتابيه «معجم معالم الحجاز» و«معجم قبائل الحجاز»، وحمد الجاسر في كتابه «معجم قبائل المملكة العربية السعودية»، واستنتج أن بلاد السراة وجنوب الحجاز هي ميدان تاريخ بني إسرائيل، وهناك أنشأ داود وسليمان «مملكتهما»، وهناك ينبغي البحث عن أصول اليهودية، والمسيحية استطراداً، أي ان أحداث العهد القديم لم تقع في فلسطين، بل في جنوب غرب الجزيرة العربية، وقدم في هذا الإطار شواهد كثيرة شبه حاسمة. وعلى سبيل المثال ذكر أن «مصر» الواردة في التوراة ليست مصر الإفريقية بل هي قرية المصرمة في عسير، و«تهدم» هي الآن تهامة، و«أرض يهوذا»، هي وهادة، و«شمرون» هي شمران، و«حورب» هي حارب الحالية. أما «الفرات» فهو وادي أضم إلى الجنوب الغربي من الطائف. وفي هذا الوادي ثلاث قرى: اثنتان تدعيان فرات، وواحدة تدعى فرت. وكذلك «يردن» «التوراتية فهي تدعى ريدان، و«جبل نبو» هو الآن مرتفع قرب قرية نباة، تقابله قرية وراخ التي هي «يرحو» التوراتية المترجمة إلى أريحا… وهكذا.
أطلقت نظرية كمال الصليبي هذه، والتي صاغها في كتاب رئيس هو «التوراة جاءت من جزيرة العرب» وفي كتابين مساندين هما: «خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل»، و«حروب داود»، موجة من السجال العلمي، وكانت محصلة ذلك كله أن هذه النظرية صمدت، بقوة،أمام نزعة التحطيم والنبذ التي مال إليها كثير من البحاثة والمؤرخين، وكرست نفسها علامة وضاءة في ليل الفكر العربي، وبات كمال الصليبي واحداً من الأعلام النادرين للفكر العربي التاريخي الحديث.
الموقع الفكري لكمال الصليبي
في النصف الثاني من القرن العشرين قُيض لخمسة من أعلام الثقافة العربية المعاصرة في بلاد الشام أن يهزوا بقوة الفكر العربي الراكد، وأن يضربوا بالسوط العقلية الخرافية الغافية حتى الغفلة، وأن يخلخلوا هدأة الحياة العربية الذاهلة عن واقعها، والمجذوبة إلى تقاليدها المشائخية والكهنوتية برباط محكم، وأن يثيروا سجالات ونقاشات وحوارات ما زال صداها يتردد في الأذهان حتى اليوم، وهؤلاء أربعة سوريين ولبناني. أما السوريون فهم: قسطنطين زريق ونزار قباني وأدونيس وصادق جلال العظم، وهؤلاء عاشوا سحابة من الزمن في لبنان، أما اللبناني فهو كمال الصليبي.
بين هؤلاء جميعاً يبدو كمال الصليبي أخطرهم بالفعل. فهو الذي قوض، بجدارة، المسلمات الموروثة منذ ألفي عام على الأقل، ومس المحرمات المقدسة في شأن العهد القديم والعهد الجديد معاً، وتمكن، بثقة العالم، ولا سيما في كتابه «التوراة جاءت من جزيرة العرب»، من أن يفتل رؤوسنا ويدير أدمغتنا ويبلبل معارفنا المستقرة.
صاغ كمال الصليبي نظرية لم يتجرأ أحد، حتى الآن، على الرد عليها بالحجة الدامغة والرأي العلمي والدليل المقنع. لذلك استحق أن تقوم عليه قيامة العالم القديم كله، بكهنته وشياطينه، وأن تطاوله الأشداق بألسنتها، والآراء السلفية بسهامها ونبالها المسمومة معاً.
