لا جديدَ تحت شمس الصحراء..
الغبار الأرضيُّ وذاك القادم من كواكب أخرى
(يـــوميّات عـــاديّة)
في أي يوم نحن الآن? الأربعاء, الخميس, الأحد? في أي ساعة وزمن وتاريخ? لا أكاد أتبيّن علامات الأزمنة. الغبار يلفّ المشهدَ بكامله. الغبار الأرضيُّ وذاك القادم من كواكبَ أخرى. الزمن يسيل سيلان الدماء الغزيرة في الطُرقات والشوارع, في الأزقّة والأودية, على الأرض العربيّة والعالم. الزمن المتدّفق, والمتجمدُّ كصخور خزافيّة جاثمة على صدر الكائن وهو يختنق بأنينه اليائس تحت بطشها المطلق.
في أي يوم نحن الآن. في أي ساعة وتاريخ?
***
الأحــد: صباحاً أحلق ذقني. الشفرة السلِسة تصطدم بنتوء وتسيل قطرات من الدم, تلونّ الماء في المغسلة. أفكر في الدم, في تاريخ الدم والدموع, تاريخ العار البشري والآلام, كما فكر (بورخيس) في تاريخ الليل والعتمَة.
***
أمرّ على بستان نخيل, وقد دمرّه الجفاف وتهاوت غدرانُه ومال وانحنى, بعد استطالة تكاد تلامس زرقة السماء, وطلعة شموخ حالمة. نحن الذين وُلدنا بين النخيل والجبال نحس بآلامها وتصد عها أكثر من غيرنا.
ألمّت بي نوبة بكاء صامتة من غير دموع, مثل جرح ينزف من أعماق نبع يلتهمه الجفاف.
***
كم تخيلت وادي (سرور) الذي كان خصيباً وغنياً بالمياه التي لا ينضب معينها على مدار العام; أن مياه هذا الوادي وقد غارت واختفت, كم تخيلتُ أنها في هجرة مؤقّتة بين حقول وتضاريس الأعماق.. لتستأنف رحلتها عبر أزمنة قادمة. وتخلق دورة خصبٍ ونماءٍ جديدة.
ثمة عشبٌ يراه الساحر في حلَبات اليباس
***
بحيرة فيكتوريا, هي أكبر بحيرة في إفريقيا.
في هذه البحيرة المترامية, ثمة فصيل من الذباب يسمىَ ذباب أيار,أو الذباب الشَبح. تجتذبه أضواء القمر, فيفقس بيوضه ويتناسل في ظلال هذه الطلعة القمريّة, ثم يموت على الفور.
البشريّة لا تختلف عن هذا الذباب من حيث التفقيس والتناسل. لكنها تفتقد جمال ذلك المناخ, الذي يحتضن الولادة والموت.
لا تختلف إذا لم تكن هناك قيم روحيّة وجماليّة تنقذ ما تبقى من ماء الوجه المهدّد بالنضوب والجفاف.
***
يُروى عن الإمام غسان بن عبدالله, الذي سحق قراصنة الهند, وقد كانوا يستولون عنوةً وغصْباً على السفن في المياه العُمانيّة والخليج, أنه مرّ ذات يوم على وادٍ ذي زَرْع ومياه جارية, فلاحظ, انتشار الطحالب الكثيف في أرجائه, يعكّر صفو المياه.
توقف متأملا , بينما النسيم العذْب القادم من قمم الجبل الأخضر, يداعب أهداب عمامته ووجهه الوضيئ.. فكر الإمام أن هذا الشبوَ الطحلبيّ, علامةٌ على اختلال ميزان العدالة في البلاد… وأخذ في بحث المصادر والأسباب, وَوْصل ما انقطع في شأن البشر المُوكل أمرهم لقيادته, حتى وضع يده الرحيمة على ما بدأت الرمّة تفترسه والخراب.
***
الإثنين: بعد العمل لم يكن الطقس شديد الحرارة, ذهبت إلى تلك السفوح الجبليّة التي تشرف على البحر. رأيت أحد حرا س الشاطئ يوغل بين الأكمات, فسألته ماذا يعمل هناك بعيداً عن الشاطئ? قال ببراءة: ثمة يمامة بنتْ عشاً أفقست فيه بيوضها, وينوي أخذه.
أشرت إليه بأن لا يفعل, وهو شاب من نخل, فامتنع ومضى إلى الساحل بعيداً عن سفح أعشاش اليمام. مشيت فوق التلال والهضاب التي لم تكن وعرة, رأيتُ فرخَ يمام يتدرّب على الطيران, مسكته بيدي. قاوم قليلاً, رَفرَف بجناحيه ورجليه. مشيتُ به, وأمام أكمة أطلقتُه, وإذا بأمه تحوم حوله في بهجة وبهاء ينمّان عن فرح لقاء بعد فَقْد مؤقّت, ربما ظنّت انه طويلا وأبديّا.
مشيت أكثر, شاهدتُ أسرابَ الصفارد (الدرّاج) من أعمار مختلفة كأنما لم أشاهدها من قبل بهذه الكثافة; فعرفت انه موسم التفقيس لهذه الطيور الغرّاء..
ولم أشاهد نورساً واحداً على امتداد الفضاء البحريّ الفسيح.
***
الثلاثاء: أخرج من البيت الساعة التاسعة. كسل وتراخ في العضلات, قرف من كل شيء, ورغبة مبهَمة في السفر الذي فقدَ دهشته وسحره في الواقع وربما بقيَ جميلاً ومدهشا في الخيال والوهم الطفوليّين للشعر والمغامرة. السفَر في كتاب أحببته أو في شاطئ بحر وامرأة, أو حتى في كهوف الجبال; عُمان بلد الكهوف الأزليّة والجغرافيا الأكثر إدهاشا في العالم- ربما أكثر سحراً وتحفيزاً لطاقة الخيال, من رحلة إلى بلاد بعيدة.
السفر في هذا المنحى مثله مثل بقيّة الأشياء والتفاصيل التي تعج بها حياة البشر, من غير بريق ولا ملمح إشعاع روحي كما كانت. شيخوخة المرأة المسنّة التي لا تجلب إلا الضجر والجفاف من معاشرتها وتصابيها, هي شيخوخة الأشياء والكون المترامي الذي يوغل في حشد أسباب حتْفه وتلاشيه كما في قصص الطوفان والغرق والاختفاء, لكن هذه المرة بما صنعَتْه أيادي البشر وليس الطبيعة التي ترسل إشارات غضبها بين الفينة والأخرى…
أخرج من البيت من غير أن أحلق ذقني.
رشّة ماء على الوجه بعد سواك الأسنان المتعَبة اللثّة. عصافير غبراء تطير حول بصيص ماء أمام مدخل العمارة. وكلاب جيراني الإنجليز, تنبح كالعادة بوتيرة تحرّك هذا الفراغ الذي تتجمد في براثنه الأزمنة. ألمح امرأة على جانب من القبح, تمشي وحدها وعلى رأسها مظلّة تحميها من شمس أكتوبر. مصطفى بانتظاري في السيّارة. رجلاي تؤلماني من باطن القدم, حيث مشيتُ مساء الأمس مسافة قصيرة, حافياٌ على ذلك السفح. كنوع من هَوس استعادة لحظة من الطفولة, حيث كنا نمشي حفاةَ مسافة أميال بين الجبال والشِعاب من غير كلل وبنشوة عارمة.
***
الثلاثاء: أفكر في الغد حيث تبدأ عطلة الأسبوع علي أن أقابل الدكتور علي الهنائي في مستشفى الجامعة. بعدها أفكر أن أزور اخوتي في منطقة (الحيل) منذ فترة طويلة لم أرهم عدا أحمد الرحبي قبل عودته إلى موسكو, وأتغدى معهم الأكلة العُمانيّة الأثيرة, الرزّ مع السمك الطازج الذي تعج به البحار العمانيّة البالغة الاتسّاع, قبل أن تبيدهَ سفن التكنولوجيا المتطورّة.
أفضّل زيارة الأخوة في (الحيل) رغم إصرار بعضهم على الذهاب إلى القرية (سرور). التي صارت رغم مكانتها العميقة في قلبي, تصيبني بالكآبة بعد وفاة الوالدة رحمها الله, وأحسّ بمزيد من الضيق والاختناق.. وكثيراً ما فكرّتُ أن أكيّف مشاعري مع هذا الغياب الحتمي. وألتصق بين الفترة والأخرى برحِم الأرض التي ما تفتئ تسكن الباطن والأعماق طوال رحلة هذه الحياة وربما بعدها في الرحلة الأخرى الذي ستكون أكثر إدهاشاً ومغامرة.
***
ليلة الأربعاء: أنام بعد الواحدة. أصحو في الخامسة بجسدٍ مرهق, أحاول النوم ثانيةً علّي أصل إلى توازن ما. أدرتُ جهاز الموسيقى الكلاسيكيّة ربما سيساعدني على تحقيق هذه المهمة الصعبة. بعد تداعيات كادت تودي بهذه الرغبة, نجحتُ في أخذ غفوة. حلمت خلالها بحلم يقترب من النشوة, أحسست بطعمه البهيج لحظة الصحو وبقائي أتقلّب في الفراش بنوع من الكسل والمتعة… حلمتُ أني نائم قرب بحيرة, قربها مباشرة بحيث أن فراشي يلامس مياهها الزرقاء, وخلفها على مسافة قصيرة من أرض خضراء, أسمع تلاطم أمواج البحر الذي كان في حالة مدّ. ويمكن من مكان فراشي على البحيرة أن أرى البحر في هياجه وتدفّق أمواجه بينما الموسيقى تتصاعد كجزءٍ من هذا المشهد الجمالي الباذخ.
***
أمر على المكتب أرى وأقرأ ما يمكن خلال هذه الساعة, بعد التحية على يحيى الناعبي وهو مسمّر أمام جهاز الكمبيوتر يستخرج الرسائل والمواد, أمضي الى مستشفى الجامعة; فحص دوري روتيني . لا شيء طارئ على الصعيد الصحي, إلا ما طرأ واستوطن.
اليوم تبدأ عطلة الأسبوع. أفكر في تغيير النمط اليومي للحياة الذي أخذ يجرفني بشكل آلي. وغالبا لا أنجح في ذلك إلا حين يأتي أصدقاء من خارج البلاد.
***
الخميس: الذكريات تلّطف جفاف الحياة وتفتح أفقا يكسر محدوديّة المعيش. وإن تركت غصة ودواراً لاحقين. في هذه الليلة جمعتني سهرة بأصدقاء, كنا معاً في القاهرة منذ ما يربو على الربع قرن. وكأنما بالأمس, كيف تمر الأيام بمثل هذا المكر والخداع الساحقين? الكلام الروتيني والحنين الى أيام الصِبا والدراسة.. قلت لـ(أبي سعيد) أتذكر أنّك مكتشف القوانين الخاصة للطبقة العاملة الخليجيّة. وفي اكتشافك هذا أنت تنافس (ماركس) في اكتشافه لآليات وسمات الطبقة العاملة الأوروبيّة, التي صارت تُطبّق عشوائياً, مقتلعةَ من جذورها وسياقها, على بيئات وشعوب مختلفة جذريّا, هذا إذا كانت هناك طبقة عاملة أصلاً, وأنت الذي انتبهت إلى هذا التخصيص والتمييز الطريفين.
