هذا الكتاب دراسة هامة عن الكوميديا المصرية، بداية من أصولها في الثقافة الشعبية، وهو مقسم إلى سبعة فصول، تشرحها من ينابيعها كفكاهة شعبية من مواجهة الاستبداد كنموذج الفرفور ضد الاسياد، ثم ضد المخططين عند يوسف ادريس، ثم ضد الديكتاتورية وسجونها عن جميع العهود، ثم عفاريت مصر الجديدة، وأنت اللي قتلت الوحش لعلي سالم إلى أن يصل في الفصل السادس لسخرية جمال عبدالمقصود من دكتاتور القطاع العام، ولجنة تخطيط الأحلام ومحاكمة الأحلام غير الرسمية ( في مسرحية الرجل الذي اكل وزة) ومن الشمولية للقطاع الخاص عن عالم كورة كورة وأخيرا (حلم ليلة صيف قاهرية ) إلى الكوميديا المصرية في هذا الكتاب تحاول أن تحاكم الديكتاتورية بشكل فكاهي محض وحميت من كثرة الضحك عليه.
كوميديا الحكم الشمولي ما معنى تلك العبارة بالضبط؟
نبدأ أولا بكلمة الحكم الشمولي، آي أن هناك سياسة سواء كانت سياسة للقهر أو سياسة مضادة لها، وتلك السياسة ليست فقط مجرد الخطب ومنشتات الجرائد، والشعارات المؤقتة، ولكنه معنى اشمل وأعم هي الاتجاهات الاجتماعية والغيارات التاريخية الفكرية والسيولوجية المتصارعه على تشكيل أو تشويه روح الانسان وملامحه الوجدانية، ورؤيته للعالم ومصيره، وتحويل القضايا إلى مادة للترفيه وسيلة فعالة لإبعاد الجماهير عن السياسة أي من المشاركة الايجابية بدور فعال لإيجاد عن تشكيل المصير. ويشير الكاتب إلى أن مولد المسرحية ذات الموضوع السياسي المباشر من مصر يرجع إلى مسرحية «براسكا» أو مشكلة الحكم (لكاتبنا الكبير توفيق الحكيم ) وفي تلك المسرحية يسخر توفيق الحكيم من شكل التعددية الحزينة وما كان سائدا قبل 1952 ولكشف زيف لعبة السياسة ومشاجرات الأحزاب من أجل الحصول على الحكم ومغانمه تحت ادعاء الديمقراطية، وتمثيل مصالح الاغلبية، بينما الشعب نفسه يخسر وجوده الحقيقي واهدافه الحقيقية، حتى نصل إلى نتائج حكم المستبد العادل. التي بشرت به مسرحية الحكيم.
في مسرحيات المخططين ليوسف ادريس، وعفاريت مصر الجديدة لعلي سالم والرجل الذي أكل الوزة لجمال عبدالمقصود، لقد تحول الحلم إلى كابوس واقعي، فالاستبداد العادل قد جعل الواقع كله سجنا للمؤيدين، والمعارضين والذي لا يعرفون اذا كانوا مؤيديدين او معارضين وامتدت وتسللت الى التفكير والانفعال والسلوك، وقد عبر عن هذه الرؤية المحددة التي نشأت على يد الرائد العظيم (توفيق الحكيم) (ان مسرح الحكيم كان يقام داخل ذهن المؤلف ويخاطب ذهن القارئ او ذهن المشاهد ولم تكن خشبة المسرح مجاله الحيوي الوحيد ).
