حوار: كلاديس ماريفا- بابتيست ليجي
ترجمة : سعيد بن الهاني- مترجم وكاتب مغربي
ولد إدغار موران سنة 1921، واسمه الحقيقي إدغار نهوم Edgar Nahoum – ابن تاجر يهودي من أصل يوناني وأم إيطالية توفيت وهو في سن العاشرة. اكتشف المقاومة خلال حرب إسبانيا منذ 1936، تابع دراساته في التّاريخ والجغرافيا والقانون، قبل أن يلتحق سنة 1942 بالمقاومة إلى جانب الحركات الشيوعية. في مجلة التحرير Libération نشر عمله الأوّل السَّنَة الصفر لألمانيا، الكتاب الذي أثار سجالا كبيرا. في سنة 1950 بدعم فلاديمير جانكلفيتش وموريس ميرلوبونتي أدمج شعبة السوسيولوجيا في المعهد الجامعي للبحث العلمي. بعد إقامته الطويلة بأمريكا الجنوبية، شُغف إدغار موران بفرنسا المعاصرة والممارسات الثقافية المتعلِّقة بصورة الجماعة في فرنسا: تحوّلات بلوديمي La métamorphose de Plodémet، (مقالته المنشورة سنة 1976). انتظر حتى عام 1977 لكي يصدر هذا الباحث الكبير الجزء الأوّل من مشروعه اللامع : المنهج، « الفكر المركّب» . حصل إدغار موران على عدّة جوائز جعلته من أكبر المثقفين الفرنسيين الأكثر تأثيرا.
عندما ننطق اسم ادغار موران، نفكر بشكّل طبيعي في الأبحاث والمقالات التحليلية الاجتماعية وغير القابلة للتصنيف، مصدرها ببليوغرافيته الطويلة، عن أسئلة سياسية، أخلاقية، بل حتى بيئية، تعددت إنتاجاته هذه السنوات الأخيرة، فقد أصدر كتابين المنهج والسَّنَة الصفر لألمانيا ، أتاح لنا هذان الكتابان اكتشاف الوجه الآخر لموهبته وبالخصوص لحياته.
نجد في مقدمة كتابه الأخير«جزيرة لونا» «L’Ile de Luna» ما يأتي: «لقد عاشت الرواية التي سنقرؤها تقريبا سبعين سنة في حياة سرية». «كتاب أوطوبيوغرافي بما فيه الكفاية، كُتب في خضم الذكرى الراسخة للمأثم المثير للمشاعر، الذي يهتز بقوة التعاطف المدرك، لقد بَلَّرَ شُعور اللّقاء الأول بالموت واللامقول غير القابل للاحتمال المحيط به».
إنّ الموت الموضوع رهن السؤال، هو سؤال موت أمّ إدغار موران عندما كان طفلا. ومن ثم توجد الكثير من سمات شخصيته في شخصية ألبير ميرسي الصغير، طفل في سنّ الحادية عشرة، غير مهتم ومجنون بأدب المغامرة. يتخيل «أنه يبحر، يسافر، ينزل ولريح الحياة أن تحمله أينما شاءت».
مثل أمه لونا Luna التي قيل له إنها ذهبت فجأة إلى منابع محطة المياه المعدنية لـ «فيتيل»؛ لكن حقيقة وجهتها كانت شيئا آخر تماما، وهذا ما فهمه ألبير، رغم الصمت (المؤقت) لأسرته. كيف يجب على العم أندريه والعمة روني أن يتحركا؟ هل يشبه L’Au-delà الأقصى جزيرة الأموات في لوحة الرسام السويسري أرنولد بوكلان Arnold Böcklin؟
إنّ كتاب «جزيرة لونا» مثير للمشاعر وذو بُعْدٍ كوْنِي، كما أنه مكتوب بشكل جيد أيضا، إن هذا النص الذي كتب لمرحلة شباب إدغار موران، والمنشور أخيرا، يمكن أن يقرأ كما هو ذلك، أو كنوع من الرّحِمْ المُوَلِّدْ matrice غير المباشر لعمله، وهو يبحث عن أن يجمع ما لا يمكن أن يتصالح، دائما في بحث عن الحقيقة من خلال التناقضات.
