لا جديد تحت شمس الصحراء
كل هذا الموت, كل هذه الحياة, كل هذا الجاز
(يوميات)
<<إن أقمتَ في العالم فرّ منك كالحلم, وإن رحلتَ حدّد لك القدر المكان, لا الحرُّ ولا البردُّ يمكن التحكم فيهما, وكل ما يزدهر أمام عينيك سيشيخ على الفور ويذبل>>.
(جوته)
الجزء الثاني
الجمعة وما قبلها من أيام:
السماء صحو كالعادة وصمت مطبق يلف الكون المحيط. أسدل الشال اليمني بألوانه الزاهية على شاشة التلفزيون. أدير زر الموسيقى. أجلس على الطاولة كمن ينتظر أمرا جللا . وواقع الحال ليس كذلك. ربما الخوف من الكتابة. أو الاطلاع على تفاصيل الحياة المضجرة. حتى الحب والقراءة والبحر تبدو أحيانا أمورا مضجرة (أقول أحيانا لكي تستمر الحياة في نوع من السلاسة واليسر وبعيدا عن التهويل القيامي), لكنها أفضل الممكنات في غابة هذه الإكراهات المحدقة و(المعولمة) حسب اللفظ المتداول في هذه المرحلة.
دائما تلك الازدواجية المرهقة; في الليل يدفعنا التعب الى محاولة النوم الكؤود. ليس بسبب نقص مادة (الميلاتونين) في الغدة الصنوبرية للدماغ, تلك التي دعاها ديكارت بمركز الروح وفنّد خطأه لاحقا , وإنما لأسباب أخرى.. نمضي في المحاولة الشاقة كمن يصارع وحوشا لا مرئية, ندحر هواجس الموت المحتشدة كي تلامس عيوننا إشراق صباح آخر. وحين نربح المعركة وإن في شكلها المؤقت, ويأتي الصباح المأمول, نشعر بالقرف وانعدام الغاية وغياب الاندفاعة الحيوية اللازمة لاستمرار مسيرة الحياة الحقة.
أجلس أمامي كتب وأوراق, وفي الركن سلة الفواكه التي تتبدى غارقة في أحلامها ولم تستيقظ على هول العالم بعد. وأتساءل هل ستسقط في دائرة الهول والتوتر إذا استخدمها فنان أو كاتب في عمله الفني وأعطاها دور البطولة الذي ربما سيضمن لها الخلود. هل ستستريح في واحة الخلود المشكوك في أصل وجوده, إذ تتحول عن طبيعتها الأصلية, المألوفة في القضم والابتلاع? أم من الأفضل لها أن تبقى في السلة حتى تتعفن وتتلاشى?
وتبعا لهذه الخواطر, هل نحن البشر, لو شهدنا نوعا من التحول الجذري, في الوسائل والغايات ومجمل العناصر التي ينبني عليها أسُّ وجودنا, وطرائق الحياة والموت, سنكون أقل ألما , وربما أقرب إلى ضفاف سعادة ممكنة?
مثل هذه الأسئلة ومشتقاتها, حتى لو لم تكن تعني شيئا , فهي نوع من رياضة ذهنية. لعبة شطرنج مسلية.
أرفع رأسي عن الورقة, أرى الشال ذا الألوان الأنيقة قد انزاح قليلا عن جانب من الشاشة التلفزيونية, المغروزة في الأعماق الخشبية للمكتبة وقد استقر عليها مالك الحزين وببغاء ملونة مع أصداف بحرية تنضح موسيقى وعذوبة, فبدأ المشهد بكامله في بهاء امرأة ريفية ترفع مئزرها في لحظة غرام.
***
ألتقي بحسين العبري, في مقهى (ستاربكس).. أخذنا طاولة تطل على باب المطعم المكسيكي, الذي ليس فيه من المكسيك إلا بعض التمائم الفلكلورية المعلقة على الجدران, وطباخه العجوز المفرط السمنة, والذي كان جاري في العمارة السابقة, حين كنت أراه كل صباح, يزرع ويسقي حديقة الدور الأرضي بعناية وإبداع حملاني على كتابة قصيدة نشرت في (الجندي الذي رأى الطائر في نومه).
حسين يتحدث عن كندا التي رجع منها حديثا , وبصفته طبيبا نفسيا وروائيا , يحلل الأشياء والعالم من أفق المعرفة النفسية.
أردت أن أقترح عليه تحليل سيكولوجية الجبال ومحاولة استقصاء كهوفها ومخابئها المفعمة بالأسرار والمهابة الروحية. وبما يمكن أن نطلق عليه; علم نفس الأزل, علم جمال القسوة, خاصة إذا عرفنا ان حسين ولد في (الحمراء) على سفح أعتى مركز جبلي في العالم.
مرة ذهبت إلى قمة جبل شمس, أعلى الذرى الجبلية الحائمة هناك. وما هالني من هذه الشوامخ أكثر, هو ذلك (الصدع) الذي يشطر الجبل من القاعدة حتى القمة, مخترقا كذاكرة جرح حفرتها جحافل السنوات في أعماق جسده العملاق.
***
كان بعض قدماء اليمنيين, وهم الفرسان البواسل الذين بنوا الممالك والإمبراطوريات بحد السيف- من فرط خوفهم الذي يصل حد الخشية والخشوع للجبال. كانوا يعبدون تلك الرواسي الشاهقة, ويستسقونها أوقات الجفاف. ويطلبون منها الرحمة والمساندة في أزمنة الحروب.
كانت الجبال بالنسبة لهم التجلي الإلهي الأكثر خطورة على الأرض, لذلك فهي جديرة بكل ذلك التمجيد والتقديس.
علماء الجيولوجيا يقولون أن ما خفي من الجبال في باطن الأرض أكثر مما ظهر.
كم هي متجذرة, صلبة وضاربة في الأغوار النائية للكون, أمام سطحية الكائن البشري المدعي, في عبوره المزعج على الأرض.
هل يمكن تخيل غضبها الجارف وهي ترقب منذ قرون ضوئية تلك المجزرة البشرية المشينة عبر التاريخ, أن تزحف كما في الأساطير البابلية, وعلى قمة من قممها زعيم الآلهة (مردوخ) ذو الأربعين وجه, المطلق القوة والبطش, يرغي ويزبد حاملا فوق كتفيه الزلازل والطوفانات?
هل سيكون هذا الزحف الجبلي العاتي, هو النهاية القيامية الأكثر رأفة من فتك الأسلحة الذرية?
لكن الجبال ترقب المشهد البشري وتذرف الأيام, والدموع التي تسيل في الشعاب والوديان سيولا رحيمة.
***
أشاهد مباراة لكرة القدم, بين من يصفه نقاد الرياضة بفريق الأحلام, وهذه التسمية هي التي شدتني للانحياز إليه (الحلم والخيال وإلا فالهلاك الحتمي) أكثر من شهرة نجومه وسطوتهم في عالم الكرة- وبين فريق برشلونة, غريمه التقليدي.
من الصفر تقريبا , استطعت أن أكوّن بعض ثقافة في عالم هذه اللعبة الممتعة, التي يفرغ البشر فيها حمولة عنفهم في ساحة المعركة, من غير دماء وجثث إلا ما ندر. وهذا النادر يأتي كعلامة تذكير, بأن المزاج البشري المتجذر في جمالية العدوان والشر , مادة الأدب الأثيرة, لابد أن يرتد الى طبيعته الحقيقية.
صارت لدي بعض ثقافة في هذا الاتجاه من كثرة ما أشاهد من مباريات في الفترة الأخيرة; أتذكر حين ذهبت ذات مرة لجلب الكرة التي ذهبت بعيدا خارج الملعب ولم أعد حتى هذه اللحظة التي أشاهد فيها مباراة الفريقين الاسبانيين.
تركت الكرة واللاعبين ينتظرون خمسة وعشرين عاما على الأقل, وهم ينتظرون. أو هكذا أتخيلهم مسمرين في ملعب نادي الجزيرة, كالتماثيل الشمعية. الأيادي ممتدة والكرة متجمدة في الهواء الراكد للمدينة الكبيرة.
روحهم الرياضية بهذا المعنى تشبه روح خوفو والهرم, صلبة ومتماسكة أمام الأزمنة.
***
أمشي على الشاطئ, ألتقي بعجائز, يقود بعضهم الآخر, في حسرة وتهدج كأنما يكتبون وصاياهم الأخيرة على الرمل.
وثمة فتاة في مطلع العمر, تمشي وحيدة. عزلتها البحرية تكثف من جمال الجسد الحاسر البطن والسرة التي تشبه دنو نجمة تلثم زبد الموج.
فكرت , أن هذه السرة, آخر ما تبقى من أمل لإنقاذ العالم من هلاك أكيد.
أليس (ديستوفسكي) من قال: الجمال هو المنقذ الأخير للعالم?
***
الطائر الذي يبزغ دائما بعد انبلاج فجر الصحراء, كانوا يسمونه في القرى الخصيبة, طائر (البابو). وحين يغني على فروع الأشجار الباسقة بعذوبة ومرح, يستبشرون بمقدم ضيف, يستبشرون بالقرى.
الطائر نفسه يقطع الأزمان ويشدو بعد انبلاج فجر الصحراء. على فرع الشجرة اليتيمة أمام نافذتي, مبددا وحشة الليل وقهر المدينة الكئيبة.
كل ليلة صرت أنتظر في رقة وتواضع, هدية القدر الرحيمة.
***
طائر صغير يقفز بين الأغصان بخفة ورشاقة, يسمونه في البلدة التي أضحت مستحيلة, طائر (السنيسلو) كان غالبا ما يتسلق غدران الموز وعذوقه أكثر من عذوق النخيل العميقة, حتى كأنها موطنه الأساس وما تبقى أماكن مؤقتة, يخفت فيها زهو حياته ومرحه. لذلك يكون حضوره بين تلك العذوق والأوراق الخضر المتمايلة في النسيم, حضورا طاغيا على غيره من الطيور والحيوات.
وبصوته الأكبر من حجمه وسمارته التي تمنحه جمالا خاصا وصفات أخرى يخبئها الصوت والرشاقة.
على الشجرة نفسها التي كان (البابو) يصدح على غصن فجرها الاستوائي, يقفز بين الأغصان والجذوع, وأحيانا على أسلاك الكهرباء التي تخترق فضاء الشجرة, لكنه يعود مرتجفا الى شجرته كمن شعر بأن تحت قدميه الصغيرتين شيئا عدوانيا وغريبا على كينونته وطبيعته الأصلي تين.
***
<<وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل>>
بيت يجري مجرى المثل لدى السذج والدهماء. لكنه لا يليق بأعمى المعرة وضوء بصيرتها الأوحد, ولا بمنزلته الفلسفية والشعرية. إنه أقرب الى عسكري معتوه بطموحه الفج. أو بعداء ينزع الى تحطيم الأرقام القياسية. أو بملاكم.
المعري يسلبنا اللب ويستحوذ علينا حين يسكن متنه, بيت سلالته المتورطة في عرين الحكمة المرة, وفي بؤرة الخطر الحقيقية كما في هذا البيت <<الجاهلي>>:.
<<ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر
تنبو الحوادث عنه وهو ملموم>>
***
اليمام يهذي, يكاكئ, يبدع الإيقاع بنغم أحشائه التي تسيل مع الظهيرة في البحر.
اليمام صديق طفولتنا لم يعد يجفل من الفخاخ ونشاشيب الصيد. صار أليفا , تستطيع لمس ريشه الندي . صار أقل إحساسا بالغدر والافتراس. ربما لأن ليس هناك من طفولة شقية صاخبة في هذه البطاح.
***
قادما من زيارة لبعض الاخوة في منطقة (الحيل) يبدو أن لا زيارة قريبة (لسرور), رغم أطياف العواطف الموغلة في القدم, التي تلاحقني باستمرار. (سرور) التي قبرت ها في قلبي مثلما قبرت في أحشائها أبي وأمي, ومن قبل ومن بعد , ربما رأفة بهم من معايشة انحطاط هذا العالم.
هناك في (الحيل) وجدت في باحة الدار, بعض الأطفال يقودهم عمر بن سليمان, ذلك الطفل الذي يتقدم عمره ذكاء وخيالا . أول ما وصلت واستقبلني على باب السيارة, قال, انه لا يريد مني (فلوسا) هذا اليوم, وإنما يود اصطحابي لمشاهدة أعشاش العصافير واليمام في باحة الدار الخلفية التي تطل على واد سحيق جاف. باحة الدار كانت مدروزة بالنخيل وأشجار أخرى متفرقة, تغالب مقدم الصيف الحارق.
نظرت إلى أعلى, فرأيت عش عصافير يتدلى قريبا , ويمكن لمسه عبر رافعة صغيرة.
كان العش الصغير المنسوج بإتقان مدهش في بساطته الجمالية, وحبكته التي لا تستطيعها عقلانية المصانع الحديثة, يدخر في حناياه كل دفء وحنان العالم.. ترى الصيصان داخله, تفتح عيونها, التي ما زالت ترى النور لتوها, وتغمضها في هدوء وسلام كأنهما الأبدية.. الأبدية تتثاءب في عش عصافير.
صار عمر, يخبط الرافعة تحت قدمي , محذرا من لمس العصافير الصغيرة بسوء. هو الذي لا يتوانى في وقت آخر من بعثرتها وسحقها (بنشاب) صنعه بنفسه مثلما كنا نفعل في الأزمنة الماضية.
سألته عن المدرسة التي لا يعيرها أهمية, تتناسب مع فطنته المبكرة, فرد بعدم اهتمام, ان علاماته هذا العام جيدة. لكنه لو نجح وتفوق فهل يجد عملا مثلما عليه الحال لدى بعض اخوته وأبناء عمومته?
كان عمر في بعض الأوقات يفقد مرحه وحيويته المنفلتة من أي قيد كأنما صاعق يخمد تلك الجذوة الصغيرة المتقدة في أعماقه, يحصل ذلك ليس لأسباب معنوية, وإنما لتعرضه لنوبات من الصرع الخفيف التي تذهب به الى ما يشبه الغيبوبة والهمود.
ربما ورث ذلك من أبيه الذي تراوده نوبات صرع عنيفة, يظل يرتجف كمن صعق بماس كهربائي, أو أصيب بطلق ناري مفاجئ وغادر; فيغرق البيت كله في جو جنائزي مخيف.