القصة بدأت هكذا, كان زميل لنا يريد أن يسكن شقة كانت مقراً مهجوراً للطلبة في شارع الجمهوريّة في القاهرة. وبما أن الشقة بحاجة الى إصلاح وصباغة مع غياب الامكانيات, تطوّع نفر منا لذلك. وبينما صباغة الحيطان في أولها كان هناك (استيلا) باردة. عين على الجدار والصباغة وعين على تلك المياه المعلبّة التي لم يستطع البعض مقاومة إغرائها وندائها, فنزل للشرب والكلام حول تغيير العالم. وحين أخذوا راحتهم وثَقلَ الرأس, ناموا نوماً عميقاً مريحاً حتى علا شخيرهم.
في هذا الجو والسياق علّق (أبوسعيد) وهذا اللقب اكتسبه لاحقا حيث أن سعيد ما زال في تخوم الغيب, علّق بأن هذا السلوك هو النموذج المثالي لسلوك الطبقة العاملة الخليجيّة.
***
الأحــد: صباح مليئ بنباح الكلاب المجاورة الذي يحاول تمزيق الفراغ الذي لا يقهر. هل ثمة من يستطيع تمزيقه أم هو على الأغلب من يفترس الجميع?
كلاب جيراني هذه, أنا من أتخيّلها تنبح الفراغ, لكنها في الحقيقة تنبحني. وهي مهما عشتَ بجوارها من سنين لا يمكن أن تألفك, تظل مستَفَزةً دائما بنباحها الذي يعلو ويضطرم مع كل إطلالة ومرور في الطريق الذي يفصلك عنها سياج متين.
أنظر الى الشارع, لا أحد, عدا بضع سيارات تعبر بهدوء. كل شيء ملفع بسكون الموتى, كأنما الثبات الممتد منذ عصور يستقر في المكان.
أمضي الى المكتب وأنا أفكر في البحر.
أذهب الى البحر كعادة كل يوم. كان هادئاً والموجودون من السيّاح على أصابع اليد في هذا الشاطئ الممتد بين الجبل والبحر.
البحر هادئ يمكن السباحة بعد التجوال.
(قنديل البحر Jellyfish) المزعج الذي امتدّ على مساحة العام حارماً إيانا من السباحة, انحسر إلى حد كبير. والشمس الحارقة تميل إلى الإنكسار والمغيب. إنها لحظة البحر المثاليّة.. بعدها سنتدّبر ثقل هذا الليل القادم.
***
الاثنين: ليلة مؤرقة أكثر من العادة. البارحة مرّ عليّ صديق يشكو أيضا من الأرق ويقضي ليله في مشاهدة التلفزيون لينام بعد أن تكلّ عيناه وجسده في الصباح. أنا لا أستطيع مشاهدة التلفزيون أكثر من ساعة, أو متابعة فيلم على الأكثر. أحاول تبديد الأرق الموحش وما يتبعه من هواجس صِداميّة, بالقراءة. أقرأ حتى تختلط الأسطر أمام ناظري (كيف لا يختلط مداد الكتب بالليل?).
يبدو أن الأرق من السمات العضويّة للمكان والعالم. ثمة صديقة تحدثني عن ولدها البالغ من العمر الثانية عشرة ويعاني من عدم القدرة على النوم, وهي كذلك بالطبع (أرق بالوراثة) وتستخدم المهدئات على نحو يومي ضمن وصفة طبيّة.
أصحو شبه محطمّ. مرارة الفم وثقل الخطوات, أتجه الى المطبخ, اشرب نصف لتر من الماء, أثناء الشرب, أحاول أن أتذكر, هل أخذت حبة (Cozar) لضغط الدم التي اعتدت على أخذها كل صباح? دائما ذلك النسيان الذي يجعلني هي أو غيرها, أبتلعها مرتين أو لا أتناولها على الاطلاق. ألبس نازلاً السلالم. قطط هزيلة تقبع في زاوية السلّم تحدّق بعيون ذابلة لكنها مخيفة.
أفكرُ بالسفر إلى هولندا, من غير حماس, ضمن دعوة أدبيّة, وأعلل نفسي ببعض التغيير, كالنوم على نحو أفضل. والذهاب إلى (لاهاي) لقضاء بعض الأوقات, في (موتيل) على حافة بحر الشمال الهائج باستمرار, أصغي الى صفير الرياح المتقلب وأرواح القراصنة الغابرين.
***
عام 1990, دفعتْ بي صروف الأيّام إلى (لاهاي) كان شتاء والموتيلات على البحر تكون خاوية حيث يشتد البرد والعواصف, عواصف بحر الشمال برعودها وبروقها التي لا تهدأ, بحيث أن الشخص الجديد على المكان لابدّ أن يكتسحه الذعر تحت وطأة ذلك القصف الليليّ المضيء طوال الليل.. هكذا سكنتُ أحد الموتيلات مع عجوز مدمنة وحيدة, إلا من كلبها الضخم المخيف الذي سيصبح أليفا ومؤنساً مع الأيام.
كنتُ بالغ النشوة في هذا المناخ الغرائبي العاصف, اكتب باستمرار, لا علاقات اجتماعيّة تسمُّ البدن والروح, لا مكالمات إلا ما ندر, وغالبا في عطلة الأسبوع. في تلك الفترة كان العراق قد اكتسح الكويت ونُذُر الحرب الوشيكة تلفّ العالم بسحُبها الإعلاميّة الصاخبة. ذات صباح, نازلاً من غرفتي نحو باب الخروج, حين قاطعتني صاحبة المنزل, قائلة ثمة أخبار سيئة. دخلتُ الصالة حيث التلفزيون. كان الكلب أمام المدفأة يحكّ جسده على أرضيّة الصالة المكسوّة بالخشب وسجادات رثّة. رأيت صداّم حسين وبوش الأب- حيث لم نكن نعرف له إبنا في ذلك الوقت وسيخوض حروبه المظفرة على دول وشعوب محطمّة سلفا – متواجهيْن كأنما في حَلَبة ملاكمة.. لقد بدأت حرب الخليج الثانية.
ذات ليلة كنتُ راجعاً إلى الموتيل. كان ليلاً شديد العواصف حالكا حدّ اضطراري إلى أخذ تاكسي من محطة (التروماي) إلى مكان الإقامة. نزلت على الباب مباشرةً كي لا تحملني الرياح كريشة في براثن المحيط الغاضب الذي تصل أطراف أمواجه وزبدَه الى الشارع رغم الأسوار والتحصينات الكاسرة للأمواج. فتحت الباب بسرعة متجهاً نحو غرفتي حين أرى كل ملابسي وحاجياتي مرميّة أمام باب الغرفة. فجأة انفجرتْ المرأة الكحوليّة الكهلة; بأن عليك أن ترحل هذه اللحظة والا سأستدعي الشرطة.. اعطني مفاتيحي وارحل .. حاولت التفاهم, لكن لا مجال لمناقشتها.. كانت غاضبة لأسباب بدت لي غامضة في تلك اللحظة.. كلبها الضخم يسترسل في النباح كأنما يتضامن معها.
علي أن أتدبّر أمري في هذا الليل المحتقن بالكارثة وأبحث عن مكان آخر..
بعد أشهر أعطتني بلدية (لاهاي) أو (دنهاخ Den Haag) حسب النطق الهولندي, لكن الأول الفرنسي هو الغالب ربما على اسم المحكمة الدولية الشهيرة- منزلا بإيجار رمزي في قلب غابة محاطة بالبحيرات يشبه منزل الأحلام في القصص الرومانسيّة.
***
الثلاثاء: سافرتُ الى هولندا, لحضور مهرجان ثقافي هولندي عربي بأمستردام يقام كل عام. وصلتُ على مقربة من الفجر بمطار(اشخيبول) أوقفتني الشرطة ثلاث ساعات بحجة ان الفيزة التي أحملها (شنجن) كانت من السفارة الفرنسيّة وليس الهولنديّة.. أثناء الانتظار استحضرت ذلك الفجر القاهري الطالع من جبل المقطّم ومقابر الأحياء, مطلع السبعينيات, حين أُجبرت على الرجوع من مطار القاهرة. وكنتُ ذاهباً إلى اليونان ضمن رحلة طلابيّة نظمها في الغالب طلبة خليجيّون, تحت مبرر كاذب لضياع جواز السفر الذي سلمتُه مع الطلبة, الى مسؤولي تلك الرحلة وأخفوه, مدعيّن أن شركة الطيران هي المسؤولة عن فقدانه.
يومها في ذلك الفجر القاسي, في ذلك العمر المبكّر, عرفتُ أن ما يربطني بخليجيّة الخليجييّن المنتفخة عن غير حق يقيناً, شيء بالغ الوهن والانكسار. وشعرتُ ان ما يربطني بكتلة الجماعة المتوّهمة سيكون على النمط نفسه- دخلت من بوابة المطار الهولندي لأجد أن من ينتظرني ما زال موجوداً, محمد الفنان التشكيلي المغربي المهاجر, وأحد الناشطين في مؤسسة الهجرة التي تقيم هذه اللقاءات بالتعاون مع المؤسسات الثقافية الهولنديّة. كان الطقس رائقا يكفيه جاكيت.
لم تبدأ الرعود والصواعق والأمطار بعد. آثار موجة الحرارة بمقاييسهم, التي شملت أوروبا هذا العام ما زالت ماثلة. وصلت إلى الفندق نفسه الذي نزلته منذ عشر سنين مع أدونيس وسعدي يوسف وفينوس خوري غاتا وعبدالمنعم رمضان وجميل حتمل, وآخرين فندق (OWI) البومة.
ويمكنك وأنت تتطلع إلى رسوم وأشكال البوم المختلفة على حيطان الفندق التي ترمز الى النماء والخصب عكس بومة الخرائب عندنا, يمكنك أن تتذكّر غادة السمّان وولعها بالبومة على المنوال نفسه, في كتبها وصورها.
وضعت حقيبتي في الغرفة ونزلت أتجول في (السنتروم) أمشي هكذا كأنما تعرف رجلاي الطرقات. المحلات على وشك أن تفتح أبوابها للزبائن. بعد قليل ستمتلئ بالصخب الذي يجرف الأماكن والساحات.. تنزهّت عبر القنوات المائية (الخراخت) التي تتميّز بها هذه المدينة والمدن الهولنديّة المفعمة بالمياه والخضرة والزهور حتى الانفجار.
قفلتُ عائداً الى الفندق لأنام بعد تلك الرحلة الطويلة من عُمان ذات المرتفعات والأجبال الشوامخ <<إلى الأراضي المنخفضة>> قرأت خلالها كتاباً (لأندريه جيد) يحتوي على بعض آرائه حول الأدب والأدباء من أهل عصره, وعن إقامته في الجزائر, حيث الرمل والنخيل الذي يغنيه تأمله عن قراءة الفلسفة. وعن (اوسكار وايلد) الذي التقاه في الجزائر; ورجع إلى انجلترا المحافظة آنذاك ليحاكم في محكمة العدل الإلهية كما تُدعى. أطرف الأشياء وأكثرها فاجعيّة في محاكمته: سؤال القاضي له وسط مهابة تلك المحكمة التي تشبه محاكم القرون الوسطى, نيته (القاضي) في إرساله الى الجحيم, حين ردّ (وايلد) انه لا يخشى الجحيم لأنه لم يغادرها أصلا. وعدّل القاضي في أن يرسله إلى الجنّة هذه المرة.. لكن ليس ثمة جنة بمقدورك أن ترسلني إليها أيها القاضي لأنني لا أستطيع تخيّلها, أجاب (وايلد).
