حمل عام 2002 للمكتبة العربية اثنين من إصدارات جابر عصفور النقدية الأول هو <<ذاكرة للشعر>> والذي حصد فيه تاريخ الشعر العربي منذ شعر الإحياء حتى الشعر الحر خاتما بشعر أمل دنقل الذي أهدى الكتاب إلى روحه وأفرد له القسم الأكبر الأخير من الكتاب. كما صدر كتاب <<قراءة النقد الأدبي>>.
ثم يطالعنا جابر عصفور مع بدايات عام 2003 بكتابين جديدين الأول تحت عنوان <<أوراق ثقافية / ثقافة المستقبل ومستقبل الثقافة>> والثاني <<مواجهة الإرهاب>> قراءات في الأدب المعاصر, الكتاب الأول <<أوراق ثقافية>> صاحب العنوان الضخم الرنان يحتوى أربعة عناوين فرعية تمثل مضمون الكتاب, هي قضايا – مشكلات – إضاءات – متابعات. تحت كل عنوان وضع قدرا متسقا من الدراسات والمقالات التي يمكن فصلها – مع عنوانها – عن الكتاب كي تشكل هيكلا مستقلا بذاته.
قضايا متعددة طرحها كتاب جابر عصفور وكأن ذهنه الم تقد أبى ألا يتنازل عن الكتابة حول كل قضايا العصر الثقافية ; من الحديث عن هذا الزمن العربي الذي يتضمن خصوصية الثقافة العربية المعاصرة والمثقف العربي في الوقت نفسه, أي خصوصية الخطاب اليومي التي تتجاوز فيه أصداء دعاة الدولة الدينية ودعاة الدولة المدنية, أصداء الفكر الليبرالي القديم والجديد في مواجهة الماركسيات التقليدية والمحدثة وفي موازاة النزعات الأصولية وغير الأصولية للقوميين والبعثيين والناصريين والساداتيين, فضلا عن الحداثيين وما بعد الحداثيين, ومن موقع المثقف العربي الذي يتحدد بين مطرقة السؤال عن المستقبل وسندان الزمن القادم الذي يرجوه, والثقافة العربية وموقعها إلى العولمة والهوية الثقافية حيث تواجه هذه الثقافة العالم الذي لا يتوقف عن التقدم في تقنية اتصالاته التي أحالت الكوكب الأرضي كله الى قرية كونية حقيقية انبنت على متغيرات حاسمة أفضت الى تشكل نسق جديد من العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمعلوماتية التي نسميها العولمة, وهي واقع فعلي يطرح نفسه على الكوكب الأرضي كله متجاوزا التصنيفات القديمة والتقسيمات التقليدية وهو ما يفرض على الثقافة العربية تحديات غير مسبقة تدفعها إلى أن تعيد تأمل إمكاناتها لاكتشاف مدى قدرتها على الحركة في عالم ليس من صنعها لا تملك سوى مواجهته, وعليه يأتي واقع مواجهة العولمة عبر احترام الهويات الثقافية للشعوب ومراعاة خصوصية كل تجربة تاريخية دون محاباة لتجربة على حساب غيرها, والتخلي عن مركزية النظرة أو أحادية التوجه والإيمان بالحوار بين القوميات والمعتقدات والمذاهب المنظمة والأفكار على أساس من قيمه التسامح واحترام حق الاختلاف ومن هنا تبرز مفاهيم الاستقلال التي تتأكد بالتفاعل بين الحضارات والثقافات والدول لمواجهة المشكلات العامة التي لا يستطيع ق طر وحده حلها وعليه تواجه هذه النزعة هيمنة العولمة بنوع معارض من القيم التي تنقد المركزية والتسلط بكل أشكالهما, وليس بمعزل عن ذلك عالمية الأدب والعولمة حيث ترتبط عالمية الأدب بنزعة المركزية الأوروبية – الأمريكية لذلك أخذت علاقة عالمية الأدب والعولمة تكتسب طابع التفاعل اللافت في المجال الثقافي خصوصا في دائرة التأثير والتأثر, وقد أفضت أيضا أيديولوجية العولمة إلي نوع من لزوم حوار الحضارات عندما تدعو العالم إلى أن يصبح كوكبا مفتوحا تحكمه منظومة اقتصادية واحدة لا تعترف بالحدود السياسية وتمضي هذه الايديولوجية إلى صياغة قيم ثقافية.. اجتماعية.. اقتصادية وسياسية تؤكد حرية الحراك الاقتصادي الهدف من ذلك خلق عالم واحد لا يعرف الحدود ولا ينبني على الاختلافات أو الانغلاق ; بل الأفق المفتوح الذي يذيب الخصوصيات الثقافية والهويات الحضارية المتغايرة في منظومة كوكبية واحدة, وموقفنا من حوار الحضارات المفروض علينا – بطبيعة السياق التاريخي – ينبغي أن نسلم به بديلا عن الصراع كي يتم التفاعل بين الثقافات, ومن هنا يمكن الحوار الذي يسمح لكل طرف من أطراف الحوار م سل ما بأحقية غيره في الاختلاف من جانب وبأنه لا يمتلك الحقيقة المطلقة من جانب آخر, ويعني ذلك التسليم بنوع من التكافؤ العقلي بين الأطراف المتحاورة وعدم تسلل نزعات عرقية أو تحيزات استعلائية إلى الحوار بين المركز والهوامش في العالم; فالحوار يصل إلى طريقه المسدود عندما تختل العلاقة بين الأطراف.
