في «غزالة الصبا»
تنضوي أغلب قصائد مجموعة «غزالة الصبا» للشاعر كاظم الحجّاج تحت سقف التكثيف والإيجاز في بُنى لغوية ضاغطة تشي في معظم سياقاتها البلاغية بعناصر السخرية والايهام والمفارقة وبالتالي خلق التوتر في العبارة الشعرية لانتاج المعنى، ونستطيع وصف مثل هذه القصائد، بـ(قصائد الصورة أو اللمحة الشعرية او الومضة وأحياناً الايقونة) التي تشع بعناصرها التشكيلية من الداخل لتأسيس مشهد بصري وصوري معاً، عبر تتابع العلاقات الداخلية في بناءاتها اللغوية الاستعارية والتي تستمد دلالتها من البؤرة، وتتشظى المعاني عبر سلسلة من المقاربات الاشارية والعلاماتية التي تتحرك في خطٍ واحد من التناظر والتوازي ويرشح عن هذه الرؤيا الشعرية وعي الشاعر الجدلي الحاد بالأشياء والكون والوجود وتتكرّس لتأسيس خطاب شعري تتماثل فيه المرجعيات الذاكراتية وتماهيات الزمان والمكان ومهيمنات الرمز الشخصي والجمعي التاريخي المتاخم للروحي والغيبي في بنية الموروث الجمالي الاستاطيقي وتتجسد انطولوجيا الذات عبر فيوضات هذه البُنى وانكشاف اللامرئي واتساع التشكيلات الصورية والبصرية وتشاكلهما،،،
هكذا نرى أن الجهد الفني الذي يولّد الشعري داخل قصائد الشاعر الحجاج، بمعية قوى التخييل عبر تثوير مستويين لسانيين متقاربين ومتجاورين، هما (الدّال والمدلول) وإنشاء فسحة بينهما لترحيل المعنى من المفترض الذهني والحسي إلى الواقعي الدلالي لخلق حساسية شديدة وإثارة القارئ وآرباكه، حسب قول الشاعر كاظم الحجّاج في حوارٍ أجراه معه يحيى البطاط والمنشور في مجلة الصدى، (العدد التاسع والأربعون/ الاحد 5-11 مارس 2000م).
إن توفر عناصر جمالية متأنقة شديدة اللمعان في قصيدة الحجاج أعطتها سمة الأثارة والصدمة والإدهاش والإيهام في آن واحد، وتتجسد هذه العناصر في قول الشاعر الحجاج، في الحوار (الشعر لا يعمد إلى كسر الايهام بل هو الذي يخلق ايهامات دائمة لكنه يتيح للقارئ أن يكسرها لو أراد)، وقد سعى الشاعر من خلال هذه التقنية إلى ضخّ شعرية القصيدة بحمولة المفردة واشعاعاتها وطاقتها الاستثنائية، فهو يرى في قصيدته اشبه ما يقرب من تأسيس أو ارسال شفرة أو برقية أو خبر اسود لا كالاخبار العادية (دفاعاً عن اتهام البعض لقصيدته على أساس كونها -نكتة) انها مَوْجَة سوداء داخل خبر وترشح شفرتها بواسطة تضافر حركة الدّال والمدلول وانتقالاتهما ومشاكستهما ومفارقتهما وبعدهما عن اطارهما المالوف والسائد: [أرفض/ يستطيع حتى الكرسي/ أن يرفض بديناً -يجلس عليه-/ بأنْ../ يكسر نفسه!] (رفض ص15)
ان طاقة اللغة بتحويلها من الملفوظ الذهني إلى الدلالي أعطت للقصيدة شحنتها الشعرية وقوّة دلالتها الفكرية محايثة الحسّي والواقعي بالخيالي والفنتازي [فرحي قليلٌ في المرايا ولأنني أحببتهُ، كسَّرتُ مرآتي/ ليكثر.. في الشظايا!] (اجزاء المرأة ص 23).
ومن صيغ المفارقة التي يعتمد الشاعر في تحقيق شعرية تنفرد بها لغته هذه الصورة الشعرية الجميلة التي تقوم في بنية التشبيه والوصف الممتلئ بحركة الكلمة، الفعل والملفوظة المنتقاة والجامحة في الإيحاء:
[كان زغبُ خديّها/ مثل بُخار/ يتطاير../ من ضوءٍ مسلوق!] (حسناء ص 6)، إن همّاً معرفياً وجمالياً يشغل بال الشاعر من أجل توصيل المعاني التي يجسدها بمهارة في بنى لسانية ليشيّد من خلاصات هذه المعاني تأريخاً شخصياً تارة، واخرى جمعيّاً تدخل في انتاج المعنى الذي تمظهر عبر مناخات متعددة واشتغالات فنية داخل بُنى التخاطب وانعكاساته على حياته وحياة الآخرين: [حين وقفتُ في طفولتي/ للمرّة الأولى/ أمام فتاةٍ خضراء العينين/ كنتُ مرتبكاً/ وأكاد أعتذرُ لها عن.. لوني الأخضر/ فهكذا ظننتُها ترى الأشياء!] (لون).
