خليل النعيمي
في كاتماندو مرَّتْ أيامنا بسرعة مثل برق لامع في ظلام الوجود. غدًا سنرحل عنها، ذاهبين باتجاه « بوكارا»، أو«بخارى» النيبالية في الشمال العالي، حيث الجبال الأسطورية تتحَكّم في مصير الكون. ولَكَمْ يؤلمني أن أترك كاتماندو وحيدة.
السادسة صباحًا، نصل الباص الشعبي الذاهب إلى «بوكارا». باص مُكلَّل بالصور والتخاريم، يقف بين عشرات من الباصات الأخرى الذاهبة، كلها، إلى نفس المكان. كلها، تنطلق متتابعة في نفس اللحظة، ولكن دون تسابق أو فهلوة أو ألاعيب. الرصيف ممتلىء منذ الفجر بالباعة الجوّالين، والمطاعم المتحركة، والمقاهي المحمولة، والورود الاصطناعية، والهدايا البلاستيكية «صُنِع في الصين». كل شيء صُنِع في الصين بما فيه الكائنات! هذا ما تكاد تؤمن به هنا. لكن تلك مجرد أغراض، أغراض حياة يومية ستذهب هباء أينما صُنِعتْ. يكفي أن تعتمد على خيالك المتحفِّز لترى الكثير مما لم يصنع في أي مكان. هنا ستكتشف سرّ الوجود الذي يخترع وسائل ديمومته. وكما في أمكنة أخرى، من قبل، ستدرك، أن للوجود أنماطًا متعددة، وأبعادًا. ففي الوجود، وهو الوجه الآخر للحياة، كل شيء ممكن، بما في ذلك ما لا نتخيله، ولا نعرف صَانعه.
على الطريق القصير جغرافيًا، ولكن الطويل جدًا زمنيًا، سنعيش «على قلق» كبير، إذْ يلزمنا ١٤ ساعة لِكيْ نقطع مسافة ٢٠٠ كيلو متر، تقريبًا. على هذا الطريق المعلّق في الريح ستَتَتابع، وتَتعاقب، مجرّات من البشر والتلوّث والغمام. وأنت تمر في هذا القُمْع المحشو بما تعرف وما لا تعرف، تكاد تتساءل عن معنى النظافة وضروراتها. عن لزوم إشارات المرور المعدومة كليًا، هنا. عن مسوِّغات الطرق السريعة، والباص بالكاد يزحف كالأفعى الجريحة، عاويًا من شدّة الإرهاق، وهو يتَهزْهَز فوق الصخور صاعدًا نحو السماء. طريق الرعب هذا يدَوِّخ الناظر حوله: مسافات «ميليمترية» بين باصات مفعمة بالبشر الصامتين، وكأنهم ينتظرون حتفهم. ممرات ضيقة لا تتسع للماشي، فكيف بباص مملوء بالمسافرين، وهو يترَجْرَج كالسكران. التواءات أجنحة السفوح الأسطورية بلا إشارات تدل عليها، تجعل السقوط في أعماق الكون محتمَلًا كل ثانية. تجاعيد قمم الجبال الخارقة تكاد تدفع الباص نحو الحضيض. و… وأخيرًا، انعدام أية إمكانية للإنقاذ عند الضرورة. كل ذلك يجعلنا نحس أننا نرقص فوق «رؤوس ثَعابين» الجبال.
الجبال لا تُغيّر منظر الفضاء الذي يحيط بها فحسب، وإنما تفرض على مَنْ يغامر بارتيادها معرفة قوانين اجتيازها. هي، أيضاً، تُحدِّد السرعة الممكنة للعابرين، وتملأ نفوسهم بغواية التَهيُّب والصبر. تعلّمهم، كذلك، اختبار المشقّة. إنها سيدة الوجود في عالَم مثل هذا،لا يتحمّل الخطأ، ولا يناسبه التسرّع، ولا قِلّة الحيلة. يذهلني طريق الجبال الملتوي، هذا، مثل ظهر ثعبان ينام. يذهلني لأسباب كثيرة تتعلّق بالصحراء الأولى، ربما. يذهلني من ضيقه، ومن علوه، ومن هشاشته، ومن نُقَره المخيفة وكأن فُؤوسًا عملاقة حَفَرَتْها. وكذلك من انهدام حواشيه، وتَهَشُّم أطرافه، ومن الموت المحتَمل عند أية هفوة يرتكبها «الباص» المعذَّب، مهما كانت صغيرة.
