كتابات التراجم في تاريخ الأدب العربي تعد نوعا أدبياً مميزاً في الكتابات العربية الكلاسيكية، ولقد تطور هذا النوع الأدبي في مجمله ليتداخل مع علوم أخرى كالتفسير والحديث والفقه والآداب والنحو والتاريخ ثم توسع إلى نطاق الفرق والمذاهب: حتى يمكن الجزم في ذلك أن كل صنف علمي يختص بقواميس أعلامه ولكأنها أجناس أدبية لكل صنف منها، فمن مشاهير المصنفات كابن سعد (ت230|825) في «الطبقات الكبرى» أو ابن سلام الجمحي (ت231|846) في «طبقات فحول الشعراء»، إلى السير الشخصية كالسير النبوية المدونة عن النبي عليه السلام. أما الفهرست لابن النديم فقد حفظ لنا ذكر بعض بدايات المصنفات العربية في هذا الشان كأمثال أبو مخنف (ت157|774) في مصنفاته «كتاب المختار بن عبيد» و«كتاب زيد بن علي»، أو ابن الكلبي (ت206|821) نحو«كتاب ابن العباس بن عبدالمطلب» و«أخبار مسيلمة الكذاب وسجاح»..
بل إن منها ما تطرق إلى ابعد من ذلك، إلى الأسماء والكنى ونحوها مثل «كتاب من نسب إلى أمه من الشعراء» و«كتاب المختضرين» ومعناه من مات في شبابه للمدائني، و«المحمدون من الشعراء وأشعارهم» أي بمن سمي من الشعراء باسم محمد لجمال الدين القفطي (ت646|1248) . أو المهن ككتاب «أخبار القضاة» لمحمد بن خلف الواقي (ت306|918) أو «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة (ت668|1270) لتتعدى إلى مشاهير وأعيان سكان المدن بغض النظر في مواضيعها وسجلاتها مثل «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي، أو «بغية الطلب في تاريخ حلب» لأبن العديم العقيلي (ت588|1193)، و«كتاب المقتبس في تاريخ أهل الأندلس» لابن حيان (ت469|1076). كذلك أبي حاتم السجستاني (ت248|862) سجل تراجم المعمرين«المعمرون والأوصياء»، إلى تراجم أصحاب العلل والعاهات كجمال الدين الصفدي في «نقط الهيميان في نكت العميان». أو الجاحظ (ت255|868) في «البرصان والعرجان والعميان والحولان». ثم طورت معها مصنفات كالتذييلات « فوات الوفيات» لمحمد بن شاكر الكتبي (ت764|1363) و«عقود الجمان وتذييل الأعيان» لمحمد بن بهادر الزركشي او المختصرات مثل «الوافي بالوفيات» للصفدي.(1)
ولكثرة الإسهامات العربية في هذه القواميس اعتقد المستشرق روسننثال :« أن أكثرية المسلمين تتصور التاريخ ما هو إلا مقابل المعنى للشخصيات»(2). أما هاملتون جب فقد كان اقل حدة في هذا الأمر في إشارته:« أن مؤلفات قواميس سير التراجم عند العرب تطورت وارتبطت في آن واحد مع الكتابة التاريخية»(3). وهذا ما اتبعه بروكلمان بإشارته أن التدوين لتواريخ المدن والأقاليم والأمصار لا تتكون في الغالب إلا من أخبار أعيان مدينة ما أو مصر ما.(4) وهذا ما يمكن ملاحظته بوضوح في الكتابة التاريخية الكلاسيكية عند العرب وتأثرها بالسرد عن الشخصيات في سياق الأحداث فالبعض ينهج بالتسلسل الزمني كنحو الطبري وابن الأثير والبعض الأخر بتسلسل السلطوي.
والذي يمكن إدراكه بوضوح من هذه القواميس ما تعكسه عن اوجه متعددة للمجتمعات والثقافات في الحضارة الإسلامية وتتلمس جوانب معرفية في محتوياتها ليست فقط عن الشخصية «المتقصاه» في سلوكياتها الفردية بل إلى أخبار العامة والمجتمعات في الحضارة الإسلامية. فيبدو لنا أن أساسية هذا الفن بدأت من السنة الرواة والإخباريين والنسابة وامتزجت لتكّون هذا الفن الأدبي وهذا يتضح مع ابن النديم في المقالة الثالثة حيث جعلها في فنون الأخبار والأدب والسير والأنساب.(5) ولذا اعتقد بروكلمان أن أساسية هذا الفن الأدبي بدأ ب: « …..جمع الأخبار عن أعيان الرجال المشتغلين بغير علم الحديث ولاسيما الشعراء وعلماء اللغة. وذلك على نمط كتب الطبقات التي خدمت علم الحديث».(6) فنشأة هذه المدونات بدأت مع حركة التأليف التاريخي مع بدايات العصر الأموي وارتبطت بالجغرافيا والفتوح ومن ثمَّ يرجع تبلورها إلى صدرِ الإسلام.(7) لكن هذا الجنس الأدبي بأشكاله المتعددة والمتنوعة جذب اهتمام العديد من العلماء والباحثين إلى دراسة فنية الكتابة في قواميس السير والتراجم ومناقشة مواضيعها ابتداء من: جب(8) أو ليختنسادر(9) أو روسننثال أو هومفرايس(10) أو هاملتون جب أو طريف خالدي(11) أو اوخترلوني (12) أو ابياد (13) أو أخيرا وداد القاضي(14). كل اخذ منحى لدراستها ومن زوايا مختلفة لكشف ما تبديه من اوجه معرفية في الثقافة الإسلامية. هذه المصنفات ذاكرة عامة لشخصيات التاريخ الإسلامي ومنهج اختط ليشكل ظاهرة أدبية في الكتابات العربية الكلاسيكية فهي تبرز حقلا واسعا عند تتبعها في تطور الذهنيات عند العرب والمسلمين والشعوب التي دخلت معهم في الحضائر والأمصار بما تورده من تراجم لشعراء وعلماء وأدباء وكتاب. ثم إنها أحيانا كذلك تعطي ضبطا دقيقا للمجال الجغرافي والعلمي المكونة لتلك الشخصية، إضافة إلى انتماءاتها العقائدية والفكرية.(15) وبما أن الخلفية التاريخية لطبيعة وماهية هذه المصنفات (قواميس البيوغرافيا) في الثقافة الإسلامية قد درست من فبل، إذا لا داعي لاجترار التكرار من الخلفية التاريخية وتعديد أهميتها.
I- و لكننا سنتجه في هذا المقال للتحدث عن تطور الكتابة الفنية لقواميس التراجم (البيوغرافيا) وسير الأعلام في عمان، بتتبع هذه المصنفات ومحاولة البحث من خلالها عن الانعكاسات للأوجه الثقافية لعمان. حيث أن الدوافع للكتابة عن هذا الجانب أولا لعدم ظهور دراسة تعنى بهذا الجانب عند العمانيين وقد يرجع ذلك إما لان التصنيف في هذا المجال حديث نسبيا مقارنة بوجودها (القواميس) في التراث العربي، وإما السبب الأخر هو لظهور كتابات حديثه ومتعددة في دراسة مصادر التاريخ العماني والتي تعد سمة مميزة لكشف جوانب من الثقافة العُمانية،(16) لكنها خلال دراساتها لا تفرد لها بابا أو فصلا مميزا ولكنها عادة ما تدرج هذه الكتابات تحت مسميات «التراجم والسير». فهذا المزج بخفي وجودها من الكتابة العُمانية وبعثها هو التقصي لتراث وفنية إبداع المصنفات العُمانية.
ومن هذا المغزى سنحدد خطواتنا في هذا المقال أولا بحصره على الجانب الإقليمي المتمثل في عمان. ثانيا محاولة حصر وتوثيق هذه المصنفات، ومن ثم ستتناول دراستها من جانبين: التاريخي، وهو دراسة تطور تدوين هذه الكتابة في عمان، وأما الجانب الأخر فهو استقراء للأنماط الأدبية المستخدمة عند العمانيين في كتابة هذه المصنفات وعرضها. وأخيرا سنركز في تحديد رؤية الكاتب من تصنيفه بمعنى المنظور الذي يحاول المصنف رسمه من اجل إبراز الأشخاص المدون عنهم بمحاولة فهم البعد الثقافي أو الاجتماعي المنعكس من رؤية الكاتب.
إن الصعوبة التي نواجهها منذ البداية هو تحديد موقع مصنفات (قواميس البيوغرافيا) ضمن البيلوغرافيا(قائمة الكتب) العُمانية قصد تحديد ماهيتها. فتداخل اختصاصات مضامين المصنفات قد يكون بحكم تداخل المحاور وإما لتعدد المواد المعرفية المتعلقة بها. فالمحاور التي تتداخل بحسب رؤية المقال في قواميس البيوغرافيا (بشكل إجمالي) ثلاث نواح: 1- مهنية ، 2- علمية 3- إقليمية . بطبيعة الأمر، أن تحديدها لا يشكَّل صعوبة في الدراساتِ العربيةِ إجمالاً، لكنها بالنسبةِ للدراساتِ العُمانية فإن الصعوبة إما لفرزها وضم البعض منها إلى الكتابات الأدبية من شعر ونظم، وإما عدَّها مسبقاً ضمن المصادر التاريخية العُمانية، كما أشير إليها سابقا،(17) وهذا ما يتضح على سبيل المثال من ترجمة بادجر لعنوان «الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيدين» بعنوان» History of Imams and Seyyids of Oman»(18) . حيث ترجم سيرة بمعنى تاريخ والأولى بان تترجم إلى «biography».
