في شهر أبريل 1993 قررت كلية الآداب بالقنيطرة (المغرب)، اعتمادا على الإنتاجات الروائية المغربية الأخيرة، أن تعنون ندوتها كالتالي: «عندما تسائل الرواية المغاربية كتابتها». كيف ترون مثل هذا الانشغال؟ وهل تعتقدون فعلا بأن التفكير في الكتابة حاضر في الرواية المغاربية عامة، وفي الرواية المغربية على الخصوص؟
في بداية الأمر، فمفهوم الرواية ذاته قد تغير كثيرا. وأتحدث على العموم عن المحكي باعتباره جنسا أدبيا، المحكي بما هو أنموذج لإنتاج كل أنواع السرد، بما فيه ما نسميه بالرواية. إذن، فأنا أستعمل مفهوما واسعا جدا. والرواية حديثة العهد، يمكن أن نؤرخ لها ابتداء من دون كيشوت، أو بعد ذلك، لا يهم… المحكي بالنسبة لي، هو قبل كل شيء إنتاج، آلة سردية، لا تحكي حكاية فقط، بل تبدع شكلا لتلك الحكاية، إذن، ففي كل مرة أكون فيها أمام رواية، كيفما كانت – لاتينية أمريكية، أوروبية، يابانية، مغاربية… – فأنا أولا أقرأها حينما أتمكن من ذلك، أي إذا كانت تتوافق مع متخيلي، ثم عندما أقرأها أطرح السؤال التالي: هل تعلمت شيئا ما من المتخيل الروائي باعتباره شكلا؟ وهذا الاقتضاء حاضر دائما في ذهني، وألزم به نفسي أيضا. وبالنسبة للرواية المغاربية، فهي متعددة، ولا يمكننا أن نقول بأن هناك نمطا روائيا واحدا. توجد محكيات هي بالأحرى ذات استلهام شعري، تخضع لحركة غنائية، وهناك محكيات أخرى متأصلة أكثر في شكل روائي معروف، مثل روايات إدريس الشرايبي، فهذا الأخير كان، بدءا من «الماضي البسيط»، يندرج في رواية مرحلة سنوات الخمسينات، أي الرواية ذات الاستلهام الأمريكي. وهذا النمط معروف. وهناك روايات مازالت في بحث عن شكلها. فمازالت بلا شكل محدد. وتوجد كل أنواع التجارب في الرواية المغاربية. وبالنسبة لندوتكم – ولم أتمكن من حضورها- فيمكنها دراسة الإنتاج المحلي، وفي الوقت نفسه منح الطلبة والباحثين الرغبة في إنتاج أشكال. وربما هذا هو الأهم في الرواية المرغوب فيها. والرواية تؤدي أيضا إلى الاشتغال على الذات، على جوانيتها، بل على الصورة التي لنا عن برانيتنا: الاجتماعي، السياسي، الخارج المطلق، الكوني. أتخيل هذا السيناريو الذي يمكن أن ينطلق من استعارة بسيطة، وانطلاقا من هذه البداية يجوب مستويات مختلفة من الوجود. وبالإضافة إلى ذلك فإننا نرى في بعض الروايات حكايات تجوب مملكة الحيوان، بل مملكة الجماد، وذلك عندما يكون الوصف الأكثر دقة حول الأرض أو حول البحر، وتخترق المجتمع في مكوناته، وتذهب إلى حيث يأخذها الخيال. فالمحكي هو إنتاج سردي يصل تجارب متعددة. وكل تجربة، في النطاق الذي يجعلها تجربة، هي فريدة من نوعها. أظن إذن أن التساؤل حول الرواية هو تساؤل ضروري دائما، وهو يشتغل فيها. بطبيعة الحال فالرواية تخضع، رغم ذلك، إلى بعض القواعد الخاصة بالسرد وبخارج السرد في الوقت نفسه. إذن يوجد رغم ذلك لحمة في المحكي، يمكننا أن نختار الطريقة التي نريد، لكن لابد من محكي في الرواية، وهذا ضروري. وتوجد تجارب أخرى،، سواء انطلاقا من كافكا أو من جويس، فقد فجرا المحكي الروائي العادي؛ فجويس قد جعل من السارد نفسه آلة الكتابة، منتجا أمام القارئ محكيات متعددة. فالمهم في هذه الحالة هو أن جويس يخلق القراء. ففي كل جملة يخلق السارد القارئ. أما كافكا فأدخل، من خلال طريقة غريبة جدا، تقنية أخرى ترتكز على خلخلة القارئ تماما، وإدخاله في فانتاستيك ينكشف له شيئا فشيئا. فلذلك عندما يصل القارئ إلى نهاية الحكاية، سواء أكانت قصيرة أم طويلة، يكون في جانب منه قد تحول. إذن، فالاثنان يخلقان القارئ. ولابد أن أعترف بأن انشغالي أيضا يرتكز على خلق القارئ. وماذا يعني خلق القارئ؟ ببساطة هو أن نزرع فيه جزءا من حياتنا باعتبارنا كتابا. أليس كذلك؟ هناك عبور، هناك رغبة عميقة. وغالبا ما يتهم الفنانون والكتاب بأنهم نرجسيون. وهم كذلك: لابد أن يحبوا ذواتهم كفاية لكي يتمكنوا من نقل الحياة للآخرين. إذن، فمن القارئ إلى الكاتب سر ما يخص النقل.