حين رجعت (أواخر الثمانينيات) بعد انقطاع طويل, نزلت في بيته بمنطقة (وادي عدي) تلك الحفرة الغائصة بين براثن الجبال.
شاهدته يسقط صريعا والزبد يتدفق من أطراف فمه. وتخيلت بنات آوى ينفجرن نائحات في كهوف الجبال المحيطة ليكون المشهد على ذلك النحو من القتامة والرهبة.
استعدت, ليس ما قرأته في الأدب حول نوبات الصرع, وإنما ذلك الحدث, حين كنت في سرور, في أحد الأصياف البعيدة, رأيت في عز الظهيرة رجلا يتداعى ساقطا في مياه الفلج الغزيرة. ويظل يرفس, كالمذبوح في دوامة المياه.
***
حين رجعت من (الحيل) اتصلت بيحيى المنذري بغية أن أراه في هذا اليوم. قال: أين أنت الآن? أجبته, قريبا من (وقبة الصاروج) فانفجر ضاحكا هو الذي لا تخرج منه الضحكة إلا غلابا .. وهكذا انتهيت, إلا أنني, قلت, لا شعوريا (وقبة) شيشة البنزين!!
الوقبة , ذلك المفصل البارز في مسار الأفلاج, التي يستقي منها البشر والحيوانات, وهذه تستقي منها السيارات التي صنعها البشر والعربات. ليواصل الإثنان حياتهما السريعة سرعة سقوط الوعي والمعلوم أمام سطوة اللاوعي والغيب, مهما بعدت المسافة وشطت في الزمان والمكان.
يمكن لإنسان, أن يتخيل, في صباحات المدن الكبرى بعد سهرة صاخبة, أن ساحات تلك المدن, مثل ساحة (الكونكورد) مثلا أو ساحة (الطرف الأغر), (حلقة) أو هبطة كبيرة, من تلك التي تنعقد في مناسبات الأعياد. وأن الثيران السمينة الهائجة والأبقار والحمير والأغنام والدلالين الذين يحتقن بأصواتهم الفضاء, هي نفسها العناصر والأصوات التي تؤثث تلك الأمكنة.
هكذا, بخفة تسري في الضلوع, بضربة <<اللاوعي>> الرابضة في الخفاء, ينقلب المشهد على نحو فنطازي دال أي ما دلالة على ترسب الانسان الأول وتحجره في الأعماق الدفينة للكائن, وهو يعاود الظهور والانتصار على إنسان الحداثة والتكنولوجيا الذي صنعته وسوقته الأزمنة اللاحقة.
***
ذهب انتونان آرتو, الى المكسيك بحثا عن فكرة جديدة للإنسان.
وهناك وسط حطام الأساطير وعنف الآلهة الدموية والفراغ.
وسط الركام الآخذ في التصاعد لنفايات الثقافة الغربية التي هرب من براثن رؤاها وقيمها الشاعر, أسوة بأسلافه الهاربين, نحو الشرق, موطن الحكمة والإشراق.
رجع آرتو من رحلته تلك بفكرة جديدة عن خراب الإنسان.
الجزء الثالث: بيروت
السبت:
كل مدينة أكون على وشك الرحيل نحوها, تسبقني إليها الأحلام, أحلام كثيفة أعيش أحداثها, ووقائعها طوال الليل. وكالعادة تبدأ بداية طيبة تقترب من نشوة السعادة, لكنها في مسارها المتموج هذا, لا تلبث أن ترتد الى نهايات كابوسية مفزعة.
هكذا, أستجيب لنازع الحنين وهاتف الحياة, فأسافر الى بيروت, وبعدها القاهرة, ككل عام في مثل هذا الوقت.. كانت أعياد الميلاد على الأبواب, وليس ثمة التزامات ذات طابع عملي. السياحة الحرة ورؤية من أحب.. ليس هناك ندوة أو مؤتمر, نذهب اليهما, غالبا بغية لقاء أصدقاء بعينهم, لكن ثمة أوضاع ولقاءات تنفرض كضريبة لابد من دفعها في مثل هذه المناسبات حين تكون في أسفار حرة وانتقائية, تقل احتمالات دفع مثل هذه الأكلاف الاجتماعية, القسرية, وتكون أقرب الى نفسك والى من تود وتهوى من البشر والأماكن, كالتمشي في الصباح الباكر والضباب يلف المدينة والجبال الخضراء المتلألئة بالثلج والنحيب- على كورنيش المنارة. تتأمل بيروت, وأياما , مجرد تذكرها العابر, سيوقظها من رقدة نسيان قاس, نضرة وجميلة من جديد. وتلك الصخرة الجاثمة وسط أمواج المتوسط, التي تدعى بصخرة العشاق الذين يعصف بهم الوجد الى قذف أجسادهم من علوها في قفزة انتحارية تشبه القبلة الأخيرة. لقد نبت العشب على حوافها من دموعهم الحرى وأحلامهم المجهضة..
وتتبدى تلك الصخرة الجاثمة في المتوسط كشظية انفصلت منذ دهور عن جبل (الفحل) بعُمان وترحلت عبر البحار حتى استقر بها المقام في لبنان.
في الطائرة العُمانية التي حلقت من مطار السيب الدولي, باتجاه بيروت مباشرة كنت أقرأ في كتاب (اوريليا) لجيراردي نرفال, الذي يعود إلى العصر الرومانسي في القرن التاسع عشر. نرفال الاشراقي المغامر الذي احتفى به السورياليون واعتبروه واحدا من أسلافهم, سافر اثر أزمة روحية حياتية, كادت أن تودي به الى غياهب الهلاك في سن مبكرة, الى الشرق, القاهرة, الشام, بيروت.
كنت أقرأ في هذا الكتاب, القصيدة السردية المفعمة بالنضارة والاحلام والمشاهدات الواقعية والحلمية والمتخيلة, حتى أصل الى الفصل الخامس الذي يأتي على مدينة من مدنه الخيالية والواقعية, الكثيرة.. وتعلق المترجمة التي نقلت الكتاب بلغة عربية متألقة (ماري طوق), إلى أن هذه المدينة ربما تكون مدينة بيروت.
<<أصعدني مرشدي في طرقات متعرجة تضج بأصوات المصانع. ثم ارتقينا سلاسل طويلة من الأدراج انقشعت عند نهايتها الرؤية: هنا وهناك سطوح مكسوة بالعرائش, وجنبات منسوقة في اراض مسطحة, وسقوف مصنوعة برشاقة وبجلّد نَزَويّ , ومشاهد تصل أذيالا من الخضرة المعرشة تسحر العين وتروق للنفس وكأنما واحة نضرة, أو معتكف منسي يعلو ضجة الأسفل وصخبه لم يعد هنا سوى وشوشة باهتة.
يحكى في الغالب عن شعوب منعزلة تعيش في ظل المقابر الكبيرة والسراديب. هنا, كان العكس تماما هو الصحيح. إن شعبا مباركا خلق لنفسه عزلة تتعشقها العصافير والأزاهير والانسام النقية والأضواء.
قال لي مرشدي: <<هؤلاء هم السكان الأصليون لهذا الجبل المشرف على المدينة, لقد عاشوا طويلا وفق عادات بسيطة تسودها المحبة ويظللّها العدل, وحافظوا على الفضائل الطبيعية الأولية للعالم. كانت الشعوب المجاورة لهم تحسدهم وتحذو حذوهم>>.
قلت في نفسي وأنا مغمور بالمياه الزرقاء الشاسعة لهذا الكتاب الفريد على صغر حجمه, اذا كانت بيروت أو لبنان, في ذلك الزمن الغابر, هكذا, فإلى أين وصلت الآن? أين تقدمها, الذي كان في جوهره سطحيّا وقِشريا على غرار مدن الشرق قاطبة? لكن بيروت ظلّت معين حياة وأدب ولم تفقد رغبتها العارمة في التميز والاختلاف والبهجة حتى في ذروة الفاجعة, التي ربما كانت تلك الرغبة وذلك الاندفاع في مناخ يذهب عكسها تماما, من الأسباب التي أدت الى ما آلت إليه الأمور من قتامة.
***
في الطائرة التقيت برجل أعمال خليجي, معرفتي به تعود الى أيام الدراسة حين كان طالبا فقيرا ومن عائلة متواضعة, فتسلق مناصب كثيرة وأصبح مليونيرا .. لم يذكر فترة الدراسة بكلمة واحدة, وأخذ يحد ثني عن الفضائل والاخلاق المفتقدة, واحتمالات الانهيار الاقتصادي الذي سنتحول على أثره الى شعب شحاتين وفقراء مع تعذر الرجوع الى مهن الآباء والأجداد..
وهو طبعا حاول الاصلاح ودقّ ناقوس الخطر الداهم, لكن لا فائدة. في الفترة الأخيرة كثرت نبرة الشكوى والانتقاد من قبل الكثير من أصحاب النفوذ والمال بكافة مستوياتهم, فتراهم يتحدثون كأنما عن وضع ميتافيزيقي وليس واقعا هم مسؤولون أساسيون فيه!
ذهب رجل الأعمال الماسك بجمر الاستقامة, ووصلت الطائرة فوق أجواء بلاد الشام, ورجعت الى نفسي ومشاعري مفتشا فيها عن ما ينبض ويحتدم تجاه الأماكن التي تسوقني إليها دائما عصا الحنين والوجد, فلم أجد شيئا ذا بال, وتساءلت , لماذا يعترينا أحيانا ذلك الجمود في العواطف والأحاسيس, وتمنيت أن لا يدوم أو يتفاقم كلما تقدم بنا العمر.
الطائرة فوق بلاد الشام وتشرف على بيروت, هل ما زالوا هناك, في (اللاتيرنا) ومطعم الريس, يشربون بصخب عال وأحلام كبيرة? هل ما زالت فيحاء الناظر تذهب كل صباح الى مكان عملها في الغوطة, ومن ثم تلتقي عند حسّان عزّت وفاتن (قبل مجيئ إيفا) في تلك الواحات المتدفقة الخضرة والمياه?
أثناء الرحلة لم تهاجمني هواجس الموت ولم تستحوذ علي رؤاه التي تلازمني باستمرار مثلما يلازم ظل الصياد الطريدة, لكن في المقابل ليس هناك ما يدل على اندفاع نحو حياة أكثر بهجة وإثارة.
***
وصلت بيروت الساعة الواحدة ظهرا , كان الجو صحوا يميل الى البرودة.. سائق التاكسي, كالعادة لابد أن يتطرق الى السياسة, العراق, فلسطين, أمريكا… الخ, لكن بهدوء المجرب الواعي, معظم اللبنانيين اكتوى بالنار نفسها, أطول حرب تفجرت في الشرق, كانت فوق أرضهم على ضيق حجمها الجغرافي. ونحن نقطع طريق المطار, الحمراء, أتطلع الى المدينة الرياضية التي دمرها الطيران الاسرائيلي إبان الاجتياح وأعيد بناؤها في عهد الحريري. آنذاك كنت في دمشق وعلى ترداد دائم الى بيروت. خلف المدينة الرياضية على مقربة يقع حي الفاكهاني أحد المعاقل الأساسية للمقاومة الفلسطينية, أو دولة الفاكهاني كما كان يدعى, أتذكر حين رأيت صدفة (هاني) الذي كان زميلا لي ولخالد درويش في صوفيا وفي صوفيا أيضا, كان عز الدين المناصرة وجواد الأسدي في الفترة نفسها وتهامة الجندي- في أحد أزقة الفاكهاني, تواعدنا على العشاء في مطعم الشموع باحدى عمائر الحي. جاء مع صديقة لبنانية سهرنا وتعشينا وكل ذهب الى مكان نومه. صباحا عرفنا ان المطعم قد فجر في الليلة نفسها وتحول الى رماد.
حياة الخطر والمغامرة جميلة, خاصة حين لا تودي بحياتك وتنجو من احتمالها القاتل ليموت آخرون.
في صدفة تأجيل الموت جمال لا يضاهى, وربما تعطيك فرصة الحلم بحياة أخرى, لكنك تعود الى نفس النقطة الملتهبة, لتبحث عن مغامرة أخرى وبشكل آخر..
أصل الى فندق (ماي فلاور), الذي تعودت النزول فيه. يتم الحجز دائما عبر بول شاؤول الذي يسكن قريبا من الفندق, فوق سطح بناية تشرف على البحر من بعيد والتي كانت هدفا سهلا لقذائف وطلقات طائشة ايام الحرب, مرة – يخبرني بول- كيف تبعثرت المكتبة, وتطايرت كتبها مذعورة وممزقة, ولا مجال للرجوع الى المخيلة التي تحدرت منها, في فضاء الغرفة, وبقي بعضها معلقا , ينزف كطيور تتدلى أجنحتها ورؤوسها, حتى تأتي اليد العاشقة لتضمد الجراح وتعيد ترتيبها من جديد.
أستريح قليلا من رحلة ليست شاقة, وأمضي من شارع (جان دارك) نحو شارع الحمراء, مضى زمن لم أجيء الى بيروت, ربما أربع سنوات, أتطلع من بعيد الى واجهات المحال والمقاهي خاصة, أصل الى مقهى (الويمبي) (كافيه دي باري) (المودكا) التي أغلقت وتحولت الى محل لبيع الملابس, وهناك مقهى قد استحدث قريبا (ستاربكس).
بداية وصولي الى نزلة (السارولا) أسمع من يناديني, ألتفت, اذا بخالد عبدالله شاعر من أصل فلسطيني على ما يبدو وهو قريب العهد في بيروت أتصل من تليفونه النقال بعناية جابر الهاربة من كلوشار باريس والعائدة للتو إلى البيت العائلي الدافئ.. جلسنا في مقهى الويمبي, سألت الجرسون عن بول وكاتيا سرور, قال أن بول لم يعد يأت, لقد غيّر المقهى, وكاتيا تأتي في الصباح. بعد قليل جاء حسين بن حمزة ونديم جرجورة جلسنا, ثم ذهبت الى الفندق.. ليلة هادئة من غير سهر ولا دمار رأس في الصباح.
