اليوبيل الفضي
هذا الفعل الثقافي الذي بين أيديكم وغيره ما كان له أن يكون لولا أن هناك همة قصوى بالنهوض بالإنسان العماني كي يتواصل مع حضارته العربية – الاسلامية الضاربة في أعماق التاريخ ، وربط حاضره بآفاق المستقبل واشراقاته ورؤاه .. .
وحيث إن المكان هو المثابة والزمان هو المتغير، فان البقاء دوما للمتغير الحقيقي والفاعل والمؤثر.
ففي وجدان كل إنسان عماني رغبة صادقة في أن يعيش حاضره بوعي وادراك متحملا مسؤولية ماضيه المكاني بخصوصيته وتميزه ، وماضيه العربي – الإسلامي، المشعل الذي ينير درب المستقبل .
فقبل خمسة وعشرين عاما مضت كانت عمان مجرد رقم في ذاكرة الاوطان .. فمن امبراطورية شاسعة الأطراف ، بأساطيلها وفكرها ورجالا تها إلى الانكفاء والانغلاق الذي كادت أن تصبح معه نسيا في ذاكرة الوجود وآفاق العصر قبل قيام النهضة المباركة .
خمسة وعشرون عاما مضت وسلطنة عمان قد ازالت غبار النسيان والتحجر ومخلفات القرون الوسطى وهى تسير في سكة القرن الواحد والعشرين بتوازن قلما حدث في بلدان عرفت نفس الظروف والصعاب موائمة بين ماض عريق تراكم علية الغبار وحاضر صعب لا يكون فيه الحضور الا لمن ملكوا إرادة العمل نحو البناء الوطني المدروس والمخطط له بحيث يحقق نتائجه العميقة بشمولية العطاء ونضج التجربة .
وحين تحتفل سلطنة عمان باليوبيل الفضي يوم 18 نوفمبر 1995، فانها تحتفل بالعطاء الذي لا يحد وبقائد عربي صميم اراد لهذا الوطن والانسان ان يكون هدفه الاسمي في التنمية والتطوير. فخلال الخمسة والعشرين عاما من عمر نهضة عمان الحديثة التي قاد سيرتها جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ادركت عمان المستقبل بخطي حثيثة كأنما تلبي نداء التفاعل والعطاء الحضاري بروح التفاني لان تكون وطن الحاضر والمستقبل .. وطن الحضارة بشمولية ما تعنيه الكلمة .
إذن الاحتفال .. هو احتفال بالانجازات بما تحقق على أرض الواقع في عمر قصير إذا ماقيس بعمر الشعوب وتطور الحضارات .
فعلى كافة الاصعدة شكلت سلطنة عمان بناءاتها الاساسية على قواعد صلبة ، شاهدة كحقائق يحفل بها الواقع المرئي والمعاش اما بالنسبة للنهوض بالانسان وعيا وادراكا فان اكثر من نصف السكان ينهلون الآن من المعارف الدراسية والاكاديمية في السلطنة . فمادام الإنسان هو غاية التنمية ومرتجاها فان الاهتمام بالانسان لم يشمل الجوانب المادية فقط ، وانما تعداه الى المعرفة بآفاقها الرحبة .. المعرفة والتواصل والاتصال ، الانتاج الثقافي بشتى أنواعه .
فبجانب تكامل أنشطة وفعاليات الوزارات العديدة المعنية بالعلوم المعرفية والثقافية هناك فرادة تميزت بها سلطنة عمان بتخصيص وزارة تعني بشؤون التراث والثقافة وتجميع وتحقيق ونشر وتوزيع تلك المعارف .
كما ان النهوض المعرفي تم على مستويات أخرى بوجود النادي الثقافي ، المنتدى الادبي، وزارة الاعلام في جانبها الثقافي الهام ، الهيئة العامة لأنشطة الشباب الرياضية والثقافية ، نادي الصحافة ، جمعية الفنون التشكيلية والتصوير وغيرها من المناشط الثقافية التي تدعم مسيرة العمل الثقافي لأن يكون نافذة حقيقية للخلق والابداع والعطاء المستنير.