وقد تتبع جابر عصفور في كتابه بواكير الترجمة العربية منذ أن تصاعد إيقاعها في عهد الخليفة المأمون ثم شرح كون الترجمة هي الأداة الفاعلة في تحقيق رغبة النهضة والم ضي في طريقها الصاعد بوساطة إذابة الفوارق الفكرية بين الأنا والآخر واكتساب معارف وعلوم التقدم, وبذلك تغدو الترجمة جسرا يعبر هوة الزمان والمكان ويفتح أفقا للغة مشتركة تجمع الأنا بالآخر, ولا تبتعد قضية الترجمة كثيرا عن موضوع حوار الحضارات, بل إن الترجمة في حد ذاتها تذيب الفوارق بين الحوار وتجعل كل طرف يقبل الآخر ويقتنع بأفكاره.
تحدث جابر عصفور عن بلاغة المقموعين مما يثير الدهشة ويدعو إلى التساؤل, هل للمقموعين بلاغة ? وكيف يمارسون البلاغة وهم في حالة القمع ?
ينبغى قبل مناقشة مفهوم عصفور لبلاغة المقموعين, أن ن عر ف البلاغة وأنواعها فالبلاغة مرتبطة بالإبلاغ ولا تعني الإتيان بما يحقق الإجماع أو بما لا يعرفه الناس, وتأثيرها لا ينصرف إلى المعاني, فالمعاني موجودة لمن يريد التنقيب عنها يعرفها العربي والعجمي, إنما تكمن جماليات البلاغة في السبك والصياغة, أي في الكيفية التي تصاغ بها الفكرة, أو يقدم بها المعنى, إذن البلاغة هى الإبلاغ وتأثير الإبلاغ لا يرجع إلى مضمون المبلغ عنه, بل إلى كيفية الإبلاغ, وهنا ينبغى الإشارة إلى أبي الهلال العسكرى الذي رأى أن البلاغة من قولهم <<بلغت الغاية إذا انتهيت إليها وبل غتها غيري, ومبلغ الشيء منتهاه, والمبالغة في الشيء الانتهاء إلى غايته, فس م يت البلاغة بلاغة لأنها ت نهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه. ولذلك قيل إن البلاغة هي <<التقريب من المعنى البعيد, وتقريب ما بعد من الحكمة بأيسر الخطاب, وإهداء المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ, والوصول إلى الشيء والانتهاء إليه, وقد س م ى الكلام بليغا لأنه الوصول إلى المعاني البديعية بالألفاظ الحسنة (يراجع كتاب الصناعتين لأبي الهلال العسكري ).
على حين يرى عصفور تجلي دلالة البلاغة في صفات الكلام لا المتكلم, فما دام أثرها يلتبس بمعنى الصياغة من حيث الإضافة, ومعنى التوصيل من حيث التقريب, فلا يجوز أن تطلق على الكلام من حيث ما يضفيه على المعنى السابق عليها, فالمهم هي دلالة نفي البلاغة عن الفاعل لفعلها وهو المتكلم وصرف الدلالة من الفاعل إلى الفعل ذاته أو المفعول الذي يلازمه أو يتعدى به, وتلك دلالة ترتبط بالمقصد الذي وصل بين البلاغة والإقناع, وجعلها مرتبطة بالجدل السياسي.