كل من نعمان عاشور، الفريد فرج، يوسف ادريس يتفقون على ملمع اساسي وهو (أن تتجسد الرؤية في شخصيات فصيحة الألسنة إلى أقصى مدى وهي بمثابة أبواق للمؤلف، قبل توفيق الحكيم واثناء حياته كان المسرح أكثر اعتمادا على مقتضيات خشبة المسرح وعلاقتها بالمتفرجين، على الرغم من قيامه على الاقتباس والتمصير، على قمة هذا المسرح الجماهيري تربع نجيب الريحاني وبديع خيري الذي هو صانع اكثر نصوصه. وكان هذا المسرح الحي يقدم في كشكش بيه مثالا كاركتيرا، وتجسيدا صارخاً لتناقضات مرحلة انتقاليه بين مجتمع تقليدي، وعلاقات سوق القطن والبورصه وخلافه، وبعد ذلك انتقل الى الموضوعات الاجتماعية التي تبين مفارقات الاوضاع، وقد أفرخ هذا المسرح الذي يستحق الاحترام في بعض جوانبه على الاقل خلفاً طالحاً ما اصطلح على تسميته بالمسرح التجاري الذي يتسم بالسطحية، والاسقاط السياسي التافه، حتى أصبح هناك هوة بالغة بين مسرح رفيع شديد الانعزال وبين مسرح وضيع شديد الحيوية، وتوالت منذ الخمسينات محاولات عبور المسافة بين المسرح الرفيع والطابع الجماهيري.
الفكاهة الشعبية هي محاولة لبناء عالم ثانِ، وحياة ثانية في مواجهة عالم التخويف والإرهاب في مقابل النبرات الجديّة التي تنمو خارج اطار الاستبداد الرسمي. حيث تكون بعيدة عن الوقار من مهرجين وهواة، ولاعبي الحظ، ولا تقف الفكاهة عن الكلمة والنكتة، وبعض التأليفات اللفظية، بل تتعدى ذلك الى العروض والمشاهد الكوميدية في الاسواق والتجمعات الشعبية، وتلك العروض ما تسمى عبد بعضها الكارنيفال التي لا تعرف اي تمييز بين الممثلين والمتفرجين. ان تجربة الاحتفال الشعبي من الموالد والسوق وساحة الفرح وموكب الحقان وشهور الحصار أو القطاف تجربة تقف موقف التضاد من كل ما هو مستبد جاهز جامد ومن كا ادعاء بعدم القابلية للتغيير. فمثلا سنجد الحط من شأن وفرض الجزمى على « ابو عمه مايله» وعلية القوم، كما يقوم بإلباس القرود، والمهرجين ملابس الفرسان والسادة. فالفكاهة الشعبية الى حد ما محاكاة هزلية للحياة الروتينية خارج هذا الاحتفال في خضوعها للقهر، فهي تنفي وتنكر بحكم أنها فكاهة شعبية.
من الملاحظ أيضا ان الفكاهه الشعبية محاكاة هزلية لأجناس الكلام والكتابة الرسمية الرفيعة وينتج عن ذلك أن اللعب بالكلمات والنوريات المختلفة والدخول في قافية لها وظيفة فكرية بالاضافة الى وظيفتها الفكاهية. ان المهرج او البهلوان يترجم كل ما هو مرتبط بالمكانة العالية ومظاهر الفعل الرسمي والتحكم الرفيع المقام والعبارات الروحية والمشاعر الرقيقه إلى لغة الجسم والطعام والشراب والهضم ونتائجه والحياة الجنسية، فمثلا السخرية من قواعد النحو في الفية ابن مالك، تتم عن طريق الهبوط بالفاعل والمفعول إلى المستوى الجسدي الشبقي أو التعامل المادي بالضرب أو تحويل اخوات كان مثلا الى بنات متأهبات للعناق أو المنادي وترخيمه الى مغازلة سعاد من النافذة.