II- ولما كان بغية هذا المقال أولا التتبع التاريخي لبدايات هذا اللون من الكتابة وهو دراسة بدايات تدوين مصنفات كتب قواميس البيوغرافيا في عمان، فان البداية تتعين علينا النظر في تغطية المؤشرات الأولى عن كيفية التتبع حول شخصية عمانية ومحاولة إعطاء ملامح وروافد أوسع لربط الأصول الاجتماعية لعناصر التراجم وحركتها خارج الإطار الجغرافي العماني.
فلإكمال إطار أي دراسة في التاريخ أو التراجم لابد لبنية تلك الدراسة من أن تتم بالجمع ما بين المصادر الداخلية والخارجية معاً في آن واحد وبدون أحدهما لا يمكن إكمالها. نعم ذلك أمر مدرك لأي دراسة، ولكنها تعنينا في هذه الدراسةِ من أمور عدة :
أولا: لهجرة كثير من القبائل والشخصيات العُمانية في القرون الأولى للهجرة خصوصا إلى العراق وشرق بلاد الرافدين، هذه الهجرات سواء فردية أم جماعية تفقد الكتابات العُمانية في أيراد معلومات مستوفية عنها، فعلى سبيل المثال يورد العوتبي معلومات عن عائلة المهلب ابن أبي صفرة لكن تتبعه التاريخي ينقطع مع القضاء عليها في أيام يزيد بن عبدالملك (102|720).(19) فالتتبع التاريخي لهذه العائلة العُمانية يستلزم تتبعا أوسع عن انتشارها وأعمالها، وهذا ما أورده تاريخ جرجان(20) فهي موازاة تتم بخيوط عدة لإكمال هذا الوجه عن التواريخ. وهكذا إذا ما تتبعنا شخصيات عمانية أخرى كمازن بن غضوبة نجد كتابات التراجم العُمانية تغفل في ذكر أخباره بعد تاريخ إسلامه ولكن كتابات ابن الأثير في «أسد الغابة» وابن عبدالبر في «الاستيعاب» توضح لنا هجرة وانتقال أحفاده من بعد إلى أذربيجان وأحفاده على واحمد بن حرب (وهما من علماء الحديث) حيث توفي الأول في الموصل والأخر بساحل الشام. وكذا إذا توجه للبقية عن كشفِ جوانب من تواريخِ أعلام عمان كجابر بن زيد والخليل بن احمد وابن دريد والمبرد لا حصرا، لا تسعفنا المصادر العُمانية في هذا الجانب للإلمام بتوسع في المعرفة عنهم. لذا تبقى المصادر العربية غير العُمانية للتوسع في هذا المجال أرشيفا مهما للتقصي وحتى الحديثة منها كمشاهير الشرق لجرجي زيدان او الأعلام لزركلي.
ثانيا: للتحول التجاري مع الشرق في القرنين 10 و11 من منطقة الخليج إلى البحر الأحمر ثم مصر ومنها إلى أوروبا على اثر قيام الدولة الفاطميين فتح المجال التجاري إلى بدايات الهجرات العائلات العُمانية إلى شرق أفريقية والاستيطان على امتداد الساحل الشرقي، وقد ظل تتابع الهجرات والاستيطان لشرق أفريقية متواصلا لمنتصف القرن العشرين. لكن تكاد أن تكون شحيحة الحصول على أية معلومات حول هذا الجانب من المراجع العُمانية.
ثالثا : وهو الأمر المشار إليه سابقا تأخر هذه الكتابات في عمان أو لفقدانها مع كثير من المصادر العُمانية، فمن المراجع غير العُمانية نستطيع أن نستشف المجال الحركي لهذه الشخصيات.
III- بدايات كتابات البيوغرافيا في المصنفات العُمانية: إن القصد منه الإشارة التي يمكن الاستدلال بها على بداية هذا التصنيف في عمان والذي يمكن إرجاعه بحسب ما ذكره نورالدين السالمي إلى احمد بن النظر(ق6|12) الذي ألف كتاب سلك الجمان في سير أهل عمان في مجلدين لم يوجد منهما بعد الحرق إلا تسعة كراريس.(21) ولفقدان الكتاب كل ما يمكننا هو التمعن في كلمة «سير» التي تشير إلى أن الكتاب يتحدث عن تراجم بعض أعلام أهل عمان، إلا أن الاعتقاد المرجح إن الكتاب كان يشمل الكتابة التاريخية عن عمان اكثر من اشتماله على تراجم أو سير الأعلام.
وهنا نتساءل هل يمكننا أن نصدر بيانا قاطعا في هذا المجال سواء كان بدحض أو تأييد ما إذا كانت هناك أي كتابات سابقة عليه؟ إلا أنني في اعتقادي بحسب ما يمكن تتبعه حتى الآن لم يقم برهان لأي كتابات من هذا الجنس بين العمانيين إلى ذلك الوقت، والبرهان على هذا البيان هو بحكم الضرورة غير مباشر وهذا أمر طبيعي لأنه يندر أن يثبت الحكم القطعي على قضية بطريقة مباشرة بدون براهين: أما في حالات وجودها فيستدعي الأمر التقدم بالبراهين الواضحة لإثبات صحتها والعكس صحيح لإثبات البيان السلبي. لكن الافتراضات واسعة وممكنة وقد تندرج بحكم البدايات في تطور الكتابة الفنية في عمان خلال القرنيين 10و11م من مصنفات ابن بركه والكدمي وأبي الحسن البسيوي وأبي المنذر العوتبي وأبي بكر الكندي. وان كان مما يشار إليه هنا أن مثل ابن دريد من الذين ظل التصاقهم المكاني بين عمان والبصرة وكتابة « الاشتقاق» لما يوجد من إشارات متصلة ضمنها لكن لا يمكن الأخذ به كنموذج في هذه الدراسة لاختلاف ماهية الكتاب.
فالتطور لهذه الكتابة جاء تدريجيا من بعد ابن النظر ابتداءً من سيرة عبدالله بن مداد (ق9|16) المشهورة بـ«صفة ونسب العلماء»(22) التي قد تكون بحق المصدر الأساسي في معرفة علماء عمان للمصادر اللاحقة. وقد اعتمدت أولا على السرد بتتبع معرفة الأعلام العلماء العمانيين وكيفية وصول العلم (الشريعة) ابتداء من ابن عباس إلى العلماء العُمانيين في البصرة ثم علماء عمان من حملة العلم وبشكل تدريجي إلى القرن 5|11 ، ثم عن العلماء الذين من بعدهم ثم بفصل عن أئمة عمان وفترات حكمهم: ولكن السيرة لم تتقص لنا تواريخ وفيات العلماء وأخبارهم في حين إنها اقتصرت على تعدادهم. إن التميز الذي يمكن الإشارة إليه في هذه القائمة هو أن الرؤية الدينية (في إحصاء علماء الشريعة) شكلت كتابة هذه القائمة لتصبح من بعد منهاجا لقوائم متعددة ظهرت من بعد ذلك، أو أجزاء من محتويات كتب كنحو: خميس بن سعيد الشقصي(ق11|17) في الجزء الأول من «منهج الطالبين»، وأحمد بن سعيد الخراسيني (في أواخر القرن 11|17) « الجزء الثالث من فواكه العلوم في طاعة الحي القيوم»، ثم تبعت هذه الكتابات من جميل بن خميس السعدي في «قاموس الشريعة» في الجزءين الثامن والتاسع إلى الفصل التاسع والثلاثون من «كشف الغمة». إن ابرز ما نستنتجه من هذه المصنفات من صياغتها لتقديم المعطيات حولها أن هناك قاعدة ثابتة في بناء النص في هذه القوائم وهو ما يعطي هذه المصنفات نمطية ونسقا متكررين ومتداولين، فالنص ذو بناء كمي يقوم على سرد ما يمكن عدّهُ من العلماءِ بدون فرز الأسبقيةِ الزمنيةِ أو الترتيب الأبجدي حيث يتم حشر النص بالعددِ الممكن عده من العلماء بدون رؤية أو منهجية للترتيب. أما من حيث المنهج المتبع فالقاسم المشترك في الأسلوب يكاد التشابه الواضح فيه أن يكون نقلا مباشرا في ما بينها من السابق إلى اللاحق. فالتكرار يفيد وجود القاعدة المشتركة، أما النص في هذا الصدد فهو تراكمي يقوم في كل مرة على تغذية القائمة بالعلماء إلى فترتها، فينطلق المصنفون من سجلات ووقائع ثابتة ومتعارف عليها، فهي أشبه ما تكون بالمتواترة.
