مُحلقاً مع زنزانته وغروبه القتيل
(يتمشيان في ساحة الأمتار الثلاثة للغرفة المغلقة التي تشبه الكهف الجبليّ الذي لا مخرج منه والظهيرة الهائجة تحاصر المكان. يتمشيان من غير العصا التي يحملها العميان عادة. سكون مطبق. قطرات ماء متقطّعة ترشحها حنفيّة غير موجودة، مما يزيد الجو وحشةً وبما يشبه العويل الصامت)
الأعمى: لماذا لا نجلب عصاً مثل العميان الآخرين، تكون دليلنا، دليل الأعمى في صحراء ليله الطويل؟
الأعمى: لا نحتاجها، دعنا هكذا، نتخبط في الظلمة حتى نتبيّن الطريق.
الأعمى: أيمكن ذلك، من غير عصا، خارطة العُمي في جغرافيا الظلام اللانهائيّة، أيمكن من غير دليل، من غير مرشد؟
الأعمى: إذا أمكن، فأهلا به، وإلا فلسنا الوحيديْن في هذه الرحلة.
الأعمى: لكن علينا أن نتدبّر الأداة التي توصلنا، والعصا هي تلك الأداة.
الأعمى: الوسيلة التي توصلك إلى الغاية.
الأعمى: الغاية أم الغابة المعلّقة في الفضاء غابة النجوم والمجرّات، غابة الحطام للجنان الآفلة من غير عودة.
الأعمى: وما هي الغاية؟
الأعمى: الطريق.
الأعمى: وبعد ان نجد الطريق؟
الأعمى: نفكر في أي الجهات نمضي.
(ينقطع الحوار فجأة يصغيان الى همهمة رعد في البعيد يجلسان كمن ينتظر سنا البروق المضطرمة، يضيء النافذة)
الأعمى: لو لامست البروق النافذة لكفّت الحنفيّة عن البكاء، عن الإزعاج.
الأعمى: ستختنق بحشرجتها وتموت.
الأعمى: وما علاقة البروق بالحنفيّة؟
الأعمى: علاقة البرق بالماء.
الأعمى: تلك العلاقة الخفيّة بين عناصر الطبيعة وحيواتها، ثمة لغة لا تستطيع تبيّنها، لا يستطيع أحد فكّ شفرتها المعقّدة.
الأعمى: علاقة موت وحياة، هدم وبناء.
الأعمى: الطبيعة أيضاً.. هل ثمة حرب بين الأجزاء والعناصر التي تشكل أمواج نسيجها العالي الذي يكاد يلامس المطلق أو هو المطلق عينه؟
الأعمى: الحرب في كل مكان، على مستوى الموجودات جميعها، من البشر، حتى الجماد والحيوان.
الأعمى: إذن ما سبب القول الاحتمائي بها (مثل الفن والشعر) كملاذ، كسلوان؟
الأعمى: ربما لأن حروبها غير واضحة، وخبيئة، حروبا أنيقة باهرة الجمال والرهافة حتى في مظاهر عنفها واكتساحها، أو هكذا تتبدّى لنا..
الأعمى: على عكس عنف التقنيات والآلات، حتى السلميّة منها والمفيدة .
الأعمى: آه ، البرق والمياه، أتذكر تلك الأودية، الشاسعة المفعمة بصفاء الحصى والمياه ، حين تضيئها البروق من كل الجهات، من الجبال والشِعاب والنخيل.. شاهدتُ كيف كانت تتشكل أفراسُ الضوء وحيواناتُه الضاحّة، ، لتدخل مع المياه في عناقٍ قاسٍ وجميل.
الأعمى: كان ذلك في الأزمنة البعيدة.
الأعمى: الآن صار الجفاف والمحل يسحق البشر والطبيعة.
الأعمى: بقيت لنا الذكرى نتوكأ عليها، بديلاً عن العصا التي زعمتَ أنها تقودنا إلى الطريق والهدف.
الأعمى: هي التي تجعلنا نعيش معاً، وتُشيع بعض ضوءٍ في هذه الزنزانة الخانقة.