ان من أهم صور الثقافة الشعبية واكثرها تعقيداً صورة القناع، والقناع في الفكاهة الشعبية في تبدلات الذات في اتخاذ مظاهر كاذبة للاستهزاء بها، وفي نحت ألقاب وأسماء تطلق للتهكم أو النحيب ومن المعروف أن ظواهر مثل المحاكاة الهزلية أو الكاريكاتير ولوي قسمات الوجه بالعبوس او اتخاذ أوضاع غريبة الاطوار او القيام بإيماءات كوميدية مستمدة جميعا من القناع. فمثلا جو العيد والاحتفال الشعبي، تخرج فيه الحياة من شقوقها وشكلها المألوف المقنن وتدخل دائرة حرية قصيرة المدى من جو العيد جو (الصور) المشتهاة في الملبس والمأكل والحركات والتغلب على الموت والخوف في الترفيه والفرح والضحك. لا شك ان الفرافير التي ظهرت على المسرح 1964 علامة بارزة من المسرح المصري العربي، وقد أثارت الرؤية الفكرية في المسرحية، خلافات عميقة، ومن أكثر الخلافات أهمية، ودلالة باقية، ما عبر عنه الناقد محمود العالم (ان هذه المسرحية تشيع مفهوما وجودياً فوضويا للحرية ما أخطره على حياتنا الثورية الراهنة (قبل هزيمة 1967 بوقت قصير.. ويوسف ادريس يتورط بالشطحات التجريدية المغرقة في مفاهيم مغلوطة التي هي لعبة الأدب الوجودي، ومسرح اللامعقول (الحرية المطلقة).. حرية بغير علاقة… بغير مجتمع.. بغير اطار بغير نظام شامل بغير انتماء… أنا وحدي في مواجهة العالم… أنا وحدي في عالم غير منطقي، دفاع عن الانسان للامنتمى، والاتجاه السياسي والفكري التي توضحه مسرحية فرافير والمخططين ويتقيدان لرفضه، يؤكد احتكار السلطة السياسية من قبضة أجهزة الاعلام، بل هو سيفرض (خطته) على الاقتصاد وعلى مواقع العمل وعلى النقابات وستشمل البيروقراطية وأجهزة الامن والدوائر الادارية ( اي أجهزة القمع الحاد) كم يفهم الحكام (مبعوثو العناية التاريخية مصلحة هذا الشيء العامل. وحينما تخلف «الدولة» الحاكم المستبد العادل فوق المجتمع المدني وتستولي وتتخلل كل مسامه فإن القوى الشعبية يفرض عليها الخضوع والاذعان، ويتم اقصاؤها بعيدا عن السلطة بل وتمارس السلطة ضدها، ولن تكون الدولة الاشتراكية المزعومة إلا غطاء ايديولوجيا مزود الاستغلال اقلية ضئيلة عمل الشعب من مواقع الانتاج جميعاً…. وستكون الدولة الاشتراكية (المزيفة) اداة لاغتراب العمل الحي والطبقات المنتجه جميعا عن ادارة الانتاج والتمتع بثمراته بل سيتحول العمل الى خدمة قسرية لأصحاب السلطات بلا كرامة أو مسؤولية.
ان مأزق الاختيار بين استغلال الرأسمالية وشمولية الاشتراكية البيروقراطية مأزق يتعلق بمرحلة تاريخية عابرة من بلد أو مجموعة بلاد، أن المسرحية لا تصوره مأزقاً يتعلق بدرجة نضج القوى العاملة من حيث الوعي والتنظيم وقوتها او ضعف قوتها على الإمساك بزمام الأمور في مواجهة لصوص اليمين ولصوص اليسار معا ومدى قدرتهم وحركتهم بل ترى هذا المأزق صفة جوهرية في الوضع البشري نفسه وفي صميم طبيعة العمل. فلا خلاص من فقدان الحرية، وهي لا تستشرق أفقا محتملا للحرية على الرغم من انها تدعو السادة المشاهدين الى التفكير العميق (العقيم) في تربيع الدائرة وحل مشكلة هي بطبيعتها كما تصورها المسرحية مستحيلة الحل وليست صعبة الحل فحسب.