لكن إذا تمعنا في هذه القوائم للبحث عن مصادرها فإنها على ما يبدو قد اعتمدت على كتابات سلاسل الإسناد العلمي (أو رفع حملة العلم في عمان) بداية من أبي محمد عبدالله بن بركة(ق4|10) في «التقييد»، أبي الحسن البسيوي في«الجامع »، وكذلك على إشارات بعض العلماء في الكتابات الفقهية والعقائدية. لكن الجزئيات الأولى لهذه القوائم قد يمكن إرجاع مصادرها إلى بعض من بواكير السير العُمانية التي احتوى بعضها على سرد أسماء العلماء كسيرة أبي المؤثر ثم من بعده أبي الحسن البسيوي، فهذه القوائم في بداياتها كانت تتشكل من مقتطفات واقتباسات لبعض قطع السير العُمانية من خلال ذكر أعلام عمان الذين حملوا العلم لتصل في نهاياتها إلى العلماء المعاصرين للكاتب. فهذه القوائم السردية تتضح من تشكلها أن بداياتها كانت قبل أو أثناء صياغة ابن مداد لسيرته التي تعتبر المنعطف لهذه الكتابات، أي أن البدايات الكتابية قد يمكن إرجاعها إلى بدايات القرن 5|11 . فالذي يمكن ملاحظته في هذه القوائم أنها استبعدت أن تسرد لنا بيوغرافيا عن التجار ومشاهير الأعيان وقادة القبائل، على سبيل المثال مما أثرت في الكتابات التاريخية والبيوغرافية (التراجم) على السواء.
فجون ويلكنسون يبدي ملاحظاته حول هذه القوائم بان المشكلة فيها عدم الانضباط في التسلسل الزمني مما يؤدي أحيانا في القراءة الأولى إلى عدم وضوح النص للقارئ، وقد تحدث مغالطات في عدم استيعابها من خلال التسلسل الزمني، وهذه الإشكالية توجد على سبيل المثال عند الترجمة لشبيب بن عطية وهلال بن عطية الخراساني(23)، حيث اعتقد البعض انهما أخوان بينما في التحقيق يتضح أن شبيب عماني وهلال كان من خراسان لكنهما عاشا الفترة نفسها وحملا مسمى نسبة الأب كذلك. أما المعاناة الأخرى فهي تكرار العلم في مواضيع متعددة فتكون الإشكالية هي، هل هما علمان أو شخصيتان والأشكل من ذلك إذا كانا من قبيلة واحدة مما يؤدي أحيانا إلى إلغاء أحدهما أو الخلط في العلاقة بينهما ولازال التساؤل في كثير من الشخصيات كنحو المنير بن النير وسلمة بن مسلم العوتبي والخليل بن شاذان هل هما علمان او علم واحد فقط.
هذه الظاهرة استمرت في جدولة قوائم البيوغرافيا من بعد لتبرز مع كل من محمد الشيبة السالمي في كتابه « نهضة الأعيان» وسالم بن حمود السيابي «إسعاف الأعيان في انساب أهل عمان» عند تقديم قوائم لأئمة عمان مع تسلسلهم الزمني وتسلسل الإمامة في عمان. لكن المنهج المختط الذي وضعه حديثا سالم السيابي في «طلقات المعهد الرياضي في حلقات المذهب الإباضي» ، بمحاولته تصنيف طبقات العلماء العمانيين في تسلسل زمني عبر القرون لم يتوسع كثيراً ليشمل جميع العلماء لكل طبقة وتوقف عند الحلقة الرابعة من علماء عمان، وكذلك فان الرؤية للإيديولوجية الإباضية كانت هي الدافع. ومع ذلك فان المحاولة كانت مدخلا سريعا لمعرفة طبقات العلماء العمانيين ولو بشكل متأخر جدا. ثم إن المنظور الأساسي المنتهج في تصنيفه هو انه واكب أسلوب القوائم السابقة بحيث أن كل طبقة هم حملة علم من لدن جابر بن زيد إلى القرون الحاضرة . فمصنفات كتب الطبقات خدمت أو بدأت مع نطاق علوم الحديث وتوسعت مع مجريات كتب قواميس البيوغرافيا(24) وبرغم وجودها واستعمالها في المصنفات الإباضية نحو الشماخي في «الطبقات»(25) ثم من بعد تذييله ب«الجواهر المنتقاة في ما أخل به كتاب الطبقات» للبرادي(26). إلا إنها في ما يبدو لم يكن لها تأثير في النطاق العماني في رصد التراجم وتدوينها.
وهكذا من عرض هذه القوائم يمكن رصد مدى فاعليتها في الكتابة التاريخية في عمان ابتداء من «كشف الغمة» ثم من بعد في أجزاء من «الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين» إلى «تحفة الأعيان » وانتهاء مع «عمان عبر التاريخ». فقد سلك المؤرخون المحدثون في عمان المسلك نفسه كما اقتفوا الخطى نفسها في تقيم التاريخ وتتبعه وتقسيمه في عمان على أسس الأئمة الذين حكموا عمان، إلا أن التمايز لاشك فيه من حيث الدقة والرؤية المتبناة. فالتطور لهذه القوائم صاحبته بحوث موازية ومختلفة لتكون اكثر ملاءمة في تقصيات أحداث التاريخ العماني.
IV- إننا هنا أمام أصناف عدة من المصنفين للبيوغرافيا لابد من فرز منهجية كل منهم على حدة. فالتطورات السياسية التي حدثت في عمان خلال القرن التاسع عشر والامتداد الجغرافي للدولة العُمانية نحو شرق أفريقية أثرت على الحركة العلمية في عمان وبدأت أساليب الكتابة الكلاسيكية القديمة تميل إلى التماحي، كما في القوائم البيوغرافية السابقة والانتقال بصورة تدريجية وإعداد نقل هذه الكتابات إلى نمطية المصنفات الشاملة. لكنها تتداخل من حيث اختصاصات مضامينها في المصنفات الحديثة، بحكم تداخل المحاور وتعدد المواد المعرفية ثم كذلك لتطورات السياسة في عمان مع نهاية القرن التاسع عشر:
ابن رزيق (ت 1873):
بحد ذاته حميد بن محمد بن رزيق يعد ظاهرة فنية أدبية عمانية في القرن التاسع عشر، امتزجت فنيته الإبداعية بالآداب والتاريخ والشعر والنثر. حتى الآن لم تبرز دراسات تدلي بوضوح عن حياته العلمية ونشأته لكن من الممكن أن ندلي بشيء عنه بما أن هنالك بعض الجوانب التي قد تساعدنا لفهم حياته. لقد أدى نقل العاصمة العُمانية من داخلية عمان (الرستاق ) إلى مسقط في عهد السلطان حمد بن سعيد بن الأمام احمد البوسعيدي لامتزاج العرقيات على الساحل العماني واصبح ازدهار مدينتي مسقط ومطرح تهيئ الظروف في تكوين مجتمع متعدد العرقيات بما يشبه (الكزموبلتان). وبدأت دواوين السلاطين في اتخاذ نوعية من الأدباء والكتاب تجاوز فيها القبلية التقليدية وقد التصقت عائلة ابن رزيق بديوان السلاطين البوسعيديين.(27) فنشأته الأدبية تظهر في اتجاهاته وكتاباته التي مكنته من أختطاط منهج مبتدع بالنسبة للثقافة العُمانية في بدايات القرن التاسع عشر فعلى سبيل المثال التميز النوعي للكتابة وتطورها يمكن ملاحظته بالمقارنة بينه وبين ابن قيصر في سيرته عن الإمام ناصر بن مرشد (ق17) وسيرة ابن رزيق (البدر التمام) عن السلطان سعيد بن سلطان حيث يتجه ابن قيصر إلى الأسلوب البلاغي بينما يتجه ابن رزيق نحو السرد والوصف. ثم تلك العلاقة بديوان السلاطين مكنت مصنفاته من التداول فالسلطان ثويني بن سعيد أهدى إلى القس برسي بادجر مجموعة من مؤلفات ابن رزيق الذي قام من بعد بترجمة « الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيدين» الذي يعتبر أولى المصنفات التاريخية العُمانية المترجمة إلى اللغة الإنجليزية عام1873.(28) ثم من بعد السلطان خليفة بن حارب أهدى إلى جامعة أكسفورد «الصحيفة القحطانية».
إن ما يهمنا في كتابات ابن رزيق في هذا السياق هو مصنفة « الشعاع الشائع باللمعان في ذكر أئمة عمان »(29)، حيث تمكن ابن رزيق عن إدخال أسلوب النظم في كتابة قواميس البيلوغرافيا، وهي بذاتها محاولة مستحدثة في الكتابات العُمانية. وقد أورد سبب التأليف بأنه قد سئل أن ينظم قصيدة في أسماء أئمة عمان وان يشرحها شرحا مختصرا مبسطا لا يطلب العارف له مزيدا وقد نظمها في مائة وأربعين بيتا بدأها:
عمان عن لسان الحال ردي
جوابا منك لي أرجو الجوابا
أما عين إليك لها دموع
على من جسمهم أضحى ترابا
وينتهي:
فحسبهم صنيعهم سرورا
يجزيهم إذا شهدوا الحسابا
فصاغها بالتسلسل التاريخي في تتبع سير أئمة عمان ابتداء من إمامة الجلندى بن مسعود إلى الإمام احمد بن سعيد، فهو يورد البيت ثم يشرحه لغويا ثم يتبعه بشرح عن حياة الإمام المؤرخ عنه.