الأعمى: الذكرى، الذكريات أحصنة جامحة في فضاءٍ مائج مخبول.
الأعمى: لكن، ألا ترى يا صديقي أن الذكريات ترتد أحياناً الى نقيضها، تزيد الطين بلّة، والمأساة توتراً، وتدفع الكائن إلى مشارف العُصاب والانتحار؟
الأعمى: إنك حين تستعيد ذلك المشهد، تستلّه من الماضي والضَباب، ليؤنس وحشة الحاضر، لا يلبث أن يتلاشى تدريجياً، مخلفاً وراءه وحشةً وفراغاً أكبر، هاويةً لا قعرَ لها من اليأس والاندحار، اندحار الكائن أمام سطوة الزمن.
الأعمى: إذن ما الحل؟ حين أحاول فتح كوة، خُرم صغير في هذه الزنزانة تسارع الى إغلاقه بالثرثرة وما يشبه التفلسف الفارغ، الذي سبقك إليه آخرون عبر أجيال مختلفة.
الأعمى: وهل بقي شيء في العمق لم يسبقنا إليه الآخرون والأولون، غير سماكة هذه الأسوار التي تفصلنا عن الرؤية، عن الحياة الحقيقيّة؟
الأعمى: علينا يا صديقي أن نبحث عن (عصا الأعمى في ظلام الظهيرة).
٭ ٭ ٭
(تمتد يد بين الخيش والقمصان والدشاديش المبعثرة كأنما تبحث عن شيء ضاع، عود ثقاب، علبة دواء الضغط ربما، تبحث بنزق وتوتّـر من غير جدوى)
الأعمى: لا أعرف أين أضعتُ تلك الهدية الثمينة التي أعطتني إياها أمي.
الأعمى: أمك وليست حبيبتك؟!
الأعمى: أمي التي ماتت ومشيتُ في جنازتها في غَبَش القرية الكئيب، وكأني أمشي في جنازتي أو جنازة الحياة مجتمعة… تعرفْ، ما زاد حزني وفجيعتي أكثر، هو عودتي إلى تلك القرية التي وُلدت فيها، بعد غياب طويل، ورؤية تلك الوجوه الغابرة، تتمتم بالأدعية في موكب الجنازة البسيط.
كنتُ موزعاً بين استحضار أمي في حياتها، والتي على الأغلب ستحط الرحال في أعماق روحي وليس في تربة المقبرة، وبين تلك الوجوه التي أنهكتها الحياة فبَدتْ بمثل هذا الذبول، حدَّ العجز والتلاشي.
الأعمى: هل بكيت، بمعنى سالت دموعك فوق خدّ تربتك الأولى؟
الأعمى: حاولتُ ولم أستطع. أحس ، أن قوافل الدمع المنسكب تتساقط في الداخل، أحسّها كمياهٍ تنطلق من مصدر النبع لترتدّ بعنف إليه حتى تتلاشى في الأرجاء..
لو كانت تنهمر في الخارج، من حفرة العين الصغيرة، وتخضّب الوجه والملابس حتى تصل إلى الأرض العطشى، لعملتْ على تخفيف الضغط الذي أعاني منه والاحتقان.
الأعمى: متى بكيتَ بشكل طبيعي كالآخرين؟
الأعمى: كان ذلك في الماضي السحيق، حين ودعت أمي لأوّل مرة، كان أول انفصال عنها وعن الأرض الأولى، أتذكرها، كانت واقفة على شفا حفرة عميقة، ربما بئر مهجورة والدموع تنهمر من عينيها.. كانت تلك هي الدموع الوحيدة الصادقة من أجلي..
أتذكر أيضاً حين ودعتُ المرأة التي أحب متجهاً نحو المجهول.. كانت جالسةً على الكنبةَ، تنظر إليّ بعينيها الواسعتين وأنا أغادر المكان.. لكنها كانت دموعا مؤقتة، لأنها كانت تبكي من أجل مشوار الزواج الذي لم يكتمل.