سمح لنا كتاب «جزيرة لونا» أن نناقش المؤلف، خارج نظرياته، كي نتعرف عليه كإنسان، وعلى حياته المرتبطة دائما بكتبه.
أي مكانة احتلت الكتب في حياتكم عندما كنتم طفلا ثم مراهقا؟
منذ الطفولة، كانت القراءة شيئا مهمّا جدًّا. كنت الابن الوحيد. خجول وانعزالي شيْئا ما. عندما رأى أستاذي في المرحلة الابتدائية (CE2) موهبتي في الكتابة والإملاء، فقد نصح والدي لفائدتي بالاهتمام بإنجاز قراءات. وأعتقد أنني بدأت بحكايات الكونت دوسكير la comtesse de ségur. ثمَّ مررت إلى روايات مغامرة لجيمس فينمور كوبر James Fenimore Cooper وغوستاف أيْمار Gustave Aimard حول هنود أمريكا. كنت سابقا في تلك الحقبة أقف إلى جانب هؤلاء الهنود البؤساء .. كان هناك أيضا تاجر يبيع الكتب المستعملة بزنقة Ménilmontant، حيث كنت أشتري منه الكتبَ بانتظام. وفي يوم من الأيّام، بينما كنت أتصفّح روايات Paul Bourget بول بورجي ،حدثَ أنْ عبّر عن اندهاشه بالجملة الآتية: «هذا هو الجمال!». ومن ثم، فقد توجهت نحو كُتَّاب بداية القرن التاسع عشر مثل بلزاك، ديكنز، وغيرهما.
وبما أنني كنت يتيم الأم، فقد كنت ناضجا بشكل مبكّر، وما جذبني باكرا هي أولا كتب أناطول فرانس حيث النَّزْعَة الشَكِّيَة التي قادتني إلى مانطاين Montaigne. ثم بعد ذلك، صرعني كتاب الجريمة والعقاب، هذه الرواية التي تستكشف الشعور بالذّنب، والخلاص، فقد سلبتني. شابا كنت، قرأت روايتي الإخوة كرامازوف والحرب والسلم، كل هذا الأدب الروسي أثَّر فيَّ بإنسانيته الضِّمنية، دائما توجد الشفقة بينما الأنسيّة الفرنسية باردة، ثقافوية.
كيف أصبحتَ عاشقا للسينما؟
في الوقت نفسه الذي كنت قد اكتشفت فيه دوستويفسكي أثّرتْ فيَّ بشكل عميق أفلام سنوات الثلاثينيات من القرن الماضي:
Le chemin de la vie طريق الحياة
La tragédie de la mine مأساة المنجم
L’opéra de quat’sous أوبرا كواتسو
A nous la liberté لنا الحرية
وُلِدْتُ في اللحظة التي ظهرت فيها السينما الناطقة، التي كانت أكثر تأثيرا من السينما الصامتة، وهو السن الذي كنا فيه شديدي الحساسية، بالخصوص تجاه هذا النوع من الأشياء. في تلك الحقبة، كنت في وضع عائلي سيئ، حاولت أن أنسى حزني، أتاحت لي السينما اكتشاف العالم، والمشاكل الإنسانية. كما فعل الأدب ذلك. بقيت متعَلِّقًا جدا بالفن السابع، ولا زلت مؤخرا أرى أعمالا تترك فيَّ نفس الأثر مثل Faute d’amour حبّ خاطئ لـ André Zviaguintsev أو Blade Runer 2019 لـ Denis Villeneuve. وبالنسبة لي أعتبر كلا من أكيرا كوروساوا Akira Kurosawa وتيرينس ماليك Terrence Malick كاتبين كبيرين.
في أيّ وقت بدأتم الاهتمام بالمقالات والمفكّرين الكبار الذين يكتبونها؟
قبل الوصول إلى الفلاسفة، قرأت أوّلًا حِكَمَ Les Maximes للكاتب لاروشفوكو، والطّبائع Les Caractères للكاتب لابرويير .وبعد ذلك الشّعر.أوّلا هوغو، لامارتين، نرفال، ثمّ رامبو، في المرحلة التي كنت فيها مقاومًا.
