ستتعرف على النص الذي يُمازحك ويخدعك ويشاكسك ويُعيد كتابة القصة الشعبية والمفارقات اللا معقولة ويدفعك للضحك مرات ومرات، وأنت تقرأ «المنسأة والنّاي»، المجموعة القصصية الجديدة للكاتب العُماني وليد النبهاني والصادرة عن مؤسسة الانتشار العربي. مجموعة قصصية تنهض على خيارين، يستخدمهما الراعي مع رعيته. إما خيار الناي أو خيار المِنسأة. إما خيار أن يتقدم الراعي قطيعه كفارس شجاع يتصدر جنوده في معركة حاسمة، يحمل نايا ويُصوبُ ألحانه الشجية في المرعى، فتندى الأعشاب مُخضرة من بكائها الفرح بهذه الألحان، حيث ينأى الراعي إلى جذع شجرة مُهملة وهو يرقب خرافه تمضغ العشب الطري. وإما خيار المنسأة الغليظة الزاجرة والعنيفة، ولكل خيار منهما نتيجة تختلف عن نتيجة الخيار الآخر.
أغلب قصص هذه المجموعة عادية وغالبا ما تكون مطروقة من قبل، إلا أنّ النبهاني يكسر اعتياديتها عبر عدّة مستويات، فهو على سبيل المثال يجعل من القراء شركاء له في الكتابة. فهو يترك لهم حيزا جيدا ليكتبوا نصهم الخاص، بل إننا ندخل كقراء إلى مصنع الكتابة، ليشغلنا بها أكثر مما قد ننشغل بالقصة. كأن يقول: «كان لا بد من وصف شكله وفقا لبعض أعراف القص»ص28، «ينبغي أن نسأل عن كل شيء وإلا لما كان هنالك معنى لما نراه الآن» ص29.
بل يذهب النبهاني إلى أبعد من ذلك عندما يكسر توقعاتنا، فنجد مثلا البطل في قصة «الراعي» لا يستيقظ على قهوة أمّه، وإنما «لتسجيل قصة الراعي»، الراعي الذي طلب من الذئب أن يكون صديقا له، بل إن الذئب جلس في حجر الراعي الذي اختار الناي، بينما الذئب اختار الأنياب، وسمحت له النعجة بأكلها، لأن الكبش لا يحبها.
يتحول القراء في أحوال أخرى إلى الكاميرا التي يحملها السارد على ظهره ويسير بغير هدى نحو الأسئلة، ففي قصة «الحقيبة»، يلعبُ السارد دور المراقب عن بعد لشخصية مُتحركة. يبدو السارد هاهنا كعين الكاميرا التي ترصد ما يدور. بل إنّه يبدأ بسلسلة من التكهنات حول سبب دخول صاحب الحقيبة للمسجد، وحول ما يضمر عامل النظافة له من مشاعر. بل إنه يستمر في تعديل المشهد لأكثر من مرة، وكأنه ينسف فكرة السارد العليم بكل شيء، «إن متابعة مشهد كهذا تحت شمس حارقة يجب ألا ينسينا تفاصيل كثيرة.. لا بد من وصف شكله وفقا لبعض أعراف سرد القصص»ص28، «ينبغي أن نسأل في كل شيء وإلا لما كان هنالك معنى لما نراه الآن»29
وأمام كل هذا الضجيج، والرتم المتصاعد من التشويق حول الرجل والحقيبة، نكتشف في النهاية أنّه لم يكن سوى رجل جاء إلى المسجد ليُخرج أمواسا من حقيبته ويبدأ بالحلاقة، يستحم ويبدل ملابسه. الغريب أيضا هو التبدل السريع.. حيث يتلبس السارد فجأة برجل الحقيبة بل يصبح هو تماما.
