ضحكت في عبها حين سألها عن مبرر غياب وجهها الذي يتصبح به كل فجر. ولأنه لم يسمع ضحكتها المنطلقة في عبها، ارتاب فلعب الفأر في عبها . وسرعان ما نمت وتضاعفت بذرة الشك في نفسه حين اكتشف لهوله أن عقربي ساعة المنبه عقصا الساعة السادسة صباحا… فلم ترن منذ الأزل وهو يستيقظ في تمام الساعة السادسة عندما يقرص العقربان هذه الساعة فتنبهه بزعيقها البهي. وكالعادة ، كان دائما، يفتح عينيه فيتصبح بوجهها الغافل في نوم وضيء، وشعرها المضجع بتحفز مكتوم على الوسادة ، كأنه ينتظر بفارغ الصبر هبة عاصفة لينتفض في كل الاتجاهات .
انزلق من السرير ، فإذا به يكتشف انه كان مضطجعا ، لأول مرة في حياته برمتها ، على يسار الفراش لا على جانبه الأيمن . باغتته شعشعة الشمس المشرقة من النافذة الغربية . شم نسمة غربية تدفع الشعشعة دفعا من خلال أغصان شجرة "الاسكانيا" العاقر.
نأى عن سرير الخواء البارز.
توقع ركوة القهوة التي تنتظركل يوم منذ نصف قرن في الصالة الصغيرة ، مر بالحمام ، دخل . فتح صنبور المياه وجها. عثر على صنبور المياه معطلا.
لم يغسل وجهه كالمعتاد . اتجه كالعادة الى الصالة الصغيرة كانت ركوة القهوة تقبع على الركن الأيسر في المنضدة . آه .. كم يعشق تلك الزاوية . لكن كنبته التي لا يسمح لأي كان أن يحتلها جثمت على يمين المنضدة . مما أثار فضوله . فقد اعتاد، منذ آن عثر على نفسه في هذا البيت (أي قبل أن ينطق لسانه بالأحرف العربية الأبجدية ) أن يجلس على هذه الكنبة بالذات ، حيث جثمت دائما وأبدا على يسار المنضدة لا يهمه لون الكنبة ولا ملمسها تهمه رؤية الأشياء من تلك الزاوية بالتحديد منذ نصف قرن وهو يمد يده اليمنى بالتحديد الى ركوة القهوة ليرفعها ويسكب – القهوة في فنجان أبيض يركب صحفا صغيرا مستديرا.
ومن على تلك الكنبة بالذات ، وخلال تلك الزاوية بالتحديد. كان يرق الى العالم في المساء عبر شاشة التليفزيون . ييمم وجهه شطر اليسار حيث الكرة الأرضية تدور على شاشة التليفزيون .
لأول مرة في حياته جلس على الكنبة التي وجدها تجثم اليوم على يمين المنضدة ذات الركوة ، مد يده اليسرى نحو ركوة القهوة باضطراب من يكتشف جزيرة مجهولة . لمس ركوة قهوة باردة ، لا تفوح منها ذائقة القهوة . ركوة خفيفة كأنها مجرد ملمس لا وزن له . مع أن كل ما تلمسه يحمل وزنا.. باستثناء الهواء . والركوة شيء .. لا هواء. شيء يحتل حيزا ماديا، وبالتالي .. وبناء عليه (بناء على ماذا ؟) ينبغي أن تتمتع بامتيازات الوزن . الخواء لا وزن ولا ملمس له أيضا. والركوة خاوية من القهوة .
تدحرجت نظراته صوب باب البيت فلمح طرف الصحيفة ، اليومية من مؤخرة الباب السفلي . فزع اليها فتح الباب . كان الباب مفتوحا. تناول الصحيفة ، لعن الله صبي البقال شديد الدقة والحرفية . أخطأ اليوم فأحضر صحيفة تجري لفتها من أعلى الى أسفل وبناء عليه (بناء على ماذا؟) (ونتيجة لذلك .. نتيجة ماذا ؟) استنتج واستنبط ان هذه الصحيفة لا تمت الى اللغة العربية بصلة لابد أن تكون لغة حضارة مختلفة لأن لفة الحضارة العربية تنطلق من اليمين الى الشمال ، لا من فوق الى تحت . دخل في ملابسه دون عناء. ولم يعتن بتسريح شعره كالعادة . فهو لا يبال على الاطلاق بصبغة شعر الرأس ، لأنه ببساطة أصلع إنه شخص لا يبالي لأن رأسه مكشوف كالعادة .. مثل جسد امرأة تجسد في تمثال متحف حضارة لا تعتبر الجسد العاري خطيئة . أي مفارقة مضحكة تعكسها هذه العبارة ! فالحضارة التي لا تعتبر جسد المرأة العاري مسألة عار وعيب وخطيئة ولعنة بشعة ، ليست حضارة انها مجرد انحطاط . عصر ظلام يشبه ملاءات النساء المحجبات المعتمات .