ومن غرابة آراء جيد, قراءته لمسرحيّة (شكسبير) هاملت. التي لم ير فيها شيئاً ذا قيمة وهي تندرج في ما يمكن تسميته بالميلودراما الرخيصة! هذه الحيويّة للفكر هذه القراءات المتناقضة, المتصادمة أيما تصادم, لأعمال كبار الكتاب والفلاسفة في التاريخ.
(نيتشه) مثلا الأكثر سطوعاً في هذا المنحى, منهم من صنّفه مسيحيّا متشدداً (ياسيرز) رغم إعلانه المدوي عن موت الميتافيزقيا! ومن اعتبره مغالياً في الإلحاد ومتطرفاً في الهدم. آخرون مثل (جيد) وصفوه بالمتفائل والبنّاء, وليس متشائماً شديد القتامة..
(المتنبي) بين تربّعه ملكاً للشعر العربي في كل العصور, ونفيه الى الحكمة (ابن خلدون) أو من كليهما عند نقاد كلاسيكيين آخرين, ابن جنيّ مثلاً. حيويّة الفكر والسجّال في عهود ازدهار المعرفة تقود الى هذه الخارطة الحادة من المتناقضات والتعدد الصحيّ. عكس الموات الذي نعيش ونشاهد. هذا المستنقع اللزج الذي تتخبط فيه حشرات عمياء.
بالأمس أخبرني كاتب عُماني, أنه كتب شيئاً من النقد حول كتاب شاب هو الأول, فما كان من صاحب الكتاب, التحفة التي تبخل بمثلها العصور, إلا أن أوسعه سبابا وتقذيفا… لم نعتد النقد, لم نعتدْ الحياة.
***
رجـعت إلى فنـدق البومـة لأنـام حتى بعد الظهر. أصحو, لأجـد عبـدالرزّاق السبـايطـي مـديـر الهجـرة وأسـعــد جـابــر وWillem Stoetzer من جامعة (ليدن) المترجمان من وإلى الهولنديّة. وهشام جعيط الذي صارتْ صلتي به هذه المرة أكثر قرباً وحميميّة.
في هذه الرحلة التي تشبه غيرها, التقيت بالصديق فرج البيرقدار, الذي أعرفه منذ دمشق, بمعيّة صديقنا المشترك يوسف سامي اليوسف. في تلك الفترة كنت على وشك مغادرة دمشق, لا أعرف إلى أين? وكان فرج يأتي إلى مخيّم اليرموك حيث يقطن أبوالوليد (يوسف), ليختبئ من عيون العسَسَ التي تلاحقه باستمرار.
حين غادرت الشام سمعت أن فرج وآخرين قبض عليهم وأودعوا السجن. كنا بتلك الفترة في مطلع حياتنا الكتابيّة والشعرية, ومنها أكثر من خمسة عشر عاماً وفرج يرزح في زنازين الصحراء السوريّة في تدمر.
سُررت كثيراً لرؤيته على هذا الحال من التماسك ورغبة الحياة. قلت يا فرج كيف (ضَبطتْ) معك, الموجودون خارج السجن حياتهم مستمرة بصعوبة بالغة. المحن والسجون العربيّة في طليعتها, إما أن تحطمّ الكائن وتحيله رماداً وأشلاء وإما أن تصقل الجوهر الإنساني وروح التحدي والإبداع, التي ترفض التهشيم والإنسحاق والقطيعيّة, لكن جروح السجن, لاشك غائرة وعميقة.. وهكذا أيضا حال الفرد الحر داخل السجن وخارجه في إطار الدكتاتوريات المتعاقبة عبر التاريخ البشري بصورة عامة.
وكانت هناك في الندوة ميسون صقر, التي بالكاد تستطيع السير الطبيعيّ نتيجة كسْرٍ في الركبة أفقدها المشي شهوراً وهي ليست المرة الأولى. أقول لها مازحا : (ما تشوفي قدّامك جيداً يا ميسون) فهي ربما رغم ما يتراءى من طمأنينة وبذخ خارجييّن, ثمة زوغان يلف حياتها, مسرنمة تمضي, مما يؤدي إلى الوقوع والارتطام المستمرين. ثمة ندوب عصيّة على الإفصاح.
***
لم يعدْ الإبهار والادهاش قائمين في وصف رحلة أو سفر حتى في حالة لجوء الكاتب الى التضخيم والفنطازيا.
تقنيات الصورة المرئيّة, المسموعة, الجارفة, قضَت على كل ذلك. وحين يراودنا الحنين إلى التماس هذه المتعة التي تقترب من سحر الطفولة, نعود إلى كتب الماضي, ابن فضلان وغيره, في وصف الأسفار والعجائب والرحلات التي تلامس الخارق واللامألوف.
في الطائرة وأنا راجع الى مسقط أتطلعُ الى حدائق السماء الفسيحة حيث تسكن الملائكة خطر لي:
تذكرتُ من يبكي عليّ فلم أجدْ
(سوى القفْر والبحر المداريَّ باكيا)
هل ضاع الحلم البشري وابتلعه الحوتَ إلى الأبْد?
***
في الطائرة, بإحدى رحلاتي من المغرب إلى عُمان, أخذت في تصحيح مخطوط لكتاب جديد; استغرق مني معظم وقت هذه الرحلة الطويلة. نزلتُ في مطار (السيب) بمسقط. عبثا أبحث عن المخطوط في حقيبة اليد. لقد نسيته في الطائرة. وعبثا أحاول الاتصال بشركة طيران الخليج المعروفة بعدم دقتها.
كان غياب المخطوط, محزناً لي في البداية. لكن مع الأيام اتخذ طابع نشوة إنجازٍ حقق غموضه الشفيف بالغياب.. وكأنما الفقْد والغياب, منحاني انتظار هدية غامضة, مليئة بالاحتمالات, جعل خيال حضورها, يتسللّ إلى كتابات لاحقة, ربما ستكون أفضل وأقرب إلى نفسي..
ثمة عصافير حرة تغنيّ في الشرفة المهجورة.
***
الثلاثاء: ساعة الغروب على بحر العرب. السماء تعبرها أسرابٌ من طيور النورس على غير العادة, تستعرض دوائر وحلقات تختفي وراء شعاع الغسق, يظهر بعضها لينقضّ على الأسماك الصغيرة منتفضاً بفرح وبهجة لا نظير لهما.
امرأة أوروبيّة تنادي طفلها الذي يصرخ بشكل هستيري. زورق سريع يظهر فجأة في عرض البحر, يبدو أنه تابع لشرطة خفر السواحل.
أستكمل قصة (لبورخيس) عن ملك عربي يذهب لزيارة ملك بابليّ. هذا الأخير يستضعف بساطة ملك الجزيرة فيرميه في متاهة أرضيّة مليئة بالسلالم والأبواب, يتخبّط فيها طوال الليل.. ما كان من هذا الملك حين رجع إلى الجزيرة العربيّة, إلا أن حشد الجيوش ليكتسح الملك البابلي ويأتي به أسيرا .. يربطه على جَمَل يركض به في الصحراء المترامية. وحين يفك أسْره, يسأله: أي المتاهتين أكثر فظاعة وقسوة, فمتاهة الصحراء ليس لها أبواب وسلالم? ثم يتركه في الخضّم الرملي يواجه مصير الموت الحتمي.
يبدو أن الصحراء عبر العصور المختلفة, تمارس انتقامها الخاص. حتى في زمن هزيمتها وانكسارها, يخرج سَحَرتها من الكهوف لتدمير العالم!
أغلق الكتاب. الظلام الغزير يكتسح المكان.
الجبال تحلم بليالٍ مزهرة بالأشباح
عليّ الرجوع الى حيث أقيم.
***
أحاول النوم مبكراً, من غير أن أشاهد التلفزيون الذي يهيمن بسطوة مطلقة على المدينة, ممتدا الى الصحاري والأرياف البعيدة القاحلة, لتكون ضحيّته المثاليّة. التلفزيون أصبح القاسم الاجتماعي المشترك في تجمعات البشر وأسمارهم, حتى حين ينامون يبقى مفتوحا , ليستمر كزادٍ يمدهم بالأحلام والاستيهامات.
أتناول قرصاً من (Valerean) الذي أتت به (داليا) من بيروت لتهدئة الأعصاب. أطفئ مكيّف الصالة, أشعل مكيف الغرفة. نحن في شهر أكتوبر, الحرارة بدأت تتقلَّص تدريجيّا, لكن لا غنى عن المكيّفات التي تنوح وتحشرج طوال هذا الليل الكاسر.
صباح الأربعاء: أجلس على المكتب, أفكر في العدد القادم من (نزوى) العدد الجديد على وشك التوزيع, أحاول دحر الهواجس والعذابات التي تبيد الأعصاب جراّء إصدار مجلة ثقافية مختلفة في أجواء معادية للثقافة. أحاول أن أكون عمليّا بعض الشيء وأفكر في محور حول أدوارد سعيد الذي عرفت خبر وفاته في هولندا. والذي أصبح له أرامل كُثْر, معظمهم لا يعرفه ولم يقرأ له. يكفي معرفة الاسم ليشطح الخيال الكسيح إلى آخره. فالرجل قد مات. عليّ الاتصال بالأصدقاء الذي أرجئه يوماً بعد آخر. أشرب الشاي, أحدّق في السقف الذي يخضبّه هواء المكيّف. وفي ربقة الجبال المحيطة.
لم أوفق في مكتب أرى من خلاله البحر الفسيح.. لكن الجبال مشهد ليس سيئا بالنسبة لي, رغم القحالة والقسْوة. إنها بؤرة تأمل لا ينضب. فكمن من القصائد انسابت من كهوفها ومفازاتها الحجريّة, مثلما تنساب الذئاب وبنات آوى في الأزمنة الماضية.
أقرأ بعض قصاصات دونتها ونسيتها. <<الحكيم معروف بكونه من لم يعد يتمنى أي شيء>>, <<ما أمضيت عناء كبيرا في بنائه ستهدمه حتما>>.
اتصال من محمد لطفي اليوسفي, يعلو الضحك والكلام على التليفون. لطفي كعادته شلاّل دعابة سوداء وملاكم ثقافي ضد ما يدعوه بالجهلوت, لا يكل ولا يتعب. هاتف لطفي أعاد لي بعض النشاط. أتفق مع محمود لزيارة الأهل.. وربما نذهب الى (سرور) التي لم أذهب إليها منذ عزاء الوالدة رحمها الله, حين هاجمتني الكآبة والأطياف المخيفة.
***
مساء: رتل غربان على قمة جبل صغير, تبيّن أنها تلتهم جثّة نسر.
هسهسة الموج الخافت هذا اليوم. وطائر كبير الحجم يحطّ على مقربة, مرسِلاً صفيراً يشبه صنوج غجر يتلاشى في الفضاء البعيد.
***
صباح الخميس: أنام متأخرا , على مشارف الفجر. اضطراب حاد في المعدة جعل أي مهدئ لا يفلح في التخفيف من هيجانه. أصحو على دوار الغثيان وبركان الفراغ. أغطي شاشة التلفزيون المستفزة برداء يمني, مطرّز بألوان جميلة باهرة, نسميّه في عُمان (سباعيّة) أهداني إياه الصديق عبدالعزيز المقالح في احدى رحلاتي الى اليمن. أتذكر يومها أنني صادفت في الطائرة صحفيّا يمنيّا راجعاً من عُمان, ترافقنا في الرحلة.. وأثناء اقامتي في اليمن, كتب في جريدته, أن سيف الرحبي قدِم إلى اليمن لزيارة عشيرته من الرحبييّن (بني همدان) القاطنين بتخوم صنعاء, في المنطقة التي يقع ضمنها مطار صنعاء الدولي, والبالغ عددهم أربعين ألفاً. عبدالعزيز المقالح بلطفه المعهود, اقترح تحقيق أمنية هذا الصحفي, إذ لم أذكر له شيئا من هذا على الاطلاق, وأن نذهب لزيارة مضارب القبيلة الأساس. قلت يا دكتور, أنا في عُمان بالكاد أرى الأهل حيث أزورهم زيارات متقطعّة, فكيف بالعشيرة والقبيلة? وهذه المسافة من الغياب ربما هي التي تجعل البشر أكثر حضوراً في الذاكرة, بحيث أننا حين نتحدّث عنهم لا نعدم إشراقة شوق وحنين, مثلهم مثل البشر الغابرين.
