لا أزال أذكر حين التقيته لأول مرة في العام 1994 وكانت المناسبة حواراً مطوّلاً في موضوع التاريخ لكتابي الذي نشرته في العام 1995 بعنوان «إشارات النص والإبداع» حوارات في الفكر والادب والفن. كان المؤرخ الإشكالي كمال الصليبي يستوي على شهرة وطروحات مختلفة ودقيقة في آن. وجامعاً في كتاباته المقاييس الاكاديمية والربط المعرفي المفتوح الأفق. من الصعب أن تعرف كمال الصليبي عن قرب ولا تصبح صديقاً له. يعرف أن في الأبحاث والدراسات للعقل ألف عين، أما في الحياة والعلاقات الانسانية فلا شيء سوى دفء القلب وحرارته. واختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضية بل لعلّه يعزّز المحبة. هذا المساء الخريفي يذكّرني به لفرط ما أحبه. إذ لطالما سمعته يردّد بأن أجمل المناخات في العالم: «خريف بيروت وشتاء مصر وربيع الشام وصيف جبل لبنان». الهادئ من فرط رقته يكاد أن يهمس. هذا الهدوء الذي يلفّك حين تلتقيه فتظنّ أن شيء آخر يشغله أو يقلقه. يبحث بلا هوادة لينسف ما كان قد أرساه قبل وقت. رقّة الحرير وصلابته في آن. أناقة تحوم ولا تستقر. يضن بالكلمات وكأنها حجارة ثمينة ترتجل. مضنى بقدرته على الكلام لدون كلام. بتعب بما تريده الحقيقة. وكلما أراد أن يهرب بإحسان يتكئ على قول للصحفي الراحل ميشال أبو جودة: «الذي يعرف لا يحكي، والذي يحكي لا يعرف. والذي لديه لا يفعل والذي يفعل ليس لديه».
يذهب إلى العلم ذهاب راهب إلى صومعته ولكنه محب للحياة مقبل عليها، ويقدر كل ما هو جميل ويستمتع به ويطرب له منظراً طبيعياً كان أو غناء أو طعاماً أو شعراً أو طرفة. يحفظ شعر المتنبي ويراه الأعظم بين شعراء العرب والأكثر تحرّكاً في الجهات العربية ونواحيها. يحسن الاستماع والإصغاء ويجد متعة كبيرة في أن يشرك غيره معه فيما يعرفه من قصص ونوادر مدهشة لا تنتهي وتتصل بالحياة والتاريخ والسياسة والثقافة والحضارة. وكل قصّة تحمل إلى طرافتها مغزاها الثابت العميق. جمع في شخصيته صفات يندر اجتماعها: ذكاء فطري حاد، ذاكرة خارقة، وقدرة فائقة على الربط بين النظرية والواقع، جرأة ادبية لا تخشى في الحق لومة لائم، وشجاعة عقلية لا تقبل الاحتفاظ بالذهن بما يثبت له خطاه، وحسّ أخلاقي رفيع. بل كل ما هو أرستقراطي في الاخلاق، وشيخ عشيرة في العلاقة مع تلاميذه، وملكي أكثر من الملك في كشف الحقيقة والإعلان عنها، وكادح مجاهد في مجال العقل المثاقفة. اما الصداقة فكان يعتبرها فرصة أو دعوة لتسجيل انتصارات على الحياة والزمن والمفارقات. لا يعجبه العجب في المنهاج ويسعى دوماً للخروج منه وعنه وعليه وخاصة بعد أن يتقن قواعد اللعبة. كان يردّد أمامنا ما قاله أبوقراط غير مرة: «الحياة قصيرة، والتجربة مخاتلة والحكم على الامور صعب، والسعي إلى المعرفة متواصل». سألت غير مرة أحد تلاميذه وأصبح اليوم أستاذاً جامعياً في احدى الجامعات الالمانية عن أهم ما تعلّمه ودرسه على يد الدكتور كمال الصليبي، فأجاب: «علّمني ماذا أقرأ في الوثيقة، وماذا لا أقرأ في الوثيقة». كانت لديه طريقة خاصة للكتابة بالعربية فهو يكتب ما يريد على صفحة ثم يحذف كل الكلمات التي لا تؤثر على المعنى. كان بيانه المعنى على ما يقول الشيخ عبدالله العلايلي. نقوشه التاريخية سائرة نحو فيض المعنى. نقوشه التاريخية وليدة مراس صعب وتدريب داخلي عميق. كان يريد أن يصل بأسلوبه إلى الدقة العلمية وسلامة التعبير وسلاسته في لغة عربية احبها منذ الصغر، ومنذ أن أحضر له والده الطبيب سليمان الصليبي، معلماً خاصاً درس على يده القرآن لحثّه على الاتقان وبيان مخارج الألفاظ. وكان قبل أن يشرع بالكتابة بالعربية يقرأ الحديث النبوي الشريف وديوان المتنبي ومروج الذهب.
روى لنا غير مرة انه في بداية عهده في التعليم الجامعي، في الجامعة الامريكية في بيروت، صوب منتصف القرن الماضي كان يعرف التلميذ من لهجته وطريقة لباسه إلى اي طائفة انتمى ومن أي منطقة أتى ثم بعد عقد أو اكثر فقد هذه الميزة وصار الطلاب يشبهون بعضهم، وهذا في عرفه نجاح للفكرة اللبنانية على المستوى الاجتماعي والثقافي والتواصلي. وفي ملاحظته تلك، وفي تجربته كلها كان همّه أن ينقل صورة لبنان التاريخية من نطاق الأسطورة إلى نطاق الحقيقة مدركاً أن وعي الحقيقة التاريخية المجرّدة هو خير أساس لبناء المجتمع.