«العنحلي» المهاجر
عائلة الصليبي أصلها من قرية عين حليا الواقعة بالقرب من بلدة سرغايا في سورية اليوم. وهذه القرية غريبة عجيبة، وقلما يوجد لها مثيل في تاريخ لبنان غير بلدة إزرع في حوران. فمن إزرع وجوارها جاءت معظم عائلات مرجعيون وزحلة والأشرفية في بيروت أمثال عائلات أبو خاطر وعطية وطراد وعازار وعقل (ومنهم سعيد عقل) وحبيش وحردان وجبارة وإدة وبخعازي وزيدان (ومنهم جرجي زيدان) وواكيم وصفير (ومنهم البطريرك صفير) ونعيمة (ومنهم ميخائيل نعيمة) ونوفل وهزيم والمعلوف (ومنهم المؤرخ عيسى اسكندر المعلوف) ومفرج وغرة وغلمية ورياشي وحريق وغيرها الكثير جداً. ومن عين حليا، التي تنازع أهلها وتقاتلوا ثم رحلوا عنها، جاءت إلى لبنان عائلات كيروز والحلو وصالحاني وأبو ملهب والشدياق ومخلوف والضاهر وأبو حمد وأبو فاضل وأبو معشر وغيرها بالطبع. ومن أعلام «العناحلة» في لبنان فرج الله الحلو والبطريرك يوحنا الحلو والقديس شربل مخلوف والبطريرك الياس الحويك وأحمد فارس الشدياق والرئيس شارل حلو والشاعر شوقي أبي شقرا. وكمال الصليبي واحد من الأحفاد الذين سكن أجدادهم بحمدون بالأمس، وتنقلوا بين الخليل والسلط ودمشق. وآل الصليبي في بحمدون روم أرثوذكس تحولوا إلى البروتستانتية بتأثير من التبشير الإنجليزي والأمريكي. والتحول من دين إلى دين، أو من مذهب إلى مذهب ، كان شائعاً جداً في جبل لبنان. فالأمراء من آل شهاب السنة القادمون من مدينة شهبا في السويداء بسورية تحول معظمهم إلى المارونية بعد انقلاب موازين القوى لمصلحة فرنسا، وبعد انحسار عظمة السلطنة العثمانية. وآل أبي اللمع الدروز القادمون من الجبل الأعلى في حلب صاروا موارنة ربما للسبب نفسه. غير أن الفارق بين الأرثوذكس والبروتستانت في مخيلة كمال الصليبي، مجرد فارق بصري، لأن كنيسة البروتستانت خالية جدرانها تماماً من أي شيء يزينها بما في ذلك الصليب الذي يعتبر تمثالاً منحوتاً، بينما الوصية الثانية من الوصايا العشر تقول بوضوح: «لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما». أما كنيسة الأرثوذكس ففيها أيقونات وثريات فخمة. وفي أحد الشعانين، وهو ذكرى دخول المسيح إلى أورشليم، يمشي الأولاد في زياح (مسيرة) داخل الكنيسة وهم يحملون الشموع الطويلة الملونة والمزينة بالشرائط وأزهار الربيع. وفي أحد الفصح يتجمع الناس أما الكنيسة في الليل ومعهم الكاهن للقيام بما يسمى «الهجمة»، وتكون أبواب الكنيسة مقفلة. ويطلب الكاهن أن تفتح الأبواب، ويكرر طلبة ثلاث مرات قائلاً: «ارتفعي أيها الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد». ثم تفتح الأبواب فجأة»، ويدخل الكاهن إلى الكنيسة هاتفاً: «المسيح قام من بين الأموات»، ثم تبدأ المفاقسة بين الأولاد بالبيض المسلوق الملون. ان هذا الاحتفال يكشف عن مدى ارتباط الكنيسة الأرثوذكسية بحضارة هذه البلاد، وعمق جذورها في التاريخ القديم لبلاد الشام. فتقاليد الفصح هي استعادة لعبادات الخصب المقدسة وديانة الأسرار الجميلة، وهي ترمز إلى عقيدة الموت والانبعاث والتجدد. وعيد الفصح هو العيد الكبير لدى الأرثوذكس والموارنة، ولم يكن الروم يعيرون عيد الميلاد الكثير من الاهتمام، حتى كادوا يهملونه. وعندما تمكن البروتستانت من ترسيخ حضورهم في هذه البلاد اهتموا باحتفالات الميلاد، وصار «سانتا كلوز» أشهر من مار جرجس.
يروي كمال الصليبي في مذكراته الموسومة بعنوان «طائر على سنديانة» قصة جده خليل الصليبي مع الثري موسى فريج فيقول إن جده كان يعمل مشرفاً في مشروع زراعي لموسى فريج. وقبيل وفاة المعلم خليل بداء التيفوس كان أوصى ابنه سليمان ( والد المؤلف) بأن يذهب إلى موسى فريج ويسلمه مبلغاً من المال بقي له في ذمته. وعندما قصد سليمان الصليبي قصر موسى فريج ليخبره بوفاة أبيه ويعيد إليه الأمانة، توقع أن يصعق البيك، وأن يرفض استلام المبلغ تعويضاً للعائلة عن موت عائلها. ولما وصل سليمان الصليبي إلى قصر موسى فريج، تركه الخدم عند المدخل، ولم يدله أخد على قاعة الاستقبال، ثم جاءه خادم بفنجان قهوة فيه ذبابة. وأخيراً عندما حضر موسى فريج وعلم الأمر لم يصعق لخبر وفاة المعلم خليل، ولم تبد عليه الحسرة، لكن فوجئ بالأمانة ترد إليه مع أنه لم يكن يعلم بوجود ماله له في ذمة المعلم خليل. ومع ذلك أخذ المال بلا تردد.
أما يوسف إيبش، صديق كمال الصليبي منذ مدرسة برمانا العالية، وصاحب النكات التي لا تنتهي عن أهله الدمشقيين، فيروي ان والده استضاف أحد وجهاء دمشق في مزرعته ليريه النعامة التي جلبها من رحلات السفاري في إفريقيا. ووقف الضيف يتأمل النعامة مبدياً إعجابه بها، فردت النعامة على إعجابه باقتلاع احدى عينيه بنقرة واحدة.
