هو كمال الصليبي، اسم كبير ومهيب، هكذا سمعتُ دائما ً عنه، وهو الذي كنت دائما ً أشعر بسلطان فكره التاريخي البحثي يطوف حولنا كما أشعر بلذة القراءة لكل ما يبحث فيه ويحوله خبرا ً من الماضي يحرك الحاضر، وهذا كله يدور عنده في إطار الفكر العلمي الذي لطالما انتشل تواريخ وأحداثا ً من النسيان أو من المغالطات. شهران أو ثلاثة فقط قبل رحيله، التقيته مصادفة في مكتب دار نلسن عند الصديق والناشر والأديب سليمان بختي. التقيته دقائق قليلة وكان يتكلم مع بختي، أو الأحرى بالكاد كانت كلماته الوجيزة جدا ً تطلع من فمه ليعتذر من ثم ويخرج. هذا هو لقائي الوحيد به، إذا جاز تسمية هذا بلقاء. فخلافا ً للذين عرفوه عن كثب من أصدقائي الأدباء، فأنا لم أعرفه شخصيا ً إذا ً إنما من خلال كتاباته، وكان لي، كلما قرأته، أن أغوص غوصا ً جميلا ً في عمق ما يكتبه هذا المؤرخ العالم الذي لفت انتباه الشرق كما الغرب من دارسين وباحثين.
وعلى غرار العلماء الكبار، فهو في البحث يحفر في جوف التواريخ والمعطيات والبراهين، يذهب بعيدا ً في عمق الحدث والخبر إلى أن يجمع اليقين بالبرهان وإن غاب الأخير لأسباب تاريخية فهو يترك الخيار للقارىء وقد حصل الأمر غير مرة حيث يضعنا أمام الشك والتساؤل حول صحة الموضوع، عن قصد والمغزى، أن يخرجنا من معتقدات راسخة قد تحتاج إلى نفض وبعض التساؤل.
اما من جهة السرد، أي العِلْم والإخبار، فقد أصفه بالجذاب إضافة إلى كونه علمي بحت. نقرأ كل فصل على حدة من فصول أي من كتبه وكأننا إزاء راوٍ كبير شاهد على عصره، لا بل على عصور بأكملها، كأنه عايش الأحداث منذ مهدها، منذ عهدها الأول. فهو إضافة إلى دقته وعلميته التاريخية وإضافة إلى توثيقه الدقيق وبراهينه، يأتي بالحدث وبالمعلومة بأسلوب أشبه إلى الرواية حيث يثبت لنا قدرته على الجمع بين التأريخ الصارم والجاف والمعلوماتي وبين تحويل هذه المعلومة إلى خبر نشتهي قراءته ولا نخاف من الملل. إنه يكتب وقائع يضع فيها روحه من جهة وحماسه من جهة أخرى، وهما دعائم لما قد نجده في كتب إحصائية معلوماتية حسابية باردة، فمن خلالهما يحوله هو مادة جميلة مقروءة ومغرية.
آخر كتاب له قرأته هذه السنة كان «الموارنة- صورة تاريخية» (عن دار نلسن)، هذا الكتاب الشيق على غرار كل ما يكتبه مؤرخنا الهائل، وحيث كما علمت من صديقنا الناشر وكما قال في جانب من هذا الكتاب، إنه كتبه من دون الإستعانة بأي مصدر يستند اليه ويبرر حججه. فهو كتبه رأسا ً من الذاكرة، المصدر المتكامل من ذاته، فغرف مما يعرف بدقة العارفين. وكتاب الموارنة هذا، أخذني تلقائيا ً إلى أكثر من فصل من فصول كتاب سابق له وذائع الصيت، ألا وهو «بيت بمنازل كثيرة» حيث نلاحظ تطابق المعلومات إنما من مبدأ التكرارالصحيح أي العلمي ومن مبدأ أيضا ً الإضافة التي تغني والزيادة التي تأتي من ضرورة التنوع في الصياغة وفي تقديم الحدث التاريخي من جوانبه الكثيرة. فالصليبي يشعرنا دائما ً بأنه نبع متدفق من المعلومات والوقائع، نبع لا ينضب من العطاءات في حقل التاريخ وعلمه حيث هو برز معلما ً كبيرا ً لا يضاهى. ورود المعلومة ذاتها في أكثر من كتاب له، أو في أكثر من فصل في الكتاب الواحد، هو بمثابة التأكيد على المعلومة والتأكيد على صوابية توثيقها. فتأتي هي ذاتها ولو في صيغ بعض الشيء مختلفة، تأكيدا ًعلى كل ثيمة تناولها تناولا ً علميا ً ممتازا ً.