«التاريخ هو التجرّد ليس إلا»، يؤكد الصليبي. واحسب أنه في معالجته الموضوع التاريخي في لبنان، سار على هدى صالح بن يحيى بقوله «أردت أن أجمع شيئاً يستفيد منه الخلف من معرفة اخبار السلف، لأني لا أريد متغالياً في السلف يصفهم بأزيد مما فيهم، ولا حسوداً فينعتهم بما ليس فيهم».
ولا أفشي سراً اذا قلت أن الكتاب الأحب إلى قلبه في تاريخ لبنان كان «منطلق تاريخ لبنان». والسبب انه كتبه في عمّان، الاردن اثناء الحرب اللبنانية، ومن الذاكرة ما «كانت مراجعي معي، ولما عدت إلى بيروت دوّنت المراجع ودفعته إلى النشر»، يقول. لم يخضع في حياته لأمر سوى الحقيقة والحرية والصدق في المزاولة والتحري عن الصدق. سألته غير مرة ووضعت السؤال على الشكل التالي: هل تعتقد أن حرب 1967 كانت كعب أخيل في تدهور الاوضاع العربية؟ أجاب: «لا أحبّذ استخدام التشابيه والمجازات في سياق الاحكام لأنها تخرجك قليلاً أو كثيراً عن الحقيقة».
وسألته في المقابلة عن دور المسيحيين فقال: «لا أرى أي دور لهم خارج التربية والتعليم والثقافة، لا أراهم خارج النهضة والاصلاح والتنوير». وسألته ايضاً لماذا لم يكتب كثيراً في التاريخ العربي مثلما كتب في تاريخ لبنان؟ اجاب: «اللبنانيون باتوا مستعدين لقبول تاريخهم أكثر من العرب». وأضاف: «الشعوب الحرّة تقبل وتصنع الثورات والحروب الاهلية أما الشعوب المستعبدة فتصنع الانقلابات والمؤامرات والدسائس».
مدّ الصليبي شراعه في كل اتجاه، احبّ الرواية والأدب إلى حدّ الشغف، ولعلّها مصادفة قدرية أن يكون آخر كتاب قرأه ليلة إصابته بالجلطة الدماغية رواية «طيور الهوليداي إن» للروائي اللبناني ربيع جابر والذي كتب عنه الصليبي مرتين، مرة في كتابه «بيروت والزمن» متناولاً روايته «بيروت مدينة العالم» ومرة في بحث قدّمه في مؤتمر في اوكسفورد عن رواية «يوسف الانجليزي». وكانت له مع الموسيقى عملين مسرحيين من تأليفه وتلحينه وقد فوجت في الاسبوع الماضي انه كان قد اتفق مع أحد الموسيقيين لتدوين المسرحيتين تمهيداً لطبعهما ونشرهما. وكان في سهرة الميلاد يعزف على البيانو لتلاميذه وأصدقائه الاغاني الميلادية الشهيرة. أذكره في الجلسات وخصوصاً ديوانية كل أحد إذ يطيل بنا المكث في ضيافة رجل نشر علينا من انسه الكثير، ومن حديث الطيب والحنون والاثير، وتبسط الينا بعلمه وبأدبه، وقلّب اسماعنا على ما يقول، وقرّب الينا الموارد والمصادر وصوّب الخطى، وأوضح لنا أن «كل معرفة صحيحة تتضمن قدراً من نبذ المتداول»، وان «كل معرفة صحيحة هي أساس الفكر الصحيح ولا يتأتى عنها إلا الفائدة مهما كان موضوعها». وإن كل معرفة تأتي بالمسرّة والسؤال والدهشة، واذا الإلفة طالعة من كل شوق من كل حنين.
في بيته ثلاث صور وزّعها بطريقة لافتة: الاولى إلى اليسار باب داره صورة وضعت في إطار لإخراج قيده الفردي وقد شطب المذهب عن الهوية، وصورة فوق البيانو لتلال بحمدون (قريته) وهضابها، وصورة لوالده الطبيب في زيّه العسكري إبان عمله مع حكومة مصر والسودان زمن الانتداب البريطاني. وبعد، من الصعب أن يمرّ صحافي اجنبي في بيروت ولا يستأنس برأي الصليبي، من الصعب أن يمرّ أحد تلامذته في بيروت بعد غياب ولا يسأل خاطره، من الصعب أن يلتقي الاصدقاء القدامى كل سبت في السيتي كافيه (قبل إقفالها) ولا يكون بينهم. ولكن الجلسة الأحب إلى قلبه فكانت ان يسند رأسه على أحد أعمدة الجامع الاموي في دمشق ويأخذ الوسن الخفيف إلى قنطرة في التاريخ. التاريخ الذي زرع في تربته البحث والكشف وزاوية النظر، وأينما زرع أورف زرعه لأنه كان يبحث فيما أتاه عن الصواب والكمال المأخوذ على عاتقه، عن الصبر المتكئ على التاريخ والمتن والهامش حتى تكون له تلك الحلية، تلك المكافأة في السير الكاشف عن الغموض. يبحث عن كمال الوثوق من الاصول، كمال الضوء والدائرة وما نقص، كمال قوة الافكار وجرأتها وتسلسلها، كمال الشجاعة والنزاهة والمسؤولية عن هذا العالم الآخذ منا كل مأخذ. ومع هذا الكمال شغف هائل بالمعرفة، بالناس وأحوالهم، وبالارض وهويتها، وبالأمل في البناء مع الآخرين ماضياً وحاضراً ومستقبلاً وهو ضالة كل كتابة.