لننطلق من هذه الفكرة، أنت نفسك، في الصفحات الأولى من «صيف في ستوكهولم»، واللبس لم يرفع بعد عن الهوية الحقيقية لهذا الكاتب – السارد، تسأل قارئك بل تسائل نفسك، وتقول: «لكن من أنا، أنا الذي أتحدث إليكم الآن، لكي أقودكم في مجرى هذه الرحلة، بدون أن أعرف بنفسي؟ من أنا حتى أتلقاكم، في عرض السماء، بدون أن أصرح بهويتي، هويتي الحقيقية؟» ما معنى هذا التساؤل؟
نعم، كل محكي يخضع إلى منطق. فهو يحكيه سارد، يظهر أو يبقى مختفيا. وفي هذا الكتاب، على ما يبدو، فالسارد كان متسترا. وفي الوقت نفسه، أظن أنه كان علي هنا، باعتباري كاتبا، تحديد هوية هذا السارد، وجعله يتبوأ وضعيته كسارد، أي حتى تكون له مصداقية، مادام الأمر يتعلق بإبداع رواية، أعني رواية عالمية، رواية تشتغل بين حدود اللغات، وفي بعض المقاطع بين حدود الحضارات والميتولوجيات، وبين الحدود التي توجد بين الناس. وهذا السارد يقدم نفسه مثل غريب محترف، أو رحالة محترف (…) أهميته (…) في الوقت نفسه أن يحلم بالمقاومات بين الحضارات، والتمكن من تمريرها، مع العلم بأنه كلما كانت مقاومة، كان هناك أيضا عبور. وحتى لا نقوم بالتنظير لهذه اللحظة، سأقول بأنني كنت، في الفصل الأول، أقوم ببناء الشخصيات، وفي الوقت نفسه بناء السارد. وستكون هويته من البداية إلى النهاية محط اشتغال مادمت قد ذكرت في النهاية بأنه سينمحي ليترك المكان لمؤلف تخييلي سويدي. فهذا محكي مؤلف تخييلي سيأخذ على عاتقه نهاية الكتاب مادامت المسألة هي انغلاق الكتاب على ذاته.
ما هي العناصر أو بالضبط ما هي مستويات تحول هوية السارد؟
بالنسبة لي، أظن – وهو التأويل الذي أعطيه – أن هوية السارد في صيرورة، مثل هويتنا الواقعية، مادامت ليست فقط نسيجا من الماضي، بل هي مجموع الآثار والبصمات التي تبنينها؛ تبنين شخصنا وشخصيتنا. لكن الهوية في حد ذاتها، بما أنها موجودة في الزمن، فهي في صيرورة. وبما أنها في صيرورة حتى الموت، فهذه الهوية ليست لشخص ميت بل هي لحي هو ذاته في صيرورة. وإذن فالآثار والبصمات التي تشكل بنية شخصية ما هي بالتأكيد ممثلة في جزء كبير منها. ولكن وفي الوقت نفسه فتركيب العناصر التي تكون الشخصية هي في صيرورة. وهذا يعني أن هناك ضعفا في هذه الرواية. ربما ليس ضعفا يمكننا الدفاع عنه باعتباره كذلك. فلا حاجة للخوف من مواطن الضعف هذه، بل يجب الاشتغال بها – وربما الرواية في بعض الحالات تمارس التنظير حول هذه الشخصيات. لقد ترددت في بعض الأحيان في تحويل الشخصيات إلى أمثولات خالصة، أو إلى صور، أو إلى عامل فاعل لحكاية ما، وفي بعض الأحيان أتدخل كمؤلف، وتقريبا أقود نظرة القارئ – وهذا قابل للنقاش. وهو ما سيجعل الأجوبة مختلفة.