***
صباحا أفتح النافذة التي تطل على عمارات أخرى, لكن ثمة فسحة يمكنك من خلالها أن ترى السماء المليئة بالسحب, التي كانت تمطر طوال الليل, وهذا في حد ذاته طالع سعد بالنسبة لي, وأن تشم رائحة البحر. في العمارة المقابلة المفتوحة النوافذ, ثمة فتيات بلباس عاملات المنازل, يمسحن وينظفن, ويبدو بوضوح أنهن من الهند وآسيا. صار بين اللبنانيين والخليجيين, وحدة هوية, بالنسبة للشغالات, ستلتحق بهم شعوب عربية أخرى وربما التحقت , هذه خطوة طيبة باتجاه الوحدة الكبرى, تختلف عن ما حلم به انطون سعادة حول وحدة الهلال الخصيب او جمال عبدالناصر. لنبدأ بالخطوات التدريجية بعد أن فشل طموح القفزات الوهمي.
آخذ حماما دافئا وانزل الدور الأرضي لتناول الشاي والفطار.
***
الأربعاء:
أذهب نحو البحر, وهذا ما سأفعله بشكل, شبه يومي, نازلا ناحية شارع (بلس) ومنه أنحدر, نحو كورنيش المنارة. أبدأ المشي والتنزه من الحمام العسكري, حتى آخره, فندق الفاندوم, ثمة قوارب صيد في بعض جنبات الساحل المليء بالحجارة وكواسر الأمواج, خاصة ناحية محل (سمكة أبومنير) الذي يبدو أنه لم تأخذه <<الحداثة>> بعد.
صيادون هواة بصناراتهم يقضون أوقاتا مسلية, الكورنيش يضج بحركة المتنزهين, وممارسي الرياضة حتى في الأمطار والعواصف. كانت هذه الفترة بداية الفيضان والثلوج حيث ارتفعت في (بشري) بلدة جبران خليل وهدى بركات الى 700 متر فوق الأرض الجبلية مما عرقل خطوط المواصلات وسيرها.
عليّ أن أتسلق سلالم ومنحدرات كي أعود الى الفندق وأحاول الاتصال ببعض الأصدقاء. أفكر في أعياد الميلاد والأمطار التي تغمر لبنان. سيكون الجميع مشغولا بالتزامات عائلية والحركة ليست سريعة في مثل هذا الطقس. أتصل بعبده وازن اتفق معه أن نلتقي لاحقا .. عبر شارع الحمراء المليء بالحفريات التي تشبه جراحات النفس اللبنانية المحافظة على تماسكها وبريق مظهرها حتى في عز الخراب, اشتري صحف الصباح, الصحافة اللبنانية ظلت, بين الصحف العربية الأكثر تميزا في شكلها ومحتواها.
في هذه المنطقة وفي هذا الشارع مر ذات يوم غسان كنفاني وربما في مثل هذه الساعة كان مريضا بالربو وحزينا رغم زهو الثورة الفلسطينية في تلك المرحلة. أصل (كافيه دوباري) حيث أجد كالعادة جودت فخر الدين وعصام العبدالله ورشيد الضعيف, أجلس معهم حتى وقت الغداء.. الجلسة مع الأصدقاء اللبنانيين من المشارب والأطياف المختلفة لا تمل والحديث المتشعب دائما يمزج الطرافة والمرح بالجدية المعرفية. حتى الأفراد الذين لا ينتمون الى مجتمع الأدب والثقافة لن تجد عائقا في الاستمتاع بالتحدث معهم ومخالطتهم, من بائع الصحف والشورمة والنجار حتى شوفير التاكسي. شعب على نحو من انفتاح تاريخي ومدنية بينة.
أسأل جودت عن تليفون محمد علي شمس الدين لأراه وأطمئن على صحته. أعرج على مقهى الويمبي, حيث يجلس أكثر من أعرف. وهناك أتناول وجبة الغداء, الطبق اليومي الفاخر اللذيذ.
***
مساء ألتقي مع اسكندر حبش ورشا عمران القادمة من طرطوس, نذهب الى مطعم شعبي نظيف في (كركاس) مطعم أبوحسن. القريب, مرت فترة طويلة لم أر اسكندر لقد أقام في أكثر من بلد أوروبي, وينوي الرحيل من جديد.
رشا لأول مرة ألتقي بها, قبل أشهر دعتني الى مهرجانهم (السنديان) في الساحل السوري, لكني لم أتمكن من تلبية الدعوة, مع أصدقاء آخرين مثل قاسم حداد الذي تعود معرفتي به الى أواسط السبعينيات في مقر طلابي بميدان المساحة بالدقي حين كانت طفول تحمل على الاكتاف.. الآن أصبحت أما. طفول الصغيرة طاهية البطاطا البارعة أصبحت أما وقاسم أصبح جدا. لقد كبرنا. كل شيء يذكرنا بعبور الزمن ونفاد العمر, ولا محطة يرتاح معها هذا القلب الواجف.
اسكندر دائم الاحتفاء و(التبسط) في مثل هذه الجلسات الحميمية. ووجدنا في المطعم رضوان الأمين أمام كأسه الشفاف المترع. فجأة أتذكر بول شاوول, فأقول لاسكندر, علينا أن نتصل ببول, فحتى الآن لم نره ونحن نقطن منطقة نفوذه. اتصلنا به كان جالسا في مقهى (الجوندول) بالمزرعة, قلت له أن يأتي إلينا في المطعم الذي نجلس فيه, قال: هل بيروت عدمت , فيها المطاعم حتى أذهب الى مطعم أبوحسن, إما أن تأتوا أو نلتقي غدا .
قلت لرشا واسكندر, ربما الحنين الى الماضي اليساري الطلابي دفع ببول, الى تغيير مقاهي الحمراء, الى الجنوول البعيد نسبيا , خاصة بالنسبة لشخص مثله لا يغادر مقاهي المنطقة إلا في الضرورات القصوى. حتى أني مرة, أردت أن نلتقي في مقهى (سيتي كافيه) القريب, فرد (شوبدك أشوف عالم يستعرض سبابيط وساعات).
نكمل عشاءنا وننتقل الى مطعم آخر يجلس فيه لقمان سليم كي نواصل السهرة على الطريقة اللبنانية.
***
يأتي الى الفندق عباس بيضون وأحمد بزون, عباس بميله الى الدعابة لا يستطيع أن يخفي قلقه العميق وعضه على الكلمات والحروف كأنما يريد أن يأكل اللغة كي لا تقف عائقا امام التعبير الحر. نجلس في (الدوق) بالدور الأرضي من فندق (ماي فلاور) , المكان نصف معتم, على النمط الانجليزي التقليدي, أتذكر حين دخلته ذات مرة أثناء الحرب مع حسن مدن وآخرين, وقد كان في تلك الفترة من الأماكن الدافئة التي تشكل ملاذا للأصدقاء يلجأون اليه من الخارج المتفجر بأحقاده وحروبه.
احمد الزين أخبرني انه كان من رواده اليوميين. أحمد بعينيه المفتوحتين على مدارات الرعب كأنما خرج للحظة من صليل المجزرة. ثم يأتي بول شاوول, وتأخذ الأحاديث والحكايات اتجاهات متشعبة. نترك المكان لنتعشى في مطعم جديد يعرفه بول, قريبا من مطعم مروش, وبول يعاملنا دائما كضيوف, لأننا ما زلنا في محيط نفوذه السكني, , هو الذي لا يملك غرفة نومه في سطح العمارة. لكنه يملك كرم الروح وانتشائها بالصداقة والعزلة.
***
اتصل بنضال الأشقر التي ما زالت عائدة من باريس, نتفق أن نلتقي في مسرح (مونو) بالأشرفية مع لينا حدشيتي التي تمر لتأخذني من الفندق. كان الجو محتدما بالأمطار والرعود والعواصف, وهو جو بهجة ومرح بالنسبة لي عكس لينا. في الطريق الى الأشرفية نقف على شاطئ البحر قريبا من الرملة البيضاء, نتطلع في البحر الذي تضيئه البروق والعواصف, أقترح على لينا أن نتصل بأنسي الحاج, فهي كانت تعمل معه في جريدة النهار, ما زال أنسي معبأ بالمرارة والألم في الطريقة التي انفصل, أو فصل فيها من هذه المؤسسة التي قضى فيها معظم حياته المهنية.. قبل ان نصل الى المسرح نجلس في مقهى بالأشرفية مع شاب درزي, لم يكن كاتبا , يعمل في المجال الهندسي, لكنه على صلة بقراءة الأدب وبالغ اللباقة والتهذيب اول قاسم مشترك بيننا كان ذلك الميل العاطفي الروحي, نحو كمال جنبلاط. قلت للينا, علينا أن نخرج من شرنقة العلاقات الأدبية التي أطرنا أنفسنا فيها, فالحياة أكثر رحابة من تلك التصورات والعلاقات ونترك جانبا ذلك الخوف التقليدي, أو التعالي الزائف, على من هم خارج <<جنّة>> الثقافة والأدب المتوهمة. أحيانا الجلسة مع صيادي السمك أكثر متعة من المثقفين, او من صنفوا تحت هذه اليافطة, نخرج باتجاه مسرح مونو, في الشارع الذي يحمل نفس الاسم الذي يعزف زياد الرحباني في أحد محلاته الأنيقة, والذي كان على خطوط التماس مباشرة, وقد دمرته الحرب بالكامل, اصبح الآن واحدا من أجمل شوارع بيروت, وأكثرها حياة وألقاً, كأنما النزوع الجارف الى تجاوز مآسي الحرب, يشهد هنا واحدا من تجلياته الكثيرة.
في الصالة المليئة بالحضور, ننتظر نضال لندخل المسرحية (في هذه اللحظة يدخل حسن داود نتفق ان نلتقي في اليوم الثاني). التي كانت تستوحي أسطورة (ميديا). ترصد آثار الخراب النفسي في الشخوص والحيوات الذي خلفته الحرب اللبنانية. فهذه الذاكرة المثخنة بجراحها الأليمة لا ينبغي تجاوزها عبر افتعال نسيانها مثلما تفعل الفضائيات ورجال الأعمال, وإنما البحث في الأسباب والشروط التي أدت الى الكارثة, حتى يكون الخلاص حقيقيا وصادقا, ويكون الفن شاهد الألم والانهيار. ينهي جاد الحاج المؤلف هذه الحكاية (الميدية), هذا المونولوج الكثيف, الدموي الذي تقوم بأدائه (دارين الجندي) بوعي ومقدرة. نهاية مختلفة عن الأصل, فامرأة الأسطورة تقتل أبناءها في نهاية الحكاية, جاد ينهيها بشكل آخر.
عند خروجنا من الصالة, ألتقي بجاد الحاج, الذي لم أره منذ سنين طويلة, هو الآخر عرفني على الفور, بدا لي قويا ويقظا , لقد تغلب على المرض المعضل الذي ألم به وبسلوك لا تنقصه الارادة والتصميم على الحياة والكتابة.
نذهب الى مقهى (سيتي كافيه) بشارع السادات, لنتعشى, كان المقهى شبه فارغ, ألمح علي حرب في زاوية بعيدة يكتب.
بعد قليل يدخل أدونيس خارجا من برنامج تلفزيوني (خليك بالبيت) مع زاهي وهبي, تكرس حول ما أثارته محاضرته بمسرح المدينة من هجاء قاس لمدينة بيروت, عرفت ذلك من خلال معدة البرنامج سوسن قبيسي التي دعتني الى التدخل في الحلقة عبر التليفون, أجبتها, أن لا دخل لي بمشاكلكم اللبنانية, أو اللبنانية السورية, كما يحب أن يصفها البعض. تكفيني مصائب الصحراء.
أدونيس مع فهمية شرف الدين جلسا في طاولة أخرى, وقال انه راحل غدا الى باريس.
***
صحف الصباح تحمل عناوين بارزة عن سقوط الطائرة المأجورة التي تحمل لبنانيين من أحد بلدان أفريقيا جاءوا لقضاء الأعياد, في بلادهم وبين أهلهم وذويهم.. بعد يومين تسقط الطائرة المصرية, التي كان معظم ركابها من الفرنسيين في البحر الأحمر.
المقاومة العراقية تسقط هليوكوبتر فيها تسعة جنود أمريكيين وتصيب طائرة شحن أخرى, وتقصف قاعدة لوجستية, تجرح ثلاثة وثلاثين جنديا أمريكيا حسب المتحدث الأمريكي.
أذهب الى موعدي مع الدكتور حسين منصور الذي تقع عيادته قريبا من الجامعة الأمريكية التي يدرس فيها, وأنا أهم بفتح مظلة المطر, أرى حسين قادما ومعه رزمة أوراق الفحوصات الطبية, نجلس مقابل (الرسبشن) فجأة يدخل شربل داغر مبللا بأمطار عيد الميلاد, قال: أن جنان الخليل أخبرتني أنك في البلاد, ألاحظ أن شربل وحسين ينظر كل منهما الى الآخر بتركيز, كأنما يستعيدان شيئا أخذ النسيان طريقه الى محوه, فجأة يتعانقان, كانا صديقين, وربما في اطار حزبي واحد, يوم كانت هناك أحزاب وأياد تمتد نحو المستقبل لقطف زهرته اليانعة.
***
أصحو مبكرا , فحين لا تكون هناك سهرة ثقيلة, يمكن الصحيان باكرا وانجاز ما يمكن إنجازه بهدوء قبل انفجار الحركة, وهذا ما اعتدته على صعيد الكتابة. أنظر في دفتر التليفونات, أخذني التحديق في الصفحات كمن يبحث عن رقم ما… ألاحظ هكذا عفو الخاطر أن الكثير من العناوين والأرقام من مناطق مختلفة من العالم قد انتقل أصحابها الى الدار الآخرة. أخذني الذهول لم ألاحظ ذلك على هذا النحو, الحياة تأخذنا والموت ينجز مهامه الضارية هل يمكن الاتصال بهؤلاء الراحلين? هل يمكن الاتصال بموتى?!, هل يوجد تليفون سري أو أي وسيلة أخرى لمعرفة أخبار أولئك الذين كانوا بيننا وذهبوا من غير عودة ولا تلويحة وداع?
***
الخميس:
بعد الفطار, أذهب الى ساحة النجمة, السلودير, شارع المعارض, المنطقة الجديدة التي اختطفت أضواء الحمراء وأصبحت مركز المدينة.. قبل أن أجلس في مقهى الساحة أمام الكنيسة, أخذت أتجول في شوارع وأزقة هذه المنطقة الجميلة, التي تشبه جزءا من الحي اللاتيني بباريس, وأصحاب الحس السياحي العرب, طالما تحدثوا عن بيروت, كباريس مصغرة, أو باريس الشرق وهذه الباريس مقبولة لديهم ومستوعبة في العائلة العربية طالما لا تتجاوز حدودها السياحية والترفيهية. وحين ذهبت نحو الأبعد والأعمق, على نحو ما ذهبت إليه باريس الأوروبية في التاريخ, أو شيء في هذا السياق, فقدوا توازنهم وأبدعوا الكارثة.