الأعمى: ما هو طعم الدموع التي تسفحها العيون والقلوب، دموع المنكوبين والعشاق بزفراتهم الحرى، دموع المقتولين والقتلة؟
الأعمى: أتذكر طعم الملوحة التي تشبه ماء الموجة القادمة من الأغوار القصيّة وبها نفس ذلك الصفاء القدسيّ المشعّ بفوسفور الأعماق.
الأعمى: أتذكّر الآن ما قرأته عن سكان الجحيم، انهم حتى في ذروة التعذيب لا يستطيعون ذرْف الدموع. يطلقون صرخات جافة مهجورة فحسب.
الأعمى: في فترة ما حين كنتُ مبصراً، استخدمتُ الدموع الاصطناعية لتلطيف جفاف العيون. أتذكر أيضاً الصيدلانيّة الجميلة في الشارع الذي كنت أسكن فيه حين تقول ضاحكة وكان ذلك بداية علاقة معها (لقد فقدتَ دموعك كلها، ذرفتها على الجبال وفي الأرصفة والطُرقات ، أخشى أن أشياء أخرى جفّت هي أيضاً وغير نافعة).
الأعمى: بمناسبة الصيدلانية نسيت أن اقول لك اني كنت ذاهباً ذات يوم إلى محطة القطارات. وسط تلك الحشود الرثّة التي كانت بالنسبة لنا تلخيصاً لحشود العالم وعماله الذين كنا نحلم بتحريرهم من ربقة الظلم وقسوة الأنظمة، في هذه الأثناء تذكرت المرأة التي أحب كانت مريضة وأنا على سريرها أبكي…
بعد ذلك لم أرها إلا بعد عشرين عاما صدفة، في احدى المدن النائية.
الأعمى: وأين وصلت أحلامكم في التحرير والحب؟
الأعمى: إلى ما وصلت إليه.
الأعمى: هل تحرر الفقراء والمسحوقون؟
الأعمى: تحرروا بالاندماج في عصر (الإنسان ذي البعد الواحد) أو من غير بعد على الإطلاق. مفرد القطيع المترنح بين المدُن والمستنقعات.
الأعمى: لكن الظلم بقي بين سكان المقبرة المكشوفة الأسقف والرموز والاستعارات تحت شمسها الساطعة المحدقة!
الأعمى: إنه أكثر هولاً وتدميراً، وهذا ما يرفد الفظاظة والمأساة بأسباب وجودها المضاعف.
الأعمى: لكن قل لي قبل أن أذهب إلى الخلاء لقضاء حاجتي: لماذا الأطفال يشبهون سكان الجحيم، فهم حين ينقذفون من جحور أمهاتهم يطلقون ذلك الصراخ الجاف ومن غير دموع أيضاً؟
الأعمى: ربما وضع الخالق فيهم إحساساً مبكراً على الحدس بالقادم. كما وضع الصفات المميّزة في النمل وبعض الكائنات الصغيرة.
الأعمى: هل تعتقد أن العالم ولدته، دمعة؟!
الأعمى: بعض الأقوام القديمة يعتقدون، ضحكة.
الأعمى: وهناك معتقدات تقول، بصقة.
الأعمى: الأمطار والأعاصير والطوفانات هي بكاء السماء ومخلوقاتها على أهل الأرض المولودين من دمعة أو ضحكة أو بصقة (اختر ما شئت) ويحسبون أنفسهم عظماء وصفوة الخلق وسادته.
الأعمى: ربما هم كذلك لو اتخذت حياتهم (حياتنا) وجهة أخرى، أسلوباً آخر.
الأعمى: ما هو الأسلوب الآخر الذي تقترحه؟
الأعمى: مثانتي ممتلئة حتى الانفجار… سأفكر في ذلك بعد رجوعي من الخلاء وقضاء حاجتي.
(يتطلع الأعمى في مرآة زنزانته المتخيَّلة ليرى وجهه وقد انشطر إلى وجوهٍ وأخاديد، إلى أطيافِ شعابٍ ووحوش.. يتطلع إلى الفضاء الشاسع، محلّقاً مع زنزانته ومرآته الصدئة وغروبه القتيل)
القاهرة/ يناير 2007
سيـــف الرحــبي
٭ من كتاب «نشيد الأعمى».