وأركز على هذه الثيمة دون سواها من باب الصدفة من ناحية (كونها أتت في مؤلفه الأخير، أي قبل أشهر من وفاته)، ومن ناحية أخرى لأنه من المستحيل تناول كمال الصليبي في كل ما كتبه في ورقة واحدة، ومن ناحية ثالثة لأهمية هذا المضمون لبنانيا ً وعربيا ً على حد سواء. وثمة ناحية رابعة، وهي الحافز الأكبر، وهو أن الصليبي يتكلم على الموارنة كأنه هو بذاته ماروني، يتكلم بشغف كأنه هو المنتمي إلى هذه الجماعة اللبنانية، يسرد ويخبر لينسينا انه العالم المدقق والحيادي الجاف، واضعا ً إيانا في صفحات من الحماس والتشويق والاندفاع. لكن ولا شك في ذلك، فهو يعرف كيف يلجم أي انزلاق خارج المعلومة التاريخية العلمية، ليبقي نصه التاريخي داخل الطابع البحثي الصرف، ولو مع تلاوين طريقته الجميلة في قول التواريخ والأحداث. ومثال على هذا الأسلوب التأريخي، آخذُ مقطعا ً من كتابه الأخير إذا ً، في الصفحة 29، حيث يقول: «(…) وانقطع الموارنة بعد لجوئهم إلى جبل لبنان عن العالم الخارجي، وتطبعوا بوعورة بيئتهم الجديدة، فأصبحوا شعبا ً صلبا ً، متراص الصفوف، شديد البأس، غيورا ً على كيانه ودينه، ماهرا ً في القتال. واستمرت الكنيسة المارونية تقوم بمهمات القيادة، فبقيت قريبة من الشعب، ترشده في الأمور الروحية والزمنية وتؤمّن له مستودعا ً لخبرته (…)».
ولا يبخل الصليبي في كلامه عن الموارنة وكأنه جزء من جماعتها كما أسلفتُ، يتكلم بشغف ولو بعلمية وتوثيقية في آن ! ففي الكتاب ذاته، في الفصل «فرنسا تحقق حلم الموارنة»، يزيد إسهابا ً وإسهاما ً في تعزيز الشعور الماروني في لبنانيته، إغراءً وجاذبية ليقول مثلا ً حول انتداب فرنسا واحتلالها لبنان وحول كيف حققت تلك الدولة سنة 1920 حلم الموارنة بإعلان دولة لبنان الكبير كدولة مستقلة الخ : « فقامت هذه الجمهورية تجسد الفكرة التي نادى بها الموارنة منذ عهد المتصرفية وتحلّ مكان الكنيسة المارونية في القيادة الوطنية (…) وتمكنت هذه الجمهورية من المحافظة على كيانها وعلى نظمها الديموقراطية الحرة رغم الصعوبات والأخطار الكبيرة التي كانت ولا تزال تحيط بنموها (…) وكان من الطبيعي ان يتسلم الموارنة، كمواطنين لبنانيين، دفة الحكم في الجمهورية التي كان لهم الدور الأساسي في خلقها (…)». ويذكر الصليبي في هذا المجال انه رغم تسلم الموارنة مسؤولية الحكم في لبنان، فهذا الدور يجب ألا يكون وقفا ً عليهم وحدهم وإنما على جميع اللبنانيين معا ً. ويذكر كمال الصليبي وبكثير من المديح متغنيا ً بصفات هذه الكتلة المسيحية من ضمن الكتل اللبنانية الأخرى في الجسم اللبناني، يذكر إذا ً بصفات جمة تميّز بها، على حد قوله، الموارنة، فيراه مؤرخنا شعبا ً رغم صغر حجمه تمكن عبر العصور من المحافظة على هويته التاريخية من خلال المثابرة والنضال المستديم والثبات في المواقف الخ.
مع ذلك لا يتوقف الصليبي هنا فحسب، أي انه لم يرض لنفسه بأن يكون مجرد راو خيّر لمجموعة لبنانية هي جماعة الموارنة، دون أن يكون قبل كل شيء المنتقد الصارم والمؤرخ الحيادي عندما يصل الأمر إلى التحقيق والتوثيق، وفي هذا المجال لم يترك الصليبي شاردة أو واردة إلا ونشرها ليخبرنا عن تفاصيل شعب أو مجموعة لبنانية في خناقاتها الطويلة عبر القرون وفي انقساماتها واختلاف ولاءات كل فئة على حدة وما إلى ذلك. وقد يعيدنا هذا الموضوع بكل سهولة إلى تاريخنا الراهن، إلى تاريخنا القريب جدا ً والحديث جدا ً، ليذكرنا بأن راهنا ً نعيش في لبنان المشاهد ذاتها أو تقريبا ً ذاتها! وكأن الدور الأهم للعالم المؤرخ هو المحافظة على ذاكرة شعب ما، على تاريخه، بغية استخلاص العبر ربما، وفي أي حال بغية العودة إلى فلسفة الحياة، إلى جوهر الوجود، من خلال المقارنة بين ماض وحاضر.