المهم أنني وأنا أتجول في هذه المنطقة لم أشعر بتلك الغربة الساحقة التي تحدث عنها بعض الأصدقاء, صحيح أن الحمراء, هي التي <<تشبهنا>> وكونها جزءا من الذاكرة الثقافية اللبنانية والعربية, وحتى هذا الشبه آخذا طريقه للزوال أمام اكتساح رأس المال الطفيلي , المتوحش, والمعادي لكل قيم الثقافة والجمال والمعرفة.
الغربة الساحقة هي علامة العالم <<الجديد>> الذي ينبني في لهب هذه المجزرة الكونية (العربية خاصة) الذي لم يشهد التاريخ لها مثيلا .
أدخل المقهى, ألتقي صدفة بجوزيف سماحة, أجلس في طاولة عليها شوقي بزيع وصباح زوين وآخرون.
حين رجعت في سيارة صباح, كان يوم أحد, والحركة في شارع الحمراء شبه معدومة, المقاهي فارغة, رأيت نزيه خاطر يتجول وحيدا في هذا الفضاء الموحش.. قلت لصباح – المشدودة الجسد كقوس على وشك الانطلاق-: الوحدة والشيخوخة مسألة مرعبة.. قالت (كله مثل بعضه).
***
بعد رجوعي من المشي في كورنيش المنارة الذي اعتدته وحيدا كل صباح, عدا مرتين, مرة مع غادا فؤاد السمان, (الصغيرة وليست الكبيرة منعا للالتباس) وأخرى مع اسماعيل الفقيه, الذي اصطحبني حتى فندق الفاندوم ليعمل مقابلة هناك مع ممثلة سينمائية, اسماعيل قال لي أن ممارسة مهنة الصحافة في الوسط الأدبي والثقافي شيء مرهق للأعصاب, وعالم الأزياء والممثلات بكل تفاهته, يجعلك تعيش طعما آخر للحياة.
نصعد الجبل في سيارة جنان, أبوعلي السائق الجنوبي الذي اشتغل في الماضي سائق شاحنة بين دول الخليج , يفهم في السياسة أكثر من السياسيين, وهو في غمرة احتدامه, يصدم سيارة واقفة أمام منزل أصحابها.. ما بقي محفورا في ذاكرتي هو ذلك الاستقبال الرحب والانساني الآسر الذي استقبل به صاحب السيارة المسيحي الحدث, ودعانا للدخول الى منزله ريثما يعيد أبوعلي تضبيط السيارة.
لكن السيارة لم تتضبط, ظلت هكذا منفعلة ومشتعلة مثل اشتعال أبوعلي على الوضع العربي.
أخذنا تاكسي لنواصل الرحلة إلى, عالية, بحمدون, المطاعم والأماكن العامة خالية من الحركة, تنتظر الليل لتواصل سهرة الأعياد.
وجدنا مطعم الاستراحة, هو الوحيد, مفتوحا في المنطقة بأكملها, صور المطربين والمطربات تغطي واجهته, جلسنا على الجهة التي تطل, في مشهد شاسع يحتضن الهضبة وبيروت. ومن ذلك العلو الرجراج, أردت أن أسترخي وأسرح النظر إلى آخره, لكن شيئا من الدوار اعتراني ورغم أن هذا يعاودني بين الفترة والأخرى, خاصة في الأماكن المرتفعة, إلا أنني فسرته بالدوار الذي يبعثه مشهد الجمال حين يكون بمثل هذا البهاء والروعة.
***
الأحد:
في المقهى المواجه لصخرة الروشة مباشرة, الصخرة التي يقفز منها العشاق, لمعانقة حبهم المستحيل على الأرض, ويتحقق في قعر الهاوية. نجلس متقابلين في الركن المكشوف أمام سماء هادئة. أنظر الى نجمة وحيدة في الأفق ظننتها نجمة المساء أو الزهرة, لكنها, قالت انها المريخ الكوكب الأحمر الذي بدأ العلماء في هتك أسراره وخوافيه. كانت تقلب عينيها الجميلتين في حقول المغيب, غارقة في كنزتها القطنية السوداء والصمت وغسق شمس غاربة.
تقول أشعر بالبرد, وتكاد ترتجف ربما من برد داخلي متراكم. فالطقس ليس باردا . الصيف على الأبواب وهذا نسيمه الرسولي الذي يفترض ان يلطف وحشة الروح.
قبل يومين كنا نجلس في مطعم عبدالوهاب الانجليزي بالأشرفية الذي لم نستطع التوصل الى سر تلقيبه (بالانجليزي) رغم النبذة التي تفصح عن شيء من حياته التي تنتهي بالشنق.. قالت للجرسون, احذفوا كلمة الشنق, فالزبون لا يستطيع الأكل فوق طاولة عليها رجل مشنوق.
كانت تتحدث عن حياتها في الحرب, انها من جيل تربى في الحرب , شب وكبر وسط نبراتها ومآسيها. كانت ما زالت ترتجف من البرد فوق سطح المطعم بجوه القروي الأثير إليها.
ثم أخذنا الحديث الى الحب والعاطفة النقية المجردة إلا من ذاتها, بصرها يتجه نحو نقطة مجهولة. في الأفق ليس ثمة مريخ ولا نجمة يمكن أن ترى.. فجأة يسقط بصري على بيت مهجور تتوسطه شجرة وحيدة تنتصب كذاكرة مثخنة بالغياب والهجر وحلم العودة لمن تمزق بهم الشمل ورحلوا.
***
مثقلا بالزكام والحمى, علي أن أصحو. الموسيقى تصدح على أشدّها. الطيور في وكناتها تصيح. أحاول إبعاد صورة طيور هيتشكوك, لتكون أليفة وحنونة. علي ان أزيح صخرة كوابيس البارحة, وأتوكل على الله وأنهض من السرير لأعد حقيبة السفر. أحيي دلدار فلمز, الذي جاء من الجزيرة السورية ولم أتمكن إلا من رؤيته رؤية العابر بسرعة نحو المطار قبل فوات الإقلاع.
***
الجزء الرابع: القاهرة
الاثنين:
أصل المنزل, في القاهرة, بالدقي, جسدي متعب بفعل الحمى وضربة الزكام. أسترخي على السرير ذي الطراز القديم, كانت الستارة, واقعة على الأرض حتى جاء من يصلحها. يوما واحدا وانكسرت من جديد مما اضطرني إلى النوم في الصالة, كي لا أنام مكشوفا أمام عيون الجيران الذين تتدلى ملابسهم الكثيرة من حبال الغسيل.
قبل الفجر أسمع خارج الباب مباشرة, القطط وهي تتعارك على الفضلات. حين تفرغ من عراك الأكل, تدخل في عراك هياجها الخاص.
صحت المرأة الى جانبي وهي تقول: حلمتك البارحة, مسافرا من غير أن تترك لي عنوانا ولا حتى اسم البلد.
أدير زر الراديو على البرنامج الموسيقي, استلقي مغمض العينين لا أفكر في شيء.
أصغي كما في الأحلام إلى موسيقى فيلم (قصة حب) الذي شاهدته معها في الزمن البعيد, بسينما قصر النيل. وقرأت قصة (اريك سيجال) ذات صباح في حديقة الميرلاند. الموسيقى تجعلني أتكاسل أكثر, وتبدأ في إيقاد تلك الهواجس وما تبقى من الذكريات: كم هي نائية وضبابية. ولو كانت هذه الهواجس التي تحرك مياه الأعماق النائمة, قرب المغيب, لكانت أكثر اضطرابا وتدميرا .
العاصفة على أشدّها في الخارج, محملة بالغبار والأشلاء. إنه شهر (طوبه) الذي يشبه (أمشير) في غباره وليس في برده بالطبع.
أفتح عيني, أجدها, مستيقظة, تشرب قهوتها, الصباحية, أسفل السرير. لا تكلمني, فيما ينبغي أن نفعل هذا النهار, وأي المشاوير والأماكن نرتاد, بل تواصل سرد أحلامها المذعورة, التي تعبّر عن خوفها المتراكم عبر السنين, منسكبا من سُحب اللاوعي الدامسة, لتجد في الأخير نوعا من راحة نفسية بعد التعبير والافصاح.
قلت: إن الأحلام تريح صاحبها, ففي رحلته الحلمية يعيش حيوات معددة, حيوات الحاضر والحياة التي عاشها, فربما, تمتد الرحلة الى آلاف السنين, حين كنا حلما لسمكة قرش أو ذئب يعبر المياه الضحلة في الفلوات الجرداء.. تنضغط هذه الحيوات وهذه الأزمنة, تتكثف وتتقطر في تلك اللحظات القصيرة من عمر النائم, وكأنما قارات تنفتح على الآزال السرمدية.
***
مساء أضعت نظارتي الشمسية التي أحبها وقد اشتريتها من أحد المطارات. يبدو, أن الأشياء التي نحبها مثل البشر في رحيل دائم, يرحلون فجأة تاركين مرارة الصدمة. ثمة شرط قدري صارم يندفع ضد المشاعر والعواطف الإنسانية, هذا الشرط هو الذي قد منه الغياب والتلاشي.
نذهب الى مطعم قريب بشارع جدة, لتناول وجبة العشاء. مطعم صغير وحميمي , تقول لي: أن هذا النوع من المطاعم, أفضل من المطاعم الاستعراضية, الصاخبة, التي تكثر في المدن. وخاصة في هذه المدينة التي تكاد أن تكون صحراوية, لولا نيلها المتدفق من عتمات الأبد, يحملها دائما على النضارة والتجديد.
نجلس متقابلين, في الضوء الشاحب الذي يتحرك في غبشه الجرسونية كالأشباح الأنيقة, لكن ليس كتلك الأشباح التي تنجبها مخيلة جاك نيكلسون في فيلم (شايننج) كي يؤثث بها فراغ عزلته. فمثل هذه الأشباح موجودة في مدن غير القاهرة وبيروت. ثم تواصل الكلام بعد أن شربت عدة جرعات من كأسها قائلة: لو نستطيع العيش خارج أي بلد عربي فلن نتردد. يمكن العيش في أقصى حالات العزلة والوحدة وسط الأقوام الأخرى التي لا تعبأ بالآخرين بمعنى ما; ولا نعيش وسط ظلام حطام أرواحنا وقلوبنا, في هذه المدن المخلعة الأبواب والنوافذ, المدن المستباحة, والتي لا تزيدها السنين, إلا تكريسا واتساعا , تكريس الحطام والظلام القاسي في النفوس والأمكنة.
***
الأربعاء:
مضى أسبوع على وجودي في القاهرة, التي أتردد عليها باستمرار. لم أر أحدا من الأصدقاء والمعارف. لقد أخذتني من الجميع, هي القادمة من بلاد أخرى. أفكر في الاتصال أو الذهاب الى وسط البلد. علي أن أتصل بجيراني أولا , مها وعرب لطفي. أمر على عرب نتحدث كيفما اتفق بتلقائية. ميل عرب للتنظير والشرح لا ينزع عنها تلقائيتها في الحديث. وهذا ما لاحظته لدى منى أنيس التي لا تغادر في السكنى, وسط البلد لأنها ما تبقى من روح القاهرة الحقيقية, قاهرة الذكرى والحنين. في مثل هذه القلة من المثقفين, ليس هناك ما يثقل الحديث بالتفاصح واستعراض الثقافة. هناك اندماج وتداخل اللحظات المختلفة , من الطرافة واللمحة الشخصية, بالمرجعية الثقافية العامة والفصحى والدارجة, مما يجعل الحديث, حديث متعة ورفقة طيّبة, وليس خطابة منتفخة بفقرها المريع.
أثناء وجودي عند عرب, أتصل بمها لطفي, قائلا ان تلاميذها في لبنان يسلمون عليها, مشيرا الى قصة, أخبرني إياها حمزة عبود.. كانت الست مها مديرة مدرسة في مدينة صيدا, وكان كل من عباس بيضون وبسّام حجّار وحمزة, يعملون في المدرسة نفسها. كانت البلاد تعيش أجواء الحرب, وفي المساء يسهر الشباب في بيتها الذي لابد, أن يكون مرتبّا أنيقا ومليئا باللطائف والمازات… في الصباح حين يتأخرون عن موعد المدرسة المحدد, تغضب المديرة التي تفصل بين العمل ومعطيات الصداقة. يقولون لها ست مها أنت تعرفين أن الشعراء مزاجيون.. يعلو صوتها أكثر قائلة: إذا كانوا كذلك فهي أكثر مزاجية منهم.
***
الأحد:
بعد جولتها الصباحية التي تركتني فيها نائما, روت لي قصة دخولها محلا لبيع الملابس. كان المحل يغص بأصحاب اللحى العشوائية الطويلة والمنقبات, بحيث وجدت نفسها وحيدة وغريبة حاسرة الرأس. وكان البائع, حين تسأله عن شيء ما في المحل يرد عليها ورأسه الى الجهة الأخرى.
وكنا قبل يوم نقطع المسافة من (الدقي) الى وسط البلد, مشيا . الجو ملفع بسحب التلوث وما يشبه الدخان, صخب البشر والسيارات وما تبقى من عربات الحنتور يطبق على المدينة بشكل قيامي. عرجنا على دار الأوبرا من جهة التحرير, وجدت مبنى المجلس الأعلى للثقافة أمامي, قلت لأسلم على جابر عصفور. لم أجده تركت له ورقة لدى الاستعلامات, وتليفوني في القاهرة. تبين لاحقا أنني نسيت أن أكتب الرقم الأخير. سألت عن منتصر القفاش ونجاة علي أيضا لم يأتيا بعد.
مشينا في ردهات الأوبرا, أحست بالهدوء المفاجئ الذي ينزل دفعة واحدة ململما شظايا النفس من التشوش وسطوة الجلبة, ويعبر بها الى شيء من سوية التأمل والتفكير. قالت: إن دار الأوبرا لابد بنيت بعوازل الصوت في خرساناتها. وبما أن اليابانيين صمموها وهم الذين تكثر الزلازل في بلادهم, فقد ابتكروا, تكنولوجيا فاعلة ضد هذه الزلازل, بدمج كتل مطاطية في الأعماق الخرسانية الضخمة, فترى العمائر تتمايل لحظة هجوم الزلازل كنخل في خضم عاصفة, لكنها لا تنهار. لذلك يبتعد الصخب لحظة دخول دار الأوبرا. رغم الشوارع الكبيرة المحيطة بها.