أطلق صفيرا غير مرح لكنه غير كئيب أيضا انه أشبه بدندنة تنم عن فتور. غريبة كلمة "فتور" هذه . لماذا نصف الأحاسيس والأمزجة بالحرارة ؟
نقول :
– أطلق من بين شفتيه نغمة لا حارة ولا فاترة … وانما فاترة .
بينما لا نقول :
– أطلق من بين شفتيه نغمة لا شرقية ولا غربية … وانما إذ لا (انما) بين ، الشرق والغرب . ولكن ثمة (فاترة ) بين الحماسة الرعناء والبرودة الوحشية .
انطلق الى الشركة حيث يحتل منصب المدير العام . لم يفتح له المراسل الباب . لكنه لم يلاحظ أن الشوارع ذات الاتجاه الواحد باتت ذات اتجاهين . وبعضها صار يتمتع بامتيازات التحويلات والانفاق والمسارات المتباينة . وسر عدم ملاحظته لانقلاب سياسة فلسفة الشوارع ذات الاتجاه الواحد ان سيارته لم تصطدم بأية سيارة أخرى.
لم يدهمه شعور بالاهانة حين لم يبادر المراسل ، كما جرت الاعراف والتقاليد، بفتح الباب . لأنه يتمتع بفضيلة التواضع .
ذلك أن الأصلع لابد أن يكون متواضعا .وهذه حتمية تاريخية لم يكتشفها ماركس أو فرويد أو ابن خلدون .
ذهب مذهبه الذي يذهبه كل يوم منذ الخلود أو بالأحرى منذ الأبد، فدخل مكتبه ، ثم التفت الى المراسل وسأله السؤال المعهود المألوف :
– هل سأل عني أحد؟
تريث المراسل وتلبث قبل أن يقول على غير ما اتفق عليه النص الذي يتكرر كل يوم :
– لا . لا أحد.
لعل المراسل توقع لمس ملامح الشك والريبة في وجه المدير الأصلع . لكن المدير الأصلع أشار بيده نحو الباب اشارة ظاهرها ملغز وباطنها بين بليغ :
– انه يرغب في أن يخلو الى نفسه .
لكن المراسل حدق الى ساعة يده ، ثم صوب عينيه وأطلقها في أغرار عيني المدير. ففهم المدير فهم اللبيب . تناول المراس سكين حلاقة حاد النصل فأبرق وامضا.كان الرجل أصلع الرأس حليق الوجه لكنه صاحب عنق مديد ووريدين نافرين وكان بصيرا بمستدقات الطاولة ومتعرجاتها ، عليما بمنحنياتها ولياتها. فاختار الجزء الصقيل من الطاولة القديمة منذ الأبد المنبلج من العصور القادمة . مد عنقه على الجزء الصقيل من الطاولة . أحس بملمسها الحار ونكهتها التي تشبا صرعة حداثية .
وبعينه الينى أبصر صحن الفول ثم صحن الحمص وما من قطعة بصل ورأس فجل ، ولاحظ – الزيت التي سقطت على سنحيفة "الدستور" الأردنية التي تمددت تحت الصحنين وقطعة البصل البيضاء العنق ذات الذيل الأخضر ورأس الفجل المضرج قرأ العنوان الرئيسي :
"ذبح مدير شركة من الوريد الى الوريد"
فدهمه لون من ألوان الفضول . لكنه لون باهت فاتر. وبناء عليه لم يرفع رأسه ، ليقرأ التفاصيل ، فظلت التفاصيل هناك كأنها نائية … كأنها غائبة .. كأنها غير مكتملة ومتعطشة الى الكمال المستحيل ! (ملاحظة غير مهمة صحيفة الدستور المشار اليها أعلاه صدرت يوم الأربعاء الثالث والعشرين من زي القعدة 1414-أو 4أيار 1994. رقم العدد 9591، وفي رواية أخرى انها الطبعة الصادرة في 5 أيار 1994 وفي رواية ثالثة إنها الطبعة الصادرة في 24ذو القعدة 1414-والله أعلم ).
مؤنس الرزاز (كاتب رواوئي من الأردن)