دش الصحراء.. أو عرب الحداثة
غلاة الحداثة وغلاة التقليد، يلتقون في محطة واحدة وصلب وهم واحد، كونهم يلعبون خارج مسرح التاريخ الفعلي للبشر وأفعالهم وللثقافة والحياة. متكئين على تلك الحزمة من الأوهام التي طوح بها الخيال الضعيف إلى مناطق عماء خانق.
تتوسل الحداثة أو التحديث أو العصرنة – لا فرق في حالتنا هذه -أوجها أخرى للتقليد كونها اختزالا واجترارا لحداثات الآخرين ( التقنية ونمط الحياة خاصة ) وسياق ولاداتهم ونموهم في مجالات المعرفة والابتكارات كافة. وليس اللغة والنشاط الثقافي والشعري فحسب. إنها استعادة في مجملها الماضي "الآخر" وانجازاته في ظروف وسياق مختلفين.
ليس المقصود بطبيعة الحال الهضم والمتمثل لانجازات الحضارة البشرية، وهي ذات هوية غربية في الحقبة الواهنة بقدر ما هي كونية الهوى، بفعل آلة التوحيد الرأسمالية الضخمة، وانما ذلك الاقتلاع المخيف للمفاهيم والتقنيات والأدوات وزرعها بشكل عشوائي وقسري في تربة تاريخ ومجتمع مختلفين، بداهة، في شروط تطورهما ووجهتهما زمانا ومكانا ورؤية بصورة كبيرة.
تنحى النزعة الاقتلاعية نحو التبسيط في محاولات رؤيتها للتطوير والتنوير والإنماء، الى اختزال تاريخ البشر وشروط وجودهم الروحية والمادية، الى نوع من كونية زائفة ني تعميم المفاهيم والإنجازات التقنية والحياتية، لتنمو بعيدا عن أرضيتها الطبيعية واطارها النظري، السلوكي والأخلاقي. مما ينتج عن ذلك من تشوهات وانفصامات ترمي بالكائن خارج مدار تاريخه والتاريخ عامة.
* * *
ليست القدرة على جلب الأدوات والتقنيات والاختراعات، والتى استغرقت رحلة تطورها آلاف السنين الى ما وصلت اليه، هي العامل الحاسم في هذا السياق من التطور، وانما القدرة على الاستيعاب والتمثّل الحقيقيين، ضمن الشروط الخاصة للإنتاج والإبداع، هو الحاسم. كما أثبتت التجارب الكبرى لحضارات الشعوب منذ عصور ما قبل الحداثة، بالمعنى الزمني المعاصر. بالمقابل والنقيض. كما أثبتت التجارب العربية المعاصرة، والعالم ثالثية مع وتاثر التفاوت والتقارب.
في هذا القرن، الذي نقف على صخرة أنفاسه الأخيرة الدامية، شهد العقل البشري أعظم اكتشافاته وأخطرها – وان نزعت نحو الهيمنة والعدوان – وفيه أيضا مضى الفكر العربي باحثا عن مواطىء أقدامه وسط جلبة العصر وصراعاته ورؤاه… باحثا في مرآة هذه المباني من الأفكار والتناقضات، عن وجهه الحقيقي الذي يصله بأحداث عصره وتقدمه السريع بعد عهود ظلامية طويلة، كما يصله بتاريخه المتلاشي العظمة وسط أكوام التخلف والتقهقر والانكسار، أو هكذا كان الطموح في سماته الجوهرية.
شهدت محاولات التنوير والتحديث جهودا مضنية وصلت الى مستوى الاستشهاد الفكري والجسدي. لكن المفصل القاتل في هذه المرحلة، أن تلك الجهود والمحاولات لترشيد الحاضر المتخلف وتنويره، لم تؤت أي تغييرات جذرية في بنيات الواقع والتفكير. وبقيت (الجهود) في إطار النخب العربية المثقفة ومجالاتها وأحلامها، ولم تذهب أبعد من سطور هذه النخب، مما أدى – وربما من نتائجه الأساسية – الى هذه الهوة الحضارية التي نعيش ونشاهد.
هذه الهوة التي تفغر فاها، أكثر، يوما بعد يوم، بين قيم التحديث والابتكار والعصرنة بكل أوجهها، وبين الأرضية الاجتماعية المفعمة بقيم التخلف والاتكالية، المفعمة بهيمنة الماضي وروح الأصوات والخرافات في مجتمعات شبه ريعية، غير منتجة في مجملها، خلقت إشكاليات اجتماعية ونفسية في سلوك الأفراد والجماعات، وفي العلاقات بين البشر، وبينهم وبين ما يستهلكون ويستخدمون في طرق حياتهم، وخلقت أمراضا تستعص على تشخيص أعتى علماء النفس والأعصاب. خاصة في المجتمعات التي شهدت تحولات صاعقة في نمط حياتها ومعيشها وتفكيرها من غير تهيئة واستعداد، تحولات مؤلمة في فصامها بين الوقائع والقيم، بين الثوابت والمتغيرات.
لم يعرف التاريخ البشري مثل هذه التحولات المفاجئة، كالتي اقتحمت الحياة والتفكير دفعة واحدة، واحتلت، حتى عند الموغلين في العداء لها، المساحة كاملة بلمعان حداثتها وتقنياتها الخلابة، وسط بشر، لم يبذلوا أي جهد في هذا الاتجاه، بل خضعوا طواعية لصياغة هذا المصير الحتمي من غير فعالية إبداعية، تؤرخ للمشاركة في صياغته وفحواه.