دخلنا قاعة للفنون التشكيلية, يسيطر على لوحاتها هاجس التجريب والتجديد, وكان في وسطها شبه المعتم شاب بلحية قصيرة, يتلو آيات من القرآن الكريم ويجودها بمقدرة كأنه أحد المقرئين, المعتمدين من إدارة المساجد ودور العبادة.
واصلنا السير عابرين كوبري قصر النيل نحو وسط البلد. وكانت وجوه وصور من الماضي أخذت طريقها معنا لعبور الكوبري, أخذت تنعتق, تدريجيا من أغلال عتمة الأيام وضبابها, حتى انجلت كوجوه وصور حقيقية واضحة الملامح والقسمات.
أقوى تلك الوجوه تجلت أمامي هذه اللحظة, وأنا أقترب من كازينو النيل, حين كانت هناك مدينة ملاه نرتادها دائما… ذات يوم رأينا شيخا عمانيا بلباسه التقليدي ولحيته البيضاء الطويلة حتى الركبة. يركب, ربما مع أطفاله, لا أدري, على ذلك الدولاب الضخم الذي يدور بسرعة حد الذوبان في الفضاء المترامي.
أتذكر , بعد عدة دورات, انقطعت الكهرباء وتوقف الدولاب عن الدوران. وكان من حظ الشيخ ومن حظنا نحن لنشاهد هذا الحدث السماوي الأرضي- أن يكون في الأعلى من الدولاب, في الذروة تماما . كان المشهد بقدر ما يشي بمرح الطفولة ويستدعي الضحك والتعليق, يوحي بجلال الغموض الشبحي للشيخ, وهو يستوي على عرش الفضاء باسطا هيمنته على سماء القاهرة.
***
السبت:
أذهب مع الحاج فؤاد, الى إدارة الكهرباء بشارع نوال في العجوزة لتسديد فاتورة متأخرة. الطرقات مليئة بالوحول والبرك جراء أمطار البارحة, التي تعرقل السير اضافة الى الزحام اليومي.
لكن ثمة ما لا يؤثر كثيرا في زحام الحياة القاهرية. في بلدات أخرى بعض هذا الزحام يكفي لتلف الأعصاب وتدميرها. ربما مشهد الحياة الذي يغري بالمرح والتأمل والانهماك. لطف خبيئ لا اعرف تفسيره على نحو واضح.
نمر على صف من محلات الجزارين وقد علقت الذبائح كالعادة بكلاليب من عراقيبها وتدلت الأحشاء والرؤوس. بالأمس كانت ترعى في أريافها الحالمة. لكن إذ كانت عادة الغذاء البشري المتوارثة في هذا المشهد القاسي, فثمة شعوب معلقة هكذا من عراقيبها بدافع الوحشية والافتراس ورغبة الإبادة , فضائل العقل الحضاري وغير الحضاري المعاصرة.
أسأل الحاج, من هي نوال التي سُميّ الشارع باسمها? لم يجبني بل ذهب في الحديث أن هذه الأرض الخصبة المحاذية للنيل, كانت مملوكة من قبل البرنسيسة فاطمة اسماعيل وهي تقدر بعشرين ألف فدان. هكذا كانت الأرض المصرية, اقطاعيات بين الأمراء والأميرات. وبضع عائلات أخرى مثل سراج الدين واباظة…الخ.
جاءت يوليو وعبدالناصر حاولوا تصحيح بعض فداحة هذا التاريخ, لكن…
ندخل مبنى الدائرة الحديث الذي لا تخطئ العين نظافته وانعدام الزحام فيه. نجلس بعض الوقت, الحاج يعرف من يسهّل أمور المعاملات, البيروقراطية, نفسها في البلدان العربية, ذات الثقل السكاني وتلك المتخفّفة منه.
في هذه الأثناء ثمة شخص يلبس جلبابا أنيقا يصرخ في الموظفين, ويستدعي مدير الدائرة الذي يصل الى مكتبه, فيسأله ذو الجلباب الأنيق بصوته العالي, أنت المدير? فما كان من هذا الأخير إلا أن ينتفض من كرسيه: نعم أنا المدير, ولازم تعرف حاجة أساسية, أنا مدير الخناقات كمان.
***
الاثنين:
أذهب مع جرجس شكري وشاكر عبدالحميد, الى مسرح قصر العيني, مشيا على الأقدام, حيث تعرض مسرحية للفرد فرج.. في طريقنا الطويل, نمر على فندق المريديان سابقاٌ, نشاهد نادية لطفي تنزل من سيارتها باتجاه باب الفندق, وقد شاخت وتثاقلت خطواتها حتى كادت أن تتعثّر لولا مساعدة الحارس. أين منها تلك الفاتنة التي يستلّها المراهقون بصنّارة الخيال الشبقة من الافلام الرومانسية, في ليالي الخلوة والهياج, حتى الإغماء.
لقد هدّها الزمن أكثر من اللازم.
نصل الى المسرح, ألتقي بعبد الغفار مكاوي وفاروق عبدالقادر, مكاوي, ألتقيه لأول مرة, بعد زمن من تبادل الرسائل والكتب, مرة أرسل لي ديوان (أونجاريتي) مخطوطا بخط يده وترجمته.. بعد قليل تأتي آسية البوعلي مع رفيق الصبّان. آسية تقول لفاروق: أنا الوحيدة من بين العمانيين تربيت في مصر. أجابها فاروق: وسيف الرحبي, تربى فين, في الربع الخالي?
***
أستلم رسالة تليفونية من رشا عمران, تقول: هل تتضامن مع الشاعر الصيني الذي قررت السلطات السورية ترحيله من غير سبب واضح. أحمد جان عثمان, سوري وعربي عبر الزواج والزمن واللغة التي يتقنها أكثر من شعراء كثيرين عرب الحسب والنسب.
أجبتها, أنني غير مستعد للتضامن. لقد جنت على نفسها براقش. وهو يستحق الطرد, فما الذي أتى به وأبقاه كل هذه المدة في ديار العرب في هذه المرحلة. مفكرا نفسه في عهد الرشيد والمأمون!
***
الثلاثاء:
اذهب الى وسط البلد لمقابلة شاعرة شابة, في مقهى جروبي. وجدتها قلقة, ان لم توضح لي المكان جيدا فأتيه في الطريق. قلت لها يمكنني معرفة أماكن القاهرة وأنا مغمض العينين. واتضح أنني موجود في هذه المدينة, قبل مجيئها الى دنيا البشر.. طفقت تتحدث عن الأجيال الشعرية وخصائص جيلها الفني. قلت, يبدو أن كل عام يشهد ولادة جيل جديد.
وسيضيع الباحث في معمعة أجيال مطاطية, هلامية الملامح والتكوين. هذا اذا كان الابداع بحاجة الى مثل هذا التجييل والتزمين. ثم انتقلنا الى النصب الثقافي, فكان الموضوع أكثر ثراء وواقعية, حيث أضفت الى خبرتها المصرية, وحدة النضب ورحابته على الصعيد العربي.
مقهى (جروبي) الذي أسس أواخر القرن التاسع عشر, بعض من أعرف من المصريين, ورثوا الجلوس فيه أبا عن جد, أجيال كان لها مرتع لقاء وحنين.
أنا لم أعرف المقهى, لم أعرف الجلوس في المقهى إلا حين قدمت الى القاهرة. في ذلك الزمان الذي يبدو هنيهة تافهة, لا تستحق الاشارة في ذاكرة الجبال. ويبدو لي من النأي والبعاد كأنه في كوكب آخر غير الأرض الذي نعيش.
***
الساعة الثالثة ليلا , أعود من سهرة مع سي محمد بن عيسى وعبدالعزيز الهنائي. في نادي العاصمة, معظم الحديث كان عن (أصيلة) المدينة الثقافية البحرية التي نأتيها من أماكن مختلفة وكأنما نعود إلى بيتنا الحميم, بن عيسى يتخفف من أعباء السياسة في واحة الثقافة والفن. وحين نقترب من السياسة يشتعل الخلاف. هذه الليلة كانت السهام تتطاير شعاعا بيني وبين صديق الطفولة أبوعمر.
أرى مشهد النيل والقاهرة من ذلك العلو الذي يقع فيه النادي. مشهد مدوخ من فرط سطوته الجمالية.. هذا الأبد الجارف في أعماق المكان.
أستلقي على الكنبة التي اشتريتها قريبا. الديكة بدأ صوتها يسطع في البعيد, الديكة الأكثر إحساسا بالزمن ربما من الفلاسفة. في المنطقة القريبة تتردد أصداء ديكة أخرى, في بولاق الدكرور على الأرجح.
الحنفية ترشح بالمياه وأحيانا تعوي كأنما ثمة حيوانات تتقاتل داخلها.
أتمدد على الكنبة التي تتحول سريرا وأدخل في سديم النوم الفاره قبل أن تطرق الأقدام السلالم وألوذ إلى الموسيقى للتخفيف أو نسيان وقعها الثقيل.
***
في المعادي بنادي اليخوت, ألتقي بماري تريز عبدالمسيح وصديقتها ماجدة رفاعة, حفيدة رفاعة الطهطاوي. من الجيل الرابع لجد التنوير المصري والعربي. كان الموعد على غداء. وكان من المفترض أن يكون عبدالمنعم رمضان, لكنه اعتذر وفق ظروف طارئة.
تذكرت وأنا قادم مع ماري بسيارتها, حين كنت أركب مع صديق دراسة في سيارته المسرعة على نحو صاعق حتى ارتطمت بعمود كهرباء وسط الشارع. رحت في غيبوبة خفيفة, استيقظت بعدها على أهل الحي المجاور وقد أحاطوا بالسيارة مع بعض أفراد من الشرطة..
كان الجو على النيل رائعا .. ثمة نخلة وحيدة على الشاطئ. في الضفة الأخرى بساتين وقصور لأثرياء ومسؤولين.
ماجدة رفاعة التي تصدر مع محمود أمين العالم مجلة (أفكار) تقول, أنها تتخيل الجنة هكذا: نخلة ونيل وشمس غاربة وهدوء.
***
الخميس:
أم عبير, القائمة بأعمال المنزل, شخصية فيها من الغرابة والقوة ما يغري بكتابة الكثير. تاريخ من الألم والشقاء والخيانات, أثمر هذا الكائن العجائبي.
يمكن لأم عبير لمن يمتلك القدرة الخارقة على الإصغاء والسماع, أن تستمر في الحديث الى ما لا نهاية. هدير جارف من الكلام لا يتوقف. لو قدر لها أن تدخل مهنة التمثيل لبرعت في الأدوار الطويلة ذات الممثل الواحد ولا تحتاج الى مؤلف, أو في الأدوار الملحمية, بشكل لا مثيل له في تاريخ هذا الفن. لكن المصير أخذها الى مسار آخر.
وهي على معرفة دقيقة تفوق معرفة الأجهزة بأحياء الدقي والمهندسين والعجوزة بتفاصيلها وبشرها ومشاكلها. مادتها الواقعية لا تنضب مقرونة بقدرة التعبير ووسائله.
حين تأتي أحيانا صاعدة سلّم الدور الخامس الذي تصعده أكثر من ست مرات في اليوم رغم عمرها واشتغالها في أكثر من منزل ومكان, والتي حصلت من جرائه على ثروة مهمة تتفوق بها على الفئات الوسطى على جاري الترتيب والتصنيف.
حين تقترب من باب الشقة يسبقها صخب الإرادة, وقد بدأت في كتابة أو قراءة, أترجاها أن لا تكلمني حتى أدعوها الى ذلك.
تدخل غاضبة الى المطبخ, تفتح الراديو, وغالبا على مطربها المفضل محمد عبدالمطلب. وتظل هناك تغني وتتحاور مع أشباحها حتى تنتهي فترة الهدنة. عنادها في فرض إرادتها, عرفت أنها تمارسه في كل البيوت مهما كان مقامها المدني والعسكري.. رغم هذا العناد وهذه الارادة الفولاذية , فهي قريبة وجدانيا وحميمية, تعرف بحنكة المجر ب, الفروق بين البشر ومستوياتهم مع غض النظر عن الوجاهة والوضع المادي.. هكذا عقدت صلات علاقة مع الكثير من الأدباء والصحفيين, يوسف القعيد يستمتع بالحديث معها, وحسين عبدالغني حين قلت لها انه مراسل الجزيرة, قالت ما تهمنيش الجزيرة ولا غيرها هوه راجل طيب وجميل من غير حاجة, وغالبا ما تسألني عن عبدالرحمن الابنودي وفاروق شوشة اللذين تعرفهما عبر التلفزيون.
مرة قلت لها لو قدر لك يا أم عبير, أن قدت الجيوش العربية عام 48 باتجاه اسرائيل لما كنا نعيش كل هذا الوضع الكارثي الآن.
وحصل أن حاول بعض الصبية, كسر باب الشقة في غيابي.. وما أن عرفت أم عبير, أن هناك خدوشا في الباب على اثر المحاولة, حتى أزبدت وزحفت على سكان العمارة وخاصة على الحاج صاحب العمارة الذي لا تقع هذه الحوادث في اطار مسؤوليته.. ومن ثم باتجاه عرب لطفي, وصرت في الأيام التالية أعيش أنقاض معركة أم عبير.
الأمس ظلت تشتم شخصا لا أعرفه, ومع اندفاع سيل الشتائم والقذف, تبينت شتيمة, لم أسمعها من قبل لا في مصر, ولا ما يشبهها في الجزائر والشام ولبنان التي تختزن ترسانة الشتائم الثقيلة. (ابن المهتوكة) ظلت تكررها في خضم المفردات الجارفة الصعبة.
في هذا الصباح, اسمع وقع خطوها القادم حيث تدخل غاضبة تصرخ: ما تعرفش, الشيخ ياسين قتلوه, فتفتوه, هوه وولاده. لعنة الله على اليهود واللي جابهم.
***
أذهب الى مقهى في وسط البلد, مقهى ريش أو ما تبقى منه شكلا وليس روحه المشعة في الماضي. ألتقي ببهاء الطود وآخرين, وكنت قبل يومين سألته عن العراقي علي القاسمي الذي وصلني خبر اغتياله في أسبانيا.