قبل التجاوز إلى عرض مضامين الكتاب لابد من الإشارة إلى التحولات الجذرية في الحياة الاجتماعية العُمانية فالطابع الثقافي لهذا الانتقال يبرز بدايات الانتعاش الحضاري على ساحل عمان مرة أخرى مع انتقال العاصمة العُمانية إلى مسقط وقد كان كذلك لمعاصره الشيخ جميل بن خميس السعدي مصنف«قاموس الشريعة» في 90 مجلدا، بعدما ظلت داخلية عمان المحور العلمي والثقافي لعمان لقرون عدة. لاشك أن ابن رزيق ترجع أصوله إلى مدينة نخل في داخلية عمان لكن تكوينه العلمي كان في العاصمة مسقط. فهذا التجاوز لم يكن إذا فقط من المرحلة الكتابية والتصنيف بل تعدت لتكمل مرحلة تفاعلية في الحياة الأدبية في عمان أكملت في مسقط مع ابن عرابه وابن شيخان السالمي وأبي الصوفي وهلال بن بدر البوسعيدي أي أن الساحل العماني اصبح مركزا للإبداع بعد توقف دام لقرون. وهذا التجاوز الإبداعي يمكن إيجاده في الكتابات التاريخية فمن ضمن المصنفات المحفوظة التاريخية العُمانية في المملكة المتحدة «تاريخ أهل عمان» لجعفر بن سالمين بن عبدالله النخلي(30)، او ك« سعد السعود في تاريخ البوسعيد» (31)، حيث الاحتمال أن كليهما كانا من كتاب ديوان السلاطين البوسعيديين بمسقط وهو يعكس النضج الإبداعي والاهتمام به من قبل السلاطين، فإذا الانتقال لم يكن سياسيا فقط بل تجاوزه إلى النطاق الثقافي.
أما في مقام التصنيف ففي هذه اللحظة يبدو لنا مساران مختلفان في تصنيف هذه القواميس في عمان، فالأول هو الجانب التاريخي وهو المضمون: فابن رزيق جعل من منظومته في سير الأئمة مجاراة لشخصيات الأئمة وإذا رجعنا إلى كشف الغمة أو بالأحرى إلى مختصر روس (32) لتبين لنا بان هذا التأثير ظل متبعا ينتزع منهجا أولا ليجعل من عمان كإقليم مستقل أو محور إقليمي مركز الاهتمام. توالت من بعدها تاريخ أهل عمان «لمصنف مجهول(33)، ثم «قصص وأخبار جرت في عمان» لأبي سليمان بن محمد بن عامر المعولي(34) و«تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان» لنورالدين السالمي برغم تسلسله التاريخي إلا أن الأحداث مجارية لفترات حكم الأئمة في عمان وأخيرا «عمان عبر التاريخ» للشيخ سالم بن حمود السيابي. أما بالنسبة إلى الأسلوب النظمي الذي نهجه قد يمكن الجزم أن ابن رزيق قد تأثر بالقلهاتي (ق7|13) من خلال منظومته الشهيرة « الصحيفة القحطانية»حيث عارضها ابن رزيق بمنظومتيه «الصحيفة القحطانية»(35) و«الصحيفة العدنانية»(36). ولو تتبعنا ظاهرة أرجوزات البيوغرافيا واستعمال هذا اللون الأدبي لوجدناه بدا مبكرا في عمان فعبدالله بن عمر بن زياد بن احمد الشقصي (ق8|14) نظم أرجوزة مخمسه في سيرة الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء أهل الاستقامة وعلماء عمان.(37) ثم كذلك مع الشاعر سعيد بن محمد الغشري (ق10/16) قصيدة نظمها عن أئمة بني خروص، ومن هذه المنظومة عدَّها بعض المؤرخين كعمل توثيقي في الكشف عن أئمة بني خروص الذين لم يدون عنهم. فسلك من بعده محمد بن خميس السيفي في قصيدة نظمها في أئمة اليعاربة وإن كان بدا مقدمتها بأبيات في الأئمة ذوي الأصول القحطانية.(38) هذا الخط وجدناه كذلك من بعد لدى الشيخ خلفان بن جميل السيابي في الجزء الثالث «سلك الدرر»(39) حيث انشأ منظومته في تتبع أئمة عمان عبر القرون إلى القرن الرابع عشر وإن كان لم يذيلها بشرح للأبيات ثم من بعده الشيخ محمد بن راشد الخصيبي (ت 1988) في منظومته «شقائق النعمان في ذكر شعراء عمان» وكذلك في قصيدته في حملة العلم وأئمة العلم من أهل عمان «تلك أثارنا تدل علينا»(40).
هنالك ظاهرة أخرى في أرجوزات البيوغرافيا وهي محاولة سرد نظم أعلام المدن حيث، بدأ هذا اللون يشق طريقة من خلال الأرجوزات والمناظيم وإن كانت متأخرة بعض الشيء فقد نظم الشيخ محمد بن سالم الرقيشي في أئمة العلم من مدينة أزكي بدأها بمطلع:
يا رعى الله أربعا بالنزار
مقفرات أو آهلا بالفخار
و سقاها الحياء وحيّى ثراها
وابل المزن بالغوادي السواري(41)
وثم من بعد خلفان بن محمد المغتسي أيضا في علماء أهل أزكي وتبعه أبو سرور حميد بن عبدالله الجامعي في أعلام مدينة سمائل. فهي تحفظ لنا الاستدلالات للمكانات الجغرافية للتراجم.
فأرجوزات التراجم اتخذت في الكتابات الأدب العربي من قبل فقد صاغ عبداللطيف بن احمد بن محمد الدمشقي أرجوزة في علم الأنساب «نخبة التفاحة حاوية قواعد المساحة»(42). وكذلك «محاسن الأزهار في مناقب العترة الأطهار»(43) لعبدالله بن حمزة بن سالم (ت614|1217) أرسلها إلى الخليفة الناصر، , و« رياض الأبصار في ذكر الأئمة الأقمار والعلماء الأبرار» وهو تراجم شعرية لكبار رجال الزيدية والمعتزلة للهادي بن إبراهيم بن علي الوزير (758-822|1357-1420).(44) تبعا لهذه المصنفات فانه من الجائز احتماله أن هنالك تأثيرا يمنياً في الأرجوزات العُمانية السابقة خصوصا مع تدوين القلهاتي لأرجوزته وذلك مع تحول الطرق التجارية في القرن 5|11 لتأخذ مجرى بين المدن الساحلية الجنوب شرقية والجنوبية للجزيرة العربية مما أدى الى تطور العلاقات على طوال الساحل الجنوبي والجنوب الشرقي (العُمانية اليمنية)(45) وذلك يمكن تلمسه من معلومات في«تاريخ المستبصر» لابن المجاور،(46) و«صفة جزيرة العرب» للهمداني.(47)
V- مع بدايات الانتقال الحضري في عمان خلال القرن الماضي كان أمراً طبيعياً أن يكون عاملا في تكوين اتجاهات وأنماط كتابية تعكس هذه الاتجاهات من قواميس التراجم، ويمكن رصدها:
محمد السالمي (1891-1985)
أرخ محمد الشيبة السالمي كتابه «نهضة الأعيان بحرية أهل عمان»(48) لرصد تتابع الأحداث الداخلية في عمان مع بدايات القرن العشرين وإلى عقد الستينات منه وان كان ويلكنسون يشير إلى انه اكمل الكتابة التاريخية لكتاب «تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان» لنورالدين السالمي إذا فهو تسلسل لتلك المجموعة.(49) لكن بتمعن في منهجية السالمي في مصنفة يتبين انه نهج فيه لرصد تتبع رجال عمان والقوى القبلية مع مطلع القرن الماضي. وتتضح خطته بعد مقدماته التعريفية الموجزة عن مدن وتاريخ عمان. ولذا لو تتبعنا مقالات التراجم في هذا الكتاب لوجدنا أن السالمي خلال هذا الرصد في الحقيقة لم يكن يقصد به قاموسا في التراجم وإنما كان هذا التقصي إضافات لتوضيح البنية التركيبية في سكانية عمان في القرن العشرين من أمراء وشيوخ وعلماء وقضاه وأدباء وكان رصده بالمعاصرة، فهو أحد المعاصرين الذين كانوا في داخل ذلك الصراع، وهذا يعطيه توثيقا أدق. وإن كان هو معبرا عن وجهة الإمامة الأيديولوجية ومدافعا عن شرعيتها لكنه في الوقت نفسه لا يعكس إيديولوجية الإمامة ككينونة قائمة بذاتها، وهذا بطبيعة الأمر جعل تركيزه على داخلية عمان لم يتطرق إلى المناطق الساحلية بتوسع أو شمولية اكثر عن شيوخ وأدباء خارج ذلك النطاق إلا تلميحا. فبدأ بتعريفات واسعة عن كبار البيوتات في العائلات العُمانية في القرن الماضي كنحو (النباهنة آل حمير في الداخل)، ( بنو النعيم البريمي)، (آل صالح بن علي الحارثي وآل حموده في الشرقية) ،(آل هلال بن زاهر الهنائي)، ومن ثم بدا في كتابة التراجم. لكن المهم الإشارة إليه انه عكس من خلال تلك التراجم التغيرات الجذرية وسطوة القبلية في صياغة الأحداث وتقلباتها، وهي حقيقة تثير الاستغراب الكامل حتى ولو تخلي بعض الشيوخ عن مبادئ دينية أحيانا. إلا انه كان جعل من مصنفه سجلا حافلا للانعكاسات الأدبية والعلمية في داخلية عمان والمدارس الدينية التي بدأت تأخذ أنفاسها للعودة وهذا التسجيل كان خلال تدوين التراجم، إضافة إلى ذلك كانت تميزه في كتابته إنها كانت استقصاء لترجمة تواريخ الأعلام المدون عنهم من الولادة والوفاة والمكانة والشيوخ المتتلمذ عليهم أو الرجال الذين ارتبط بهم.