مسرحية المخططين ليوسف إدريس تعتمد على تقاليد الفكاهة الشعبية في بيتها العالمية العامة، وعناصرها المصرية (خاصة) لكي نتناول هذه القضية الفكرية المجردة (قضية الحرية) كما فعل من قبل من الفرافير. تعتمد تلك المسرحية على التلاعب في اللغة كأداة ايضا للتلاعب بالعقول والسلوك، فسنجد في الفصل الاول الزحيل «فركة كعب» يقول انه يشرفه أن (اخاوتك) «توبخني» وحينما ينظر إليه الآخ يقول المعنى العكس « تشجعني» ثم ينحت الكلمتين المضادتين في مصطلح واحد هو «توشجعني» وفقا للسان الجديد عند اورويل او ما يسمى في رواية اورويل news speak التي صدرت 1984 لتعبر عن نظرة (الحزب) الى العالم وعن العادات العقلية الصحيحة لأعضائه.
فالحزب يستخدم الحروف الاولى اختصارا للكلمات، ونجد شخصيات المخططين يستخدم الحروف الأولى للتعبير عن التحيات، والمؤسسات، فالشمولية عند اورويل وفي المخططين لا ترجع إلى شروط موضوعية او علاقات اجتماعية، بل تأتي باعتبارها نتيجة تآمر تحركه رغبات وأفكار شريرة عند قادتها.
خذ «الأخ» عند يوسف ادريس. أول ما نلتقي به نجد اعين المتآمرين أو الأتباع يتطلع الى السماء ونزل الاخ من صوت طائرة هليوكبتر بحبل غير مرئي، ان صفاته «الآلهية المزعومة واضحة حتى قبل الحكم في مرحلة الاعداد للانقلاب. لماذا يخافه الاتباع وهو يتأملهم بنظراته النفاذة ويلومهم لأنهم فهموا أوامره فهما غير «مخطط». لقد أمرهم أن يجيئوا متنكرين، فجاء كل منهم «عامل نفسه حاجة» متنكرين من اشياء (تيمة القناع في الفكاهة الشعبية) في جنيه او عربة اتوبيس 56، وبذكرهم الأخ ان مبدأهم الاول هو إلغاء فكرة ان كل واحد يعمل نفسه زي ما هو عايز»..
لا شك أن تلك المسرحيات وغيرها التي تناولها الكاتب بالمناقشة تبرز نقطة محورية هامة (ان قضية الحرية الانسانية مهددة بالخطر في عالم اليوم من الغرب والشرق والجنوب على السواء. والشمولية ليست فقط شكلا لهيمنة دولة أو حزب فحسب.. بل قد تتجاوز ذلك ليصبح نظام إنتاج وتوزيع نوعي يمكن ان يتمشى مع تعددية الاحزاب والصحف وفصل السلطات يحارب الحرية بغرس حاجات مادية وعقلية تعمل على استيفاء وتدعيم الاشكال البالية للوجود الانساني والصراع من أجل البقاء.ففي بلاد العالم الثالث انواع مختلطة من النوعين يترعرع كل منهما في أحضان الآخر ويتربى في عزه.. وقد نجد هذا في كوميديا،، عفاريت مصر الجديدة « من مسرح علي سالم تعرفه المسرحية احتفاء للمواطنين بعد انطفاء النور وكأن العفاريت اختطفتهم ويتسع نطاق الاحتفاء ويضخم الجدال والشائعات المسألة وكأنها ظاهرة خارقة للطبيعة تقوم بها قوى خفية، حتى ضد الطائرات والغواصات الاجنبية وتسلط المسرحية الضوء من بين الضحايا على اثنين رجل قانون وصحفي مغمور لا يتعدى قدراته صفحة خطك اليوم ولغز الكلمات المتقاطعة.. وهذا الاختيار العشوائي من جانب المسرحية للشخصيتين يشير الى دلالة بعيدة عن العشوائية وفكرة الاعتقال نفسها (القبض التعسفي) لا يفترض جريمة ارتكبت ومحاكمة عادلة أو غير عادلة انها تختار عينة غير نموذجية لنشر الفزع العمومي والسلبية ومزيد من الانصياع والحيرة في البحث عن الاسباب.. وفي ارتباط لا ينفصم بالظلام والمعتقلات تنعقد لجنة بيروقراطية متعددة الكفاءات لبحث المسألة، لجنة تستعين بالخبراء الاجانب ومن الاشياء الغريبة في هذه المسرحية أن مأمور