ومن المرتكزات الحاسمة التي عملت على بلورة فكري كانت قراءة باسكال، هيجل، ماركس في المستوى العميق. وما أغواني في كتاب باسكال هو أنّه صوّر الكائن الإنساني كنسيجٍ من التّناقضات. لم أدركْ عندَ هيجل ذاك الفيلسوف الذي أراد تشييد نسقٍ ضخم، كما رأيته أيضا مفكِّرًا في التناقضات، وبعد ذلك اكتشفت هيراقليط بفضل كتابه الصّغير: Les Présocratiques القبل سقراطيين. كانت فكرتي مجابهة التناقض، وليس تجَنُّبَهُ. من جهة أخرى، أصبح اليوم ذلك نواة طريقة تفكيري.
وأخيرا، كل ما سيشكل مفهوم «التفكير المركب» يوجدُ هنا سابقا.
نعم، هذا ما كان يوجهني عندما ألج الجامعة. هدفي لم يكن أن أصنع مسارا مهنيا، ولكن أن أفهم كيف كان المجتمع والكائن الإنساني في هذه اللحظة التي كنا نتأرجح فيها داخل الحرب بعد تشنجات مرعبة، حرب إسبانيا، محاكمات موسكو. ومن ثم، أعتقد، ودون أن أعرف جيدا ماركس، أنّه طريقٌ جيّدُ. لقد أراد ماركس أن يعرف ماذا كانت تعني حقيقة العالم، الإنسان، التاريخ والاقتصاد. لقد انخرطت في التسجيل في التاريخ، الفلسفة، والعلوم السياسية بل حتى القانون. لأنه كانت هناك دروس في العلوم الاقتصادية. بدأت في قراءة السوسيولوجيين مثل رايمون أرون، ومؤرخي الثورة، جورج لوفيفر Lefebre وألفونس أولار Aulard بفضلهم فهمت أنه يجب عليّ دائما أن أُرْخِنَ ذاتي.
يقولون بأن هذه القراءات قد أثرت في التزامكم في حرب إسبانيا وفي المقاومة؟
عندما قررت أن أنخرطَ في الحركة السرية ، كنت خائفا من الموت بينما كان سني عشرين عاما، وأنَّنِي لن أعيش طويلا. وبعد ذلك، فهمت أن هناك فرقا بين البقاء على قيد الحياة، وأن تكون حيا، ولكي تحيا – في بعض الحالات- يجب أن تغامر بحياتك. قرأت كتاب «الحالة الإنسانية» la condition humaine، «الأمل»و«وقت الازدراء» le temps de mépris. يجب القول بأن مالرو هو واحد من المؤلفين الذين دفعوني تحت وقع الاحتلال، إلى النضال الشيوعي في خضم المقاومة. كذلك الكاتب أندريه جيد في «تغذيات أرضية» Nourritures terrestres. تلقيت هذه القراءات في المراهقة كنداءات للحياة بشكل مكثف.
أنتم تُقدِّرُون مؤلِفِينَ مُتنوّعِين جدًّا، وعملكم يستدعي فرشًا واسعًا من المعارف. ماذا يعني أن فكركم بغناه ومركبيّته سيكون غير قابل للتصنيف؟
عرفت سابقا أنه وجب عليَّ معرفة الإنساني، ولكي أتعرفه وجب علي مباشرته بتخصصات علمية مختلفة، لكنني لم أذهب بعيدا. تمت إزالة كل العقبات عندما أردت تأليف كتاب الإنسان والموت، بين سنة 1948 و1951 قضيت سنة في المكتبة الوطنية، هناك رأيت في كلمة «موت»، لم يكن هناك إلا كتابان أو ثلاث كتب دينية، بينما لم يكن هدفي أن أعرف الموت، ولكن التعرف على المواقف تجاه الموت، انطلاقا من أي لحظة نبدأ في الاعتقاد بوجود حياة بعد الموت، وفهمت أن ذلك كان قبل التاريخ. لقد فرض علي ذلك الاهتمام بالتاريخ، والديانات، والتحليل النفسي، ليس فقط مع فرويد، ولكن كذلك مع Otto Rank أوطو رانك، ساندور فرينزي Sandor Ferenezi… كان علي أن أمر بجميع تخصصات العلوم الإنسانية، وأن أقترب مما تقوله البيولوجيا عن الموت. إن كتابة الموت بيّنت لي أنه عندما يكون لدينا موضوع مهم، يجب اكتشاف كل حقوله المعرفية الممكنة. لكن نمط تربيتنا يجعلنا عاجزين عن تناول موضوعات مهمة.