وفي الرحلة نفسها التقيتُ بعبدالكريم الرازحي, قلت له: يارازحي لم تعد تكتب في الحداثة والبنيّوية كالعادة? قال, أي حداثة وما بعد حداثة يا شيخ, البلدان العربية, أو معظمها, مازال أهلها يقسمون بكتب الشعوذة, حتى شبكات مجاري وتصريف المياه, لا يوجد فيها, إنها طافحة بالفضلات والنفايات, وأشباه المخلوقات البشريّة.
أدير زرّ الموسيقى, كانت المحطة تبث مقطوعات لم أستسغها. اجلس مقلّبا نظري بين رفوف الكتب; الكثير منها لا حاجة لاقتنائه. علينا أن نحتفظ بما هو جوهري وضروري للروح.. الكتب التي تشبه عينا خضراء وسط سراب الصحراء المروّع. إنها عين الروح التي تحاول إنقاذنا من هلاك محقق. تقع عيني على نسخة مخطوط فريدة من القرآن الكريم, نفسها التي أتيتُ بها من اسطنبول. هناك في تركيا يمكن أن تجد ضالتك الجمالية من مخطوطات وطبعات نادرة لا نظير لها في العالم.
جمال الغيطاني واحد من المهتميّن حدّ الهوس بجلب المخطوطات من تركيا في مجالات معرفيّة مختلفة, كأنما يسترجع حقه السليب, من ماضي الامبراطوريّة العثمانيّة التي نهبت الفن والفنّانين من مصر والعالم العربي.
أفتح المرجع الروحي الاسلامي المقدّس, مستحضرا برهبة نسخته الأم – أم الكتاب-, السابقة على الخلّق واللغة, المحفوظة بين سماوات الغيب المهيبة; أفتح, تقع عيني على الآية الكريمة التالية:
( وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ).
أغلقه بخشوع وتوقير..
أجلس على (الكنَبَة), تاركاً خيالاتي تسرح على عفويّتها بين جنان المنائر العامرة بالمؤذنين, والمقرئين وهم يرددون أسماء الله الحسنى في تلك الأسحار القرويّة الآفلة.
***
صباح السبت: أصحو فجرا . جهاز التكييف دائما, عنصر مقلق, خاصة في مثل هذا الوقت. أشعر بالبرد, أطفئه, بعد قليل أحس بالحر وهكذا..
طائر الفجر يشدو بصوته العذْب, يتبعه هديل يمام بري .. ثم يأتي دور (الصفرد) بجماله الوحشي. أدير زرّ الموسيقى بعد أن تسكت أصوات الطبيعة, أو ما تبقى منها. أدلف المطبخ لصنع الشاي. البارحة لم أتناول أي مهدئ, أحاول أن أكون رائق المزاج. وأفكر في <<مشاريع>> تتصادم في رأسي ربما ستساعدني على مواجهة الضجر والزمن الذي يعبر بكثافة مأساويّة, لكنيّ لا أنفّذ منها إلا القليل.
أتذكر (أدونيس) وذلك النشاط الخلاّق والحركة الدؤوب التي لا تفتئ وهو في السبعينيات. أتأمله ذات يوم في باريس مع الراحل يوسف الخال الذي قدم ليعالج من السرطان على نفقة رفيق الحريري. وكان بمعيّتهم نزار قباني وأصدقاء آخرون من جيلي.
شربوا ثم أخذوا يرْثون (الزمن الجميل) الذي غرب من غير رجعة, باكين على أكتاف بعض, لقد ذابت الخلافات الأدبية والشخصيّة وذابت التنافسات أمام يقظة الحقيقة المؤلمة.
قلتُ, فعلاً, إن زمن ذلك الجيل ومناخ نشأته وحياته, كان أجمل وأكثر حظا في الحياة والتاريخ. إننا إذ صحّ هذا الادعاء, الورثة الأكثر مأساوية وقتامة, أدونيس على كثرة حركته وأسفاره في جغرافيا الكون, لا يعرقل ذلك من وتيرة انتاجه الابداعي, عكس آخرين, حيث التنقّل يشوّش ويربك الايقاع والوتيرة. ثمة فروق في الطبائع والتركيبات البشريّة على أكثر من صعيد.
ومحمود درويش الذي خَبِر الحياة والعالم سفراً وترحالاً ومنافي, يسلمه الواحد إلى الآخر. وعاش في قلب تراجيديا الاقتلاع والتيه الحقيقيّة التي هي اقتلاع شعب واضمحلال ما تبقى من الإرث الإنساني للعصر الحديث; اختار أخيراً الاقامة في رام الله, في قلب المجزرة والبطولة, في أعماق شعبه الذي أحبه, وكان الملهم الأول لأعماله الخالدة.
وحين رجع الى قريته (البروه) لم يجد ما وجده أبطال الأساطير العائدين بعد مغامراتهم وأسفارهم ومحنهم, التي اختزلتْ محن عصورٍ بكاملها. لم يجد حلم موطنه الأول ولا حتى بقاياه.
كانت قرية طفولته أطلالاً وحطاما , كأنما ترفض أن توجد وتزهر إلا في مخيلة الشاعر, لاجئة من برابرة الاحتلال, إلى مخيلته ووجدانه, لتظل الوقود الابداعي والرمز. وهل ثمة ما هو أسْمى وأنبل من ذلك على قلب الشاعر الجريح.
المبدع يسكن حريّته وخياره في الترّحل والاقامة, في الحرب والسلم, إن وجد, يسكن شرط ألمه وتاريخه وسط اجتياحات الزمن والتاريخ.
تنتشر الشمس كعادتها على نحو صاعق. أنزل سلالم العمارة التي لا أعرف أحدا فيها وفي الحي بكامله.
القطط على السلالم ترمقني بذلك المزيج من البؤس والشراسة. مصطفى ينتظرني في السيارة, أذهب الى المكتب أجلس صافنا فيما سأفعل. اتصال من عبدالله الصمتي, يقول أنه فُصل من الجريدة التي يعمل فيها, وأصبح يشتغل بالقطعة, فالمؤسسة تحاول ترشيد الانفاق. هذه الشعوب ومثقفوها عليها أن تدفع فاتورة هذه الحروب المريعة, التي تُرجعنا عقوداً الى الخلف. ثمة رأي يذهب الى أن النهضة الحقيقيّة, تبزغ من جغرافيّة الدمار والأنقاض. الحرب مطهرّة وخالقة. أشك في ذلك, إلا اذا ثمة أساس, أفق جديد متحقق, في مفهوم الوعي والإنسان على هذه الأرض الثكلى, وانزياح في ميزان القوى المبهمين. هذه الأرض التي تتبدى ظاهرياً, أنها صانعة أحداث الراهن وخبره وليس روايته بالطبع. أخشى أن تكون في العمق هي الغائب الأكبر عن صنع التاريخ الفعلي. هل هو الشرق الذي يواصل مسيرة النكوص رغم كل هذه الدماء المراقة والتي ستراق?
أعود إلى مكان إقامتي, أجد (داليا) قد طَبَخت (شاكريّه). ودائما ذلك النقاش المجاني حول هذه الطبخة, إثر ما قلته لها, بأن أفضل شاكريّه أكلتها في الشام, بمنزل حسّان عزّت وزوجته فاتن حمودي, في الغوطة. وحتى حين انتقلا للعمل في أبوظبي. دائما الشاكريّه جزء من حميميّة اللقاء. منذ ذلك اليوم وداليا تلح في السؤال, إن كانت فاتن ما زالت تطبخ أحسن منها?
***
ذات يوم كنت في منطقة (الشاتليه) بباريس, أتجوّل على غير هدى, قاذفاً كل ما حوّشتُه من أمل ورغبة في قعر هذا التيه المترامي. ماضياً على ما يبدو نحو (السان دوني) حيث الوجه الأكثر وضوحاً وفصاحة لحقيقة الكائن وهو ينزل سلّم جحيمه ويأسه وعوَزَه, من غير رتوش ولا فضائل مستعارة.
في هذا الخضمّ وعريه الجارح, ربما نجد قيمة انسانيّة وجسديّة, اللؤلؤة الخبيئة في أعماق, أولئك النسوة المهاجرات بين البلدان وحثالات البشر الأفظاظ.
في هذه الأثناء التقيتُ بالصديق بيّار أبي صعب, قريبا من مركز (جورج بومبيدو) سألني الى أين ذاهب? قلت هكذا على غير وجهة محدّدة. أشار إلي بدخول مسرحيّة للبولوني (كانتور) تعرض في المركز. أثنيتُ العزم عن السان دوني ودخلتُ المسرحيّة, التي ما زالت من علامات الفن الكاشف الرهيب, في ذاكرتي. إنه العرض التمثيلي الرمزي لانحدار الكائن إلى الجحيم والألم والموت, مقابل عرض الشارع الشهير.
إذ كان مسرح (آرتو) يجسدّ صراعه المفزع ورعبه وموته الذي هو موتُ العالم, فكل هذه العناصر موجودة في مسرح كانتور, لكن عبر احتدام الصمت والفراغ. وكأنك في مقبرة يتمرغ موتاها في براثن العذاب والتنكيل, لكن من غير أن تسمع صراخاً واستغاثات, فقط تعيشها وتحسها عبر المقدرة التعبيريّة للإيماء والإشارة واقتصاد الكلام لهذا العملاق العجوز الذي رحل أخيراً.
***
الأحــد: لم تعد تلك الأصوات الحييّة العذبة التي سمعتها البارحة, بعد أن أسكتُ مكيّفات الهواء عن العواء. حتى العصافير التي تبني أعشاشها على ذرى المكيفات طلباً للبرودة, صامتة كأنما أتى عليها قناص ليليّ وحصدها عن بكرة أبيها..
أسمع أصواتاً غريبة لطيور لم أسمعها من قبل في مثل هذا الوقت, أصواتا تشبه أنين مخلوقات تختنق, تختلط بنباح الكلاب ومواء القطط ذات الوجوه الصفراء الشاحبة.
أصل المكتب مبكراً هذا اليوم.. أفتح التسجيل كي يغطي على صخب المكاتب الأخرى. أنوي الاتصال بأكثر من بلد واسم لكن حتى منتصف النهار لم أستطع تنفيذ هذه المهمة التي أرجئها الى الغد. عبدالله الحراصي سيزورني قادماً من الجامعة التي تقع على مسافة من مكتبي, أسأله عن أبوهشام إن كان قد عاد من أسفاره الكثيرة? بعد ساعة يتصل بضجر, معتذراً عن المجيء هذا اليوم.
أستلم (إميلا) من عمر شبانة, يقول فيه أنه وصل إلى الشارقة للعمل في جريدة الخليج. مما حفزّني على الاتصال والترحيب به في بلده الثاني على سبيل الفكاهة. فالشارقة أقرب إلى عُمان من عمّان.