في قصة «التينة»، المستوحاة من التراث الشفهي، يُشاركنا النبهاني إعادة الكتابة بصوت مرتفع. فهو لا يكتب القصة، بل يضعنا في احتمالاتها. فربما حدث هذا بسبب ذاك أو العكس. فهو يُخبرنا برغبته أن يجعل قصة الحطاب العادية قصة مشوقة وأكثر إثارة. ثم يُحاول تفنيد الأسباب المقنعة من تلك الأخرى غير ذلك. إلى أن يدفعنا للتساؤل: ما الذي يجعلنا نكمل متابعة حكاية مملة جدا. أو بمعنى آخر: ما الذي يجعل حكاية مُستعارة من التراث الشعبي، لا تملك مبررات فنية كافية لأن تصبح قصة جيدة. ولعله يقنعنا أنّ هذه الألاعيب السردية صعدت من حيوية القصة ورفعت من سقفها. فعل ذلك بإتقان عندما أعاد تفكيك القصة بدلا من تركيبها. أعاد طرح الأسئلة بدلا من الإجابة عليها. «ما بال الابن لا يجمع الحطب مع أبيه؟.. ما الذي يجعل الحطاب يفكر في احتطاب تينة؟.. لسبب غير مقنع لكن لابد من سرده في الحكايات بقي الابن الأصغر في البيت.. من هذه الفتاة التي نزلت عن التينة؟ هل هي الجنية؟» ص 17، ص 20.
من ضمن الألاعيب أيضا ذهابه إلى أنسنة الأشياء من قبيل جذع الشجرة مثلا. أو من قبيل الفلج. فبدلا من أن يحكي حكاية عادية ومكررة عن أناس يذهبون للتبارك بالأشجار خوفا على أفراحهم وأطفالهم وهروبا من مشاكلهم، يعطي النبهاني البطولة بأكملها لجذع الشجرة لكي يحكي سيرورته من شجرة يانعة في السهل إلى جذع يتبارك به الناس إلى أن يخلط به التبغ ليصير مضغة في فم أحدهم، وأيضا أنسنة الفلج، الذي كان شاهدا على ما حدث في العلاية والسفالة، «أمي تغذيني بالمياه فأرسله إلى المزارع لتروي به الأشجار» ص51. تكشف هذه القصة عن عداء قديم بين شيخ العلاية مع شيخ بلدة السفالة.
يمتلك النبهاني الحس الساخر، فعندما فرك البطل الخنجر بليمونة من أجل تلميعه ظهر له الجني. لكنه لم يكن الجني الذي يُحقق الأمنيات.. كان جنيا جائعا جدا أكل كل مراجل العيش في العرس. كما يبدو السؤال طريفا في قصة «السيل»: «لم أوزع زكاة الفطر. هل يملك الفقير ما يزكي به؟» ص46
ويبدو النبهاني مشغولا إلى حد ما، بالإنسان عندما يكون أقل من حشرة، كما هو حال الأحدب ذو الرأس الكبير. ابن زواج غير مرغوب به بين شيخ و«خادمة». فهذا الزواج الذي يفتقر إلى التكافؤ (من وجهة نظر المجتمع) يؤدي إلى حياة مشوهة وقبيحة. حتى أنّ معلم القرآن ظنه المسيح الدجال، بل إن كل «الكميم» التي جاؤوا بها من السيب ومطرح وحتى من الحج لم تفلح في تغطية رأسه الكبير. تكشف القصة تناقض المجتمعات التي تمتلكُ رصيدا جيدا من التفرقة بين الناس، لأسباب تتعلق بالأصل والفصل. فعندما قال لأمّه أنّه يريد أن يرعى قالت له: «نته ما شاوي يوحبابي. نته ود شيخ» ص11. وبينما تقول الأم ذلك لابنها، يصدمه المجتمع بقوله: «ود الخادمة» وليس «ود الشيخ». فالمجتمعات المسالمة الوادعة، تكشف عن عنفها وعنجهيتها بمجرد ما أن تُخدش منظومة معتقداتها الجاهزة. «إن حشرة ما أكثر نفعا منه»ص14،هذا ما تقوله القصة لأسباب تتعلق بأن الحشرة مُبرمجة على أن تقتات قوتها، بينما كان الأحدب يسير بغير هدى نحو العبث، هذا الحكم «على سبيل المثال» أكثر قسوة من أن يكون له حدبة ورأس كبير!