نرى لكم عملا شبابيا اليوم، رواية «جزيرة لونا» l’Ile de Luna في أي سياق كتبتموها؟
أولا، أؤكد أن كتابي الأول يسمى السَّنَة الصفر لألمانيا l’an zéro de l’Allemagne يأتي مصدره من دعوة لصديقي Robet Antelme روبير انتيلم الذي كان ناشري من جهة أخرى. وهو كتاب كان هجينا سابقا، مرة كان مصدر التقريرات السوسيولوجية، وتأمّلا لموضوع مهمّ. حول كيفية قدْرة هذا البلد الذي يضم الموسيقيين والفلاسفة والشعراء والمفضلين لدي على أنْ يُنْتِج هذه البشاعة التي هي النازية، وقد كتبت أيضا حكاية صغيرة معنونة بالحبل Une Corderie التي تعتبر فعلا منبثقا من احتقار تعرضت له بعد نهاية الحرب، عندما أردت تنظيم معرض حول الجرائم الهتلرية. أعتقد أنني كنت في لحظة تحرير رواية «جزيرة لونا» لم أكن أبدا في زنقة سانت بنوا Saint-Benoît، عند مارغريت دوراس، اهتز إيماني بالشيوعية كثيرا. ومن ثم، ففي هذه المرحلة من العزلة كتبت هذه الرواية عن أمي.
عفويا عندما نفكر فيكم، لا نفكر بالضرورة في فن الرواية. ما الذي أتاحت لكم الرواية كتابته، ألم يكن بإمكانكم إثارته في مقالة تحليلية؟
تتيح الرواية التعبير عن شخصنا، وشخصنيتنا الخاصة، وهواجسها أفضل من المقالة التحليلية، لكن في تلك الحقبة كنت أقول في نفسي كي يكون الشخص روائيّا، يجب أن يكون مبدعا؛ بينما في العلوم الإنسانية يكفي أن يكون ذكيا. الرواية كتبتها إذن تحت وقع ضربة إثارة (أو حافز) قوي جدّا. لماذا؟ السبب أن موت أمي، وظروف موتها، والأكاذيب التي أحاطت بها، هي واحدة من الأشياء الصعبة جدا ،والتي لم أبح بها لأي أحد، حتى لوالدي نفسه، أبدًا. لقد اعتقد دائما أن الأمر جعلني لا مباليا، لأنني احتفظت بالحزن لنفسي. كنت مدفوعا للكتابة عن هذا الشيء بعد الحرب، بجعله روائيا بالكاد. لا أحد طلب مني ذلك، لقد جاء الأمر من عندي. لقد كشفْتُ عن النسخة المرقونة لرواية الجزيرة لونا إلى صديقة لي، التي طلبت مني كتاب «الإنسان والموت» فقد تجَهَّمَتْ قليلا عندما قَرَأْتها، وهذا أقنعني بأن الأمر لا يستحق النشر. لكن عندما طلب مني جون بول كابيطاني Jean Paul Capitani شيئا للنشر لـ Acter sud إذا ما كان يتوافر في أدراجي مخطوط معين أجبته «لا، … ما عدا …هذه الرواية» قرأها، فوجدها رائعة ونشرها. كنت ببساطة سعيدا أن أحدا اهتم بهذا العمل.