أبحث عن رواية (موبي ديك) ولا أجدها, ألعن من اختطفها, رغم إيماني بأن اختطاف الكتب الجميلة لا يعد سرقة, لكني في هذه اللحظة أعتبرها كذلك. يذهب شكي نحو الحراصي المشغوف دائما بالكتب, المهمة منها, وبالمقارنة بين الترجمات على ضوء أصلها الانجليزي بسياق دراساته في هذا المجال. أستحضر مقولة (برناردشو) كون الإنجيل أملاه الروح القدس, بأن أي كتاب يأخذك الى اعادة قراءته هو من إملاء ذلك الروح الغامض العميق.
***
أسمع أخبار الظهيرة المجازر الاعتياديّة في فلسطين والعراق. الفتاة ذات الأربعة عشر عاماً التي فجرّت نفسها في مطعم يهودي داخل اسرائيل.
موت (إلياكازان) الذي لم يستطع خطأ تاريخه الأسود مع المكارثيّة, أن يغطي على إبداعه الكبير. فيلم (عربة اسمها اللذة) و(آخر الطغاة) الذي شاهدته في السبعينيات بالاسكندريّة, لا يمكن نسيانهما.. مخرج طليعي, كنت أعتقد أنه من أصل أرميني اتضح أنه يوناني الأصل.
قبل أيام مات (شارلزبرونسون) بوجهه القاسي والأليف, وجه عمال المناجم وقبضايات الشوارع الخلفيّة.
السينما جزء من ذاكرتنا الثقافيّة والحياتيّة. أتطلع الى صورة بالغة الحنان, على الجدار, تجمع بين (فلليني) و(تطونيوني) هذا الأخير يبدو أكثر شيخوخة من فلليني الذي كان يشير بأصبعه الى جهة, لا أعرف إن كانت مجهولة, أم واضحة في تلك اللحظة التي يحاولان فيها مقاومة أثقال العمر والزمن, ربما تشبه أفلامهما العظيمة التي تقاوم التلف والاضمحلال, أشرطة وذاكرة, أمام اكتساح عصور الهمجيّة, الجديدة, والتي كانت تنبئ وتنذر بقدومها الوشيك, على نحو تراجيدي ساخر.
***
أذهب لزيارة أخي الشقيق سليمان, بمنطقة (الحيل), أبناؤه الكُثْر لم أعدْ أستطيع تمييز أسمائهم, ولا تذكُّر بعضها.. أتطلّع إلى وجهه الذي كدّته السنوات. رغم صغر سنه, وتلك المسافة السحيقة التي فصلتنا وما زالت. أحاول أن أترك الحديث عاديّا, سلِساً من غير تحديق سارح واستعادات ستكون, بالضرورة مأساويّة. لقد فقد الكثير من مرحِه, أثقلته هموم الحياة اليوميّة وعذاباتها.. يحاول أن يشرع في حديث عن العائلة الموجودة في أكثر من مكان, الإخوة والأقارب والأرحام, الصغار والكبار, الأبناء والأحفاد. صوته المليء بالرأفة والحنان يذكرني بأزمنة غارت الى الأبد.
أتذكر حين سقط من جذع نخلة (الزَبَد) أمام بيتنا الذي أضحى خرِباً وعتيقاً قبل أن يعيد ترميمه ويحيله الى منزل جديد. ارتطم جسده الغض بالأرض, يومها بكتْ الوالدة لأيام خلَتْ, حتى حين شُفي, ظلت تبكي لمجرد استعادة حادث الارتطام بالأرض..
أحاول أن أهرب من حديثه العائلي, باللعب مع الأطفال الذين يملؤون الصالة بالضجيج.
في طريقي من مسقط, الى الحيل, مررت بثلاثة حوادث سيّارات, وتساءلت مثل غيري, لماذا هذا السباق الأسطوري مع الموت. لا يمضي يوم وربما ساعة, إلا وتحصل حوادث مماثلة, ارتطامات عنيفة وانقلابات ودمار لا تكاد أسرة تنجو في هذا السياق الكارثي, من قتيل وجريح, وكأننا في حرب فعلية, مسرحها الشوارع الكبيرة والسيارات.
***
الإثنين: اتصال هاتفي من عيسى مخلوف, يسألني عن نضال الأشقر التي تزور السلطنة لتقديم قراءاتها الشعريّة المختارة, تحت عنوان (زهرة الرماد). عيسى حين التقيه دائما في باريس, يذكرني بالسيد المسيح, ملامحه وتقاسيم وجهه توحي بتلك الصورة من الصور الاحتماليّة للمسيح. حتى صوته الممرور كأنما قدم للتو من كنيسة قرية نائية في جبال لبنان.
***
بالأمس التقيت السيدة نضال الأشقر. مرّ زمن لم أرها عدا في بعض المسرحيّات المصوّرة والتلفزيون. كانت آخر مرّة رأيتها فيها في لبنان بصحبة صديقنا المشترك بول شاوول. تعشينا عشاء لبنانياً في مطعم (الشحرور) بالروشة. الحديث مع نضال رغم أقانيمه المحددّة عادةً بين الفن والمرح والأحداث الجارية, هناك أفق احتمالات مبهج يتوالد باستمرار من ذلك الذكاء والحضور المدهشين لهذه السيدة.
والتي رغم شرطها الحياتي المريح, لا تستطيع أن تعيش خارج التحدي والمغامرة. نوع من إدمان العيش على الحافّة. فكأنما الطمأنينة عدوها الحقيقي. هي الترهل والانسحاب من الرؤية الجماليّة للأشياء والعالم.. ضمن الكلام السارح على نحو فكاهي حول الظواهر الفنيّة, وذلك الافتعال للطهرانيّة والجديّة عند بعض الفنّانات, التي يمكن أن نسميهن (العذراوات الشلوكّات).
قلت لها أن البعض يقول أنك قويّة وفولاذيّة. ومرة رددت على هذا التصوّر, بأن نضال الأشقر مثل أي فنان حقيقي أو شاعر في عالم معاد للحقيقة والجمال, لابد له من أنظمة دفاعيّة حول الذات. نوع من تحصينها وتدريعها- من الدرع- ضد بكتيريا الانحطاط التي تسود. كان جواب هدى بركات, أن هذا صحيح لكن هناك ما هو أبعد منه في شخصيّة نضال. ربما شخصيّة والدك, أسد الأشقر الزعاميّة, الذي قاد الحزب القومي السوري, وسُجن طويلا, إثر المحاولة الانقلابيّة عام 1962. وكتب عشرات المجلدات حول تاريخ بلاد الشام. ربما كان لها تأثير عليك..
تحدثنا عن أنسي الحاج والكيفيـة التعسفيّة لإخراجه من جريدة النهار التي يرأس تحريرها; عن عزلته وصوفيّته المتدفقّة بماء الحياة.
كانت نضال قلقلة تجاه أمسيتها في السلطنة, حين رأت مكان المسرح وبعده عن العاصمة في ذلك الخلاء البعيد, خاصة وأن الأمسية تتكون من لُحمة ذلك النسيج الشعري اللامألوف. وأن رحلتها وعناءها سيذهبان هباء من غير جمهور ولا مستمعين; لكن هذا القلق تبدّد حين امتلأ المسرح بالحضور الذي تضافر مع الشعر الطليعيّ والأداء المميّز, ليخلق تلك الحديقة المزهرة في ليل الصحراء الطويل.
***
على الشاطئ المعتاد, أمشي على مقربة من نورس أنتظر منه أن يطير لكنه لا يفعل, أقترب أكثر حتى تلامس يدي جسده المنكمشَ المكسور. يخطو خطوات متعَبة. نورس وحيد ومريض.
تقترب منه امرأة مسنّة. تنظر إليه بعطف وشفَقة. وربما رأت فيه نفسها في اللحظات القادمة.
غربان تتحلّق على جثة سمكة لفظها البحر قبل قليل, بحيث أن الدماء ما زالت تنزف من غور أحشائها الطازجة.
***
الجمعة: بعد ليلة مؤرقة, لم أحظ فيها إلا بغفوة قصيرة. بعد أن أشرقت الشمس مخترقة بضوئها القويّ, ستائر النافذة السوداء السميكة.
غفوة مشحونة بالكوابيس, كنت فيها الغريق الذي يبحث عن سعفة نجاة في عُرض المحيط.
اصحو على صوت داليا وقُبُلاتها. فتحت عيني بصعوبة لأراها في بلوزتها السوداء وتنورتها ذات الألوان الأنيقة, رشيقةً, شهيةً, عذْبة, كأنما لم أرها من قبل رغم السنين التي لم تنقصْ من جمالها إلا القليل. أو هكذا أتخيلها حين تحتدم الرغبة.
من غير مقدمات, وباندفاع أعمى, دخلت حقلها الخصيبَ كأنما نحن الإثنان, نثأر من عنف هذا الليل ضدنا.. (وكان ثور القرية يمتطي انثاه مغمضَ العينين, بحيث أن السائس يضطر لإنقاذ القضيب من ضياعه, وتصويبه نحو الموطِن الأزلي للألم واللذة).. وأحيانا نذهب في ممارسة الحب حتى الإغماء, لنصحو كمن يستيقظ من سكرة سحيقة, مقذوفين في بريّة موحشة نلملم أشلاءنا المبعثرة في جَنَبات الغرفة التي ما زلنا نتخيّلها تهتزّ تحت وطء الأجساد اللاهثة.
فكرتُ أن ما يبقينا على صلة بالحياة والجمال, هو الحب, والكتب والبحر. وإلا فالخُواء الفاغر فاه كهاوية لا قرار لها سيبتلعنا من غير أثر, حتى ولو كان سريعاً كتلويحة مسافر على رصيف قطار.
قلت لداليا, رجعنا أولادا , صار الحب وجبتنا الصباحيّة, كما في القاهرة وبيروت أو في الجزائر, في ذلك الفندق القذر الذي يملكه عباس اليمني المقيم في الجزائر منذ عهود الاستعمار الفرنسي. وفي الهوتيل القذر نفسه, ضغطت لأول مرة على طائرك بزغبه الناعم الدافئ وسقطت في كهف الأغوار السحيقة. واختُرق القلب الذي ظل شريد الحب والقصيدة.
***
(إميل) من غالية قبّاني.. وكنت قبل فترة التقيت بها في لندن مع فاضل السلطاني وابراهيم فتحي الذي يرغب في الرجوع بأسرع ما يمكن الى القاهرة.
تقول غالية أن الأصدقاء يلتقون بين الفينة والأخرى ليكونوا شهوداً على تقدّمهم في العمر. ويلاحظوا ذلك التغيّر الذي يحمله الزمن بعرباته الثقيلة على الأجساد والقلوب.
أكتب الى ليانة بدر في رام الله أسألها عن الأحوال التي ليست بحاجة إلى سؤال من فرط وضوحها, لكن هكذا هي العادة.. الفلسطينيون في الداخل هم أكثر العرب انعداما للشكوى و(النق) هكذا لاحظتُ حين زرتهم في فلسطين. ففي حين يعيشون في قلب العاصفة الدمويّة والمواجهة التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا , يحملونك على الكرم والحنان الصادقين والرعاية كأنما أنت القادم أو الذاهب الى المأساة وليس هم الذين يخوضون غمارها اليومي.
هكذا ينجلي المعدن الحقيقي للكائن في غمرة الشروط الشاقّة للحياة, وسط الخطر الداهم باستمرار.