كمال الصليبي المؤرخ اللبناني المتحدر من عائلة ذات أصول سورية، والذي عاش أجداده الأقربون في فلسطين والأردن، وتنقل والده بين مصر والسودان، وتتلمذ على نبيه أمين فارس الفلسطيني، وقسطنطين زريق السوري، وزين نور الدين زين الفلسطيني ذي الأصول الإيرانية، كان أصدقاؤه الأكثر قرباً إلى نفسه عرباً من العراق والشام وفلسطين والبحرين أمثال يوسف إيبش (الدمشقي) ورامز شحادة (الحوراني الأصل) وأسامة الخالدي (المقدسي) ويوسف الشيراوي (البحريني). ويروي أنه في أربعينيات القرن العشرين، ما كان ليكتشف أي فوارق بين السوريين واللبنانيين في ذلك الزمن. فهو يقول: «لا أذكر أننا كنا في أي وقت سابق نفرق بين لبنانيين وسوريين. فقد ذهبت في احدى المرات إلى دمشق في رفقة أهلي لزيارة أقرباء لنا هناك، فلم نقطع شيئاً في طريقنا يمكن تسميته بالحدود، ولا نحن مررنا بجمارك. جل ما حصل أن ضابطاً على الطريق أوقف سيارتنا للحظة، وسأل السائق: «الاخوان من لبنان؟» وعندما سمع الجواب ابتسم لنا وقال: «أهلين وسهلين». الطريف ان صديقه مكرم عطية، وهو صديق ليوسف الشيراوي (الوزير البحريني في ما بعد)، كان لا ينفك محدثاً إياه، في كل يوم تقريباً عن لبنان كبلد إشعاع، ثم يقع اشتباك بين مهربي حشيشة الكيف في وادي زحلة يسقط فيه القتلى والجرحى، فيبادر يوسف الشيراوي صديقه مكرم عطية ساخراً: «ترى مكرم، صار اليوم إشعاع في وادي زحلة».
تاريخ لبنان: نكاية بنكاية
يقول كمال الصليبي إن والده أخبره «أن لا شيء أحب على قلوب المسيحيين في البلد من نكاية المسلمين والعكس بالعكس. فالمسلمون في لبنان يطالبون بوحدة لا يريدونها في الواقع لا مع سورية ولا مع البلاد العربية مجتمعة. وما الدافع لمطالبتهم بالوحدة إلا نكاية بالمسيحيين. وحدثه راهب في بكركي بما معناه: «لا تصدق ان الموارنة أحفاد الفينيقيين، نحن الموارنة أقحاح العرب. وأين منا المسلمون في لبنان وسورية الذين اختلط دمهم منذ قرون بدم الأتراك والأكراد والأرناؤوط والبشناق وغيرهم من تركة بني عثمان؟ نقول عن أنفسنا فينيقيين فقط لإغاظة المسلمين الذين يعتبرون أنفسهم القيمين على العروبة في بلادنا». أما البطريرك المعوشي فقال له: «أتريد أن تعرف كيف أفهم تاريخ الموارنة؟ نحن شعب مخه يابس مثل صخور هذا الجبل, وما تاريخنا إلا قرون من معاندة الدهر». وعندما التقى أحمد سامح الخالدي، وهو المؤرخ والمربي الفلسطيني المعروف، بادره الخالدي بالقول: «عندما يأتي اليوم الذي تكتب فيه في التاريخ لا تكذب كما يفعل المؤرخون اللبنانيون عادة. قل مثلاً أن فخر الدين كان عاصياً على الدولة العثمانية ونال عقابه. ولا تقل انه كان بطلاً يقاوم الظلم العثماني ليجعل من لبنان دولة مستقلة، وهو الذي ربما لم يلفظ كلمة لبنان مرة واحدة في حياته. وهذا ما برهن عليه كمال الصليبي لاحقاً استناداً إلى تحليله الوقائع، وإلى الوثائق العثمانية معاً. وعلى الرغم من نكاية المسلمين بالمسيحيين، وكيد المسيحيين للمسلمين وبالعكس فإن المسلمين والأرثوذكس في رأس بيروت على سبيل المثال كانوا أخوة حقاً لا مجازاً، أي أخوة بالرضاعة. فكان هؤلاء يقفون في مآتم هؤلاء لتقبل التعازي، فهم أبناء خالة أو أبناء عمة أو ابناء خال، حتى أنهم كانوا يستشيرون بعضهم في أمور زواج بناتهم رفعاً للعتب.
* * *
كمال الصليبي مؤرخ قليل الكلام، لكنه مثير للزوابع حقاً. ولعله أراد، عندما التقط من تراث الأدب الانجليزي عبارة «طائر على سنديانة»، وجعلها عنواناً لمذكراته، ان يبوح بفضيلة نادرة وهي الصمت البليغ. أما أصل العبارة فهو: «طائر حكيم مسن حط على سنديانة. كلما رأى أكثر تكلم أقل، كلما تكلم أقل سمع أكثر». هكذا عاش كمال الصليبي، مؤرخاً فذاً، وإنساناً نادراً، وانقلابياً في أفكاره. كثيرون تفلسفوا ولم يغيروا شيئاً. وكمال الصليبي جعلنا، في كتاب واحد، ننقلب رأساً على عقب، ونفكر بطريقة مغايرة وجديدة ومختلفة معاً.