كتبتم كذلك الشعر؟
نعم، ارتكبت خطيئة إبداع مجموعة شعرية عنونتها «Rhapsodie du satyre du métro مقطوعة شعرية لإله الميترو». لقد كان الميترو يُقَوِّيني، كنا ملتصقين فيه كسمك السردين. كنت أجلس دائما بجانب النساء، دائما في حالة إثارة، ومن ثم فقد كنت أتخيل عقد لقاءات وهو ما كنت قد قمت به بعد ذلك من جهة أخرى. إن هذا الشَّبق من قطار الميترو، ذهب ليبحث عن النساء العجوزات والقبيحات كي يمنحهن السعادة. في اعتقاده أن الشكل يمكنه أن يعجب بريفير الذي عرفته بسان بول دو فانس Paul-de-vence فقد جئت له بمخطوطتي. أخذها ولم يخبرني بأي جديد. وعندما عدت إلى الجنوب خلال عام، رأيت بريفير من جديد، الذي أظهر فجأة برودا كبيرا. أعاد لي المخطوط بدون أن يلفظ كلمة طبعا، بعد ذلك لم أكتب أبدا القصائد، بالنسبة لي، كان ذلك بمثابة إدانة شديدة. حددت هذه الحادثة فعل أنني لم أبحث عن قراء لرواية «جزيرة لونا» ولا عن نشرها. اعتقدت أنني لن أستطيع أن أصنع مسارًا أدبيًّا، إن كتاب الإنسان والموت وضعني في طريق أعجبني كثيرا، فعاد بي إلى هذا البحث الذي قادني إلى الجماعة وإلى هذا السؤال الجوهري: «من هو الإنسان؟».
حقا، ماذا أغواكم في هذا السؤال؟.
هناك توجه لماركس يقول إن علوم الطبيعة تختار علوم الإنسان وعلوم الإنسان تختار علوم الطبيعة، وهذا يعني أنه ليس فقط الإنسان هو الكائن الطبيعي، ولكن أيضا أن فكرة الطبيعة هي إنتاج الحضارة، التي تتغير حسب شروط وتطور العلم، بإيجاز. إن علوم الطبيعة يتم اعتبارها من خلال منظور الروح l’Esprit الإنسانية. كل شيء يمر بواسطة معرفة الإنسان. لكن هذه المعرفة لا يمكن أن تنغلق على نفسها، الإنسان يوجد داخل الطبيعة والطبيعة موجودة داخل الإنسان. هذه هي طريقة التفكير «المركب». وهذه هي القصّة الكاملة لكتابي la méthode المنهج: كيف نعرف بشكل صحيح؟ لقد لاحظت من جهة أخرى أنّهُ ما عدا كانط، وعلوم الأعصاب والدماغ، لا نبحث عن المعرفة في أي مكان. إن نظامنا التربوي يعطي المعرفة دون أن يطرح إشكالية معرفة ما هي المعرفة.
لقد سافرتم كثيرا بعد الحرب إلى إسبانيا، ألمانيا… هل فكرتم في الصحافة؟ أو أن الرغبة في تعميق الأشياء وجهتكم نحو السوسيولوجيا؟.
بعد تحرير باريس كان ذلك بالنسبة لي سقطة مرعبة، كنت مقاوما دوكوليًّا. وفي نفس الآن أصبحت شيوعيا. أصبح الناس حذرين. لم يمنعني ذلك من كتابة مقالات تروق لي، فقد وقَّعْتُ إحداها في جريدة حركتنا Libres الأحرار. وأجدها اليوم فكرة غريبة (غروتيسكية). بهذا العنوان «أين هم الفلاسفة؟» دعمت فكرة أن الفلسفة لم تعد موجودة في الجامعات والفلاسفة كانوا المقاومين الذين قاوموا النازية. لكن الحزب الشيوعي أراد أن يستفيد لكي يزيح أعداءه السياسيين، ويقال لي إنه كان عليّ بالأحرى أن أكتب عن التطهير l’épuration قمت بعدة محاولات في جريدتي action حركة والمساء Le soir دون نجاح أكبر. لقد كان لي مسار صحافيّ فاشل، ومسار شاعر فاشل، ومسار روائي فاشل (يضحك إدغار موران).