القسم لم يسمع عن المعتقلات.. ولا يسمح باستخدام أساليب البحث عن الحقيقة من فم المعتقلين فقد جعلته المسرحية ينتمي الى فنتازيا الأمن الوقائي. وهناك شعار آخر في هذا العالم العجيب، فالصحافة في خدمة الشرطة» وقد تم فصل الصحفي المسكين الخارج من المعتقل ففتح مكتبا حراً، فللمواطنين حقوق تعددية من أن ينشئ كل مواطن وكل بقايا انسان مكتبا للتنويم المغناطيسي وقراءة الطالع والكف والفنجان وحاجات زي كده، فحينما تعمل الشمولية على حرمان الناس من طمأنينتهم تخلق حاجات زائفة مثل اللهفة على معرفة الطالع ويتسع نطاق الزبائن، (فالحمد لله أنهم رفدوني.. أنا فاتح بقالي يومين جالي فيهم 64 جنيها، قسم الفنجان لوحده جايب امبارح 15 جنيه، ونعجب مرة ثانية لأن الذي يحاول حل اللغز المحلول هو المأمور، كل الناس تعرف ما يحدث في المعتقلات، ولكن المأمور يكتشف المسائل الواضحة، ويعلن عن مؤتمر صحفي لاعلان الحقيقة..
وينطفئ النور ويختفي المأمور ولكن زوجة دكتور القانون وعريف كانا من أنصار التعذيب بدآ في الدراسة يواصلان الطريق على ضوء شمعة يقرأ الملفات، وان شمعة داخل مركز من مراكز السلطة هي بداية الطريق الى الوقوف في وجه جحافل الظلام. وان كان هذا ليس معنى كبيراً وإنجازاً بالغاً لأن هذا الاختيار الحر للسادة لا يلغي العبيد، كما يقول ماركيوز ان الاختيار الحر من بين تشكيلة واسعة من السلع والخدمات والرقصات وفرق الكرة لا يعني الحرية، اذا كانت هذه السلع والخدمات تدعم القيود الاجتماعية على حياة روتينية بلا ابداع، ممتلئة بعدم الطمأنينة للغد وتدعيم اغتراب الانسان وتحويل الناس الى اوعية سبق تكييفها، الرجل الذي أكل الوزة (وزة) ظاهرة فريدة من النصوص المسرحية ومثلت على مسرح الطليعة عام 1985 ووزة الحلم تنبت لها اجنحة واقعية شديدة الصلابة وتواصل تحليقها، وطبعتها الهيئة العامة للكتاب عام 1986، وجدت احتفاء عظيما عند ما يزيد على اربعين فرقة مسرحية..
هذه المسرحية لا تتعرض للفترة الناصرية بأي عداء من حيث تقييم هذ الفترة الوطنية من تاريخ مصر. ان الست أم حسن مسؤولة التثقيف في الاتحاد الاشتراكي نراها بعد ذلك مرتدية «الجينز» حاملة السامسونايت مسافرة الى الغرب وعائدة من عند الحبايب الرأسماليين في فترة غير الفترة الناصرية ولذلك ليس من العدل ان ندعي عداءها لفترة على حساب فترة اخرى، ايضا لن نجد عنده ستار الختام، وقد اغلق على سؤال أو توكيد لسؤال كما هي الحال في المسرح « الجاد» أو على اجابة نهائية كما هي الحال في المسرح «التجاري» ولكننا سنجد الحالة الفردية الواقعية بعيدة كل البعد عن ان تكرر نفسها من آلية.. بل سنجدها وقد تعرضت لاختبار في اوضاع مختلفة بل سنجد النص يمدها على استقامتها حتى نهايتها التي تكاد ان تكون فانتازيا أو خرافة يصعب تصديقها وعلى الرغم من ان تلك الفانتازيا خالية في الواقع من البهجة ومترعة بالمواراة، فإنها تصبح على خشبة المسرح ووسط الجمهور خافلة بالمفارقة المضحكة التي توقظ الوعي على المسؤولية والفاعلية. دون انتظار مستبد عادل أو ان تمطر السماء أبطالا ايجابيين محشوين بالطنين ودون استرخاء على ارائك تفاؤل كاذب، كوميديا « الرجل الذي أكل وزة» تمسك برقبة الاوضاع الشاذة الاستبدادية، وتنزع عنها ثياب التفكر التقدمي أو الديمقراطي وتطلق امكانيات التجدد والخصب.