فوجود أمكنة تؤطر الفعل الثقافي ، وتحفز امكانياته تطلب ظروفا تعا ونت معه ارادة الحكومة والمواطنين الذين تجاوبوا سريعا لأن تكون الكتب متداولة ومنتشرة بين ايدي القراء محليا وعربيا، واظهار خفايا المعرفة والاجتهادات العلمية التي كتب واشتغل عليها العمانيون عبر العصور.
وبالفعل استطاعت وزارة التراث القومي والثقافة والمؤسسات الأخرى المعنية بهذا الشأن ان ترفد كما هائلا من المخطوطات والكتب والمدونات العمانية التي تواجدت داخل السلطنة والتي يمتلكها أفراد وعائلات .
وتوسع نشاط الوزارة باهتمامها بتلك الكتب والمخطوطات والرسائل والوثائق العمانية بأماكن شتى على مستوى القارات خصوصا قارات آسيا وافريقيا وأوروبا «البرتغال وهولندا وفرنسا وبريطانيا وكينيا وتنزانيا>> .
واثمر هذا الجهد الجبار نتائج باهرة منها تجميع تلك المخطوطات والكتب والرسائل بتصنيفها وتحقيقها وطبا عتها ونشرها وتوزيعها وبيعها بأسعار رمزية .
كما أثمر الجهد ايضا صدور موسوعة الكتب العمانية التي تعاون على انجازها وزارة التراث القومي والثقافة وجامعة السلطان قابوس خلال احتفالات السلطنة بعيدها الوطني.
ولا نستطيع ان ننسى الجهد الكبير الذي بذل في عملية المسح الشامل والتدوين ألعلمي الدقيق لفن الموسيقى والفناء العماني، كجزء من تراثنا العريق . وعبر جهد بذل فيه المزيد من الوقت وعناء البحث صدرت خلال السنوات الماضية موسوعة السلطان قابوس للاسماء العربية التي تعتبر أول موسوعة عربية حديثة ، منسقة ومرتبة ترتيبا معرفيا وعلميا دقيقا يسهل معه معرفة الاسماء العربية ومسمياتها.
وكانت فكرة اطلاق مجلة «نزوى» دعوة مفتوحة للتواصل مع الابداعات الجديدة والثقافات الانسانية والرؤى المبدعة ، عمانيا وعربيا وعالميا، في زمن تتسارع فيه وتيرة التواصل المسموعة والمقروءة والمرئية ، وتتقلص فيه المنابر الثقافية المفتوحة .
أما في مجال التنقيبات والآثار والكشف عنها فقد توجت الخمس والعشرون من عمر النهضة العمانية بالكشف الفاعل لمكونات الحضارة التي تضرب بجذورها في اعماق المكان وامتداداتها. حيث اثمرت تلك التنقيبات عن الكشوف الأثرية الهامة التي أبرزت الحضارات التي عاشت عايشت الأرض العمانية منذ أكثر من خمسة آلاف عام مضت كواحدة من المناطق التي ارتبطت بوجود حضارات الانسان مع غيرها من المناطق الأثرية _الحضارية في العالم فكانت وبار، وصحار، وسمهرام ، والبليد، وبات وهرمز، وسمد الشأن وغيرها شواهد لمدارات تاريخ عريق .
إذن الاحتفال باليوبيل الفضي .. هو احتفال بتجدد العطاء لمسيرة النماء والاعمار والمنتمية التي استهدفت الانسان أولا وخطت لنفسها أن تكون استمرارا لتلك المشاعل في مسيرة المستقبل العماني.
وهذه وقفة احتفاء ومراجعة باتجاه ما أنجز وباتجاه تفعيل وتعميق المنجزات والأطر والمؤسسات الثقافية في سياق كل المنجزات الأخرى.