البطاشي(ت1999):
التطور لقوائم العلماء في سردها تمت صياغته مؤخرا في «إتحاف الأعيان في تاريخ بعض علماء عمان»(50) للشيخ سيف بن حمود البطاشي (ت. 1999) وتقلد منصب القضاء في ولايات عدة إلى أن تفرغ للبحث أواخر عمره لكن للأسف الشديد لقد وافاه الأجل قبل إكمال مشروعه الذي تم إصدار منه جزءين بدأهما بالتسلسل الزمني من عصر النبوة إلى أن توقف فيه مع بداية القرن 11|17 .ففي الجزء الأول بعد إيراد التراجم أوجد كذلك قائمة أخرى للعلماء الذين لم يتمكن من الحصول على معلومات موسعة عنهم. لاشك إن الإلمام الموسوعي عند البطاشي كان محركا في تدوين البيوغرافيا نحو:«الطالع السعيد في سيرة الإمام احمد بن سعيد» و«تاريخ المهلب وآل المهلب» وكذلك «شعر الشيخ خلف بن سنان الغافري». ولكن الذي نهجه البطاشي في تقصي المعلومات كان موفقا في مقارنتها واستخراجها من المصادر العُمانية وغير العُمانية على السواء بل إن مراجعه المعتمدة بحد ذاتها وثيقة مهمة من حيث اعتماده على الكتابات الفقهية والمخطوطات وروايات والأخبار المختلفة وإطلاعات واسعة في المكتبات العُمانية الخاصة، زاد عليها التحقيقات التاريخية في مقارنة الآراء وإكمال جوانب من التاريخ العماني إذا كانت متعلقة حول الشخصية المترجم عنها. وأحيانا للمخالطات العائلية والتي اختصت بفن علمي ظل متوارثا عبر أجيال كنحو عائلة بني مداد المتصوفة أو بني هاشم في الطب، فيحاول إيجاد السلسلة العلمية والنسبية مما يوضح جوانب خفية عن الحياة الاجتماعية في عمان.
وقد بين دوافعه إلى تصنيف الكتاب:
«أولا: أن العلماء العمانيين كان اكثر اهتمامهم بالتأليف في الفقه والأصول والولاية والبراءة فألفوا في ذلك الجوامع الكبار والكتب المطولة أما الكتابة التاريخية لم يعنوا بها كثيرا ولم يؤلفوا كتبا مستقلة إلا ما يوجد عرضا في كتب الفقه.
ثانيا: فقدان كثير من مؤلفاتهم إما بحروب طبيعية أو حروب قبلية أو غزوات جاءت من خارج البلاد أو إهمال وعدم اعتناء ممن اقتنى هذه النفائس.»(51)
لكن الإشكالية التي تبقي الارتباك في مجموعة البطاشي هي عدم إيضاحه لمنهجه أو خطته في هذا الكتاب، مما يثير تساؤلا حوله :هل هو يساير الترتيب الأبجدي؟ وهو العادة المتبعة عند الكثير من هذه المصنفات وهو مستبعد تماما في تصنيفه أم التسلسل الزمني ؟ وهذا الذي حاول الالتزام به. لكن هنالك مفارقات في التسلسل الزمني أحيانا مثل تقديم الخليل بن احمد والمبرد وابن دريد على من سبقهم من الأعلام أو كشبيب بن عطية على أبي حمزة الشاري ونحوه فهو يحيل القارئ إلى التقصي الزمني لكل علم. وباعتبارية قرب الإصدار فهو قليلا ما يشير إلى المصادر لتوثيق مراجعه.
VI- بالنسبة لكتابة قواميس تراجم الشعراء في عمان يمكن حصرها مع عبدالله الطائي ومحمد بن راشد الخصيبي:(52)
عبدالله الطائي (1927-1973) : لقد ظهر جيل من أدباء الخليج مع نهاية الخمسينات كانت امتدادا لنزعة القومية العربية، وأخذت هذه الظاهرة في الامتداد الإقليمي خصوصا في الستينات من القرن الماضي وكانت تحاول إبراز الثراء الأدبي للوجه الشرقي من الوطن العربي قد يكون عبدالله الطائي أحد روادها. لكن لو تتبعنا عن كثب عن كتابة عبدالله الطائي للبيوغرافيا ستتضح لنا بأنها بدأت بعملية تدريجية أي أن ظاهرة الكتابة البيوغرافية كانت لدية فترات انتقالية بدأت من عمليات تجميعية من أحاديث إذاعية وكتابات صحفية لشعراء الخليج المعاصرين (أو بالأحرى القرن العشرين) تم جمعها أولا في «دراسات عن الخليج العربي» 1968 ثم « شعراء معاصرون » إلى خلاصة إنتاجه في « الأدب المعاصر في الخليج العربي»1974 .
إن هذا البناء التراكمي لدى الطائي يوجه لدلالات معرفية عن الخليج في ستينات القرن العشرين فالمصنفات بأشكالها لا يمكن ضمها إلى قواميس البيوغرافيا لكن الطائي اتبع في دراساته الأدبية إلى ما يشبه إبراز جوانب أدبية من الخليج بتعريفات موجزة عن الشعراء ونماذج من أشعارهم فهو لم يوجه كتاباته لدراسات نقدية بل مختارات لنماذج من شعراء الخليج ولذا تقترب كثيرا مقالات الطائي من قواميس البيوغرافيا عن شعراء الخليج المعاصرين أو بالأصح من بدايات القرن إلى بداية السبعينات ، لكنه أحيانا يطلق مسميات على الشعراء للتعريف بهم نحو : شاعر عمان ( الشيخ صقر بن محمد القاسمي)، شاعر القبيلة (عبدالله بن علي الخليلي)، شاعر الحكم ( محمد بن شيخان السالمي) أو شاعر الشباب (احمد محمد الخليفة) أو شاعر الشعب (عبدالرحمن قاسم المعاوده). لكنه يستبعد ذكر شعراء النبط أو شعراء الشعر العامي وقلما يتعدى إلى ذكرهم لكنه أحيانا يتعدى إلى ذكر بعض شعراء العرب. فالاقتصار على الإقليمية عند الطائي دافع مهم لإبراز أوجه من الحياة الأدبية في الخليج خصوصا مع الثروة النفطية في الخليج وهذا ما أبرزه بوضوح في خلاصة إنتاجه « الأدب المعاصر في الخليج العربي» من ذكر أعلام الأدب المعاصرين قبل وبعد النفط لكل دولة من دول المنطقة: الكويت، قطر ، دولة الإمارات،البحرين ثم سلطنة عمان وهو في هذه فهل كانت ردة فعل لما يثار أن «الخليج حياة النفط». فلفتة الطائي الى التمايز في الحياة الأدبية في الخليج العربي من تتبع أعلام الشعراء ومسيراتهم الأدبية من الشعر الكلاسيكي الى بدايات من الشعر الحديث ثم استبعاد المركزية العُمانية والتمحور على الإقليمية الخليجية جعلت من مقالاته مدخلا لدراسات البيوغرافيا والدراسات الأدبية في الخليج العربي وهي في الواقع لا بمكن الاستغناء عنها إن لم تكن كتاباته هي من المرتكزات التي قامت عليها مشاريع ودراسات أكملت قواميس البيوغرافيا. لكن المرتكز الذي يمكن أن نستدل عليه من حياة الطائي هو الكتابة الصحافية وحيث صرح «قد كانت نافذة هذه المشاعر ركنا من مجلة (صوت البحرين) اسمه (شعراء من جزيرة العرب)في الخمسينات ثم عاد في الستينات إلى برنامج أسبوعي من إذاعة الكويت سميته (دراسات عن الخليج العربي ) كان يلتزم التعريف بأقطار الخليج وتاريخها ومظاهر الحياة فيها وأدبها العربي».(53) لا ندري إلى أي مدى من الممكن الأخذ به هل هذا الدافع في الكتابة عن بيوغرافيا شعراء الخليج عند الطائي قد بدا إعدادها في عمان أم إنها تبلورت في الخارج خصوصا خلال قيامه بالكويت.