حلم ليلة صيف، هذه دراما بطلها رجل رأى حلماً ليلة عيد ميلاده في فصل الصيف، البطل جالس على ربوة نضيرة خضراء مزدهرة وأمامه مائدة متألقة من النحاس عليها وزة أنضجها الشواء، فاكتسبت اللون البني الشهي، مأدبة للعين والحواس جميعاً في أمن وطمأنينة. ورغم أنه حلم شخص إلا انه حلم يشترك فيه الآلاف من عيون الفقراء، انه اشواق المحرومين الى الوفرة والشبع والحياة الجديدة بأن تعاش، إلى العدل والستر، وهذه الكوميديا ليست موجهه ضد مرحلة بعينها من تاريخ مصر السياسي فهي تتعمد تصوير التداخل بين مراحل الزمن سواء العامة او الشخصية وبين الحلم واليقظة ان عم (بحر) في الفصل الثاني، معتقل تخطى السبعين من عمره، دخل المعتقل شابا وترعرع وشاخ ووصل إلى الطفولة الثانية، ونبتت له أسنان اللبن من جديد داخل المعتقل في عيد الربيع وشم النسيم أثناء احتفال اقامه الجلادون في وليمة تعذيب حارق، جعلت من المعتقلين فسيخا ومن جلودهم بيضا ملونا. ان البطل في تلك المسرحية انسان معذب، ذو شخصية رقمية كان يظن دائما ان صحته الرقمية على ما يرام. وجاء العلم كعلامة من علامات استفهام، وجاء المعتقل والتعذيب والمحاكمة ليكتشف من مرارة زيف الوعي السائد الذي كان أسيرا له، ولينفصل بوعيه عن عالم الكتل المبرمجة آلياً لصالح قوى معينة في السوق الحرة أو غير الحرة.
عالم لا يكون فيه الانسان مسؤول عن مصيره. في حلم منتصف ليلة صيف، تنتصر الخضرة والحياة والحب على الجدب والموات مرورا بعالم جان وجنيات ونظرات سحرية توضع مداعبة في العيون، تجعل الحمار أميرا جميلا معشوقا وتدخل التحولات على الكائنات، وفي المسرحية الكلاسيكية لا توجد حدود فاصلة بين الحلم واليقظة التي بها نخرج من الحلم والخضرة الى يقظة يملؤها الفرح، وتجدد للحياة وعناق بين الأحبة وفي مسرحيتنا المصرية لم تكن القطرات السحرية في العيون مداعبة، بل صورة فكرية انفعالية للعامل تنصب بها صفوة مسيطرة كل العيون قسراً وتحول الناس الى مسوخ الوزة الى قصر للحكم والفرد الخائف المذعور الى ارهابي دموي، وتطيل الآذان وتحول الانفعالات إلى علب محفوظة، ونعود بها عودة تامة الى كوميديا شكسبيرية.عالم كورة كورة _ هذه المسرحية عرضت في الاسكندرية، ثم القاهرة (مسرح سيد درويش والمسرح العائم) في شهري اغسطس وسبتمبر 1987م. لم تكن المسرحية مجرد دعوة اخلاقية حميدة الى نبذ التعصب لهذا النادي او ذاك، بل تربطه (آي التعصب) بمظاهر اخرى مثل الحركة الثقافية والعلاقات الانسانية عموما فكرة القدم ليست إلا جزءا صاخبا من مشروع سياسي ايدلوجي ضخم وصناعة كبيرة في مجتمعات «الاقتصاد الحر» والعالم الثالث للتسلية وقضاء