أفرد جابر عصفور في كتاب <<أوراق ثقافية>> جانبا كبيرا للحديث عن ألف ليلة وليلة بطبعاتها المختلفة وحكاياتها المتباينة, وقد أطلق عصفور لرؤيته الفنية العنان في كتابة إبداع على إبداع الليالي بما يؤكد سطوة ليالي ألف ليلة وليلة على القراءة في كل زمان ومكان, نظرا لوضعها في سياقها التراثي الخاص. وعلى الرغم من الطروحات الفكرية المهمة التي قدمها جابر عصفور في كتابه <<أوراق ثقافية>> والتي هي جزء من رؤيته التنويرية العامة في السياسة والفكر, إلا أنني أتصور أن هناك مكسبا حقيقيا في هذا الكتاب يتجسد في كتابات جابر عصفور حول الرواية, ذلك أن عصفور م دان طوال الوقت من ق بل الحياة الأدبية بعدم الكتابة النقدية حول ما يصدر من نصوص إبداعية. وقد فتحت رؤية عصفور النقدية بابا من التفاؤل لكل أديب يقدم إلى عصفور نصه منتظرا رؤيته. كما أن وعد عصفور بإصدار كتابين عن الرواية العربية يوسع دائرة الأمل.
النصوص التي تناولها عصفور في الكتاب – بعد مقال عن فجر الرواية العربية – هي <<لبن العصفور>> للروائي يوسف القعيد الذي صاغه بالعامية, و<<قمر على المستنقع>> لعلاء الديب , و<<زينة الحياة>> لأهداف سويف.
رواية <<لبن العصفور>> للكاتب يوسف القعيد صنفها جابر عصفور ضمن مشروع القعيد الروائي الذي نهض منذ نشأته الأولى على الإيمان بحق الفقراء المهمشين في الحياة, بما في ذلك مأساة تشيئ الإنسان وتحوله – تحت وطأة الفقر والقهر – إلى سلعة ت باع وتشترى وتحتمل المقايضة وهى مأساة تلح على الوعي الروائي ليوسف القعيد لأنها تؤدي إلى تدمير معنى وجود الإنسان والوطن والأرض والأسرة, وقد دلل جابر عصفور على هذه الفكرة الواضحة في أدب يوسف القعيد بنصوص أخرى للقعيد تؤكد عمق وكثرة قراءة عصفور لهذه النصوص من ناحية, ورسوخ مبادئ الكتابة والتأكيد عليها في إبداع القعيد من ناحية أخرى. فمسألة البيع والشراء والاستبدال البشري موجودة أيضا في رواية <<الحرب في بر مصر>> ليوسف القعيد حيث الأب / الفلاح الأجير الذي يبيع ابنه, أو الأب / عُمدة البلد الذي يستبدل ابنه بغيره كي يساعده على الفرار من أداء الواجب العسكري للوطن, ثم ثلاثية <<شكاوى المصري الفصيح>> حيث الأب الذي يعاني الفقر المدقع مما يؤول به إلى أن يعرض أولاده للبيع. كما أن القعيد من خلال روايته <<لبن العصفور>> المكتوبة بالعامية المصرية الص رف ة الم جه دة في الكتابة والتعبير, قد أراد أن يدلل على إيمانه بمقولة تتردد لديه وهى <<أن هناك أفرادا يموتون من الجوع وآخرين يموتون من الشبع>> فلبن العصفور تصور عالمين مختلفين من الحياة عالم الفقر الشديد في منطقة <<منشية ناصر>> بالقاهرة حيث الفقر الأشد واللصوص الأدنى, وعالم الثراء الفاحش بمنطقة <<مدينة نصر>> بالقاهرة أيضا حيث الغنى اللافت واللصوص الأعتى, والعلاقة بين الأدنى والأعلى تقوم على المفارقة التي تولد الدلالة السياسية اللاذعة كالعادة في كتابات القعيد حيث يكشف التناقض الذي يؤدي إلى الخلل الاجتماعي الواضح.
كذلك ظهرت رؤية جابر عصفور النقدية لرواية علاء الديب <<قمر على مستنقع>> التي وصفها عصفور بأنها عمل روائي قصير مكثف يقترب من الشعر في اكتنازه اللغوى وتجاوب رموزه الدالة والتوتر الدرامي للمنولوج المسيطر في انطلاقه من <<أنا>> البطل المأزوم التي تخاطب نفسها ليحملنا مباشرة بلا مقدمات أو ثرثرة أو استطراد الى رؤية متميزة لعالم منهار.