الخصيبي (1912-1989):
كتابة قواميس البيوغرافيا عن الشعراء جاءت متأخرة في عمان عندما اصدر محمد بن راشد الخصيبي في مطلع الثمانينات ثلاثيته «شقائق النعمان على سموط الجمان في أسماء شعراء عمان».(54) هنا يمكننا التلميح إلى التوازي بين حياة ابن رزيق والخصيبي فكلا العائلتين التصقتا بديوان السلاطين(55) وإن كان ابن رزيق يبرز هذا التأثر ويمكن الحاظه اكثر مما هو عند الخصيبي في حياته الأدبية إلا أن الخصيبي تأثر في هذه الثلاثية بمنهج ابن رزيق من شكلية الكتابة وفنية المنهج ثم أن كليهما يبديا اهتماما بطرائف الأخبار والقصص في الكتابة لتكشف عن معلومات في بعض الجوانب عن الحياة الاجتماعية في عمان. فالخصيبي ابتدأ بمنظومته «شقائق النعمان» ثم ألحقها بشرح «سموط الجمان» يبدأ بلغة البيت ثم عن ترجمة العلم إلى أيراد مختارات من شعره. وقد بدا منظومته:
أتحف السامعين من ذكرياتي
واسقهم من رحيق مبتكراتي
خلهم يرتعون في كل روض
من رياض البيان والنغمات
إلى أن ينتهي:
وبحمد الإله قد تم نظمي
منه أرجو لأحسن الخاتمات
قسم الشعراء في هذه الثلاثية إلى خمس طبقات خصص الطبقة الأولى في اسماء الشعراء من أول القرن الهجري إلى تمام القرن الرابع عشر، ثم الطبقة الثانية من شعراء عمان في القرن الرابع عشر، الطبقة الثالثة الشعراء من الأئمة والملوك والأمراء، الطبقة الرابعة لأعلم الشعراء واشعر العلماء وختمها بالطبقة الخامسة للعلماء الذين قرضوا الشعر. لو نظرنا مقارنة بين كتابات الطائي والخصيبي حيث انهما صنعا قواميس البيوغرافيا عن الشعراء إلا أن المنهج المفارق بينهما يتضح من أسلوب الكتابة إلى الأبعاد التكوينية لكل منهما. فالطائي يقدم بلغة حديثة واضحة ويحاول أن يقدم أعلامه بارتباطات معينة سواء قومية أو دينية أو سياسية أو اتجاهات أدبية ذات ارتباطات أيديولوجية، وهذا واضح من انتقائيته الأدبية لدى الشاعر، بينما الخصيبي كان قاضيا وأستاذا في العلوم الشرعية إلى قرب وفاته وظل الأسلوب مفارقا تماما، من حيث الكتابة الكلاسيكية والاهتمام باختيار العبارات السجعية. أما من الناحية الشمولية فالخصيبي اكثر شمولية وتتبعا لكل شاعر من الناحية العائلية وقراباته ثم أن إنتقائيته الأدبية إنما تكون عادة بتقييم نقدي لأفضل ما أمكن الشاعر من تقديمه بغض النظر عن الاتجاهات التي ينهجها الشاعر ولاشك إنها من منظور الخصيببي بذاته غير انه يعتمد على النقل الشفوي والرواية والخبر للترجمة واستمدادا للمعلومات الشفوية ولو للتراجم المتقدمة كنحو ابن دريد، فالأخبار والروايات ظلت من محفوظات الألسن والتناقل الشفوي وكان الاهتمام بها من قبل البطاشي والخصيبي حفظت لنا كثيرا من هذه الروايات التي قد تعد من قبيل النسيان، ولذا هم يحاولون بأنفسهم تصحيح بعض الأبيات والروايات. بيد إن ما يجعلنا الاهتمام بالخصيبي هو انه كان اكثر تصورا لإيجاد المصنف أو القاموس المتكامل لشعراء عمان: لكن يتبين لنا أن الخصيبي على رغم إصداره المتأخر لهذه القواميس استبعد الشعر الحديث من ضمن مجموعته أو مجرد ذكره بينما هو يفرد الطبقة الخامسة من ثلاثيته للفقهاء وأراجيزهم ومنظوماتهم. وهذه تعكس الحياة الفقهية التي تميزت في عمان في القرون الثلاثة الماضية حيث ظلت المدارس الدينية المحور العلمي والأدبي وظل هذا الالتصاق في استمرارية التعليم الديني.
الطريف في هذا التباين بين الشقين في الكتابة المستخدمة الحديثة والتقليدية في هذه القواميس تبدو للعيان واضحة فمسلك الكتابة الحديثة بدا يشق نمطا أسلوبيا يدنوا من شبة انتقالية تشبه التطور الذي مرت اللغة به في مختلف الدول العربية مع مطلع القرن العشرين. وان كانت الكتابة تأخذ التواصل ولو من بعد لوقتنا هذا. فهذا التشكل للصيغة الكتابية الحديثة أو الأدب المعاصر في الخليج العربي تدين في تطورها إلى الصحافة في بلورتها. (56)
ذيَّل الكتاب السابق الذكر «شقائق النعمان» بكتاب «قلائد الجمان في أسماء بعض شعرا عمان »(57) للسيد حمد بن سيف البوسعيدي حيث يشرح مغزاه من تأليفه: « ….فقد خطر بالبال كتاب اذكر فيه بعض شعراء بلدنا عمان، الذين لم يرد ذكرهم في كتاب ’شقائق النعمان في أسماء شعراء عمان ‘ لمؤلفه الشيخ المؤرخ محمد بن راشد بن عزيز الخصيبي. أما من حيث المنهج فقد اختلف تأليفه عن سابقه تماما »…. وجعلت كتابي مختصرا مقتصرا على اسم الشاعر ، وما اطلعت عليه من نسبه، وذكر نموذج من أشعاره، وتخليد ذكر قائليه وسميته قلائد الجمان في ذكر أسماء بعض شعراء عمان، وجعلت أسماؤهم مرتبة على حروف الهجاء من حرف الألف إلى أخر الحروف بغير مراعاة المتقدم من المتأخر..«. وإن كان الكاتب لم ينتبه إلى الترتيب في التسلسل داخل الحروف الأبجدية فمثلا لم يرتب الحروف على أسبقيتها في حرف س، فالأسماء تذكر جملة لتنظوي داخل الحرف بالترتيب الأبجدي أما تسلسلها فلا.
لقد كان هذا التأليف سابقا في المصنفات لتدارك ما تناسى السابقون عن ذكره فكشف مصنفه عن كثير من الشعراء والقصائد المغمورة بين المخطوطات وأسماء لم تخطر على بال الكثيرين. حيث الاتجاه السائد إلى ذكر المشاهير في المناطق الداخل أما الأطراف العُمانية فقلما من يبدي الاهتمام بذكرهم.
VI- أصدرت موسوعة السلطان قابوس للأسماء العربية جزءا خاصا بأعلام عمان حيث صاغت لأول مرة موسوعة لبيوغرافيا تضم رجال حكم وساسة وعلم وأدباء وأعيان وتجار بشكل إجمالي وكان لهذا التقصي أثر واضح عكس الحياة الاجتماعية في عمان حيث تعدت فيه النمطية التقليدية والمحور الواحد وبالطبع اتبعت الترتيب الأبجدي فيها هي بذاتها قد تمثل مشروعا مستقبليا في كتابة البيوغرافيا في عمان وعكس المتغيرات للوحدة السياسية في عمان خلال القرن العشرين. والميزة الأخرى التي يمكن الإشارة إليها أنها الموسوعة تمت تحت عمل جماعي أي قامت بها مجموعة من الباحثين ولم تكن عملا فرديا كالأعمال السابقة. لكنها في إصدارها الأخير ، فهي تنطوي على ملاحظات تدرك مباشرة فمضامين التعريف حول كل شخصية من الاقتصار لا تتعدى الأسطر أو بضع الكلمات حولها فهي لا تتعدى إلى التحقيق حول الشخصية في تواريخ الولادة والوفاة والمكانة فعلى سبيل المثال لو أخذنا بالمقارنة مع دائرة المعارف الإسلامية لنأخذ أعلاما كجابر بن زيد أو احمد بن ماجد نجد فيها تحقيقات أوسع واشمل. كذلك إغفالها للمراجع والمصادر في التوثيق يجعلها في محل الجدل في الاستعمال الأكاديمي. لكن يمكن التلافي بالإصدارات والملاحق المتواصلة فتكون تغطية لتراجم والمشاهير العمانيين على ان يكون الإصدار الأول مستندا للرجوع إليه.
VII-كتابات الأنساب والقبيلة :كنت لا انوي في هذه الدراسة التصدي لموضوع مصنفات الأنساب وكتاباتها في عمان لكن للارتباط بينها وبين قواميس البيوغرافيا، والتشابه في كثير من الأوجه مكمل للأخر ثم للاحتواءت كتابات القبلية في تعديد رجالات القبائل، لا يمكننا إلا واخذ حسبان هذه الكتابات وعدها في هذا النطاق برغم معيار القبيلة والمنهجية المختلفة، وفي حقيقة الأمر هذا المنحى التزم به بروكلمان من قبل(58). فالقبيلة في ذاتها تعد إحدى مكونات التاريخ العماني بحسب اعتبارات ويلكنسون(59) وبيترسون.(60) غير إننا نجد إلى جانب ذلك معرفة الاستيطانات القبلية تدلل لتسهيل على موقع أو أصول المترجم عنه. من اجل ذلك لما كانت هذه العوامل تلزم ولو بشكل غير مباشر إلى التطرق إليها لأبد أن إشكاليات وأساليب أنواع الكتابة فيها متداخل في ضمن سياقنا ومرتبطة به.
ويظهر من خلال الاستعراض الأولي لهذه المصنفات أن أخذت أسلوبية الكتابة نفسها المتبعة في قواميس البيوغرافيا من حيث النوعين: النثر والنظم وهنا سنعرض كلا النوعين.