وكانت سكرتيرة مجلة (نزوى) قد سألت عن عنوانه البريدي إثر نشر مادة له في المجلة, فجاءها الرد من زوجته او أرملته في هذه الحال, انه اغتيل. وقد انتقلت مع أولادها الى الاسكندرية, فأي شيء يتعلق بالمرحوم يمكن إرساله إلى عنوانها الجديد.
أدخل المقهى أفاجأ ببهاء يجلس مع القتيل العراقي العصي على الموت. العراقي والفلسطيني عصيان على الموت والانقراض منذ بابل وحتى ما بعد أمريكا. ولأنني أدمنت معاشرة الموتى ومعايشتهم في أحلام النوم واليقظة وعبر قراءة الأدب الملغي الفواصل والحدود بين مختلف الحيوات والأماكن, فقد أخذنا في الضحك والتهريج. وأخذ القاسمي بزمام الحديث من غير فاصلة اعتراض تبهضه مشقة التوقف والاستراحة. وكأنما بهذا السيل العرم من الكلام أراد إثبات وجوده الذي لا يُدحض, ودحر إشاعة الاغتيال.
***
أقرأ للحلاّج,
وأي الأرض تخلو منك حتى
تعالوا يطلبونك في السماء
تراهم ينظرون إليك جهرا
وهم لا يبصرون من العماء
***
الأحد:
أذهب مع نبيل سليمان, الى مدينة 6 أكتوبر لنحتفل بعيد ميلاد جابر عصفور الستيني, وهو المنزل الذي شيّده الدكتور حديثا , بذوق عال . ونحن نتجول في ردهاته وزواياه الكثيرة, تستقبلك الكتب بحضورها المهيمن, على كل تلك المنحنيات والزوايا. وثمة حديقة خلفية مليئة بأشجار مختلفة. ونخلة وحيدة تهتز قليلا تحت ضوء القمر الذي بدأ يتنسم أنفاس ربيع قادم.
أحدق في فضاء المدينة الشاسع غير المكتظ بالعمائر والأبراج والضجيج.. انها واحدة من رئات المدينة المحتقنة بالزحام والغبار.
أفكر أن 6 أكتوبر تقع في عراء الصحراء, لكنها الصحراء الأقل وحشة وقسوة. ولقربها من المدينة الأم تحس بذلك الامتداد الحميم.
لفيف من الأصدقاء من أهل الفن والأدب أشعلوا ليل المدينة الهادئ, بالغناء والكلام والنكات. وكان مضيفنا منغمرا بحيوية في الجو بكل أمواجه المنفلتة من القيود الوظيفية والاجتماعية, غير عابئ بالمحطة الستينية في خط هذا القطار الساحق الذاهب الى اللاشيء.
ربما كان ينظر صوب المستقبل كخلاص مؤقت من احتدام اللحظة وهوامها.
ربما علينا أن نحشد ما نستطيع من وسائل المواجهة للاستبداد الزمني على مشاعرنا وأجسادنا, وننعم بقسط من سلام الروح, حتى ولو كانت له الضربة القاضية في النهاية. لكن قبل تلك الضربة والضربات التي تمهد لها, ثمة واحات نخيل خضراء وحدائق خلفية نمرح فيها, وتحمل صباحاتنا رائحة عشبها الندي .
***
آخر الليل, أصحو. لا اعرف كم الساعة الآن? لا اعتقد أن المؤذن قد أذن, أو أن الديكة قد صدحت بصوتها الذي يحمل دائما صخب القرى البعيدة التي يحتلها عواء الذئب.
ضوء خفيف, يلوح من درفة الباب مع موسيقى توقد حنين مدن وذكريات. غائبة عن السرير تفصلنا المسافات والصدوع..
أستحضر طيف أي امرأة تركت نظرتها في أعماقي ذات يوم ممطر, عله يساعدني على استئناف النوم بعد سماع ديكة الفجر وشدو ريف اليمام.
***
ألتقي بعرب, بعد الظهر, تخبرني بأنها كانت في جنازة صديقة لها. ممثلة مسرحية تدعى فانيا الكسندريان, كانت تسكن سابقا في الشقة المقابلة لشقتها مباشرة, أي بجوارنا, ثم انتقلت الى مصر الجديدة لتلقى مصرعها مع والدها العجوز وامرأة أخرى, طعنا بالسكين في قلب العمارة التي تسكنها, على يد مهووس ديني.
فنانة من اصل أرمني تموت قتلا في الأربعين من عمرها.
كم من الوقت يلزمني لتجاوز طيف المرأة الجميلة المغدورة في روض الصبا والأحلام?
***
الجزء الخامس:
الثلاثاء:
امرأة تقرأ كتابا على الشاطئ لا أعرف ان كانت تنتظر أحدا , كانت مندمجة كليا في عالم الكتاب تحت طلعة قمر يتبدى باذخا هذه الليلة.
هل علي أن أخمن حول الكتاب الذي تقرأه, قصة خفيفة لاجاثا كرييستي.. أم رواية (الكنز) لاستينفنسون الذي أعجب بنثره بورخيس? قصة لماركيز, سيرته الأخيرة ربما, أم هي فرنسية مأخوذة بجورج سيمنون ومفتشة ميجرية?
الأقرب انها رواية مترجمة لنجيب محفوظ, لتكون دليل معرفة لأوضاع المجتمعات العربية كما تعتقد القارئة البحرية المغمورة بالضوء الشبقي للقمر وصورة العشيق الغائب.
مسترخية على الشاطئ
تعبرها النوارس والأحلام.
***
لقد جف الهواء من حولنا, ألسنا في زقاق الجرذان? هذه العبارة المركبة من إليوت وشاعر آخر, تحضرني هكذا… فإذا قادك سوء طالع هذا الصباح أو غيره وهذا ما يحصل كثيرا , خاصة في البلدان الريعية, الى الوقوع في الفخ الى مقابلة شخص جبلته الدناءة والسمية والوشايات.
(أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه).
هذا الشخص لا يجد ذاته وراحته الا في هذا المناخ كما وجدت تلك المرأة راحتها في أعماق كتاب أمام البحر.
إذا قذف بك سوء الطالع الى ذلك الشخص المسبوق بنتانته, فلاشك ستقضي نهارا سيئا وليلا مليئا بالكوابيس. مثل هذا الشخص يمكنه أن يلوث هواء قارة بأكملها, أن يجفف ينابيع الأرض, أو يسممها بطاعون وضاعته.
شخص واحد بحشد أقنعته وثقل خطاه. شخص واحد يستحيل الى شخوص وقبائل وحمولات تسعى الى إطفاء ما تبقى من ألق روحي وأخلاقي على هذه الأرض الهرمة.
إن هذا الشخص – السلالة, رسالته إفساد كل شيء جمالي وإنساني حيث لا يمكنه العيش إلا بين النتانة التي تقوده كعصى الأعمى, والجيف والمتسلقين كما تتسلق العظايا الجدران الملساء بحنكة واتقان <<فر من الناس فرارك من السبع>> هل كان ذلك المتصوف يقصد هذا الطراز من البشر, الذي لا يرقى بداهة الى مستوى السبع والحيوان. ويمكنك حين يدفع لك, الشؤم الى مصادفته ان تفكر في قدرة الانسان أن يسمو بمكانته الى صورة إله, أو أن ينحط الى درك المسوخ والسقط.
في أول صباحاتنا نستعيذ بالله وندعوه أن يجنبنا, في ساعات الصباح الأولى على الأقل, مقابلة مثل هذا الشخص المتناسل في كل مكان.
***
يحدث, قبل أن أشرع في بدء ممارسة الحياة اليومية, أن أطلق صرخات مفزعة, الواحدة تلو الأخرى. لربما لأطرد الخوف المتراكم والقرف الذي يكاد يشلني عن عمل أي شيء.
سميرة حين سمعت هذا الصراخ لأول مرة, قالت انه يشبه صراخ الهنود الحمر.
ومرة حين كنت في احدى المدن, وأنا أقوم بممارسة هذه الهواية الاخيرة, سمعت خبطا على الباب, يسألون ان كان حصل حدث ما أدى الى هذا الصراخ الدموي المقذوف مع كلمات غير ذات معنى.
وتزداد هذه العادة ضراوة, حين أكون صاحيا من نوم على جانب من الهدوء من غير كوابيس تنجز صراخها الخاص الذي يشبه عواء ذئاب تنحدر نحو السفح. او خوار ثور جزّت بلطة الجزّار عنقه وتركته يتخبط وسط دمائه القانية.
أستعيد فيلم (بوبي ديرفيلد). لا اعرف لماذا ذاكرة السبعينيات السينمائية تلح في الحضور أكثر من غيرها? بطلة الفيلم (مارتا كلر) التي اختفت من عالم السينما في حدود ما أعلم, مسكونة بمس شاعري وتأملي في رؤيتها للأشياء والكون, حين تحس بحصار الجهات والحيرة وغياب الأجوبة. تطلق صرخات مدوية. ربما لعلاج نفسي في محاولة الخروج من عنق اللحظة المستبدة.
***
أبو مسلم البهلاني الذي أنجز حوله محمد المحروقي كتابا جيدا , هو أكبر شاعر في تاريخ عُمان. أعطى موضوعة الحنين جُلّ إبداعه, فكانت بؤرة شاعريته ومحرق أعماقه الثرّة.
حنين مكثف ومتعدد الوجوه والمشارب, حنين المسافة الجهمة التي تفصل اقامته في الشرق الإفريقي عن مرابعه الولادية في عُمان.
حنينه الصوفي الى المطلق المتعالي, حنينه المحتدم الى أزمنة ووقائع في التاريخ, يرى فيها المثال الأنقى لإمكانية قيام نوع من عدالة بشرية على الأرض. نُحرت قبل بدايتها الفعلية وظلت حاملة حلمها الشاق من زمان ومكان الى آخر. رغم الجراح العميقة التي بدأها ذوو القربى في (النهروان).
غالبا ما تتماهى أمواج الحنين وتتلاطم, في السياق الشعري الواحد الذي يتغذى من رحيق الشجرة نفسها, حيث يتداخل على نحو خلا ق الذاتي بالموضوعي, التاريخي بالحاضر.
القصيدة النهروانية ذات النفس الملحمي العالي أسطع مثال في هذا المنحى.
(سميري وهل للمستهام سمير
تنام وبرق الأبرقين سهير
تمز ق أحشاء الرباب نصاله
وقلبي بهاتيك النصال فطير)
هذه القصيدة التي يمكن اعتبارها من عيون الشعر العربي, كنا نقرأها ونحن أطفال في المساجد والمجالس الحالمة بين بساتين النخيل والأشجار, وبتلك النفحة السمائلية الخاصة التي يتصدر موكبها النغمي , الشاعر علي بن منصور الشامسي رحمه الله.
وقرأتها قبل سنين قليلة على الباهي محمد الذي كان يتحفنا آخر الليل, إما بقراءة من سور قرآنية عطرة, وإما ببعض من معلقّات الشعر, عبر طرق تجويدية وتلحينية خاصة بالزوايا المغربيّة.
***
أجلس على طاولة المكتب, أفتش في فوضى الأوراق والكتب أمامي. ارتشف الشاي, عله يساعدني على تنشيط همة العمل المثبطة هذا اليوم. إشارات غامضة تأتيني عبر لمعان الحصى, من الجبال المحيطة, ربما بلا جدوى أي محاولة أو تذمر. وبعبثية.. الفعل البشري.. أخرج من المكتب وأتجه الى مكان إقامتي, وأنا أنزل من السيارة سارحا في حسابات مالية حول تكاليف رحلة الصيف, أنا الأشد كسلا تجاه الحسابات والطبيب إلا حين تحل الواقعة- أشاهد اثنين يتحركان بريبة أمام مدخل العمارة. الكلاب المجاورة لا تنبح كأنما أصيبت بالخرس. القطط ناعسة تحت ظلال الأشجار في الظهيرة..
فكرت بوجود هذين الشخصين ذي الخلفية الإجرامية وتذكرت فيلم (القتلة).
دفعت هذه الهواجس جانبا ودخلت الشقة لأفاجأ أنني نسيت عينا من عيون البوتوجاز, مفتوحة, ورائحة الغاز تملأ البيت المغلق النوافذ, والمكان.
***
في مقهى البستان البحري, تأتي امرأة بالغة الحسن, تجلس على كرسي في الكونتر, تفكر في طلب مشروب, إذ ليس الوقت, وقت وجبات. أسترق النظر إليها, مقلبا بصري المستلب بينها وبين البحر.
ثم أفتح كتابا لأقرأ على طريقة المخبرين التقليدية حين يمسكون بجريدة وهم يرصدون شخصا ما.
رغم وجود رأسي أعلى فضاء الكتاب المفتوح, كانت عيني تخترق الحُجب وتنفذ الى أقاليمها الأنثوية البعيدة.
***
الولائم الدموية مفتوحة على مصراعيها في العراق وفلسطين. فإذا كان الفن والدين والفلسفة, هي روح المطلق في التاريخ كما عند هيجل; فإن غزارة عنف الضحية اللامحتسب مع جلادها, الذي استحوذ على التاريخ, وعلى هذه الأرض المرة حسب عنوان لباسم المرعبي, هي الأقرب إلى هذا التجسد في التاريخ. هذه الروح التي تطالب بحقها في الوجود والحياة, تستصفي خلاصة الأقانيم الثلاثة لفيلسوف العصور الحديثة, بعد أن سحق التتار الجديد كل معنى وكل دلالة واشارة, إلا معنى وجوده فقط, معنى وجود القوة الهمجية الغاشمة كتجسيد مطلق في التاريخ.
***
الأربعاء:
أحمد محمد الرحبي يتصل من موسكو, يقول ان درجة الحرارة ما زالت 5 تحت الصفر. وديستوفيسكي, يرتجف في بيت الأموات.
أقول له, سبحان مقسّم الأرزاق في الخلق والطبيعة, ومتى ستعود الى البلاد? يقول حين يبدأ الصيف بشكل فعلي, وأكون قد بدأت اجازتي الصيفية ورحلت.
الأفضل أن نلتقي في نص يكتبه كاتب ما من أقاصي العالم.