***
السبت: حاولت النوم ظهرا . وصلت إلى تلك المنطقة المتأرجحة بين النوم واليقظة. عبرتني أطياف خلائق غريقة هي الأخرى تبحث عن قشة النجاة في محيط رأسي المتلاطم بالغضب والإحباط.
***
السبت: صحيان متأخر. شعور بالكآبة وملامح غثيان. خيالات الموتى تحاصرني, تسد النوافذ والطرقات. أحاول الهرب . لا أذهب الى المكتب هذا اليوم. أتجوّل من غير هدف ولا رغبة. الإنسان وُلد من ضياع وسديم. أيهما أسبق (الوجود أم العدم?) لا يهمني ليذهب الاثنان إلى الجحيم.
أحس بثقل أنفاس الموتى وصراخهم.
في أي درْك يجري تعذيبهم وسلخ جلودهم وتبديلها في هذه اللحظة? تقودني السيارة الى شاطئ البحر. علّ المياه تغسل بعض كآباتنا أو تقلل منها. أستلقي كسائح- ليتني كنت كذلك وأتخفف من عبث هذا الانتماء- أرقب الغراب يشرب من البركة الصغيرة ويطير. وثمة طيور أخرى, تايلنديّة الأصل تكاثرت وأصبحت تشكل مجتمعها الخاص بعد أن تأثرت بالغراب في مشيته العرجاء, وبالصفرد في تقليد الصياح. ألقي بجسدي في المياه المالحة وأذهب بعيدا في الأعماق.
***
المنطقة تقع في الحزام الجاف. تلفها البحار والمحيطات من كل الجهات. أكبر الشواطئ العربية موجودة هنا وفي المغرب. ثمة شواطئ متوحشّة, لم تفسد حدائقها المعشبة بالأصداف والأحلام, قدم إنسان بعد. إنها تخفّف من وطأة القحالة والمحل الساحقة.
هذا اليوم البحر هادئ. أسراب كثيفة من الأسماك الصغيرة (البريّة) تجوبه فيما يشبه الرقص الجماعي, حتى أنها من فرط الخفّة والبهجة, تقذف نفسها خارج المياه لترقص رقصتها الأخيرة على اليابسة.
خرجت من البحر مسرعاً حين تذكرت أن هذه الأسماك حين تكون, بهذه الكثافة قريبا من الشاطئ, فثمة مفترسات تتبعها.
رأيت صغار سمك القرش, تقترب من المياه الضحلة لكنها من النوع اللامفترس. وربما ما زالت صغيرة على الانقضاض.
رؤية القرش دائما تمدّني بإثارة مضاعَفة, وتشحن الخيال وتحفزّه بشكل لا نظير له في مختلف الحيوات البحريّة المكتنفة بغموض الأزمنة المتراكمة.
القرش بأنواعه, ذئب البحار. وكـ<<ملك>> يستعرض صفوف جيشه المنتصر. وهو الأكثر قِدما بين الأسماك ومخلوقات البحر, موغلا في الزمان, حتى أن علماء البحريّات يقولون أن بعض أنواعه مضى عليها عشرون مليون سنة. لكنه بمجسّاته الكهربائيّة والمعدنية التي ترشده الى الفريسة ليس أكثر فتكاً من الإنسان. فهو غالباً لا يحب لحم البشر, حتى أن قرشا ابتلع بحّاراً ذات مرة ولفظه على الفور لأنه لا يستسيغ هذا النوع من الوجبات, وهو لا يفترس إلا عدداً محدوداً جداً من البشر كل عام, لا يتجاوز العشرات, بينما هناك مائة مليون سمكة قرش تباد كل عام على يد الإنسان في العالم.
(شكسبير) في مسرحيته (ما كابث) تكلم عن الطعام المصنوع من سمك القرش. ونحن في عُمان نجففّه ونأكله بمتعة عالية ونسميه (العوال). محمد القيسي وصباح زوين ولطفي اليوسفي وآخرون حين زارونا وقدمنا لهم العوال, امتدحوا هذه الوجبة المثيرة والمدهشة.
هناك عشرات الأنواع من أسماك القرش إن لم تكن المئات تبدل أسنانها باستمرار: القرش النمري أسنانه أكثر حدّة. قرش الرمال, أسنانه كأسنان الكلب. القرش ذو المطرقة. القرش الملائكيّ والأزرق والأبيض… إلخ.
سمكة (الرامورا) التي وسَمت مجموعة قصصيّة لمنيرة الفاضل, تقضي حياتها ملتصقة بالقرش, تتغذى من إفرازات جسده بشكل طفيلي وهي في وجودها ونمط حياتها الاتكالي, تذكر بقرابة عضويّة لأفراد وجماعات بشريّة, تعيش في الأرض على النمط نفسه. وستنقرض لو تخلّت عن طبيعتها الطفيليّة هذه.
***
الخميس: أذهب الى الصالة لأطفئ المكيف الذي بات يحشرج طوال الليل كأنما ثمة كلاب تحتضر في أحشائه. هدوء وصوت يمام يهدل في الخارج. أذهب إلى المطبخ لأعمل الشاي, أسهو قليلا يفيض الإبريق, لكن ما تبقى يكفي لهذا الصباح. أتراجع عن تشغيل الموسيقى, لاستمتع بصوت اليمام والطيور الصغيرة الهاذية في الشجيرات المجاورة, التي لم يأت عليها العمران الكاسح بعد.
اصطفاق أبواب الجيران الذين لا أعرفهم يبدّد هذا الهدوء. ارتطام يهزّ العمارة بكاملها مع كل باب يغلق. هؤلاء الجيران المتغيّرون باستمرار, الذين لا يكلم أحدهم الآخر, أو حتى لا يشير بإيماءة تحية مثلما يفعلون في البلاد الأجنبيّة, لابد أن أكلم حولهم, مدير سكن هذه المنطقة كي يراعوا الهدوء في غلق الأبواب, أو المشي الصاخب على السلالم, لكني لا أفعل.
الصفرد يعلو بشدوه الجرسيّ كأنما يتوجه برسائل نَغمَة إلى الغيب المتعالي, فأنسى الجيران وأبوابهم, وأبدأ في ترتيب الأوراق على الطاولة وأشرع في الكتابة.
***
أتلقى دعوة من (كولومبيا) إلى مؤتمر أدبي بمدينة (مادلين) مركز العصابات العاتية والمخدرات في العالم. ومركز الحركات اليساريّة المتطرفة. بداية تعجبت , كيف يكون مؤتمر هذه طبيعته بهكذا مدينة? لكني تذكرت (اسكوبار) زعيم عصابات المخدرات القوي, الذي تقول الرواية أنه وهو يخوض معركته الأخيرة مع السلطات, وُجد مقتولاً وفي يده مسدسان, وفي اليد الأخرى رواية (مائة عام من العزلة) لمواطنه, ماركيز; فإذا كان رجل العصابات الأسطوري, يقرأ أدب بلاده, فكيف حال المثقفين?
هذه رابع دعوة أتلقاها من منظمي هذا المؤتمر, ذات عام نويت الذهاب, لكن قبل يومين, رأيت في الأخبار, اختطاف مرشحة, رئاسة الجمهوريّة. لا أعرف, هل كان الاختطاف من قبل الحركات اليساريّة أم من قبل رجال العصابات, فتراجعت .. ومرة قررّت الذهاب من باريس بعد أن عرفت أن أدونيس وعيسى مخلوف وآخرين مدعوون إلى المؤتمر نفسه لكن أدونيس, انشغل بمهمات أدبية أخرى, وعيسى الذي عاش سابقا في بعض دول أمريكا اللاتينيّة تحفزّ في البداية أن نترافق في هذه الرحلة, لكنه تراجع لاحقا لأسباب خاصة..
هذا العام, رغبة السفر إلى كولومبيا, أكثر إلحاحاً, إغراء التجربة الجديدة. ربما أذهب بعدها إلى الأمازون القريب. فهو امتداد لفنزويلا… (أمازوناس) حيث المساحة الخضراء الهائلة والسكان القليلون. وحيث ربع مياه الكرة الأرضيّة العذبة في أرجائها المثيرة.
***
الأربعاء: تلبك معويّ حاد, منعني من الذهاب إلى الإمارات عن طريق البر. مشهد الصحراء وهي تبيض عمارات وأبراجاً قلّ مثيلها في العالم, يغريني بتأمل أحوال الأرض والإنسان.
أفتح النافذة, ألسنة سحب تطل من وراء الجبال, لا تشبه السحُب كأنما هي نذير قيامة. أغلق النافذة, تعتم الغرفة من جديد. أفتح أباجورة القراءة.
أنسى كل شيء غارقا في مياه الكلمات.
***
الجمعة: الجو جنائزي ثقيل, الهواء يحمل رائحة الموت في كل مكان. الهواءُ الذي كأنما يهب من جِيَف حيواناتٍ متعفنّة.
سليمان, أخي, يبلغني بأن, محسن بن حسن, قد توفي البارحة. توقفتُ لحظاتٍ, لأستلّ هذا الاسم من غابة الأحياء والموتى الذين تعج بهم الذاكرة من أزمان مختلفة.. بدأت أستعيد وجه محسن تدريجيّا , حين كنا في سمائل, وكنا نذهب من سرور, لزيارتهم في منطقة (السياب) بعلاية سمائل, على حدود الوادي الذي يتوسط ضفتيّ البلاد.
كان الوادي بجانب ثرائه بالمياه والنخيل والأشجار الأخرى, تطرز ضفتيه غابات (الروغ) الكثيفة الحالمة. كان حين يتمايل بفعل الريح الخفيفة, تعرونا رجفة جمال وحنين غامضة. كانت تلك الزيارة بالنسبة لي دائما, مناخ تغيير وفرح, يشبه فرح الأعياد ومواسم (خَرْف) الرطب وجني الثمار.
كانت سمائل, مثار خيال, ليس بسبب هذه الطبيعة المميّزة عن مناطق أخرى, فحسب, وإنما بجوها الأدبي والشعري.
كيف يمكنني أن أنسى تلك الكوكبة من شعراء وعلماء تلك المرحلة, من الشيخ عبدالله الخليلي وعلي بن منصور وموسى البكري وسلام الرمضاني والشيخ العلاّمة حمد بن عبيد السليمي رحمهم الله.
كان محسن , أحد أبناء الأخوال, من وجوه تلك البرهة الغاربة إلى غير رجعة.
***
السبت: أتسطّح على الرمل الأبيض الصافي, منتظراً اختفاء الشمس التي بقي نصفها يقاتل بشراسة كي لا يغطس في لُجمّة المغيب.
جُل الوجوه, إن لم يكن كلها من السيّاح الشيوخ.. لقد ذبُلت الأجسادُ وتهدّلت. وغارت العيون وانطفأ ألقها إلا من تحديقة الموت العريقة.
أصرخ, يا إلهي, أليس من جسدٍ فتيِّ, ناضح بالأنوثة والرغبة, يعيدني إلى صفاء النظرة الأولى?
أتصل بداليا, يأتيني صوتها متغضنا, تعبا , فتخيّلت أنها شاخت هي الأخرى واضمحلّت نضارتها.
استسلم للرمل محدّقا في الفراغ واللاشيء.
***
الجمعة: لا يمام يهدل. لا عصافير صغيرة على الشجرة اليتيمة في الخارج. لا نسمة تحرك هذا السكون المقبريَّ, حتى ولو كانت ساخنة.. كم أحلم بغيمةٍ شريدةٍ تعبر هذا الصحو المستفزّ للأعصاب..