ولأن جابر عصفور من المهتمين بقضية المرأة في الكتابة, فقد قدم دراسة حول نص أهداف سويف القصصي <<زينة الحياة>> كاشفا عن الحضور الأنثوي المهيمن فيه, وكذلك إقامتها لصوغ هويتها الخاصة الكاشفة عن الأنا المضمرة في الكتابة الأنثوية.
افتقر هذا الكتاب المهم الفكري / التنويري / النقدي الى خاتمة تجمع شتات موضوعاته وكأن جابر عصفور يضع القارئ في قالب الموضوعات كي يكتب كل متلق خاتمته, قدر استيعابه لموضوعات الكتاب.
أما كتاب جابر عصفور الثاني <<مواجهة الإرهاب / قراءات في الأدب المعاصر>> فقد تناول فيه – بجرأة كبيرة – الوضع الثقافي العربي من المثقف التقليدي إلى المتطرف الديني, عبر قراءات لنصوص روائية عربية مهمة مثل <<الزلزال>> للكاتب الجزائري الطاهر وطار, وقصة <<أقتلها>> للقاص الكبير يوسف ادريس, ومسرحية <<منمنمات تاريخية>> لسعد الله ونوس, ورواية <<المهدي>> لعب الحكيم قاسم, ورواية <<الأفيال>> للكاتب للروائي المصري فتحي غانم, ثم ذيل هذه الفصول برؤية نقدية لظاهرة التطرف التي تقع بين السينما والمسرح والرواية.
رصد جابر عصفور صور إنجازات الرواية العربية منذ أن نشر الطاهر وطار روايته <<الزلزال>> في عام 1974 عندما ظهرت صورة شخصية الشيخ المتعصب <<أبو الأرواح>> ووجد أن تصاعد العنف الفعلي لعمليات الإرهاب الناتجة عن التطرف والتعصب في حياتنا العربية الممتدة من المحيط الى الخليج, وما فعله الطاهر وطار يختلف عن ما فعله بعده يوسف ادريس في قصته القصيرة <<اقتلها>> التي حاولت استبطان مشاعر الإرهابي – لكن من الخارج – وفي الحيز المحدود للقصة القصيرة, ومعنى الإرهاص نفسه موجود في رواية <<الأفيال>> التي تمثل محاكمة إبداعية للأسباب التي أدت إلى ظاهرة الإرهاب, على الرغم من ان رواية فتحي غانم لم تجعل شاغلها الأساسي اكتشاف الوعي الذاتي للإرهابي والتركيز الكامل عليه, إنما نظرت إليه بوصفه نتيجة, ولذلك غلب الاهتمام بالكشف عن الأسباب التي أدت الى تشكل الإرهابي على الاهتمام بكشف المكونات الداخلية للنموذج المترتب على هذه الأسباب. كما تظهر رواية <<المهدي>> القصيرة التي فرغ عبد الحكيم قاسم من كتابتها في الرابع والعشرين من شهر سبتمبر 1977 وتحكي قصة قرية <<محلة الجياد>> غير العادية الشوارع فيها تحمل أسماء والدور أرقاما, وتفرض وظيفة الأمثولة طبيعة بنيتها في رواية <<المهدي>> – من الزاوية التي تنبنى بها الرواية على تعارضات متوازية هى بمثابة لحمة البناء السردي وسداه, وأبرز هذه التعارضات يتصل بطريقين متقابلين في فهم الدين وتأويله بما ينعكس على أفعال الممارسة الحياتية, ويرتبط ثانيهما بالعلاقة بين المجموعة الدينية الضاغطة اجتماعيا وسياسيا من ناحية وممثل الدولة أو السلطة السياسية الفاسدة من ناحية مقابلة, ويقترن ثالثهما بالتعارض بين المثقف المدني داعية تحديث المجتمع والدولة والمثقف الديني داعية الدولة الدينية القائمة على التعصب للمذهب أو التأويل المختار من مجموعة بعينها.