حول هذه النقطة بالضبط، وانطلاقا من شخصية ألبرتو ألبرتيني، تباشرون في الرواية تفكيرا حول الإنتاج السينمائي، وتقولون على لسان شخصيتكم: «كل فكر يكتب، دون أن يدري، سيناريوها غير مقروء بالنسبة له. إنها مهمتي، أن أمنح شيئا يمتلك». هل يمكن لك أن تبين لنا أين يتموقع بالضبط مشروعك الأدبي؟ هل هو مثلا، أداة لطموح صوفي أو فلسفي، أو العكس؟
ربما وجب التفريق بين ثلاثة عناصر تكون كتابتي… ما يمكن تسميته بالشعري بالمعنى القوي، والمحكي، والفكر. وربما، في الواقع، الشعري أو الشعر يشتغل في المستويين الآخرين. وفي الوقت نفسه، فعملي الثاني يكمن في تحويل الفكر نفسه إلى محكي. إذن، إذا شئت، فأنا أعمل على توحيد مزدوج، من جهة بين الشعر الذي يشتغل في الأجناس الأدبية الأخرى، ومن جهة أخرى تحويل الفكر إلى محكي. ففي هذا الاتجاه نجد ديكارت الذي نتحدث عنه، مغربلا ومصفى في سيناريو فيلم، لكنه سيناريو فيلم غير مكتوب، فهو سيناريو أعيد النظر فيه بالكتابة. فبهذا المعنى، الفكر غير متروك، غير خارجي، كما يمكن أن يقوم بذلك فيلسوف. توجد نصوص كتبها فلاسفة، أو ذات منحى فلسفي. وما يهمني في الفيلسوف هو حكيه السري. وكنت أريد، مثلا في حالة ديكارت، محاولة الإشارة إلى المحكي المثير والغريب عن ديكارت المتجه نحو سكاندينافيا، ويموت فيها. لماذا هذا الإبعاد…؟ لقد حورب باعتباره فيلسوفا في فرنسا، لكن محكي حياته الخاص قاده إلى استكشاف صلات أخرى، وأصقاع أخرى، ولهذا فهو يهمني. لأنه، أولا، لنا علاقة مفارقة مع فرنسا من حيث هي. فهي تبصمنا بطريقة مفارقة، وهذه المفارقات هي التي نقلتها عبر نموذج ديكارت، عنصر من حياة هذا الرجل ليس إلا. فهو ليس رواية عن ديكارت، بل ديكارت باعتباره مفكرا منقولا في شكل روائي؛ هذه هي اللعبة التي ألعبها.
هل تعتقدون بأن الأدب استطاع أن يمنح نفسه فكرا، سواء في الخطاب الجامعي، أو في النقد بشكل عام، في المغرب على الخصوص؟ وهل يحدث لكم أن توقفتم عند تحليل أحد كتبكم، وأنتم تقولون مثلا: نعم، هذا التفسير هو تفسيري؛ نعم، أصاب هذا الناقد؟
نعم يحدث لي ذلك – لحسن الحظ، وإلا سيكون الأمر محبطا. يحدث أن أقرأ مقالات، ملاحظات، نصوصا مؤثرة قادرة على أن تكون شخصية، وفي الوقت نفسه ترافق كفاية المحكي الذي تتناوله، ترافقه من الداخل بشكل من الأشكال. نعم، هذا نادر، لابد من قول ذلك، وقد أتيحت لي الفرصة لقوله. لكنه موجود لحسن الحظ. وما يوجد في كل الجامعات، وهي مسألة عادية، هو إنتاج – كيف أعبر عن ذلك – هذيان، وهذا هو الواقع، لا يد لنا فيه: فالمؤسسة، كل مؤسسة، تنتج هذيانها الخاص. ففي الركام توجد دائما أشياء حساسة وذكية. في كل مرة أكون مطالبا ملحاحا، لأن هذا يعني أن هناك صدى، ثم لأن هذا يطال عناصر من شخصيتي الخاصة، ومن أسلوبي الخاص، ومن العمل ذاته. أكرر ذلك، فأنا مطالب، وقد يحدث بين الفينة والأخرى أن يكون النقد إبداعيا.