بهذا المعنى ستكون الحداثة هي التي صنعت البشر وليس العكس. إنها ليست خيار حرية وابداع.
خلقت هذه التحولات الساحقة لأنماط الحداثة الأخرى، هزة في الوجدان الجمعي، ولخبطة في جهاز الاستقبال الذهني والعصبي، حيث نرى هذا الجمع معلقا بخيوط لا مرئية في رحلة ضياع يومي تمتد من المأكل والملبس ولغة الكلام حتى نسيج القيم والمعايير التي تنظم عقد سلوك الجماعات والأفراد، التي انسلخت نحو الفظاظة والحقد وبذخ الاستعراض، نحو تفك البنى والعلاقات المتوارثة التي كانت ركن الاجتماع المشترك، لصالح الاغتراب والأنانية المفرطة والوهم.
وضمن ثنائية الصراع بين حداثة الوهم وتقليدية الوهم، أصبح المنحازون لوهم التحديث عازفين ومتبرمين من كل ما يمت الى الجذور والماضي بحجة التخلف عن ركب العصر ومظاهره.
من هنا نشاهد ذلك الجهل الفاضح بتراث الأجداد وانجازاتهم الحقيقية وأنماط معيشهم، حتى عند كتاب ومثقفين بتوقيع الادعاء والاشاعة.
هل ينبغي التذكير وهو مطلوب ني مثل هذه الحالات بإنجازات الأسلاف وابداعاتهم وسط قسوة الطبيعة والعالم، واعتمادهم الذاتي في تسيير شؤون الحياة والفكر؟
هل نتناسى تلك المنابع الثرة، مقحمين عليها وهم الصراعات اللاحقه، شاطبين تخومها المضيئة من حياتنا، إلا ان نفضي الى رحلة التآكل والضياع اليومي.
* * *
لنتخيل سيناريو لفيلم سينمائي: عائلة تفترش الأرض او على حصيرة هي ما تبقى من الأيام الخوالي، تجلس أمام شاشة التليفزيون المسلح بطبق فضائي في صحراء الطوارق أو صحراء الربع الخالي… عشر محطات. عشرون. ثلاثون. تتبدل الصور والمشاهد الباذخة تتبدل البلدان والقارات، السماء والأرض الطبائع والوجوه والعمران.
كل يوم على هذه الحال، الى حد انقطاع الكلام والحوار بينهم وتحولهم بالكامل الى مخلوقات تليفزيونية.
لم يعودوا بحاجة الى سماع أصوات الطبيعة وحيواتها وجمالها من حولهم، فهي تقدم لهم جاهزة مثلما تقدم الوجبات السريعة على الشاشات التليفزيونية.
لنتخيل عنف التحول الذي طرأ على هؤلاء البشر الذين كانوا مستقرين في مسيرة حياتهم، يتناسلون جيلا بعد جيل حتى اكتسحهم آلة التحديث وقذفتهم خارج تاريخهم بأزمنة ضوئية.
إن هذه الصورة تشكل نموذجا مكثفا فى مأساته للحياة بصوره عامه، تلك التي اكتسحتها تلك الآلة
الصماء المثيرة، من غير أن يكون لبشرها ذلك الجهاز الحسي والذهني الملائم لاستقبال تلك المعطيات المدنية الحديثة..
* * *
من جهة أخرى لم تلتفت "الحداثة" في سجالها النظري الى الواقع والمعيش الا بشكل تجردي وجزئي.
ظلت رحاها تدور في أوساط المثقفين والكتاب والشعراء. فكأنما بها في هذا المنحي "وريثة" ما اصطلح على تسميته بعصر «النهضة » العربية وانوارها. مع أن هذه الأخيرة كانت اكثر حماسة واندماجا في أحلام التغيير والارتباط بمشاريع سياسية وفكرية وكانت الحر طموحا في تثوير الواقع والتاريخ.
ظلت الحداثة العربية في مجالاتها وقفا على التجديدات الشعرية والثقافية، منطوية في كبرياء عزلتها، ناظرة الى الواقع والتاريخ اللذين يزدادان سوءا بعين الترفع والازدراء والقرف، وحتى حين انتمى بعض رموزها الى مشاريع ما، لم يكن ذلك الانتماء إلا تجربة وجود شعرية ستدعم العزلة والانفصال اللاحقين.
الحداثة الشعرية والثقافية في تأثرها بالمناخ العالمي، ليست مثل حداثة الأدوات الاستعمالية والتكنولوجيا في مجتمعات ريعية، والفصل واضح المعالم في الحالة العربية، بل هي هجينة قلق خاص، مع تمثل قل أو كثر لوقائع الابداع والتاريخ. تلك بعض سمات أساسية. أما الطفح الآخر في الثقافة الخليجية والعربية المرتبط بآلية الاستهلاك والوجاهة، فهو توأم الوقائع الفاجعة لحداثة النمط، حياة وأفكارا.
* * *
لم نعد نسبه هذا البحر
ولا هذه الأرض
يبدو أن قرونا مرت بزواحفها
ونحن نيام