حمود سعود
علم فرنسا يرفرف فوق السفينة الرابضة في ميناء مطرح منذ خمسة أيام (هكذا أخبرني نادل المقهى الواقف على بوابة السوق)، جميع ركاب السفينة ينزلون في الصباح، يمتطون ضحكاتهم وعدسات هواتفهم ودهشتهم من تفاصيل الأمكنة، يتوغلون في جسد مسقط، ومتاحفها، وجوامعها، وفي ظلمة السوق، وفي بياض المباني، وفي أسئلة القلاع والأبراج. في الليل يعودون إلى سفينتهم، يتمددون على أسرَّتهم، يقلّبون الصور المتكدّسة في هواتفهم، يضحكون على ابتسامتهم الباردة والمتجمدة في الشاشات، ثَمة كلبٌ ضجِر في السفينة يتركونه وحيدا مع حارس السفينة.
في الأيام الثلاثة الأولى، كان الكلبُ يمدٌّ رأسه يُحدّق في المباني التي تقف كحرّاس على الكورنيش، رأى بشرا يمشون على طول الممر البحريّ، سائحات، وشرطة، وسائقي سيارات أجرة، ومقاهيَ، وعشّاقا مخذولين من الحب. تسللتْ روائح أسماك إلى أنفه، كل مساء يسمع أذانًا، يرى مئذنة زرقاء. أغرته حركة البشر الداخلين والخارجين من السوق، تمنّى لو كان يستطيع السباحة إلى الضفة الأخرى، حتى لو وبخته سيدته في المساء، سيقول لها بأنه رَغِبَ في وجبة على الكورنيش.
نبح عدة مرات محاولا لفت انتباه المارة في الجهة الأخرى، المّارة لم يلتفتوا لنباح كلب وحيد يقف على ظهر سفينة يرفرف فوقها علم فرنسا. أُصيب بالخيبة من بشر هذه البلاد، مدّ ساقيه أسفل الكرسي الذي يجلس فوقه حارس السفينة، دفن رأسه بين ساقيه، حدّق في أظافر أصابعه. الحارسُ مندمج مع الأغنية التي تنبعث من هاتفه، ولكي يبعد إزعاج الكلب، دخل إلى مطبخ السفينة، أخرج من الثلاجة قطعة لحم، وضعها في صحن، قدّم الصحنَ إلى الكلبِ.
بعدما أكل ما في الصحن، رفع رجليه فوق حاجز السفينة، أخذ يُحدق مرة أخرى في المباني، بدأ يتهجى الكلمات الغريبة عن لغته، قرأ: المدرسة السعيدية، فندق النسيم، سور اللواتيا، مسجد الرسول الأعظم، مقهى آنه، سوق مطرح.
أخذت مخيّلة الكلب تنسجُ حوارا بين كائنات المكان، ماذا لو شاكس طالب من المدرسة السعيدية سائحة أوروبية تشرب قهوتها الصباحيّة على شرفة غرفتها في فندق النسيم، بملابس نوم البارحة، وأطلق من نافذة فصله عبارة
HIIIIIII .I LOVE YOU
وصلتْ العبارة إلى أذن السائحة المتلذذة بصباحها المطرحيّ، ابتسمت، أطلّتْ على البحر، رأتْ رجلا يجلس أمام مسجد الرسول الأعظم، أطلقت السائحة الممسكة بكوب قهوتها ولحظتها الصباحية، جملة بعربية مكسّرة : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بحث الرجلُ الجالس أمام مسجد الرسول الأعظم عمن أطلق هذه الجملة، فلم يجده.
مشى نحو مدخل السوق، طلب لنفسه كوب شاي، وأخذ يُحدّق في النوارس.
لا الطالب ولا السائحة ولا الرجل الجالس أمام المسجد انتبه لنباح الكلب فوق السفينة الفرنسية.
*** ***
في الظهيرة يٌقدم الحارس للكلب الضّجِر وجبة الغداء، ما بعد فترة الغداء يمد الحارس رجليه، ويدخل في ظلال أغانيه، يظل الكلب يُراقب أسراب النوارس المنتشية بعدسات السيّاح، وفتات الخبز الذي يرميه بعض عشّاق مطرح للنوارس.