ليس ثمة شك أن أبا المنذر سلمة بن مسلم العوتبي (ق5|11) في كتابه «الأنساب» أولى الكتابات العُمانية في الأنساب حيث يبين لنا منهجه :«…..ثم اتبعت بعد ذلك أسماء الشعوب والقبائل والأفخاذ والبطون والفصائل : وذكر الشجرتين من القحطانية والعدنانية ، وافتراق كل قبيلة إلى بني أبيهم ….» فهو إضافة إلى الارتباطات القبلية في سياق التاريخ العماني من الأهمية على السواء في الدراسات التاريخية والديموغرافية لعمان واحتوائه بإدلائه عن معلومات موسعة حول الكثير من الشخصيات العُمانية ، ثم المهم عندنا هو نزول القبائل العربية بعمان وانفراده بتفصيل بعض الشخصيات التي كان لها التأثير في المجرى العام، حيث يورد مفصلا عن مالك بن فهم وولده ، بني العتيك وآل المهلب بن أبي صفرة، معولة بن شمس والجلندى. ومن هذه الزاوية قد تكون ثمة محصلة لتجميع ما يمكن استقراؤه عن رجالات عمان في عصر ما قبل الإسلام والقرن الهجري. هذا الانعكاس يتضح تماما من محاولته لصب التاريخي القبلي وبلورة الاستيطانات العربية كبداية التاريخ العماني تتابعا إلى يومه، ولذا قد يكون احمد عبيدلي محقا في رأيه بان العوتبي كان قد اهتم بالأنساب عامة فإننا نجد تلك التفاصيل الهامة مبثوثة بين بقية الأخبار ولا يتناسب مع ما يخصصه لبقية الأنساب من أجزاء لأخبار الأزد مع ما يخصصه لبقية الأنساب ولربما كان متسقا في ذلك مع طبيعة موضوع الأنساب كما يتناوله المؤرخون المسلمون مما يجعل ذلك الكتاب ينتمي إلى ذلك الحقل بشكل عام»(61) على أننا حين ننظر في الأسلوب الإنشائي في كتابه فإن ما يهمنا هو القدرة على تجاوز مرحلة النقل والاستطراد في تتابع الرواية الشفوية فهو بالنسبة إلينا كوجه من اوجه الكتابة في عمان خلال القرن 11م. هذا التجاوز يبدأ بمرحلة انتقالية حقيقية في فنية الكتابة سواء من الاقتباسات والمراجع والتصور حيث أراده العوتبي أو بالأحرى يمكن الإشارة إليه بأنه أمكن إيجاد فكرة الكتاب ومحتوياته.
ويزداد هذا التناسق مع مما يدخل في موضوعنا كتابات الأنساب والقبائل بشكل عام ولكن سنتطرق اليها ضمن هذا السياق لنكشف بعض المصنفات المتصلة بنا. فمع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وجدت الكتابات الأوربية عن القبيلة متسعا لها في عمان حيث محور الولاءات بين الشقين المتنافسين الهناوي والغافري وانتقال التحالفات القديمة ما بين يمن ونزار ليكونا هاذين الحلفين هما المسيطران، بدأت متعددة ومتوالية منها بيللى (1863)(62) ، ثم مايلز «الخليج بلدانه وقبائله »(63) ، كارتر «قبائل عمان»(64).
ففي التصادم الأولي ما بين القبائل اليمانية والنزارية يمكن إيجاد هذا المنظومات الشعرية توضح هذا التنافس على اننا على يقين بان القبائل اليمانية ظلت طوال التاريخ العربي في عمان المحرك للسياسة. وفي نفس السياق المنظومات الأدبية القبلية في إدلائها وإفادتها حول دراسات الشخصية ابتداء من القلهاتي في منظومته «الصحيفة القحطانية» حيث حاول أن يبرز مناقب اليمانية ويبين مثالب النزارية. إلى أن يتضح تأثيرها مع ابن رزيق في منظومتيه «الصحيفة القحطانية» و«الصحيفة العدنانية». لكن المحرك القبلي يبرز في تشكيل هذا المصنفات لتجد من فهرست القبائل العُمانية للشيخ سالم بن حمود السيابي (ت1994) «إسعاف الأعيان في انساب أهل عمان».
لكن هذه المنظومات والفهرسة لا تكشف عن حقائق جوهرية في كتابة التراجم بحيث يمكن اعتمادها للمرجعية الدراسية إلا لماما. لكن الأهم الذي يمكن الاستفادة منه في كتابات الأنساب أنها ولدت نوعا أخر من هذه الفنون الإنشائية وهو من ضمن كتابة الأنساب يمكن الإطلاق علية (الكتابات القبلية وهو الأحرى) أوجدت لتعديد مناقب قبيلة معينة لكنها توفر لنا قوائم في تراجم ومشاهير القبائل بصورة إجمالية فهي تعنى إلى إبرازها سواء من ساسة أو أدبا أو علماء أو قضاة …ونحوه. فعلى نحو تسلسلي تبلورت مع «نبذة في تاريخ المعاول»(65) لأبي راشد محمد بن عامر بن راشد المعولي (ق 18) و«تبصرة المعتبرين في تاريخ العبريين »(66) لشيخ إبراهيم بن سعيد العبري(ت1974) إلى «الموجز المفيد نبذ من تاريخ البوسعيد»(67) للسيد حمد بن سيف البوسعيدي (ت1998)، وكذلك القسم الأول من «اللؤلؤ الرطب»(68) للشيخ سعيد بن حمد الحارثي، ومن قبل ولو بالإشارة بدأت في الواقع من «الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين» لابن رزيق ولكنه كان يعنى بالكتابة التاريخية الشاملة لتاريخ اكثر من كتابة التراجم فهو يركز على الأحداث السياسية في نطاق الأسرة الحاكمة. وللدلالة على فنية هذه الكتابة لو أردنا الربط بين مؤلفيها سنجد انهم قد سلكوا خطي متشابه فهم علماء وقضاة وذو نفوذ في أسرهم أي إن المراد من تصنيفها هو الحفظ والتعريف بمشاهير القبيلة وليس وضع قواميس خاصة يمكن الاستناد إليها، لكن تصنيفه الذي وضعه السيد حمد بن سيف البوسعيدي اكثر تنسيقا ووضوحا فبدأ القسم الأول منه بالأئمة والسلاطين البوسعيديين لعمان وزنجبار ثم العلماء والفقها ثم الشعراء، وعليه فان ما يمكن أن نشير إليه في هذا السرد هو التأثير القبلي في الثقافة العُمانية ككل وتأثيرها يمكن تلمسه بوضوح ليس في الكتابات التاريخية بل الفقهية والأدبية على حد سواء. لكن من حيث المسلك فان الخطى متقاربة إلى حد ما وهم بذا يعكسون تأثيرات سابقة من عوامل محلية في كتاباتهم أي بمعني إن أساليبهم لابد إنها كانت ذات منشأ محلي بدون مؤثرات خارجية.
VIII-كل ما سبق يمكن تلخيصه في أن ثمة تغيرا في أسلوبية الكتابة في عمان أخذ في التشكل مع منتصف القرن الثامن عشر كانت بداية في مؤشرات للانتقال. هذا الانتقال ظل متمحورا ومتأثرا بالثقافة المحلية العُمانية وتستقي من نفس الكتابات التقليدية في القرن 7|13 فهي لم تتأثر بفنية الكتابة التراثية العربية بشكل واسع كوجود المختصرات والتذييلات والشروح على هذه المصنفات. وكذا المسلك من نوعي الكتابة وأساليبها : النظم والنثر تطورت وواكبت انتقالات تدريجية لكنها في الوقت نفسه ظلت المحافظة عليها إلى وقتنا هذا. ولا ندري أن تكون الكتابة الكلاسيكية في قواميس البيوغرافيا انتهت مع الخصيبي والبطاشي. إن ما يمكن التوصل إليه إن هذه القواميس هو إنها تعكس اوجها متعددة للتغيرات الثقافية والاجتماعية لعمان وتبرز ملامح تيارات وأيدلوجيات مختلفة سواء قومية أو دينية أو تقليدية في تشكيل هذه الكتابة في عمان. نعم لربما أن إشكالياتها لا تزال من حيث ارتباطها المباشر وغير المباشر مع الكتابة التاريخية ولهذا يصعب التفنيد بينهما في دراسة وتقويم مصادر التاريخ العمان. إن ما ينبغي الإشارة إليه هنا هو إلى وجود فجوات واسعة في الكتابة والتصنيف في عمان منذ القرن 7|13 حتى بداية القرن 11|17 فبعد تتبع تطورات التصنيف في عمان مع ابن بركة والكدمي والبيسيوي والعوتبي والكندي ثم ابن النظر نجد أن الفراغ يبدأ مرة أخرى من بعد القلهاتي وهذا يثير الارتباك والتساؤل والغموض للفترات نفسها تقريبا مقارنة بالتدوين في التاريخ العماني ومثالا على ذلك الفجوات التاريخية من بعد سقوط الإمامة الأولى في عمان ثم في زمن دولة النباهنة، فالسؤال هنا هل من ترابط في عملية التدوين والكتابة في عمان أم هل من مؤلفات لا تزال مطمورة لم يكشف عنها؟. كيفما كانت هذه القواميس إلا أن عمان لا تزال تفتقر إلى تراجم التجار والصناع والأدباء وهذا بحاجة إلى دعوة حثيثة لتلافي الضياع في كتابة التراجم في عمان.