بشكل عام، تخترق عملكم إرادة الذهاب إلى لقاء الآخر، ومنذ قليل تحدثتم عن العمل الأدبي العالمي شيئا ما. ففي مقابل الانطواء السياسي الأوروبي، كيف يمكنكم الاستمرار في نشر رسالة عالمية؟ وهل تعتقدون أن الشباب سيتبعونكم في هذا الطريق؟
أنا أعتقد أن الآخر ليس هو أوروبا. الآخر، قبل كل شيء، يوجد بداخلنا – الآخر هو كل ما يربطنا بالعالم، ويخرجنا من ذواتنا. إنه الخارج فينا، لكنه ضروري، وإلا لكنا، دائما، في أحضان أمهاتنا. إذن فالآخر هو الذي سيؤصلنا في العالم، إنه استكشاف لذواتنا، سيكولوجيا واجتماعيا في الوقت نفسه. والآخر هو أيضا العالم من حيث هو عالم، هو الكون. الآخر هو ما نراه – هنا – هذه الشجرة التي تسائلنا، ونجعل منها استعارة في الكتابة، وتمنحنا لذة العيش، وابتهاجا ما للتواجد في العالم. إذن فالآخر موجود هنا، فينا – وفيما هو خارج عنا؛ وهناك الآخرون، سواء أكان الآخرون أقرباء أم جيرانا، كالطوائف مثلا؛ وهناك البلدان الأخرى والحضارات الأخرى واللغات الأخرى. حيثما وجدت طائفة سميناه الآخر، كالطائفة الإسلامية والعربية. فنحن منسوجون بروابط مشتركة إلى حد ما؛ لكن نحن مختلفون أيضا، من هنا إلى اليمن أو الباكستان، بل نحن شديدو الاختلاف. ومع أوروبا، مثلا، فقد نسجنا روابط مفارقة وتنافسية منذ قرون وقرون. فنحن مرتبطون، بشكل مفارق، بتاريخ طويل وطويل جدا.
فعملي ليس واعيا، لم يكن دائما بشكل واع، ولا يمكن أن يكون، بشكل مطلق، واعيا بدون غيرية. الغيرية هي استكشاف، وكما قلت: الهوية هي أيضا استكشاف، لأن الذين يعتقدون بأن الهوية محددة بشكل نهائي، أي القائلون بأني أنا هو هذا وهذا هو أنا بشكل محدد، أعتقد أنهم واهمون، ويمكن للمرء أن يموت في الوهم… لكن في الوقت نفسه أرى أن الهوية ذاتها ليست الشيء فقط، أي تراث الموتى وحده. فهي تراث الموتى، والأحياء، والآتين بعد. إذن، فالهوية هي العلاقة الأولية بالزمن. وهذا الزمن، أي زماننا، هو الذي يبني هذا التراث، محليا وعالميا في الوقت نفسه. إذن، أعتقد أن تفكيرنا وتحليلنا مازالا في حاجة إلى تمديد وإلى تهذيب. لابد من مفكرين ومن مثقفين، لابد من أناس تقوم بخلخلة الأحكام المسبقة، والعادات، والأشياء الميتة. يجب على الذين لهم مهمة التفكير أن يمنحوا أنفسهم وسائل التعلم، وأن يشرعوا في الأخذ من المفكرين المتقدمين عليهم. ينتظرنا عمل كثير. وقد دعيت إلى لقاء في بلجيكا حول «أوروبا والعرب واليهود»، وسأتحدث مع صديقي جاك حسون عن هذه العلاقة. هاهي إذن شبكة من القراءة ممكنة، ليست الوحيدة، فهناك شبكات كثيرة. وقد كنت مدعوا لأكون واحدا من الموقعين – وقد وقعت – لخلق البرلمان العالمي للكتاب في ستراسبورغ لتحقيق هيئة تأخذ على عاتقها جزءا مما عليه الكتاب وصيرورتهم. إذن فنحن نعمل مع أوروبا، هناك شيء مشترك – لكن لا يجب أن نخدع في وضعيتنا. فالمغاربة لهم مصالحهم الخاصة، وهناك مستويات مختلفة من المصالح. لابد من معرفة موقع المصالح المحلية، والمصالح التي يمكننا أن نتفاوض عليها. لابد أن نكون واضحين مع أنفسنا للتفاوض على أي شيء. وما يبدو لي أساسيا يكمن في مسألة الهوية والاختلاف، وتقاطع الحضارات، وتقاطع السياسات. يجب من جهة عدم الثرثرة، ومن جهة أخرى ينبغي حتما أن نبتكر التفكير انطلاقا من المكان الذي نحن منخرطون فيه؛ وعندئذ نستطيع تحرير قوتنا حيثما نحن، وفتحها على أنفسنا، وعلى أقربائنا، والأقل قربا منا. لا شيء يمنعني من الحوار على هذا الأساس مع أوروبا، وعند الاقتضاء مع كل إنسان من أي مكان كان. وفعلا، أنا أرى أن الأمور ليست واضحة. فالفكر في المغرب مازال هشا، فهو إيديولوجي أكثر مما هو فكري، وبهذا المعنى يبقى هشا. ففي المجال الذي يهمنا، أعني الأدب، لابد من توفر القدرة على ابتكار الأشكال والأجناس والشروع في العمل. فما اكتسب قد اكتسب، لكن… خصوصا عدم الثرثرة، وعدم التقليد. وهذا يتطلب عملا كثيرا، ومعاندة النفس.