أنتظر هاتفاً من أحد الاخوة كي نلتقي على غداء عائلي, لكن الوقت يمضي ولا هاتف ولا من يحزنون. صارت أكثر العلاقات حميميّة, موضع شك وريبة. وهذا ليس بالأمر السيء إذا فهمنا طبيعة البشر على نحو جيد.
ورغم أننا أكثر الأمم تشدقاً بتراث الأجداد, لكن الأصحّ أننا أكثرها انهياراً في المنظومة القيميّة, والأخلاقيّة التي بُنيت على أشلائها وعظامها, مباني الكذب والنفاق.
أذهب إلى سوق السمك في (مطرح) استمتع بمشهد الصيادين والقوارب قادمة, شباكها مليئة بأنواع الأسماك المختلفة, التي مازالت حيّة, تتخبطّ لامعة تحت ضياء الشمس. تفزّ أفراخها, من قلب الشباك إلى اليابسة ليعيدها الصيادون إلى السلال التي ستباع فيها.
أقف على الحافة, خلفي عَرصَات السوق ونداء الباعة والقمّاطين, وأمامي البحر والسفن, التي صُنع بعضها وفق الأنماط العمانيّة المزهرة في الأيام الغابرة.. ذهاباً وإياباً على حافة الميناء مأخوذا بالمشهد وحركته وفطرته. في رأسي, تتراءى أطياف وجوه غائبة, أو ربما حاضرة لكني لا أعرفها, فهي بالتالي في رعاية الغياب القاهر, وهذا أفضل للجميع.
سعدي يوسف, حين زار ع مان, أ عجب بهذا السوق, وكتب عنه, كتب عن ما افتقده طويلا في ضباب المنافي التي لا حصر لها ولا تصنيف.
ربما ذكرّه بأسواق البصرة المنكوبة.. ما زال هناك بحر وصيادون وشباك.
ما زالت بقايا طفولة وذاكرة ربما عصيّة على الاستئصال والتدمير.
***
السبت: للدميريّ في حياة الحيوان الكبرى, أقرأ: <<الجعل كقرد ورطب وجمعه جعلان بكسر الجيم>>. وهو دويبة معروفة تعض البهائم في فروجها فترهب. وهو أكبر من الخنفساء. يوجد كثيراً في مرح البقر والجواميس ومواضع الروث. ويتوالد غالباً من أخثاء البقر. ومن شأنه جمع النجاسة وادخارها. ومن عجب أمره أنه يموت من ريح الورد وإذا أعيد إلى الروث عاش.
قال أبو الطيّب:
(كما تضر رياح الورد بالجعلِ)
ومن عاداته أنه يحرس النيام. فمن قام لقضاء حاجته تبعَه, وذلك من شهوته للغائط لأنه قوته. وعن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث رواه الطبريّ وابن أبي دنيا أنه قال: <<إن ذنوب ابن آدم لتقتل الجعل في جحره>>.
أي تعليق لابد أن يفسدّ هذا التشخيص الدقيق, الواقعيّ أيما واقعيّة, بالحرف والمسطرة, لصنف بشريّ بعينه.
***
أتذكر, كلمة الفيلسوف, الذي لاحظ بانزعاج شديد, بداية ضمور كراهيته العميقة, للوضع البشري.
***
الأحد: ارفع سماعة التلفون. هلال الحجري, قادماً من انجلترا بعد أن سلّم بحثه للدكتوراة, حول الرحّالة الإنجليز في عُمان. وقال أنه اطلع على عدد نزوى الأخير. طلبت منه بحثا حول (ويلفرد ثيسيجر), الذي مات منذ فترة وجيزة, والذي يشكّل علامة فارقة في ساحة أولئك الرحّالة الذين عبروا الربع الخالي في مطلع القرن الماضي.
ألتقي بأحمد الهاشمي الذي قلتُ له أكثر من مرة أنه يذكرني بالعُمانييّن الأوائل. وأنه يشبه نفراً التقيتهم ذات دهرٍ, حين كنا نقطع المسافة مشياً, مع الشيخ حمود الصوّافي ومبارك الراشدي, بين بلدتي (المضيبي) و(سناو) كان القمر باسطاً أضواءه, على تلك المفازات المتموجّة, تعلوه بعض غيوم عابرة, مبعثرةٍ, ماضين في تلك الليلة الفريدة بين أشجار السمر والغاف والحرمل, المكتظّة بالظلال والهوّام على مشارف الربع الخالي.
لا أعرف, لماذا أولئك الأشخاص المسافرون الذين التقيناهم صدفة, بوجوههم الغارقة في الأضواء والظلال المترحّلة, لا يبرحون ذاكرتي بعد كل تلك السنين العاصفة?
***
أجلس أمام التلفزيون, أقضم أظافري, وأشاهد من غير حماس.. فرج البيرقدار الخارج لتوه من السجن, قال: أن علينا إنجاب طفل على الأقل. فمع تقدمنا في العمر سنجلس وحيدين, نقضم أظافرنا. أجبته بأن لديّ عادة قضم الأظافر منذ الطفولة. وربما أدميت أصابعي حين خرجت مباشرة من الرحم نحو العالم. لم استخدم مقلمة أظافر ولا أي وساطة, على هذا الصعيد القضمي.. حامت على رؤوسنا مقولة أثيرة لدى البعض; أن ثمة جرائم كثيرة يمكن احتمالها, إلا جريمة الإنجاب في عالم مثل عالمنا.
أعتقد أن هذا الفيلسوف كان متشائما أكثر مما يحتمل الموضوع. فالإنجاب وعدمه ليس مقولة أيديولوجيّة, فيمكن للإنسان أن يحققه مثل باقي مخلوقات الله, أو يهمله وينساه.
يمكن أن يستبدّ به الحنين الى رؤية وجهه, ينعكس في آخر من صُلبه. أو أن ذلك الإنعكاس المكرر, يزعجه ويبهض حريتّه, رأسماله الرمزي في الحياة.. يمكن أن يرى وجهه منعكسا على صفحة ماءٍ في بحيرة صافية من غير مسؤوليّة ولا تبعات, وليس بالضرورة على طريقة (نرسيس) الذي قضى حياته هائما في عشق جماله حتى صرعه هذا الهيام.
الكاتب اللاتيني الأعمى هو الآخر لا يحبذ الإنجاب, ربما لأنه لا يرى جدوى من هذا الاستمرار الكئيب للجنس البشري.
المخرج الفرنسي (آلان رينيه) في فيلمه (العناية الإلهية) يدفع بشخصية فيلمه الرئيسيّة, أو بطله كما جرت العادة, الثري المثقف وهو يستعيد شريط حياته في أيامه الأخيرة, إلى السؤال الحرِج الحزين, حول أكثر شكوكه وضوحاً, حب أولاده له, وإن كان وجودهم ضروريا في حياته?!
صاحب (سفر الجامعة) يبدو أكثر عدميّة حين يقول: <<لذلك مجدّتُ الموتى الذين ماتوا أكثر من الأحياء الذين ما زالوا يعيشون, ولكن الأفضل من الاثنين ذلك الذي لم يوجد بعد الذي لم ير الشر المصنوع تحت الشمس>>.
أما المثل البرازيلي الشعبي فيقدم حلاً مرحاً, في أن الذين لم ينجبوا أطفالاً يعيشون كالملوك ويموتون كالكلاب. والعكس لمن كانوا ذا خلفة يعيشون كلابا ويموتون ملوكا …
لكن من يضمن, نهاية المطاف, وضع الكلبيّة والملكيّة, أما يكون الوقت قد فات وتلاشى أمام صاعق الغياب. وأن هذا الصاعق, أو هذا النداء الأزليّ هو الشفاء الأكثر واقعيّة لسقطة الوجود الذي لم نختره على كل حال, وكان العلاج الأكثر حسماً وجذريّة هو في انعدامه والتحجرّ في ظلمة السديم والعدم القصوى.
علينا أن نحيا ونخلق معنى ما, ولو كان سرابيّا, لتحمل استمرار هذه الحياة.
***
الاثنين: اتصال هاتفي مع خالد المعالي يقول: أنه سيحتفل هذه الليلة مع الأصدقاء, حول مرور عشرين عاماً على تأسيس (دار الجمل) التي بدأت بحلم شخصي, تنقصه الامكانات الأساسيّة, لكن الإرادة أخذت بهذا الحلم إلى دنيا التحقّق الواسعة, مثلما نرى الآن.
المعالي, الذي قضى معظم حياته في ألمانيا, المتحدّر من بادية السماوة, ما زال يحمل سحنته وملامح أولئك البداة المهمشيّن ليس في شعره فحسب, وإنما في وجهه وجسده وحركاته; وأنا أتخيّله دائما ينتمي إلى (شوّان) جبال عُمان, مزنراً بـ<<المحزم>> و<<التفق>>, يسوق قطعان الماشية والجمال, ناظراً إلى التيوس والوعول السارحة في الضفاف الصخريّة الأخرى.
إن له شكل راع نموذجي رغم السنوات الألمانيّة الطويلة, على سفوح هذه الجبال أو في أراضي (وهيبة) في تخوم الربع الخالي.
***
أفتح التلفزيون, أشاهد فيلما , مستوحى, من إحدى روايات (هومنجوي). حياة الكاتب (هاري ستريت) بطل الفيلم التي هي حياة هومنجوي نفسها, والتي كانت لُحمة رواياته ونسيجها الشاسع; مغامرات الترحال والحروب والنساء والكتابة, العيش في قلب الخطر والإثارة, هروباً من الرتابة والدِعة, وبحثاً مرهقاً عن الجوهر الحقيقي الهارب, طريدة الكاتب المستعصية حياة وإبداعاً.
مشاهد الفيلم الأخيرة, هي الأجمل والأعمق, حين يمرض الكاتب في غابات إفريقيا وسط العزلة والفراغ والأشباح, وذلك الساحر المداوي بأقنعته وعظامه ووشومه المخيفة.
يذهب الكاتب في غيبوبة الحمّى وهذيانها, يرى الموت والعدّم واللاشيء.
الضبع يتنزّه قريباً من خيمة المريض, يشتمّ رائحة الدم السائل من ضمّادات المريض فيرتجف, هياجاً ولذةً, الضبع الذي يركبه السحَرَة بالمقلوب, في قصّ الخرافة للذاكرة الشعبيّة العُمانيّة.. الشجرة الكبيرة مليئة بطيور مشؤومة مروّعة. الضبع في هياجه باحثاً عن الدم, لا يهدأ بخلقته البشعة حتى يكتشف الفريسة ويتم الاقتحام.
***
الثلاثاء: أستمع إلى شريط قديم, حملتُه معي فيما حملتُ من متاع قليل في أكثر من مكان; (لإيرين باباس), صوتها مزيج من نُواحٍ كربلائي, وأغاني الرعاة المتحدّرين من الجبال بحثا عن مياه بعيدة.. جبال وسهول (كريت) والجزر اليونانيّة حيث (كازنتزكي) ذو الدماء العربيّة. لا أستمع, إلا في أوقات خاصة, لأم كلثوم وسيّد درويش, وعبدالحليم, وذلك الجيل الذي تربينا على أغانيه وإيقاعاته الرومانسيّة, ربما لأن دَفْعَ الحنين, الى مناطق قصيّة جدا , يستنزف الكيان, فيتحوّل من الطرَب وفرح استعادة الذكرى, إلى نوع من مازوشيّة تدميريّة, لسنا في حاجة إلى تنميتها أكثر مما هي عليه.