فوق هذا الطريق الذاهب إلى السماء رأسًا، تَتَتابَع الباصات المطهَّمَة مثل خيول أصيلة، وتَتمارر بجلال. وأحسُّني أنغمس في دوّامة الوجود الجبليّ الآسرة، هذه، حتى لأكاد أنسى أنني من أهل هذه الأرض، وأنني أحد العابرين، ولست هنا إلاّ من أجل الوصول إلى حيث أريد. لكن مقولات العالم، كلها، لا تجدي شيئًا في حضور هذه العَظَمة الكونية التي بلا حدود. وأحس أنني أنسى كل شيء، كل ما كنته، ذات يوم، ومَنْ كنتُ. وأصير أراني جزءًا من المشهد العام. أبدأ الالتزام بما يتطلّبه الوضع من حذر ونباهة، وأنا أحبس أنفاسي المتسارعة، واضِعًا كفّي على فمي لئلاّ أشهق عندما نسقط من علٍ. وفجأة، أصرخ صامتًا: أُنظُرْ! أُحَرِّض نفسي على الإبْصار! وأجدني أهجم على آلة التصوير لأخلِّد المشهد. وسريعًا أدرك الفرق الشاسع بين الواقع والصورة. فأكفُّ عن التصوير، فورًا، حتى لا أُشوِّه ما أرى، وأعود إلى «كتابة الكون» كما أحسّه وأراه.
أخيرًا، ندخل في الروعة.
ندخل في قلب الوادي العميق. الوادي الخاتل بين القمم، وتحت الصخور العملاقة، حتى ليبدو مثل بول البعير في بادية الشام. شيئًا فشيئًا نخلِّف الجبال الأسطورية وراءنا، ونراها تطير بعيدًا مع الغيم. عندما نحط في قلب القاع، نصير نرى أحجار المسيل البيض ترتصّ بأناقة وسكون، ليترقْرق فوقها الماء. الماء أبيض. التربة بيضاء. وسفوح الجبال التي غدت بعيدة حُمْرًا ومشوية. ولأول مرة، منذ أن بدأنا الطريق، أحسسنا، بالقرب من المسيل، أننا عدْنا بشرًا بعد أن كنا طيورًا.
من قلب الأرض أتطلّع إلى الجبال التي ارتفعت إلى السماء بعد أن هبطنا إلى الحضيض، وأرى جَمالها الذي لا يُقارن. تُدوّخني روعتها عن بعد، أكثر مما فعلت بي من قرْب. لماذا الجبال؟ لأن السهول تكاد تكون معدومة في نيبال. ومنذ هبطنا القاع، أصير أرى، ليس بعيدًا عن مسير الباص، أرى النُهَيْر الصغير يجري بهدوء أصمّ، ونحن نتابع بمحاذاته سيرنا البطيء. وفي خُتولي، أمعن النظر الصامت إلى كتلة الماء المتلألئة وهي تتكَسَّر على الصخور التي تعترض جريانها دون أن تستطيع قهرها. وأدرك أن الماء أقوى عناصر الطبيعة على الإطلاق. الماء الذي سيغيّر مزاجي وأخلاطي، سيجعلني أتَقرّب إلى الكون أكثر ممّا كنت أفعل. مجرّد رؤية النهر المتهادي بغبطة نحو مصبّه، ستملؤني بشغف آسر للعودة إلى حيث كنتُ. فأحسُّ أن الدم تَغيَّر في قلبي، وغدا النوء رطبًا ونَعوشًا. فضاء مذهل فضاء نيبال هذا الذي لاشبيه له. وأنا أقول هذا أشعر بالعجز والأسى، لأنني لا أستطيع أن أنقل المشهد الذي أراه بما يستحق من الجلال والروعة. وأجدني أتساءل بخيبة أمل كبيرة : لماذا ليس للكلمات عيون؟
نحن الآن في «بوكارا»، في أعالي جبال «الهيمالايا». «بوكارا» كانت مقطوعة عن العالم حتى عام/1920/. من قبل لم يكن الوصول إليها ممكنًا إلاّ سيرًا على الأقدام، أو برفقة حيوانات النقل الحصيفة: الحمير والبغال. «بوكارا» مدينة تختلف عن مدن النيبال الأخرى. تحدّها من الجنوب بحيرة «فيوا» الرائعة، ومن الشمال سلاسل الهيمالايا المخيفة المتعددة الارتفاعات. إذْ ننتقل من /1000/ متر فوق سطح البحر بالقرب منها، إلى ارتفاع مذهل يقارب /7500/ م، كما في قمم جبال «دهولاجيري»، على بُعْد عشرين كيلومترًا منها. حول البحيرة الهادئة والجميلة سنمشي ساعات. وعندما نصعد الجبل العالي فوقها ستبدو تلك البحيرة الواسعة مثل نقطة في بحر من اليابسة.