سؤال أخير، وهو توسيع لكل ما سبق أن قلناه. بعض المثقفين في الجزائر يؤدون حاليا حياتهم ثمن رأيهم المعبر عنه بكل حرية. ماذا توحي لكم هذه الأزمة التي تجتازها الجزائر؟ وهل تحسون بأنكم معنيون بجو اللا تسامح هذا الذي يصيب الإنتاج الأدبي؟
هناك ملاحظتان، في الأساس: فما أتأسف عليه حول ما يجري في الجزائر، منذ سنوات كثيرة – هو أن بعض نقط الحضارة كانت قد كبتت، فيما يخص طريقة اللباس والكلام والطبخ، وحتى بالنسبة للبنيات الأساسية – مثلا الفلاحة أفلست، والفلاح أيضا، ولم يعد هناك صانع تقليدي، ومهم أن نشدد على ذلك. مما يعني بأن المشكل ليس سياسيا فقط، بل هو شيء يخلخل الحضارات، وبالتالي طريقة تدبير الحضارة والدولة. إنها المسألة التي يجب دراستها وتمس بلدانا أخرى. هذا في ما يخص الأساس. أما الملاحظة الثانية فتتمثل، حسب ما أعرفه، في اغتيال الطاهر جعوط، وقد عرفته، كان لطيفا جدا، وإنسانا هادئا. يبدو أنه اغتيل أيضا باعتباره صحفيا، وليس بالضرورة باعتباره روائيا كاتبا. اغتيل باعتباره صحفيا مسؤولا عن جريدة… والآخر السوسيولوجي اغتيل لأنه ينتمي إلى هيئة سياسية. ليس المثقفون رهائن، قد يكونون هم رهائن أنفسهم في هذه القضية، لكن أظن بأن لهم موقفا آخر يدافعون عنه. ولا أظن أنهم كانوا هنا، خصوصا، هدفا لأولئك الذين يسعون إلى السلطة. فالمثقفون لا يمتلكون السلطة، وليس لهم إلا سلطة استشارية.
إذن، فهم ليس الأكثر خطورة بالنسبة لأولئك الذين يريدون السلطة عارية. هاهنا تشويش يجب توضيحه. وبطبيعة الحال، هذا محزن جدا، حين يمس الأمر مثقفين. ولا يجب كذلك تعميم المسألة. وأظن بأنه يوجد تعميم مفرط للوضعية الواقعية كما أحللها، لذلك لا أقوم بالتأويل. بالعكس، أظن بشكل عام بأن هذا يبعث المثقفين، هنا أوهناك، على التريث. وهذا يدفعهم أن يلعبوا دورهم الذي هو بالضبط الاستشارة، في وطن يطمح أن يتأسس بطريقة أكثر ديمقراطية؛ فعليهم التدخل، وطرح الأفكار، والمناقشة، والتحرر، لكي يستطيع الرجال العاملون الاهتداء بهم، الرجال العاملون أو أصحاب الرأي بكل بساطة. إذن هناك شيء ما يهمنا جميعا. وهاهنا نحن قريبون من الأوروبيين. لقد كان هناك محو لدور المثقفين، بالنسبة للإعلاميين، والتكنوقراطيين، الذين شرعوا في ممارسة الثقافة وطرحوا أفكارا حول المجتمع. الكل يملك هذا الحق، لكن أظن بأنه بالفعل اختفى نوع من المثقفين؛ ولابد من اختراع أنواع أخرى، فهي مسألة جيل، وعمل على الذات، ومع الآخرين. إذن لا يمكننا أن نرى بروز أنواع وليدة عمل سري قد ينجز أو لا ينجز – ليس هناك أي شيء عفوي. فبطبيعة الحال، منذ عدد مجلة لاماليف (Lamalif) بمناسبة عيدها الثاني، قلت الأشياء بوضوح عن المثقفين وعن الحقول التي يمكن أن يشتغلوا فيها أحسن، وأن يتمكنوا من الخروج من الجامعة وهم يقومون بعملهم بشكل جدي، لاسيما وأننا نطالبهم بالخروج شيئا ما من الجامعة. إذن لنأخذ الأمور في اليد ونعمل. فالمناقشة تبقى مفتوحة في هذا المجال.
عبدالكبير الخطيبي: الحوار 1
حاوره: مصطفى الشيخ
كاتب وأكاديمي من المغرب