الأمر نفسه ينطبق – بمعنى من المعاني – على مسرحية سعد الله ونوس <<منمنمات تاريخية>> التي تتخذ منطوقات المنمنمات التاريخية فيها طابعا بنائيا وظيفيا يجعلها أقرب إلى <<الاستعارة بالكناية>> حسب المصطلح البلاغي القديم, وتشير المسرحية إلى ثلاثة أبعاد للزمن, بعد الزمن التاريخي للماضي الذي تنقشه المنمنمات وتختزل به سبعة أشهر على وجه التقريب من الزمن الماضي الذي يبدأ من شهر محرم وينتهي في شهر رجب من سنة ثلاث وثمانمائة للهجرة, وهي السنة التي سقطت فيها دمشق أمام جحافل تيمور لنك أثناء حكم الخليفة أمير المؤمنين المتوكل على الله والسلطان الملك الناصر زين الدين أبو السعادات فرج بن برقوق الأول اسم بلا صفة والثاني غلام تولى الحكم سنة إحدى وثمانمائة للهجرة بعد وفاة أبيه السلطان برقوق وما تزال أيامه تذكر بالفتن والغلاء والوباء وطرق بلاد الشام فيها تيمور لنك فخربها وحرقها وعم ها بالقتل والنهب والأسر حتى تمزق أهلها في جميع البلاد, تلتقط مسرحية سعد الله ونوس من هذا الوصف العام التفاصيل الصغيرة التي تنمنم بها البناء المسرحي ما بين ثلاث رؤى للعالم الحديث المهزوم.
تضع هذه النصوص جميعا التعصب الديني سببا من أسباب الهزيمة, لكن في علاقته بغيره من الأسباب, وذلك في شبكة العلاقات التي جعلت النصوص الإبداعية تهتم بشخصيات التطرف وت نطقها, كل هذه المحاولات تعود بنا إلى هموم الرواية العربية وهموم المسرح العربي – في الوقت نفسه – خصوصا من المنظور المرتبط بحرص هذين المعنيين على متابعة سرعة تغيير عالمهما في تعدد جوانبه وتنوعه اللافت, ومن ثم تفرض السؤال عن عدم تركيز الرواية العربية أو المسرح العربي على حضور المثقف الإرهابي المنتسب إلى المجموعات المتطرفة المتمسحة في رايات الدين وشعاراته والنفاذ إلى أعماقه والكشف عنها, وهو سؤال يفرضه تزايد حضور المثقف الإرهابي من ناحية وتصاعد ممارسات العنف الكاشف التي سيمارسها في المجتمع من ناحية موازية, يضاف إلى ذلك الارتفاع الملحوظ لمعدلات ما ينتجه من خطاب قمعي اتسعت دوائره يوما بعد يوم إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه من كوارث يعيش العالم العربي نتائجها.
ويلفت الانتباه أن الأدب العربي في كل عصوره كان – ولا يزال – يواجه أشكال القمع المقترنة بالإرهاب سواء في إفراد أسبابه أو جمعها ساعيا في ذلك الى أن يستبدل بشروط الضرورة عوالم الحرية وبالظلم الاجتماعي العدل, وبالاستبداد السياسي الشورى أو الديمقراطي, ورغم القيود الكثيرة التي فرضت على الكتابة الأدبية واختلفت باختلاف العصور والعهود والأنظمة, فإن هذه الكتابة ظلت عبر عصورها المتعاقبة تواجه القمع المفروض عليها, وتستنبط من المقاومة بحيل المجاز والرموز والتمثيلات ما أنطق المقموع في الخطاب الاجتماعي والسياسي والفكري والديني, وما نزع براثن القمع والإرهاب التي اقترنت بأشكال التعصب.
مثال ذلك عندما لم تبدأ رواية <<أولاد حارتنا>> لنجيب محفوظ من العدم في مقاومتها الرمزية لظواهر القمع الفكري والاجتماعي والسياسي, وإنما بدأت من حيث انتهى تراثها السردي في تاريخنا العربي الإسلامي, وأضافت الى الوعي بميراثها منجزات العالم الإبداعي المعاصر, ولم تتواصل فحسب مع تراثها البعيد الذي يشمل <<كليلة ودمنة>> و<<حي بن يقظان>> وغيرهما من رمزيات السرد, وإنما أضافت إلى ذلك تواصلها مع تراثها القريب في اللغة الجميلة نفسها, ومضت في الطريق الذي سبقتها إليه رواية <<غابة الحق>> التي نشرت في حلب سنة 5681, ورواية <<الدين والعلم والمال>> الوعظية التي أصدرها فرح أنطون في مدينة الإسكندرية سنة 1903 مضيفة الى تقاليد السرديات الرمزية في تعبيرها عن رؤية من ينتسب الى عصر العلم والحقائق الذي يثير في حضوره الإبداعي الحراس الجامدين لمقولات التعصب الديني ونواهيه.