أو قتل وقت الفراغ وقتل القدرات والخصائص الانسانية معه. وتسلط المسرحية الضوء على افراد مبعثرين منعزلين يعيشون معا في حياة جماعية مزيفة عبر الانتماء الى هذا الفريق او ذاك أو المشاركة في حب ممثلة أو مطرب أو كاتب مشهور. فمثلا تتحول الجمعية الثقافية لرابطة مشجعي الكرة إلى شيء للتسلية. فهناك قوى تحول الكتب إلى معلبات ومستودعات للأوهام وتخلق اذواقاً ورغبات وآمالاً موحدة قياسيا وتعمل على نشر المتعة الكاذبة والاثارة المفتعلة، روايات عاطفية صارخة وبوليسية وقصص ومغامرات لخلق عالم وهمي كاذب. وكذلك لعبة الحب، فالمسرحية تصور باحكام تضافر الالعاب جميعا : الكرة والثقافة والحب على خلق عالم وهمي بديل لشقاء وسلبية الناس، يعيش الناس فيه بعد أن كتبوا توكيلا عاما لأبطال الكرة والسينما والمسرح والثقافة والطرب. وتشير المسرحية الى ضخامة مؤسسة كرة القدم ونفوذها الهائل، فهي مؤسسة تجارية وإعلانية عملاقة تشغل وقت ملايين الناس وتقوم بشراء النجوم المحترفين والمدربين والدعاية والاعلان وتنظيم المباريات، ولا يسأل أحد ما فائدة كرة القدم بهذه الطريقة للمجتمع والناس، للذين يمارسونها وهم آحاد وللذين يتفرجون عليها وهم ملايين. لقد أصبحت عقيدة غير سماوية لا تناقش. لا أحد يسأل عن أهداف اللعبة نفسها ويسأل الملايين عن أهداف المباريات. هدف الكرة هو الانتصار فقط، لذلك تسمى المسرحية بأن يكتشف آحاد هذه الأسئلة بعد أن تعلموا من تجربتهم المباشرة ان هذا المنطق قد حطم حياتهم وفرض عليها الظلام، فيدعون المتفرجين الى تنظيم سياسي مناهض لطريقة ممارسة اللعبة ولغش قواعدها.
ان الجديد في المسرح السياسي عند جمال عبدالمقصود، ان الحوار لا يتحول ابدا الى مناقشة قضايا مجردة، وأن المؤلف لا يختار من بين شخصيات مسرحياته شخصيته تكون بمثابة بوق او مكبر صوت لآرائه، فلكل شخصية ملامحها وسحنتها الانفعالية من الحوار، ولا تتعثر الألسنة بالقوالب الفكرية الجاهزة. ولا يدور الحوار بين الشخصيات داخل لوحات متتابعة تكاد ان تكون منفصلة او داخل اطار هزيل يحاول الإمساك بخيط الحبكة، بل يدفع هذا الحوار الفعل الى الامام رابطا بين المحاور الثلاثة لمسرحية عالم كورة كورة في نسيج موحد، شمولي، تعددي في آن واحد..
وعلى الرغم من أن المسرحية السياسية عند جمال عبدالمقصود فيتناول عادة قضية واقعية ساخنة مثل الاعتقال أو التعصب الكروي، الا انها لا تقف عند سطح القضية المؤقتة، بل تنفذ إلى أعماق انسانية عامة في معركة حرية الفكر والانفعال والسلوك وتجيء العامية الفصحى عنده بحيويتها وتألقها لتربط بين الشخصيات والجمهور في لقاء حار يحرك الفكر والعاطفة.