***
تمر فتاة أجنبية وقد رزّتْ في سرتها دبوسا يلمع في ضوء الشمس. وأخرى حلقة في الشفة المتدلي بفعل الموضة السائدة والحقن والشفط وليس بسبب طفحان الحس الشهوي.
وثمة عجوز على أرجوحتها, تحت أشجار جوز الهند (النارجيل) هانئة في نومها الوديع. لقد أفرغت حمولة الحياة وها هي تستريح.
يترك النادل العُماني عصير البرتقال بجانبها من غير أن يوقظها, ويذهب لتلبية طلب آخر.
أستلم كتاب (آخر القرامطة) لأحمد الصياد.. حوارية سياسيّة تتوسل السرد, في عالم الأموات, يفصح همُها الأساسي ومتنها عن ما مالت إليه الأمور من مجازر وانحدارات في بلده والبلاد قاطبة.
الصيّاد الذي عرفته خير صديق وقت الضنك والأزمات.. هناك أشخاص لا تفلح المناصب والغربات مهما شطت في تغيير طبائعهم الصادقة, يظلّوا كالآلئ , مشعين في ليل العلاقات الانسانية الآفلة.
***
صقور تحلق ناعسة
على مستوى منخفض, تظلل
قمم التلال بظلال أجنحتها الوارفة.
***
كان في الاربعينيات يتكلم كثيرا ويكتب عن الموت. وبعدما بلغها وأشرف على ما بعدها صار الموت أبعد من الهاجس العابر والكلام. صار يتنفسه, يستيقظ على فحيحه المروع في جسده وحركاته ومجمل تفاصيل حياته. لم يعد كلاما تجريديا مشوبا بالنزوع الرومانسي للجمال والمطلق البعيد; وإنما جسد يتحلل وزمنا وحركة لا راد لقضائه المبرم ومحوه الغريب.
***
أنزل السلّم باتجاه السيارة. الطقس ما زال جميلا . لم تنفتح أبواب جهنم بعد, أو الفرن الجيري كما وصفه (رامبو) منذ قرنين لم يزد خلالها إلا شراسة وجحيمية, مع تقلص الحضور الخصيب للطبيعة, واتساع رقعة المحْل والجفاف.
ألاحظ القطط التي كانت ترتطم ببعضها وتتعثر على السلالم والممرات من فرط الهزال, على شيء من السمنة وحسن الحال.
يبدو أن السكان الجدد أكرم من سابقيهم, أخذوا في إطعامها والاعتناء بها ولو إلى حين!!
***
تلقين البشر أول درس حول إنسانيتهم الفظة.. تيه ونواح وقدم.. وتشاؤم ظاعنين في الديار بحثا عن الكلأ والماء.
تلك هي سيرة الغراب على هذه الأرض الجدباء.
***
كازنوفا, فلليني, بعد مغامراته ومعاركه الغرامية ومضاجعاته التي لا تحصى في جميع الأراضي والقارات, لا يجد في مطاف النهاية, ما يهدئ رو عه ويمنح روحه الطمأنينة والسلام, لا يجد إلا دمية , يستسلم كطفل بين أحضانها الدافئة.
***
الجمعة:
في العدد الجديد من مجلة (نزوى) أتأمل صورة لرجل عُماني قادم من الماضي بلباسه التقليدي. الصورة رسمت ببراعة مدهشة.
والرجل رغم مظهره العادي حين تحدق فيه يتبدى كفارس جاد به خيال الفنان وعبر القفار والصحارى, ليمد يد المصافحة للقارئ قبل أن يلج إلى عالم التعقيد المعرفي.
يمكن لتلك الصورة التي لا تنقصها الرجولة والكبرياء وذلك الجمال الوحشي للكائن البري , أن يخلع عليها الناظر قناع الشخصية التي تتداعى من ذاكرته البعيدة.
لأول وهلة وأنا أمعن النظر في ضفاف نظرتها الغامضة, وقوامها الصلب, تداعت في ذهني صورة (سالم بن سهيل الرحبي) ذلك القاتل المتوحد, والمحترف الذي يعيش في الأعالي والذرى والكهوف. والذي امتلأت مخيلتي بحكاياه, من الطفولة, حين ينحدر من الذرى على إيقاع خطى الذئب الحذرة, من عيون العسس, إذ يستبد به الحنين إلى حياة البشر المألوفة. يختار مجلسا من مجالس القرية ليقضي فيها قيلولته ويأخذ نفسا من لهب الهاجرة.
يحدث أحيانا أن يفاجئه صوت يقض مضجعه فيستيقظ كصرخة تفجرت من الأبعاد السحيقة للألم والخوف والمتاهة, ونصل الخنجر في يده حتى يلامس السقف ويبعثره هاربا نحو موطنه الأبدي.
يمكن بهذا المنحى أن نستدعي صورة (لي مارفن) في فيلم (القتلة) أو صورة مارلون براندو في فيلم (البحث عن قاتل) الاثنان يقومان بدور القاتل المحترف وهما من الغرب الأمريكي البعيد وهذا من أقاصي جبال عُمان; الثلاثة يمتلكون صفات مشتركة كالعزلة والتوحش والحساسية المفرطة تجاه البشر والطبيعة. انها وحدة القتل البشرية مهما شطت المسافة والاختلاف.
***
السبت:
أتسطح على أديم الموج الذي يبدو هذا المساء كموج بحيرة هادئة.
أحدق في السماء, أمعن النظر, فأرى شجرة المنتهى مثقلة بالنيازك والزمرد والعصافير. وفي الضفة الأخرى من الشجرة الاسطورية المباركة, ينبلج بهاء مياه نوراني, تسبح فيه مخلوقات الأثير التي هي ليست بالذكر ولا بالأنثى كأنما قدمت للتو من جنة الخلد المفعمة بأنهار الخمر والعسل واللبن الصافي والينابيع.
أسبح في البحر المضطرب قليلا . كانت بضعة غيوم قادمة من منخفض جوي باتجاه الهند بما يشبه نذير عاصفة أرى مجموعة أسماك من أحجام مختلفة نافقة على سطح المياه.
تذكرت حين كنت برام الله, والانتفاضة آخذة بالتصاعد, حين جاء زهير أبوشايب, بخبر الانتحار الجماعي لأسماك القرش على شواطئ البحر العربي.
كانت البلاد في حالة حرب, وكان الشاعر مأخوذا بهذا الطقس الغرائبي للموت.
***
الشمس تغرق في بحر اللجين الغافي.
الفراشات والجنادب الحيية تطير على مقربة من قطيع الزراف والوعول ذات القرون الكبيرة.
القمم الجرداء تحلم بمستقبل خضرة وربيع.
***
أستلم رسالة عن طريق الفاكس من غادة السمّان بباريس, بخطها الذي تحرص فيه على الوضوح أكثر من الصنعة والتنميق.
الست غادة تطلب مني إرسال عنوان فندق البومة في أمستردام, بصفتها عاشقة للبوم. وتضيف, أنها تحب اسم (الناعبي يحيى) لعلاقته الوجودية واللغوية بأحبائها, وقد أسمته بنقيضه الظاهري (المغردي) وكأنما صوت سلفها المعري يتلبسها من غير قصد ربما
<<وشبيــه صــوت النعــي اذا
قيس بصوت البشير في كل ناد>>
أكتب إليها فيما أكتب, أننا في خضم المحنة, تأتينا اشراقة مفاجئة من مكان ما لتزيح عنا بنورها الحميمي جانبا من هذا الظلام الجاثم على الروح.
هذا الصباح كانت تلك الاشراقة رسالتك العذبة.
***
أمشي على الشاطئ الصغير المحاصر بين جبلين. مكان مثالي للتأمل والأحلام. ثمة امرأة تسبح وحيدة قريبا من شباك الصيادين ذات العلائم البيضاء.
أحجار سوداء وفاتحة تشبه تلك الموجودة في مسيل الأودية (عُمان قبل ثلاثة ملايين سنة انقذفت كقطعة من اليابسة وفق الدكتورة جوبا بجامعة السلطان قابوس).
يبدو أن الموج قذف تلك الأحجار الصغيرة, ليلة العاصفة من الأعماق, هناك حيث ترعى أسماك القرش محاطة بدروع من الأسماك الصغيرة, في تعايش وهدوء.
أجلس على مرتفع حجري رمادي مليئ بالقواقع وبيوض ما قبل التاريخ, ورجلاي في مهب الموج.
***
اتصل بمحمد المزديوي, أجده في لحظة انتشاء قصوى, ظننت أنها بسبب وفرة الغلال الدموية في العالم. لكنه قال بالإضافة الى ذلك, كون السلطات الفرنسية أعطته, الأوراق القانونية الكاملة للاقامة وبدعم من أحمد الصياد, بعد ما يربو على الخمسة عشر عاما من اقامة غير شرعيّة.
أنا شاركته هذا القلق والارباك فترة لا تزيد عن ستة أشهر من الحياة في باريس من غير اقامة, إبان اضطراب الوضع الأمني هناك بسبب التفجيرات العشوائية, التي اتهم فيها اللبناني جورج عبدالله.
لكن المزديوي كان ثعلبيا ورابط الجأش على خطى جده البربري الأكثر جهادا وعروبة, عبدالكريم الخطابي, لم يقع المزديوي مرة في شباك البوليس المتصيد لأصحاب السحنات المهاجرة على أبواب المترو وفي الطرقات.
***
أصحو في الساعة الرابعة والنصف. عطش وشعور بالخسارة, خسارة كل شيء بالمعنى الجذري المدوخ . وذلك النوع من الكآبة التي تنغلق أمامها الآفاق والنوافذ حتى كأن السماء تربض بأثقالها على رأسك.
اتصل بداليا, تليفونها هي الأخرى مغلق.
أفكر في الخروج والتنزه قليلا لكن الطقس لا يساعد. افتح التلفزيون, مسلسل لمحمود مرسي الذي انسحب أخيرا من ساحة الفن الى الأبد.
أنحشر على الكنبة, مستسلما لقدر الليل العاتي, دافعا بشكل مضاعف ثمن سهرة البارحة.
أقرأ:
ما من صباح إلا والشيطان يقول لي: ما تأكل وما تلبس وأين تسكن? فأقول آكل الموت, ألبس الكفن, وأسكن القبر.
(أبونعيم الصوفي)
وروى أحدهم عن أبي يزيد البسطامي, أنه صلى معه صلاة الظهر, فلما أراد أن يرفع يده يكبّر لم يقدر إجلالا لاسم الله, وارتعدت فرائصه حتى كنت أسمع تقعقع عظامه فهالني ذلك.
***
على الشاطئ, أنظر إلى امرأة جميلة بمعية رجل يبدو أنه قبيح المنظر والمخبر.
أحاول فصلهما نهائيا وقذف المرأة عارية في صقع بعيد..
وحيدة وعارية إلا من خيالاتي التي تلتهمها مثلما يلتهم النسر الفريسة.
***
أذهب الى الجامعة لحضور ندوة تنظمها مجموعة الترجمة, التي سيكون ضيفها سعد البازعي, الذي التقيته منذ أيام في (مؤتمر الاصلاح العربي) في الاسكندرية, ما دفعني مع أصدقاء, إلى السؤال المأساوي الضاحك, حول امكانية اصلاح ما تراكم عليه فساد الدهر وأثقله انسداد الأفق والمسار الذي أضحى ينفجر تعصبا وعنفا وانتحارا من كل جهة وصوب.
أمد يدي الى مترجمة شابة لكنها لا تعاملني بالمثل كما جرت العادة في سياق المودة البشرية والنفاق. فلا تمد يدها لمصافحتي, ربما ليس تعصبا وإنما عدم تعود وارتباك في مثل هذا الجو الجماعي.
وجهها الصبوح جعلني أوجد لها المبررات, رغم شيوع هذا السلوك الذي أخذ يزداد كثافة وانتشارا في أوساط العرب والمسلمين حتى أطبق على الجموع من فرط نفاد الحيلة.
قبل فترة مررت على جابر عصفور بجامعة القاهرة في القاعة التي كان يحاضر فيها طه حسين, وقد سكت صورة ظلية, على أحد مداخلها للعميد.. لم أذهب الى الجامعة منذ زمن , أكتفي برؤيتها من الخارج, فرأيت المشهد على حقيقته; حشودا من المنقبات والمحجبات اللواتي لا يمددن يدا للمصافحة. في السبعينيات كان المشهد على عكس ذلك تماما.
***
علي أن أمر على سعد البازعي لمصاحبته, الى السوق القديم في مطرح. قلت له, سأكون معك في التاسعة, لو نمت واستطعت الصحيان باكرا .
لكن السوق بقضه وقضيضه, بمخلوقاته البشرية والحيوانية, بكلابه وقططه, تعبر مواكبها في نومي المتوتر. مما جعلني أعيش باحة تلك الأوقات الغاربة. الظلال والأزقة شبه المعتمة (سوق الظلام) أشباح البحارة والحمالين يلهثون بأثقالهم طوال اليوم. وشهيق بنات آوى في جروف الجبال المحيطة كما يحيط السوار بالمعصم. وتلك الأبراج التي تراقب السفن العابرة والفراغ.
ذات مرة أمام بيتنا في حارة (اللولوة), احتشدت فيالق من القطط والكلاب الشريدة الجرباء, التي لا تشبه كلاب جيراني الانجليز, محدثة جوا من الذعر والغرابة, فما كان مني, إلا أن سحبت بندقية (السكتون). أطلقت أكثر من طلقة في الهواء المحتقن, فتفرقت الكلاب. أما القطط فظلت غير آبهة بالأمر. ثم صوبت الرصاص باتجاه صفوفها حيث كانت تخمخم بقايا عظام الأسماك والفضلات, فكانت تسقط فرادى وجماعات متخبطة في الدماء والحيرة أمام سطوة الرصاص والموت. مما جعلني أحس بمجد الانتصار في هذه المعركة الفاصلة.
***
بعد المكتب أواصل السير باتجاه الشاطئ. لا أحتاج الى قيلولة ولا استراحة, هناك على الرمل والمياه المالحة سأستريح.. المياه القادمة من بحار الهند والصين وافريقيا, التي يحلم القراصنة, باجتياز لججها الهائجة, والوصول الى مواطن الذهب والعبيد.