“الربيع».. هي القصة الوحيدة التي ربما تتخلى عن السيناريو المُفكك الساخر، في هذه القصة يهبط بنا التصاعد، حيث يلجُ النبهاني إلى المباشرة منذ اللحظة التي يختار فيها أن يهدي النص إلى تويتر، ومنذ أن يُسمي النص «الربيع»، فيظن القارئ أنّه الربيع الذي ينتظره الراعي، ليكتشف أنّه الربيع العربي. «ها أنت تتخلى عن ربيعك الذي استغرقك كل هذه السنوات. افعلها إن شئت وابدأ أخطاءك الجديدة». ص37
وفي نص «السيجارة»، يضبطُ إيقاع النشيد مع إيقاع التنفس لدى تناول السيجارة الأولى، ويتصاعد النص عبر هذه الضدية.. النشيد الذي يملأ صدور الشباب بالاعتزاز، مقابل صورة الدخان الذي يغلق الصدور ويشوهها. وتفاؤلا بحظ المحزون الذي وجد جوار الفلج سُمي سعيد. لكن الاسم المتفائل لم يُفلح في تغيير حظه. تزوج من امرأة اكتشف لاحقا أن زوجها لم يمت في السواحل كما كان يظن وبعد ذلك لم يرغب بالزواج. وتسبب في قتل ابنه الذي تبناه. عمل حارسا للقلعة فقتل صاحبه، واتهم بالقتل الخطأ. ثم وُجد ميتا وقد تفسخت جثته بقرب الفلج. لم يستطع أحد الاقتراب منه لخبث رائحته وتورم جثته وامتلائها بالصديد. تشاور الناس في أمره إلى أن اهتدوا إلى أن يرموه بالحصى حتى تنطمر جثته. غابت جثته تحت الحصى وصار أشبه ما يكون ببرج قرب الفلج.
هنالك علاقة وثيقة بين القصص بل إن بعضها يكمل بعضها الثاني. تحديدا قصة الشاوية و الراعي «ولد نهشة» والناي. إذ ترد قصتهما وهما طفلان في قصة «طفلان»، وترد قصتهما في قصة «الشاوية»، وقصة ود نهشة مع ابنه وخادمه في قصة «الناي والمنسأة»، «لو كنتُ أعلمُ أنّ الناي الذي عزفته سيجلب المطر للمرعى لفعلتها منذ زمن»ص49 . الشاوية هي الأم التي يُؤلمها صدرها بسبب وفرة الحليب فيه بعد تركها صغيرها الرضيع، لذا ألقمت ثديها الأيمن لفم الجرو الأسود الذي قتلت أمّه بمحجانها فزال الألم، ولم تهدأ حتى أفرغ الجرو الحليب كله. الشاوية هي زوجة ود نهشة الذي سيأتي على ذكره في قصص أخرى. وقد اختار النبهاني السيوح والوديان والشعاب لتكون مسرحا لسرده، ربما بسبب: «تعذر وجود العشق في الأحياء الموبوءة بالبشر الحاقدين» ص50
نهشة الذئب دفعت الراعي الذي لقب بـ «ود نهشة»، لاستبدال الناي بالمنسأة الغليظة، «كان قلبا غليظا برجل عرجاء تحرض على الضغينة» ص73 . وانتهى به الأمر إلى حلقات الذكر، «أسبل على رأسه عمامة بيضاء لف طرفها المتدلي على رقبته تماما كما يفعل المطوع». «كادت لحية المطوع البيضاء أن تلمس الأرض، تخيل مسعود أنها مجمعة سوف يكنس بها أتربة البساط، دشداشته القصيرة تفصح أكثر مما تكتم.. تعجب من شاربه المحفوف بعناية.. أرسل ابنه إلى بلاد الثلوج لينفع بعلمه. فعاد ابنه بشعر مسترسل ناعم وذقن حليق وقميص مخطط تتدلى من فتحة أعلاه سلسلة ذهبية وبنطال جينز وأصوات الناي. فاستقبله والده بالمنسأة الغليظة.
الناي هنا يوازي المطر، بينما التغيير غير المتوقع يوازي المنسأة الغليظة. لأنها تغدو من وجهة نظر صاحب الرعية الوسيلة الأنجح لكبح جماح التغيير.. هكذا يكسر وليد النبهاني قصصه العادية، عبر تفكيكها بدلا من توليفها، ليقلب توقعاتنا حول ما هو بديهي.
————–
هدى حمد