تكتبون وكأنكم في اللاأدرية وكأنكم مُتَنَصِّرٌ جديد، إنكم منجذبون أيضا للبوذية. كيف هي علاقتكم بالله؟.
أعتقد أنَّ هناك غموضا كبيرا في الكون، لا أملك الكلمات لقول ذلك، وهذا يتجاوز كفايتنا الذهنية. أعتقد أنَّ الإنسانَ هو مَنْ خَلَقَ الآلهة، وليس العكس. إنَّ الآلهةَ تنبثق من روح الجماعة الإنسانية، ولكن بمجرد أن توجد، وهنا تكمن المفارقة، تسيطر علينا، وتطلب منَّا أن نصلي من أجلها، وقتلها، والموت من أجلها كذلك. وهذا ينطبق بشكل صحيح على الإيديولوجيا شبه الدينية التي كانت عليها، على سبيل المثال الشيوعية أو النازية… أُحِبُّ بالأحرى أن يكون لي إيمان ديني لأنَّنِي أحب كل ما هو حماسيّ وتشاركي.
ولماذا المُتَنَصِّرْ الجديد؟
كتبت كتابا عنونته العالم الحديث والمسألة اليهودية، لأنني اندهشت من إسهام عدد من المفكرين المُتَنَصِّرين. إن المتنصر Un marrane هو أحد اليهود الذين اعتنقوا الكاثوليكية، وسيصبح أحيانا وبصدق كاثوليكيا، أحيانا يحافظ على اعتقاده اليهودي، وأحيانا أخرى، في حالة ما بعد المتنصرين، يتجاوز الصدام بين ديانتين. مثل الصِّدام بين ذرتين، ينسفُ أحدهما الآخر، ومن ثمَّ، يولد شيء جديد. وهذا الشيء هو ما تحدث عنه سبينوزا.… فالإبداعية توجد في الطبيعة، إن هذا التنصر الجديد هو خارج المسيحية واليهودية. في رأيي، يعتبر مونتاين Montaigne متَنَصِّرًا جديدا.
والبوذية في كل هذا؟
ما يعجبني في البوذية، هو هاتان الفكرتان المفتاحان: الشَّغف نحو كل ما يَحْيَا، بينما الدّيانات الكتابية لا تعرف الشَّفَقة إلَّا على البشر. الآخرون لا يوجدون، حتما على أرضية حلول الأرواح التي يمكن أن تَبْعَث حيوانا. هذه الفلسفة جميلة جدا بالنِّسبة لهذين السببين.
وأقول مع نفسي أحيانا إنَّها بوذية جديدة أو ما بعد بوذية، والسَّبَب أنَّنِي لا أعتقد في الحلولية .أنا من أتباع ديلاي لاما. رجل رائع ربح بفضل المنفى ما مَكَّنه من الانفصال عن معتقدات خاصة كي يصبح إنسانيا جدًّا، أحب كثيرا كلمة الدين لأنها تَحْمل في ذاتها «رابطة إدماج في نسق ما» وهو ما يربط الكائنات الإنسانية، المشاركة. بالنسبة لي هي القيم المهمة، إذا كنتُ مُتَدَيِّنًا فإنني أدين بديانة التضامن والحب.
بالنسبة إليكم ماذا يعني الاستعجال، هذه الكلمة التي نجدها في غالب الأحيان في أعمالكم؟
استعملتها كي أقول إنه بقوة التضحية بالجوهري من أجل الاستعجال، ننسى الجوهري. في رأيي أن هناك استعجالات تتطلب معالجة مباشرة وحَلاّ فوْريّا. واليوم مجموعة من المشاكل الجوهرية أصبحت مُسْتعجلة جدّا، بسبب أن الأخطار تنمو. ربما وللأسف نحن نعيش تحت نظام الكرونومتر (القياس الزمني) الذي يخلق مجموعة من الاستعجالات، في العصر الوسيط، نعطي مواعيد تحت غروب الشمس. أتذكر في البرازيل بيليم Belém مدينة تسقط فيها الأمطار باستمرار بعد الزوال، الناس يضربون مواعيد بعد سقوط الشتاء. هذا القياس الزمني هو الذي يخلق استعجالا، إنّه مشكل الحضارة التي تحملنا في آلتها الجهنَّمية.