في ظهيرة اليوم الرابع، قرر الكلب الأسود أن يُغافل الحارس النائم، وأن يكتشف المكان، غرق الحارس الجالس في مطبخ السفينة في بحيرة أغانيه، قفز الكلب من فوق الحاجز، سبح في البحر، كاد أن يغرق، لكنه وصل إلى المباني التي تقف خلف سوق السمك. في المساحة التي تقع خلف سوق السمك، وفي الساحة التي نسيت البلدية أن تستغلها، أخذ كلب السفينة الفرنسية يدور في الساحة، يرفع رأسه، أغرته لعبة مطاردة الغيوم، تمدد في المساحة الإسمنتية التي استغلها عمّال الميناء ليمارسوا لعبة الكريكت، مجموعة من الغربان كانت تقف فوق سقف سوق السمك، رأتْ فرح الكلب بالمكان، ضايقها فرح كلب غريب، تنادت، وأطلقت نعيقها، كل غربان مطرح لبّتْ النداء، حلقت فوق الساحة المنسية المندسة خلف سوق السمك، شاغبت الكلب، نبح الكلب، الغربان زادَتْ من شغبها ضد الكلب، أخذت تطير بالقرب من ظهره وتنعق، يركض، ينبح، مندهشا من هجوم الغربان بالرغم من تشابه ألوانهم، حاول أن يندس الكلب أسفل شجرة وحيدة على طرف الساحة، غطّتْ الغربان أغصان الشجرة، فكّر الكلب: كيف سأعود إلى سفينتي لأنجو من غربان هذه البلاد؟ يا إلهي كيف ترتعب هذه الغربان من فرح كلب ضجر ووحيد؟
قرر كلب السفينة الفرنسية أن يواجه هذه الهجمة، أخذ يركض في الساحة، ويرقص رافعا يديه إلى الأعلى، مرتكزا على رجليه، غير مهتم بشغب هذه الطيور السوداء.
اندهشت غربان الميناء من رقص الكلب، وقفت مرة أخرى فوق سقف سوق السمك، وهي مستغربة من هذا الكلب، طوال تاريخ وجودها لم تر كلبا من كلاب هذه البلاد يرقص، بدأت براعم الصداقة تنبتُ بين كلب السفينة الفرنسية وغربان الميناء، نزلتْ من سقف السوق وسماء الدهشة إلى ساحة الكلب الفرنسي، توقف الكلب عن الرقص، أخذ يتأمل المكان، قلاع فوق الجبال، سفن ضخمة تشبه الجبال تقف في الميناء، حاول أن يسأل الغربان عن هذه السفن، خافت الغربان من سؤال الكلب المُلغّم. في الجهة الغربية من الساحة كانت هناك شجرة يجلس تحتها خمسة رجال، يسندون ظهورهم على جدار متهالك، بملابس متشابهة، لا يفعلون شيئا سوى التحديق في البحر والفراغ والسفن العملاقة، ويطلقون الشتائم، أمامهم عبوات ماء ومشروبات غازية، استغرب الكلب من تحديق الرجال، واندهش من الدخان الخارج من أفواههم.
سألت الغربان الكلب عن بلاده، ردّ الكلبُ: بلادي بعيدة خلف البحار، ويوجد بها غربان وشوارع نظيفة، ولديّ بيت وعائلة، اندهشت الغربان من حياة هذا الكلب، هي تعرف الكلاب المشردة في مطرح التي تنام تحت أنفاق الشوارع، وفي شعاب الجبال، وتطارد جوعها في الليل من حاويات القمامة.
أُعجبت الغربان بالكلب الغريب، أخذت تسأله عن حياته، وما الذي يفعله هنا؟
أخبرها الكلب : بأنه يحرس السفينة، وأنه يرافق سيدته التي تجوب مدن العالم كذلك، وبأن لديه جواز سفر، زادت دهشة الغربان أكثر. كلب ولديه جواز سفر، ولديه بيت وعائلة، الغربان تعلم أن بشرا من هذه البلاد ليس لديهم جوازات سفر، وبعضهم لم يخرج من العاصمة، وبعضهم لم يدخل العاصمة.
وعندما سأل الكلب الغربان عن طعامها، ارتبكتْ الغربان من السؤال، فقال له أحد الغربان إننا نأكل من حاويات القمامة أو نسرق الأسماك من السوق المجاور.