في غابر الأزمان أقام العمانيون القدماء ورش نجارة عملاقة في (كيرلا) التي ينتمي إليها مصطفى السائق ووكيل الأعمال الوهميّة; لصناعة السفن التي يتشكل منها الأسطول العُماني التجاري والحربي, البالغ النفوذ في البحر والبر من سواحل فارس, حتى مجاهل افريقيا, ثم دلفوا للنسيان, عدا بعض كتابات متفرقة كتبها في الغالب رحالة ومستشرقون أجانب, كون الكتابة التاريخية العُمانية من الضآلة بحيث لا تتناسب مع حجم الأحداث الكبيرة العاصفة, وربما الاحتراب الداخلي قضى على الكثير من الكتب والمعارف على ضوء نموذج الملك (خردلة) الذي أحرق في سمائل كتب ومؤلفات العلاّمة (ابن النظر).
في طريقي نحو البحر, بدل أن أذهب عن طريق الوادي الكبير, أخذت طريق (مطرح) ومسقط القديمة. الهواء منعش. غيوم متفرقة تناوش الشمس كاسرة حدتها الآخذة في التصاعد.
في رأسي طنين مجزرة القطط, وعواء الكلاب الشريدة في ذلك اليوم القائظ البعيد, في حارة (اللولوة) الواقعة في الخريطة المطرحية, على مقربة من حارة (سيح الرحبييّن) و(كوه بون) التي تعني وفق اللغة البلوشية (تحت الجبل) وقد كان عزيز مدن الذي ينتمي الى عائلة من أعيان قبائل البلوش القاطنين هناك, وكذلك عبدالله الوهيبي, يسميّان تلك الحارة, على سبيل الدعابة, على اسم العاصمة الدنماركية (كوبن هاجن). بالإضافة الى خيال مجزرة القطط والكلاب, تطاردني أيضا من مرابع تلك الطفولة, مغسلة الموتى في مسجد اللولوة. حيث يسجى الميت لصق حوض الوضوء والغسيل, لنضح الماء على الجسد الساكن شبه المبتسم ووضع الكفن, قبل رحلته الأخيرة الى المقبرة في فناء البلدة.
هذه الصورة أكثر من غيرها تصيبني بالدوار والارتجاف.
***
الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. كآبة مرعبة. أفتح التلفزيون, أشاهد فيلما قديما لـ(لي مارفن وشارلز برونسون), حتى هذه الأفلام الحركية المسلية لم تعد تعرض الا نادرا . فرقة من الشرطة الكندية تطارد قاتلا فريدا من نوعه. مسرح المطاردة أصقاع ثلجية صعبة ومنيعة. يأتي طيّار يعرض على قائد فرقة المطاردة, القيام بالمهمة بعد أن فشل على الأرض. وأن المستقبل للطيران وليس لشيء آخر. لقد تغيّر مسار التاريخ.
قائد الفرقة الأرضية (لي مارفن) يجيبه, أن لا حاجة له أن يرى ذلك المستقبل, إذا كان هو بمثل هذه الوقاحة والغطرسة, أحد ممثليه.
تذكرت فيلما من بطولة (لي مارفن) بعنوان (القتلة) عن قصة لـ(هيمنجواي) يقوم فيها بدور القاتل المحترف الخارج على القانون, يقوم بملاحقة شخص سويدي في بلدة مجهولة على الخارطة. السويدي حين يعرف بقدوم القاتل المأجور بهدف الفتك به, لا يهرب ولا يتخذ أي احتياط, وإنما يستسلم لقدره استسلاما مطلقا وكأنما الأمر يعني شخصا آخر. هذا السلوك العجيب من قبل الضحية, يجعل القاتل يحتار في الأمر ويحاول التفتيش عن الأسباب الحقيقية التي تكمن وراءه.. وهنا تبدأ حياته الماضية في الظهور (فلاش باك) ويتضح عبر السرد المأساوي , أن هذا السويدي الذي عمل ملاكما محترفا في الماضي, يصل الى قناعة أخيرة من عبر حياته وأحداثها, أن الموت هو خلاصه الأخير.
البارحة أيضا شاهدت فيلما (لروبيرت دي نيرو) اسمه (المشاهد) دائما في خضم مشاهدتي للسينما أتذكر أمين صالح, وذلك الدأب والوعي العميقان بالسينما. وحركتها وتاريخها ومن فرط تحديقه في الصورة طوال الأعوام كادت عينه أن تتلف, في (الصحراء الحمراء) فيلم انطونيوني المدهش… في هذا الفيلم (فيلم دنيرو), كيف يتحوّل مدمن على مشاهدة كرة البيسبول.. وعاشق لأحد رموزها في أمريكا, الى قاتل بالغ العنف, حين يكتشف أن معبوده, لا يهتم بمعجبيه وعشاق لعبته, بل يحتقرهم حين يشبههم بالنساء اللواتي يحببن لحظة الفوز والتفوّق, وينصرفن لحظة الخسارة. انه يلعب لنفسه ومصلحته. وليس للآخرين مهما كانوا سبباً في شهرته ومجده.
أحاول الذهاب الى النوم. الفجر على وشك الانبثاق. وكالعادة ببطء وتثاقل, كمن يقاد الى حتفه وليس الى راحة وسكينة. أفتح المكيّف, وأدلف الغرفة التي ضمختّها (داليا) بشموع زهر البنفسج التي تساعد على اجتبار مغامرة الليل العاتية.
***
الثلاثاء:
الثامنة صباحا , أصحو على صوت التليفون الذي نسيت إغلاقه. كانت هدى المطاوعة, من (أوهايو) تقول ان الساعة عندهم الآن التاسعة ليلا .. يا للمسافة الفلكية التي تفصلنا. تخبرني انها تود الرجوع الى البحرين لمزاولة, التدريس في جامعتها كالسابق. لقد ملّت الغربة والوحشة في أمريكا. وكي لا تستطرد في شجون هذه الغربة, استعجلت القول: انني لم أعد أهتم بثنائية الوطن والمنفى. فيمكن للأول أن يكون أكثر شراسة في هذا المنحى وقضما للروح, كما عبّر عن ذلك منذ قرون سلفنا الكبير, أبوحيان التوحيدي وما حفلت به الفلسفة والأدب, خاصة في العصور الحديثة الذي و لدت من رحمها مفاهيم عظيمة ونبيلة كالحرية والديمقراطية والمساواة… وولد أيضا المجسّد النموذجي لخارطة العلاقات الجحيمية وقسوتها.
وفي الأوطان العربية والشرقية الطاردة لأي اختلاف وعدم انسجام مع سلوكيات القطيع وأفكاره.. دائما في معمعة الكلام الفضفاض حول الأوطان الحنونة والمنافي القاسية, أتذكر سمير اليوسف; وكذلك فيض العبقرية والإلهام عند بعض الأدباء العرب.
بعد هذه الخطبة التليفونية التي (سكرّت) أي أفق أمام هدى بما فيه أفق الليل الأمريكي, أدخل الحمّام للاستمتاع بالدوش الصباحي المنعش. ذلك الاستسلام الشفيف لدفق الماء على الجسد بعد ليلة مؤرقة.. وقد كان كذلك بالفعل لولا مواء القطط الذي يشبه النحيب قادما من سلّم البناية, ذات السكان الغرباء. وصوت كلب وحيد من البعيد. لا يجد ردّاً من كلاب جيراني الانجليز وهي تعيش هدنة النباح الصاخب التي أجهل أسبابها.
أدخل المطبخ. اشرب ثلاثة أرباع لتر من الماء. أحس بعطش الربع الخالي في أعماقي. أسوّي دلة الشاي على النار. أقضم تفاحة من غير متعة وآخذ حبوب منع الضغط. أتطلع في الأفق ساهيا عن الدلة التي تبدأ في الفيضان. أجلس بارتجاف وعدم ثقة, على الطاولة محاولا عمل شيء ما, ضائعا في زحام الأشباح.
***
الخميس:
من اصعب الأمور عندي, أن أفتش في كتب وأوراق وألبومات قديمة. حتى أنني أحاول دائما عدم الاحتفاظ بأي شيء منها. وما تبقى منها جاء من أصدقاء يحتفظون بود قديم وحنين.. إنني لا أنظر الى هذه الأشياء الثمينة لدى الأغلبية, بعين التعاطف ورغبة التعايش معها, رغم عتو مياه الذكريات المتراكمة, المضطربة في أحشائي, والتي تدفع بي أعاصيرها الى الشلل التام ورغبة الانتحار. هذا لا يعني بالطبع, أنها كانت في مجملها ممضة ومؤلمة, وإنما حتى تلك السعيدة والهانئة, تتحوّل مع الزمن إلى شقاء وعبء لا قِبل على تحمله.
حتى انني ذات ليلة, وقد قذفتني الصدفة وقتها إلى باريس, بشارع الشهداء (RUE DES MARTYRS) القريب من حي بيجال الشهير, حيث تتربع في الأعلى المونمانتر, كنيسة القلب المقدّس, الجوار الأبدي بين الرذيلة والفضيلة كما في النفس البشرية, صحوت في منتصف الليل لا أعرف ماذا أفعل? وبشكل لا ارادي, أخذت ألبومات الصور التي تجمع صفوة الحب والصداقة والقرابة, الى المطبخ وأحرقتها عن بكرة أبيها.
أحس, والنيران تلتهم الصور والوجوه العزيزة بنوع من الراحة والتخفّف من أعباء الذكريات التي بقيت ترقد في الأعماق مطالبة بحقوقها, على وشك الانفجار بين لحظة وأخرى.
اليوم دفعني الفضول أو الضرورة, إلى التفتيش في أوراق قديمة, تجمعت هكذا لمحض الصدفة, ووسط هذا الشتات, عثرت على رسالة من معن الطائي, تاريخها يعود إلى أواخر السبعينيات من القرن الماضي. أي أن عمر معن في تلك الفترة, لا يتجاوز الخامسة عشر. كانت الرسالة التي تشبه رسالة الرؤيويين القيامية, تقول في بعض فقراتها; أن العالم ماض إلى خراب أكبر. ولن يتطهّر أو يكون إنسانيا إلا بكارثة تزلزل أركانه وتعيد له صياغته الحقيقية التي فقدها… الخ.
معن الذي كان في أبوظبي يكتب الخواطر ويقرأها لي بصوت عال , لم ألتقه منذ سنوات. كبر ودرس الكمبيوتر والالكترونيات في أمريكا. وحين التقيته أخيرا وشعر رأسه يقترب من البياض التام, وجدته رغم كل شيء, ما زال يتميز بتلك المخيّلة الواسعة والنظرة الحزينة نفسها للعالم.
قلت له: يا معن ما هي أخبار العالم?
أجاب: بأن أحداث التاريخ المعاصر دفعته أن لا يحترم إلا رجال المافيا الذين بدأت سلالتهم بدورها في الانقراض.
***
السبت:
أكتب رسالة لأمجد ناصر إثر قراءتي لكتاب له أعجبت به, ربما قلت له: في ظل هذا الجو المدلهم بالبغضاء والكراهية ورغبة تحطيم الآخر, ما أحوجنا أن نقرأ ونتواصل بمحبة ونقاء. وأن نظل نحلم وسط هذا الطوفان العاتي للانهيار الذي يتربص بنا دوائر الهلاك الروحي والجسدي..
أتصل بمحمد الحارثي لأطمئن على أحواله الصحية, وأبارك كتابه الجديد حول الرحلات. وكنت بالأمس أرسلت له قصاصة قصيدة أرسلها لي سعدي يوسف عبر الإنترنت, بعنوان: <<على مشارف الربع الخالي>> مهداة إليه.
***
حين أكون في جماعة, ندوة أو اجتماع. في صالة مسرح أو سينما, تسقط نظراتي لا شعوريا على الوجوه, تتفرس في الملامح والخطوط والحنايا, ويندفع الخيال بعيدا , بعيدا جدا حيث يرقد سر الأسرار وقدسها: الموت..
متى يجرف هذه الوجوه الى عرينه, متى ستتحول بخبطة جناح عمياء, الى جماجم في قبور مغلقة ومفتوحة, ورفات, وينتهي كل شيء?
عدا صلاة يبقى طيفها النبيل عالقا بأهداب الليل. أو نظرة حب ألقاها الغائب ذات دهر وبقيت تغالب العدم والاضمحلال.
***
هذه الحضورات النسائية التي أتشظى في حقولها كبحّار تائه, لا يملك هاجس البحث عن نقطة يتوجه إليها بالتحديد. استشرف ذلك اليوم المتقدم من العمر الذي بدأت طلائعه في التوافد. والذي استسلم فيه لدفق الهذيان, مستدعيا نساء حياتي الغائبات بأسمائهن (ربما أسماء مختلفة لامرأة واحدة).
في محاولة أخيرة لتأثيث فراغ عزلة ليس أمام صاحبها إلا فسحة نداء أخير.
***
صباحا , أقرأ رسالة لحكيم ميلود من الجزائر مصحوبة بمادة مترجمة لـ(ايف بونفوا), أستحضر الجزائر العاصمة خاصة, التي انفجر جمالها وصدق أهلها القاطع على ذلك النحو المأساوي الفظ.
أستحضر , ديدوش مراد, بمقاهيه الأنيقة الضاجة, وسيدي فرج, الذي ذهبت إليه لاحقا, وقد تحوّل إلى ما يشبه الثكنة العسكرية, مقهى اللوتس. و(باربور) حيث نقضي سحابة يومنا نتحاور في الشعر والحياة وما يلوح في الأفق كوعد مستقبلي بضوئه القليل.
يكتب ميلود <<نصوص متشظية بالتفاصيل تحاول التقاط ما يتساقط ويذهب متخفيّا في العتمة.. إنها يوميّات سوداء تحاور حضورا يأخذ حدة الاصطدام الصارخ مع مشروطية الكائن, ولا تلاؤمه مع اللعنة التي تسمّى وجوداً>>.
***
في أي يوم نحن الآن? الأربعاء, الخميس, الأحد? في أي ساعة وزمن وتاريخ? لا أكاد أتبيّن علامات الأزمنة. الغبار يلف المشهد بكامله. الغبار الأرضيّ وذاك القادم من كواكب أخرى. الزمن يسيل سيلان الدماء الغزيرة في الطُرقات والشوارع, في الأزقة والأودية, على الأرض العربية والعالم. الزمن المتدّفق, والمتجمدّ كصخور خزافية جاثمة على صدر الكائن وهو يختنق بأنينه اليائس تحت بطشها المطلق.
في أي يوم نحن الآن. في أي ساعة وتاريخ؟ وفي أي مكان؟
سيف الرحبي