كما أن القمع العام دفع بالرواية العربية الى الاحتجاج عليه والكتابة ضده, وذلك على نحو غدت معه الكتابة الروائية عن القمع ملمحا بارزا من ملامح وجودها المعاصر ويذكر على سبيل المثال روايات <<الكرنك>> لنجيب محفوظ, و<<العسكري الأسود>> ليوسف ادريس, و<<تلك الرائحة>> لصنع الله ابراهيم, و<<حكاية تو>> لفتحي غانم, و<<الزينى بركات>> لجمال الغيطاني, وغيرها من النماذج التي تدل على استفحال وعي الأجيال الأحدث من كتاب الرواية بالكتابة المضادة لعنف الأجهزة القمعية للدولة, وذلك إدانة لهذه الأجهزة التي احتكرت مصادر القوة والسلطة في المجتمع لصالح النخبة الحاكمة واخترقت المجتمع المدني فأحالت مؤسساته الى امتداد لأجهزة الدولة, واعتمدت في شرعيتها على العنف والإرهاب بوساطة أجهزتها البوليسية.
وهذه الظواهر في الكتابة ليست جديدة بقدر ما هي راصدة لواقع النص الروائي العربي الرافض للإرهاب, وقد كان للويس عوض السبق في وصف أفعال العنف الكاشف لحركات الإرهاب وذلك في روايته <<العنقاء او تاريخ حسن مفتاح>> وهي رواية ظاهر فيها أفعال حركات الإرهاب التي انجرف إليها الشباب المصري في الأربعينيات خصوصا حين لم يبد في الأفق السياسي المصري – مع نهاية الحرب العالمية الثانية – ما يوحي بان تغيير أسلوب هذه السياسة يمكن ان يتم بغير إراقة الدماء, وذلك بسبب استحالة التفاهم بين المصريين والاستعمار الإنجليزي.
وإذا كانت الرواية العربية قد أرادت التعبير عن ظواهر القمع العربي, فإن هناك واقعا قامعا بالفعل للأديب العربي, وكذلك لنصوصه, يذكر منها جابر عصفور اعتراض جامعة القاهرة على تدريس رواية الطيب صالح <<موسم الهجرة للشمال>>, وما أن سمح بها في جامعة القاهرة حتى منعتها السلطات السودانية سنة 1996, وحدث ذلك مع محمد شكري الذي منعت الجماعات المتمسحة في الإسلام تدريس روايته <<الخبز الحافي>> في الجامعة الأمريكية, وكانت مجموعات مماثلة قد منعتها في المغرب من قبل بقرار شفاهي من البرلمان المغربي سنة 1996, وقد انضم جبران خليل جبران الى القائمة بروايته <<النبي>> التي كتبها بالإنجليزية, وليست بعيدة عن الأذهان الضجة التكفيرية التي أثيرت حول رواية <<الصقار>> للكاتب المصري سمير غريب, يضاف الى ذلك اتهام مارسيل خليفة بالإساءة الى الدين الإسلامي بعد أن غنى قصيدة محمود درويش التي ضمنها قصة يوسف سنة 1999.
وربما أرجعت هذه الأمور إلى الذاكرة ما حدث في مصر في هيئة قصور الثقافة عندما أعادت نشر رواية حيدر حيدر <<وليمة لأعشاب البحر>> سنة 2000 ثم ما لبث أن اعترض عليها أحد المتأسلمين وثارت ضجة كبرى حول النص والهيئة التي نشرته.
وقد أكدت النصوص الإبداعية المواجهة للإرهاب المخاطر التي لا تزال تترتب على الإرهاب الديني, ولا تزال تتكرر بأشكال متعددة مباشرة وغير مباشرة, وذلك على نحو تدميري يفرض تزايد مقاومتها بالإبداع الذي تتحدى نصوصه ممارسات الإرهاب, مع ذلك ظلت الكتابة الأدبية عن الإرهاب الديني أقل – كما وكيفا – من الكتابة التي واجهت الأشكال المدنية من الإرهاب السياسي او الفكري, فضلا عن أشكال القمع الاجتماعي, وقد ظهر ذلك جليا في النصوص الإبداعية المواجهة للإرهاب.
لقد شكل وعي جابر عصفور الدال على زمن الرواية نوعا من إعادة التأمل في القمع في صوره الحديثة, خاصة من زاوية العلاقة بين الزمن النوعي المول د للرواية العربية وأشكال القمع التي كانت دافعا من دوافع انبثاقها واندفاعها في مسيرتها الصاعدة.