أنزل السلّم , أسمع اصطفاق باب أو بابين, تهتز على أثره العمارة. أقرأ إعلاناً ملصقاً حول القطط التي بدأت تتكاثر في طوابق العمارة وتموت وتتعفّن. لا أعيره اتنباهاً, لأن تلك القطط الشريدة التي يريدون استئصالها من المكان, لن تغادر مخيّلتي, ويظل مواؤها ونظراتها, البائسة المليئة بالحقد واحتمال الشر, الذي يستحوذ عليها لولا ضعفها, يلاحقني باستمرار.
أذهب إلى المكتب, اتصال من محمد المزديوي وآمال موسى وفرج العشّة, نشرة أخبار منتصف اليوم. استمرار المجازر والمقاومة في العراق وفلسطين, التي تصل حد المحو الكامل بين الأسطورة والواقع, نتيجة, ذلك الاختلال في ميزان القوى الذي لم يعرف له التاريخ مثيلا , بين من يملك كل شيء ومن لا يملك أي شيء, عدا روح الإرادة والتضحية التي لا تلين. ثمة شعوب ورجال ونساء, يختارهم القدر التراجيدي, بعناية فائقة, والأكثر مأساويّة, هو انفضاض وظلم ذوي القربى, الأشد مضاضة وفتكاً من قنابل الأعداء.
***
أحضر ندوةً أو مؤتمرا , ألقي نظرة على الأوراق أمامي.أرفع رأسي. تتسّمر نظرتي في صحن الساعة المعلّقة على الحائط.. أتذكر أحد أفلام (برجمان) حيث حشْد من الساعات ذات الأحجام المختلفة. المخرج السويدي مسكون باستبطان لذة البطء بالمعنى الوجودي, والضجر في سيرورة الزمن الساحقة.
غسّان كنفاني; الساعة والصحراء, بمثابة المقام الرمزي الذي يحتشد بالإشارات والإيحاءات والوقائع, لسيرورة الزمن الفلسطيني, العربي الأكثر ثقلاً وفظاظة, بين أجيال الأزمنة العربيّة المتعاقبة.
***
الأربعاء: فوضى الأوراق على المكتب, أكثر من المعتاد. صحيح أنني أفضل الطاولة على نحو من الفوضى, وانعدام الترتيب البليغ, لكن ليس إلى هذا الحد .
بداية زكام, يبدو أنه يأخذ شكلا جماعيا في البلاد.
اتصل بالشيخ محمود بن زاهر أسأله عن أبي هشام عبدالملك, إن كان رجع من سفرته الأخيرة, فرمضان على الأبواب,وهو وفق مقتضيات عمله على سفر دائم, يذرع فضاء الله جيئةً وذهاباً. وهو ما أزاح عني جانباً من حمل مسؤولية السفر النمطيّة, عند أصدقاء مثل أبي أحمد العبري وأحمد الفلاحي اللذين صارا يوزعان هذا الإغباط أو الحسد البريء بين عبدالملك وعبدالرحمن السالمي وبيني. انكسرت تلك النمذجة التي ورثناها عن الجد المعتزلي الكبير (أبي عمرو الجاحظ) بحيث أن الصفة التي تلتصق بموصوفها إلى الأبد, حتى ولو أقلع عنها أو تلاشت إلى حد كبير.
الشق الثاني من مكالمتي للشيخ محمود حول أبيات للخليل بن أحمد حفظتها عن والدي وحين بحثتُ لاحقاً, عن مرجع أو ترجمة لها, لم أجد, أبومحمد دائما مرجعنا في مثل هذه الحالات وغيرها. شعر الخليل على ما يبدو لدى دارسيه وشارحيه أقل أهميّة من إنجازاته المعرفيّة في علوم اللغة, فلم يعيروه أهمية تذكر. وهو وإن كان كذلك, لكنه ببساطته العميقة يكشف لنا الجانب الآخر لسيرة هذا العلاّمة, الفذ, وعن غربته وعزلته وسط انحطاط القيم في الزمن الذي عاش فيه.
رمضان المبارك على الأبواب, عليّ أن أغيّر بعض العادات اليوميّة, أن أغير اتجاه الحركة في مثلّث البيت, المكتب, شاطئ البستان. أستبدل هذا الأخير بشاطئ القرم الأكثر سعةً وانبساطاً. وأحلم بزيارة أهل وأقارب وأصدقاء لم ألتقهم منذ سنوات, رغم اقامتنا المشتركة في نفس المكان.. هل يتحقق هذا الحلم?
***
الخميس : اتصال من ناصر الغيلاني, من صور, يخبرني عن عزمه على السفر إلى القاهرة لحضور مؤتمر الرواية العربيّة. أخبرني أيضا عن عبدالرحمن منيف وتحسّن حالته الصحيّة بحيث أن حضوره المؤتمر أصبح ممكنا.. منذ فترة استلمت رسالة من منيف, في سياق الرسالة, وهذا ما أدهشني, يتساءل عن جدوى الكتابة في عالم اليوم, وهو من بين الأكثر إيماناً بقدرة الكتابة على تصحيح التاريخ المفعم بالكذب والتزوير? ما جدوى الكتابة فعلاً, في ظل امبراطورية الصورة والاعلان وتعهير اللغة ومحو الفروق?
قلت لناصر: لو أسعفك الوقت لعمل مقابلة للمجلة, مع ابراهيم الكوني.. نريد أن نعرف أكثر عن صحرائه الكبرى مباشرةً من غير وسائط الكتابة وحيل السرد..
لو يتحقق شعار <<يا صحارى العالم اتحدي>> وتتجسد تلك التوأمة الروحيّة الحميمة لكان أفضل من توأمة مدن عرجاء مشوهة. وربما من قلب ذلك الاتحاد العظيم ينبثق خلاص جديد للبشريّة على غرار خلاصها على يد الأنبياء والمرسلين من قلب الصحارى.. قبل قرون..
إبراهيم, هو الآخر يعاني من مشاكل صحيّة يعالجها بالكتابة والعزلة في جنيف,التي حوّلها إلى مفازات تعجّ بمخلوقاته الصحراوية البالغة الرأفة والعنف.
خلال هذا العام, كم من الأصدقاء غيّبهم الموت. (الأصدقاء يموتون ويصيبني الدوار) وكم من ينتظر, وهو يكابر ويقاتل سطوة المرض, محمد شكري, زكريا محمد, سهير التل, ممدوح عدوان, محمد الطوبي. ممدوح عدوان الذي التقيته بمعرض القاهرة للكتاب, كنا في الفندق نفسه, وكانت حياته وفق خطها الاعتيادي المعروف. لكني مع خليل النعيمي, لاحظتُ هدوءاً وصمتا , وهما صفتان لم نعرفهما في ممدوح, إلا حين يذهب إلى الكتابة طبعا. سألت زوجته, إلهام, فقالت انها تلاحظ ذلك منذ فترة لكن ليس ثمة ما يقلق. أما مجد حيدر, فقال مازحاً, أن ممدوح يمر بتجربة غرامية صعبة في الشام.
بعد أقل من شهرين, سمعتُ بمرضه العضال. وبعد فترة رأيته في مؤتمر أمل دنقل, وقد سقط شعره بالكامل. لكن الحزن الخبيء في عينيه المرحتين لم يقلل من تفاعله وضحكه والاستمرار في حياته اليوميّة والكتابيّة.
إنني أغبط هذا الصنف من الكتّاب, وإيمانهم القوي بالحياة الذي يفوق إيماني بالموت كحقيقة وحيدة تحت لهب الصحراء. لكن أليس الأمران متلازمين بشكل أن أي انفراط في العقد, يطيح بتماسكه في هذه المواجهة الضارية واللامتكافئة?
إننا في المتراس نفسه, في الدفاع عن حرمة الحياة وحرمة الموت اللتين أصبحتا من الرخص بمكان في دنيا العرب الراهنة.
***
أقرأ خبراً, يعزو حرائق الغابات في أمريكا, الى هوَس جنسي, يستحوذ على أصحابه ويسطو في مرأى النيران الهائل فيعمدون إلى تلك الحرائق.
هذا التفسير الذي لا أستبعده في عالم اليوم, لم يخطر على بال (الماركيزدي ساد) الذي تخيّل في بعض رواياته السوداء التي كتبها في سجن الباستيل, أن الرغبة الجنسيّة تتصاعد على حافة بركان يشتعل, وكلما تصاعدت ألسنة النيران, تصاعدت الرغبة حتى تصل الى الذروة. أما حرق غاباتٍ وبلدان, وآلاف الهكتارات والضحايا; هذه المشاهد الخرابيّة التي تتزايد وتحتدم عاماً بعد آخر, لم يصل إليها الخيال الجحيمي لذلك الأديب. ولم يقترب منها مكتشف التحليل النفسي الحديث, وأمواج العقل الباطن الجارفة بالشبَق والنزوعات الجنسيّة الموجِّهة لسلوك الكائن. ولا أعتقد أن (باشلار) مؤلف الكتاب الرائع حول رمزيّة النار, قد اشار إلى هكذا واقعة أو استنتاج.
الوقائع اليوميّة لقيامة الخراب البشري والطبيعي, صارت تفوق شطح الخيال والمعرفة والنبوءات الخارقة لأولئك العباقرة الغابرين.
أقرأ عبارة (لاينشتاين) تقول, أن أمريكا انتقلت من البربريّة والهمجيّة الى الانحطاط, ولم تمر بمرحلة الحضارة!
ربما كان عالم النسبيّة الشهير, ينظر إلى انعدام البعد الأخلاقي والإنساني في مفهومه للحضارة.
ومتى كان هذا البعد- عدا المقدار والنسبة- في حضارات البشر السابقة, التي مضت في خطها الصاعد من الفأس الحجريّة حتى القنبلة الذرية وما بعدها.
***
تذكرت, أصصَ الزهور وطائر الكناري, اللذين وضعتهما, داليا, في البلكونة, قبل أن تسافر, وتسند إليّ, دور العناية والرعاية. لكني مع الأسف, نسيت الأمر لعدة أيام. فالبلكونة, لا وظيفة لها, في المكان, إلا كشرفة مهجورة, عكس ما هو عليه الحال في القاهرة والشام وبيروت.
خرجت إلى الشرفة, ووجدت الزهور قضت نحبها, وطائر الكناري ليس أحسن حالا , فقد قضى من العطش والوحشة.
***
سُحبً في أنحاء متفرقة كأنها هدية هذا الصباح, الذي سيكون أجمل من سابقه بالتأكيد. سُحب من جهة الهند, أو أراضي فارس, بدأت تنتشر ببطء في عرين هذه السماء الغاضبة.
الفلاّحون في القرى, أكثر لهفة وانتظاراً, لما سيؤول إليه أمرها, لهفة المحاصر بالعطش والجفاف.
لو تكون كريمة ووفيّة لسلالاتها الممطرة عبر الأماكن والأزمنة. لو تجرف وديانها وجوائحها, كل هذا التراكم المدوّخ, كل هذه الجروح, جرّاء المحل والحروب التي تقصف أعماق هؤلاء البسطاء, حتى ولو كانت وقائعها في بلاد أخرى, البلاد التي ما فتئوا يردّدون اسمها, في ضوء الفراغ والعجز, كتميمة من تمائم تاريخهم البعيد..
لو تمطر هذه السحُب وتتركنا هذه الليلة, ننام في هدوء واطمئنان.
لو تجود ببعض كنوز كرمها, تهمي وتنهمر في هذا الشهر المبارك.
ثمة رغبة تراود الإفصاح والظهور, ثمة حنين إلى القاهرة وبيروت.
سيف الرحبي