السيارة الصغيرة التي نستقلّها لكي نصل إلى القمّة من ماركة «تاتا» الهندية. وهي سيارة «كرتونية»، في الحقيقة، لكنها تدرج برغم كل الصعوبات التي في طريقها. ستنقلنا من بطن الأرض إلى ظهر الجبل العالي، حيث «المعبد البوذي» الساطع البياض، «معبد السلام»، يطل من السماء على جورة «بوكارا». معبد آسر، آيته التواضع والصمت، يهيمن بأبَّهة فوق العالَم. أحسُّ أن عالم النيبال يستحق أكثر مما أقول، لكنني أعترف بأن الكتابة عاجزة عن التعبير عمّا أشعر به في كل لحظة. لا بد من مسافة ما تساعدني على تمثّل الروائع التي هي الآن في عينيّ. سأحاول، إذن، بكل طاقتي، أن أقترب أكثر ما يمكن من مشاهد هذا العالم الشديد الإثارة.
قريبًا، سنغادر«بوكارا»، أجمل المدن في نيبال. سنترك خلفنا البحيرة الهادئة المليئة بالأسرار. ستغيب عنا وجوه النيباليين المبتسمة باستمرار. ولا نعود نرى أسراب الغربان التي تحوم في فضائها سعيدة، وهي تصرخ في الأعالي معلنة عن غبطتها بالوجود. سنفتقد الأبقار الوقورة وهي تستلقي بجلال فوق أسفلت الطريق الساخن، تنظر للمارة بعيونها المدوّرة العريضة بلا اهتمام. تراقب الفضاء وهي تجتَرّ بحركات آلية مَوْزونة ماخبَّأتْه في بطونها من قبل. السيارات تتحاشاها، ولا يزعجها أحد. هي سيدة المكان بامتياز، حتى ليكاد العابر أن يتمنى لو كان مبجّلًا مثلها.
غدًا سنبدأ الرحيل، من جديد. سنستقلّ الباصات العملاقة ذات الأنين الرخيم، وهي ترقى الجبال جاهدة. ترقاها واحدًا إثر آخر. من بطن الأول إلى سفح الثاني، إلى ظهر الآخر، ومن بعد، إلى قمّة الأخير. تتَشَلْبى الأعالي مثل ثعبان خرافي من حديد. تمرُّ من مخارز الجبال، تجتاز أطواق السفوح، لتصل إلى أعلى قمة في البلاد. لقد تعلَّمَتْ من الحمير كيف تَدْبي، نافخة مثلها دخان صدورها وهي تتَجَشّأ من ثقل الحُمول. حُمول ملوّنة وثقيلة تكفَّلتْ بإيصالها إلى أمكنتها المأمولة مهما تكن الظروف. تحسّ ، وأنت فيها، أنها تفهم ما أنت فيه. تفهم حالة التوتّر والهَيْب عندكَ منذ أن تَتبدّى لك الدروب المحفورة في الحجر والطين. تكاد تلقي عليها السلام قبل أن تدخل في أحشائها المحشوّة بالبشر والهُدوم، لكنك قبل أن تزفر الكلام تبْلع الصوت مع ريقك الذي جفّ من الخوف. فتأخذ مكانك صامتًا، وأنت تستحضر «بوذا» قدّس الله سرّه، راجيًا ألاّ يسقط الباص في الحضيض عند أول زلَّة من إطاراته المهترئة. ومنذ أن تجلس، تغمض عينيك، وأنت تملأ رئتيك هواء، قبل أن تفتحمها عندما يتحرّك الباص لئلاّ يفوتك شيء من الطريق.
سنمرّ تحت الغيم بقليل. وسيبدو لنا، من السماء، عالَم القاع صغيرًا، مبعثرًا، لا قوام له. مشاهد السفر التي تسقط في عيوننا، الآن هي، وحدها، التي نراها بمتعة ووضوح. ومنذ أن تمرّ، تغدو ذكرى، على الفور. ذكرى بعيدة حتى ليمكننا أن نكتب حولها شِعْرًا. العالَم في السفر لا يتوقف عن المرور، وهو ما يبعث على الكآبة، والأسى. لكأنك وضَعْتَ، منذ لحظة، حياتك كلها فيه، وهأنتذا مضطرّ إلى هَجْرها بالرغم منك. ماذا سيحدث لو توقَّف الكون لمحة، لنملأ نفوسنا منه قبل أن نفقده إلى الأبد؟ لكن ذلك هو المستحيل. وهو ما يدفعنا لكَيْ نسافر، باستمرار، مستَكْشفين صُوَر الكون صورة تِلْوَ أُخرى، إلى آخر الوجود. ألهذا أجدني مدفوعًا بقوة لكي أصوِّر الأمكنة والكائنات التي تشدّنى، وكأنني أريد أن أضعها في قلبي؟ وعندما لا استطيع يملأ الحزن نفسي، وكأنني فقَدْتُ شيئًا عزيزًا.
السفر عرس كونيّ. سافروا تَروا العالَم كما لم تروْه، أبدًا من قبل.