وما يقوم به كمال الصليبي في كل المواضيع التي يتناولها، وفي الموضوع الماروني اللبناني ولا شك، هو انه لا يقف عند أمجاد قد تكون وهمية وعاطفية وتعصبية وعشائرية، بل يتجاوز أي شعور بالذاتية المفخمة والمضخمة قد يدغدغ أحاسيس كل ماروني إلى حد ما، يتخطى الصليبي دائما ً وفي كل دراسة تأريخية يتناولها، يتخطى المطروح العام ليصل عميقا ً إلى لب الثيمة التي هو في صددها ليأخذ القارىء وكل مهتم إلى التفكير الموضوعي في كل تفصيل من تفاصيل ودقائق التاريخ. فهو لا يكتفي بالخبر عند وجه واحد من وجوهه انما يبحث في أوجهه العديدة حتى تكتمل الصورة التاريخية لديه. أولم يقل في أكثر من فصل ومحطة أكان في كتابه الأخير «الموارنة صورة تاريخية» أو في كتابه الذائع الصيت «بيت بمنازل كثيرة»، إن الموارنة في لبنان مروا بخلافات كثيرة في ما بينهم، في ما بين قياداتهم ومختلف فئاتهم الخ ؟ ألم يضع الأصبع على الجرح ليشير إلى أكثر من خطأ قام به الموارنة ؟ ألم يشكك في أصولهم العرقية والثقافية واللغوية والجغرافية لينقض في أحيان كثيرة ادعاءات الموارنة على جمالها وجاذبيتها بالنسبة إلى كل ماروني، اعترف بذلك ام لم يعترف الموارنة، أفرادا ً أو جماعات، كما جاء من تفاصيل في «السوسنة والشوك» وهو أحد فصول الكتاب الثاني الآنف الذكر وفي فصول كثيرة أخرى من الكتاب ذاته ؟!
يقول الصليبي في الصفحة 268 من الفصل الأخير في الكتاب السابق الذكر: «وباختصار، ان خداع النفس في موضوع التاريخ ترفٌ لا تستطيعه الا المجتمعات الواثقة من وحدتها (…) ولدى المجتمعات من هذا النوع مخزون واسع من المصالح المشتركة تعتمد عليه في اختيار ما يحلو لها من تصوّر أو تزييف لماضيها، تاركة التاريخ الحقيقي للمؤرخين (…) أما المجتمعات المنقسمة على ذاتها فلا تتحمل هذا الترف». وهو بذلك يعني انه اذا أراد أي مجتمع ان يصل إلى نوع من التماسك فعليه أولا ً أن يعرف حقيقة ماضيه وعلى المؤرخ أن يضع هذا الشعب أو ذاك أمام واقعه التاريخي كما هو، بصراحته وواقعيته وموضوعيته. من هنا أيضا، وهذه نظرة لافتة لمؤرخنا، إذ يذكّر العرب كافة واللبنانيين، بأن ثمة خلط حدث بين القومية والإسلام، حيث ساد اعتقاد قديم لا يزال قائما ً، وهو أن «القومية العربية نجحت في زرع الوهم في أذهان العامة من العرب وجعلوهم يؤمنون بأن التاريخ السياسي والثقافي للإسلام كان في الواقع تاريخا ً قوميا ً عربيا ً، الأمرالذي شكل مشكلة بالنسبة إلى العرب غير المسلمين (…) وفي حالة لبنان فهذا يزيد من الخلافات بين اللبنانيين ويجعل البحث عن الهوية التاريخية الحقيقية لبلدهم أكثر تعقيدا ًً …».
إذا ً لا يكمن فقط دور المؤرخ في سرد حكاية «نموذجية» عن شعب ما أو جماعة ما، وليس دوره تلوين هذه الحكاية بأجمل أساطيرها مما يمكن أن يعجب هذا الشعب أو ذاك من حكايات مبهرة وقد تكون غير حقيقية أحيانا ً، أي ليس دوره يقتصر على نقل ما تتناقله الألسن شفهيا ً عبر الأجيال، وليس دوره من جهة أخرى أن يتمسك برأي ما أو حتى برأيه الشخصي هو وبنظرته الذاتية، ولا أن ينحاز إلى حادثة تاريخية دون أخرى مهما كان سرده مماثلا ً طبق الأصل للحدث التاريخي الأصلي والحقيقي والموثق. دوره يكمن في تذكير حقائق تاريخية صرفة، وأن تكون هذه الحقائق كاملة مكتملة، أن يسرد ويبحث ويوثق ويقارن ويتحقق ولكن ان يتسلح دائما ً بالشك، فضيلة الشك التي لم تفارق الصليبي يوما ً لأن من دونها لا يحيا ولا يمكنه أن يستمر في ما يفعل كما كان يقول. ان يشك يعني أن يضع قارءه أيضا ً في دائرة الشك، ان يجعله يتساءل حول معطيات يعرفها وتبين لاحقا ً تحت مجهر المؤرخ انها خطأ. وأيضا ً، يكمن دور المؤرخ الذي تميز به كمال الصليبي، في أن يدحض ما هو سائد من اعتقادات، ليس لشيء سوى لتصحيح مسار شعب أو جماعة، ولبلوغ مستوى واعٍ وراقٍ من الفهم، ذلك الفهم لماض ٍ قد يُبنى عليه كل المستقبل.
كمال الصليبي لا يمكننا اختصاره في أسطر، ولكن يكفي أن نتناول، وبتواضع، زاوية واحدة وصغيرة من انجازاته الفكرية والبحثية الضخمة، حتى نفهم كم كان هائلا ً الرجل الذي غادرنا للتو.