الهوامش
1انظر حول هذه المؤلفات ابن النديم. الفهرست.ص96. طبعة 1873. ليبزج؛ كارل بروكلمان. تاريخ الأدب العربي.ترجمة السيد يعقوب بكر. ج6 . ص35 . دار المعارف. القاهرة. 1977.
2 F. Rosenthal, A History of Muslim Historiography
. p89 1952, Leiden
3 Hamilton Gibb, »Islamic Biographical Literature», (in Historian of the Middle East, edited by Bernard Lewis and P. M. Holt. London, 1962)
4 كارل بروكلمان. تاريخ الأدب العربي. ج6 . ص35.
5 ابن النديم. الفهرست.ص96.
6 كارل بروكلمان. تاريخ الادب العربي. ج6 . ص35.
7 فؤاد سزكين. تاريخ الأدب العربي. ج2،ص.
8 H.A.R.Gibb, ‘Ta’rikh’, Encyclopedia of Islam (first edition)
9 Lichtenstardter, »Arabic and Islamic Historiography»
. Muslim World, v35(1945), pp126-132
10 R.S. Humphreys, Islamic History: A Framework
For Inquiry. 1991, Princeton
11 Tarif Kalidi. »Islamic Biographical Dictionaries: A Preliminary Assessment», Muslim Worl d
v63, p.54, (1973), p.53-65.
12 . Auchterlonie, Arabic Biographical Dictionaries
: A Summary Guide and
Bibliography. Durham 1987.
13 M. Abiad, »Origine et d`eveloppement
des dictionnaries biographiques arabs»,
Bulletin d’Etudes Orientales v31 (1979), p.7-15.
14 Wadad al-Qadi. Biographical Dictionaries Inner Structure and Cultural Significance. 1995. Edited
by George N. Atiyeh. The Book in the Islamic
World. P93-122. Suny Press.
15 كارل بروكلمان. تاريخ الأدب العربي. ج6. تواريخ الرجال وكتب الأنساب.
16 من الدراسات في هذا الجانب : فاروق عمر. مقدمة في مصادر التاريخ العماني. 1979. بغداد. اتحاد المؤرخين العرب؛ أحمد عبيدلي. تحقيق كتاب كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة لمصنف مجهول. 1984. دار دلمون. نيقوسيا؛ عصام الرواس. مصادر التاريخ العماني. سلسلة تراثنا. وزارة التراث القومي والثقافة.مسقط.
J.C. Wilkinson. Sources For The Early History
of Oman. Riyadh University. 1975.
Bio-bibliography Background to the Crisis Period in the Ibadi Imamate of Oman, (Journal of Arabian Studies), III, 137-164.
17 المراجع أعلاه
18 Ibn Ruzayq, History of Imams and Seyyids of Oman. Translated by Rev G. P.
Badger. Hakluyt Society, 1871.
19 سلمة بن مسلم العوتبي. الانساب. وزارة التراث القومي والثقافة. مسقط. انظر كذلك حول عائلة المهلب :
Martin Hinds. An Early Arabic Family From Oman; Al-‘Awtabi’s Accounts of the Muhallabids. Journal of Semitic Studies. monograph, 17. University of Manchester. 1991.
20 حمزة بن يوسف السهمي. تاريخ جرجان. ط1. 1950. حيدر أباد.
21 نورالدين السالمي . اللمعة المرضية.ص26 . سلسلة تراثنا. وزارة التراث القومي والثقافة.
22 سيرة عبدالله بن مداد. سلسلة تراثنا. وزارة التراث القومي والثقافة. مسقط.
23 انظر نورالدين السالمي. تحفة الأعيان. ج1،ص104.
24 بروكلمان. تاريخ الأدب العربي. ج6. ص35.
25 أحمد بن سعيد الدرجيني . طبقات المشائخ بالمغرب. تحقيق إبراهيم طلاي. بدون تاريخ.
26 أبو القاسم البرادي. الجواهر المنتقاة في ما أخل به كتاب الطبقات. المطبعة البارونية. مصر، بدون تاريخ.
27 ابن رزيق. الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيدين. وزارة التراث القومي والثقافة. مسقط.
28 Salil Ibn Ruzayq. The History of the Imams and Seyyids of Oman. Translated by Rev G.P. Badger, Hakluyt Society, 1871.
29 ابن رزيق.الشعاع الشائع باللمعان في ذكر أئمة عمان. تحقيق عبدالمنعم عامر. وزارة التراث القومي والثقافة. مسقط . 1978 .
30 محفوظ بالمتحف البريطاني. برقم Or 6568.
31مختصر تاريخي محفوظ بمكتبة جامعة كمبردج.
32 E.C. Ross, Annals of Oman, in Journal of
the Asiatic Society of Bengal, 1874.
33 تحقيق عبدالفتاح عاشور. وزارة التراث القومي والثقافة. مسقط.
34 أبي سليمان بن محمد بن عامر المعولي. قصص وأخبار جرت في عمان. نشر 1982. وزارة التراث القومي والثقافة. مسقط.
35 محفوظة ب : رودس هاوز. اكسفورد. Afr.S.3..
36 محفوظة بالمتحف البريطاني برقم Or. 6569 .
37 الخصيبي .شقائق النعمان.ج1،44.
38 حمد بن سيف البوسعيدي، قلائد الجمان في سيرة بعض شعراء عمان. ص 391. مسقط 1413/ 1993.
39 خلفان بن جميل السيابي. سلك الدرر الحاوي غرر الأثر. ج2. ص 547-594. وزارة التراث القومي والثقافة . مسقط. 1401|1981 .
40 الخصيبي .شقائق النعمان.ج3، 186.
41 الخصيبي .شقائق النعمان.ج3،256.
42 بروكلمان. تاريخ الأدب العربي. ج6.ص42.
43 بروكلمان. تاريخ الأدب العربي. ج6.ص47.
44 حسين عبدالله العمري. مصادر التراث اليمني في المتحف البريطاني. دار المختار. دمشق.1400| 1980 .
45 .J.C. Wilkinson. Encyclopedia of Islam.
(2nd edition), article; Kalhat
46 ابن المجاور. تاريخ المستبصر.تحقيق اوسكر لوفغرين. ليدن. 1954 .
47الهمداني. صفة جزيرة العرب. تحقيق د. اتش. مولر. لايدن 1884-1891.
48 محمد بن عبدالله السالمي. نهضة الأعيان بحرية أهل عمان. القاهرة. ط1. 1961.
49 Wilkinson, J. Bio-bibliography Background to the Crisis Period in the Ibadi Imamate of Oman
, (Journal of Arabian Studies), III, 137-164
50 سيف بن حمود البطاشي. إتحاف الأعيان في تاريخ بعض علماء عمان. ج1(1992)، ج2(1994).
51 البطاشي. إتحاف الأعيان. ج1،3.
52 تم إصدار مؤخرا لتراجم الشعراء العمانيين لسعيد الصقلاوي وللأسف لم أمكن من الحصول عليها من اجل عرضها.
53 عبدالله الطائي. الأدب المعاصر في الخليج العربي.ص6. 1974. المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
54 محمد بن راشد الخصيبي. شقائق النعمان على سموط الجمان في أسماء شعرا عمان. وزارة التراث القومي والثقافة. مسقط. 1984.
55 الخصيبي. شقائق النعمان على سموط الجمان في أسماء شعرا عمان. ج3، ص169.
56 الطائي. الأدب المعاصر في الخليج العربي. ص 15-27.
57 حمد بن سيف البوسعيدي، قلائد الجمان في اسماء بعض شعرا عمان، مسقط، 1993.
58 حيث جعل بروكلمان العنوان تحت مسمى تواريخ الرجال وكتب الأنساب. تاريخ الأدب العربي.ج6،ص 35 .
59 John. C. Wilkinson. The Origins of the Omani
State. 1972. Edited by Hopwood. Arabian Peninsula : Society and Politics. London .
60J. E. Peterson. Oman’s Odyssey: From Imamate to the Sultante. P1-17. Edited by B.R. Pridham. Oman: Economic, Social and Strategic
Developments. 1987. Croom Helm
61 كشف الغمة. مصنف مجهول. تحقيق احمد عبيدلي. ص 30.
62 Pelly , Lt-Col. 1863-64. Remarks on the tribes and resources around the shore line of the Persian , Gulf. Transactions Bombay Geographical Society. xvii 32-112.
63 Miles. The Countries and Tribes of the Persian Gulf. 1966 (reprint). ترجم تحت عنوان:» الخليج بلدانه وقبائله». ترجمة محمد امين عبدالله. وزارة التراث القومي والثقافة. مسقط. 1988
64 Carter, J. R. L. 1982. Tribes in Oman. Londo
n. Peninsular Publishing.
65 مخطوط بالمكتبة الظاهرية. دمشق. تاريخ. 385.
66 لا يزال مخطوطا.
67سيف بن حمد البوسعيدي. نشر عام 1995 . مسقط.
68 سعيد بن حمد الحارثي. اللؤلؤ الرطب. بدون تاريخ.
عبدالرحمن السالمي\
\ باحث في الدراسات العُمانية ورئيس تحرير مجلة (التفاهم) العُمانية.