لا تحبون الخانات ولا التقسيمات؛ فما تشرحونه بمفهومين مفتاحين: «رابطة إدماج في نسق ما» La reliance» و»التفكير المركب» أليس ذلك بمثابة اعتراف بأن الأشياء تتجاوزنا، ومجرد قبول أنها تتجاوزنا تجعلنا قادرين على معرفتها؟
حقا، إن الاعتراف بالمركّبيّة لا يمكن أن يَتَجنَّب اللا يقينية، ولا أن يأتي بها. أضف أن المركّبيّة لا يمكنها فعل كل شيء، هناك أشياء غامضة، لا يمكن لعقلنا أن يصل إليها. ومن ثم، أعترف وبشكل جوهري أننا نحيا في الغموض.
أليس هذا مخيبا للآمال؟
نعم مُخَيّب للآمال، ولكنه في نفس الوقت، لم تكن المعرفة التي قادتنا إلى الغموض الجديد قد انْتُقِصَتْ قيمتها. على العكس من ذلك، يجب شُكْرُها لأنَّها سمحت لنا بأن نكون أكثر وضوحا حول ما لا نعرفه. إنَّ الشعورَ بالغامض يمكن أن يُضْمِر إما الخوف أو التعجب، وإما الاثنين المرتبطين بعضهما ببعض ، وبي أنا. إنه يمنحني التعجب. شعور فضولي من جهة أخرى، أقول أكثر فأكثر، وأنا أمشي وأنظر إلى الناس حولي «هذا أمر فضولي ما يُوجَدْ … لماذا؟ لماذا؟» في العمق لا يعتبر هذا الشعور قلقا، إنه اندهاش: «كم هي مضحكة هذه الحياة!».
سمعتكم تتحدثون عن الفلسفة والتاريخ ..إلخ، إذن لماذا السوسيولوجيا؟
إنها إشارة (لاصقة) رسمية، عندما كنت مفكرا مُعَطَّلًا، شجَّعني صديق لي اسمه George جورج فريدمان – الذي كان يشتغل في المعهد الوطني للبحث العلمي CNRS- على الدخول إليه، وما دمت كنت من المهووسين بالسينما قلت في نفسي إنَّنِي سأختار سوسيولوجيا السينما. بالنسبة لي، كانت طريقة في الاستفادة من الخانة الفارغة للولوج إلى المعهد الوطني للبحث العلمي، حتى ولو كنت لا أتصور أنني سأحبس نفسي في السوسيولوجيا طيلة حياتي، أول عمل قمت به«السينما أو الإنسان المتخيل». لم يكن ذلك سوسيولوجيا بالمعنى الحقيقي، ولكن كان عملًا انثربولوجيًا، وعندما اشتغلت على سوسيولوجيا السينما، اكتشفت أنه لا يمكنني أن أعزلها عن صحافة المجلة والتلفاز أو ما كنا نسميه في تلك الحقبة «بوسائل الإعلام الثقافية» mass culture. فقد كتبت كتابا في هذا الموضوع: «روح الزمن» l’esprit du temps لقد درست بشكل أكيد السوسيولوجيا، ومع ذلك فقد كان هناك دائما مظهر تاريخي، سيكولوجيا، وتأملات فلسفية.. بعبارة أخرى، بالنسبة لي، السوسيولوجيا أغلقت، وهذا وهم. يقال لي إن السوسيولوجيا والفلسفة هما أكثر قبولا لكن هذه العناوين المسكوكة تزعجني كثيرا. فإذا قيل لي أنثربولوجي فهذا يلائمني جيدا، وإذا قيل لي بأنني مفكر، فإن الأمر يدهشني ،لكنني لا يمكن أن أضعه في بطاقتي على هذا الشكل «إدغار موران، مفكر»! ‹يضحك إدغار موران).