استمتع الكلب بالحوار مع غربان مطرح، لأول مرة في حياته يجد أحدا يسأله عن حياته، طارت الغربان في سماء مطرح لتبحث عن وجبة لعشائها، الكلب واصل مرحه في الساحة المنسية خلف سوق السمك، أخذ يحدّق في الأمكنة، رأى خلفه رافعات لا ترفع سوى الفراغ بعدما توقّف الميناء، أسفل الجبل من الجهة الغربية رأى مركزا للشرطة يرفرف فوقه علم به خناجر وسيوف، المركز يحرس البحر من القراصنة، قطط متناثرة على الكورنيش، وفي أطراف سوق السمك وعلى الشوارع وأمام مطاعم الآسيويين، حاول أن يرتب كل هذه الصورة المتناثرة في رأسه، مسجد/ سوق/ مدرسة/ فنادق/ بحر/ قلاع/ غربان/ قطط /مركز شرطة / عمّال/ كلاب/ سياح/ أصحاب سيارات أجرة/ ميناء صامت. ما هذا العبث؟ كيف تستطيع كل هذه المتناقضات أن تعيش في لوحة واحدة؟
حاول أن يسترجع صور حياته الفرنسية، كيف كان يعيش، كيف يستيقظ؟ نظام تغذيته المنضبط بالوقت؟ زياراته الشهرية لعيادة الكلاب للفحص؟ جدول النزهات التي يخرج فيها مع سيدته في شوارع باريس، كل شيء هنالك بنظام، للكلاب شوارع ومتنزهات وعيادات ومقابر وأرصدة في البنوك.
لا يهم كل هذا، ربما تكون مقارنات غير عادلة، لهم حياتهم ولنا حياتنا. قال الكلب في نفسه. وقبل أن تغرب شمس مطرح عاد الكلب إلى سفينته، الحارس لم يخرج من بحيرة أغانيه بعد. مخيلة الكلب مزدحمة بالأفكار والصور والتناقضات.
في الليل وبعد أن توغل التعب والنوم إلى أجساد أصحاب السفينة، خرج الكلب إلى طرف السفينة، أخذ يراقب الأضواء المنعكسة في الماء، بدأ يحلم يفكر في كلام الغربان، يتخيل حياة أخرى غير حياة العبودية.
صحيح بأنني الآن أعيش حياة بها الكثير من المميزات، لكنني أظل حارسا وتابعا للسيدة الفرنسية، ماذا لو قررت أن أهرب من كل تلك الحياة المُعلّبة بالقوانين والعبودية؟ لكنني كيف أعيش هنا؟ لا أصدقاء لديّ، لا طعام، لا بيت لدي. ماذا عن أصدقائي الكلاب هناك في باريس؟ كيف أتواصل معهم؟ هل يوجد هنا بريد؟
أخذت فكرة الهروب والتمرد على حياته السابقة تقلقه. في الليل تذكر طفولته، وكيف كان مدللا، وكيف أُدخل إلى نادي التدريب؛ ليتعلم أساليب الحراسة والتعامل مع حياة الأثرياء. وكيف يكون مطيعا لأسياده البشر. انتصف ليل مطرح، القلق سرق النوم من عينيّ الكلب الفرنسي.
أخذته الذكريات والحنين للحياة التي عاشها، وأخذه القلق للحياة التي ينوي أن يعيشها، غاص أصحاب السفينة في بحيرات أحلامهم، أما الكلب فتقلب في براكين الذكريات والقلق. صمتَ، صوت ينبعث من المئذنة الزرقاء. أعجبه الصوت وجو الفجر، رأى جموعًا تدخل المسجد.
في اليوم التالي لم يخرج من مكانه في السفينة، غاص في نهار ذلك اليوم في النوم.
وعندما حلّ الظلام، عزم على الهروب في الفجر.
قبل أن يرفع الأذان في مطرح، كان الكلب في الساحة التي لعب فيها مع الغربان، مرّ بالقرب من الشجرة التي رأى تحتها الرجال الخمسة، رأى أربعة منهم نائمين، والخامس كان يهذي بكلام غريب، ركض الكلب، مرّ بالقرب من سوق السمك، رأى سيارات تحمل الأسماك وتدخل إلى السوق، بالقرب من دوار السمكة لفحه هواء الفجر البارد، عليه أن يسرع قبل أن يلحظوا غيابه، ركض، مرّ بالقرب من المدرسة السعيدية، والمسجد وبوابة السوق، ركض في الكورنيش الفارغ من البشر، على المنحى، قطع الشارع، صعد إلى القلعة، وصل متعبا. اندس داخل القلعة، في السادسة صباحا رأى السفينة التي يرفرف فوقها العلم الفرنسي تغادر الميناء.