ان ذبذبات اللغة الشعرية للشاعر الحجّاج تتجاذب داخل بؤرة القصيدة ليتأمل من خلالها أناه أمام رؤية الآخر المماثلة له، من خلال معنى وجوده، ووجوده هو من خلال وجود الآخر، انه يؤسس لمشهده الشعري بنيةً من أشجار المعنى، واذا كانت انطلوجيا الأنا الشعرية قد تحققت في انتاج معنى الوجود فإن الموجّه الرئيسي هو الأنا المعليا والذات الشعرية التي تسعى للقبض على الاشياء والوجود بالشعر، وإنّ هذا الوجود ممكن لأنه يتطابق مع الاشتغال الفكري للشاعر في حقيقته وكينونته، فهو حقيقي وجنساني معاً: [كان الحُبُّ لدينا أسرعُ من هذه الأيام/ فببيتي الآن امرأة/ سلمتُ عليها فتزوجنا!/ هل يكفي هذا الزواج؟/ قل لي: هل كانت حسناء؟/ حين ابتسمت وتمدد شمع الخدين/ صارت شفتاها لي قلباً/ لو ضحكت لانشّقَ اثنين!] (ص 62).
وتتحقق رؤى الشاعر عبر فلسفته الافتراضية في انماء الوجود الشخصي وتماهيه مع الآخر في منظومة من المحمولات التعريفية التي ينتقل بها الشاعر من حالة إلى أخرى مشيّداً صوره الشعرية التي يفخخها بالسخرية والمفارقة والتعريف المتعذّر على تعريفه حسب قول بول فاليري (ويُدخل المتعذر على التعريف في التعريف..)، إن اسلوب الحجاج يكاد يجمع بين السّهل الممتنع في تمظهره اللغوي وبين الاخباري البلاغي الذهني، حين لا يركن إلى ذاكرته بشكل تام ومنضبط، والاسلوب حسب جان كوهين (كل ما ليس شائعاً ولا عادياً ولا مطابقاً للمعيار العام المألوف، إنه انزياح بالنسبة إلى معيارها.)، أي أنه خطأ، خطأ مقصود فالشاعر لا يحرصُ على البقاء في البؤرة بشكل ساكن إنه يثوّر تراسلاتها وتهويماتها ومحتوياتها خارج بُنى التشيؤ والتقليد والقولبة:
(إني رجل خاض الحرب../ أذكّر أني- وأنا أتقدم أو اتراجع/ في الارض الاخرى- قد دستُ وروداً../ وقطعت لأجل التمويه، غصوناً/ لا أدري كم كانت.. ورأيتُ النخل يقُصّ/ ولم أحتجّ ولم أذرف دمعاً…)
ويكمّل [أدخلتَ الحربَ لأجل الـ…/ أنا لم أدخلْ…/ دخلتُ فيَّ الحرب../ هل تفهم بنتي ما أعني؟] (من قصيدته: لقاء إذاعي مع العريف المتقاعد حطّاب ص 59-61). (لم أذكر اسمي للناس!/ لا تذكره…/ فجهازُ إذاعتنا حسّاس.. ص66) وتحفل الكثير من قصائد الشاعر بصيغ المقاربة اللغوية والاندماج بصيغ تعبيرية لتفضي إلى مستويات دلالية متعددة تدفع بالقصيدة إلى فضاء أرحب وآليات اشتغال شعري في الاثارة والتقصّي وتثوير فاعليات جديدة تُجنحّ بها القصيدة لابتكار معانٍ اضافية جديدة، في مشاهد بصرية وصورية شعرية وفلكلورية ترشح عنها المرارة والحزن وتعالقات الذاكرة الشخصية بالذاكرة الجمعية.
[مثل خبز الأرياف/ خرجنا من تنانير امهاتنا/ ساخنين/ لأجل أنْ نليق../ .. بفم الحياة] (جنوبيون ص 1).
ويجتهد الشاعر في اقامة علاقة تتماهى في حسيّتها الأنا حين يعلن عن ما يشبه مانفيستو الحياة، حياته هو أمام مشهد شحوب البرتقالة وقرب قطافها، ليدلّل من خلال هذه العلاقة، إنه كلما تقدّم في السن يشحب وجهه ويكون إلى زوال، مثلما تقطف البرتقالة، وتكون إلى المائدة، ان قدراً كبيراً من الألم والأسى يغلّف هذه الصورة: [إني فتى كالبرتقالة/ شاحبٌ/ والبرتقالة لا تخاف/ لكنّما… يفرّ وجه البرتقالة/ كلّما قرب القطاف!] ص22 إنّ علاقة جدلية بين اعلان حضور الآخر أمام الأنا، وغياب الأنا أما غياب الآخر هي تسويغ شرعي، وتسوّغ هذه الرؤيا كتابة الغياب والحضور في مستوييها الحسّي والرؤيوي لتحقيق أنزياح في المعنى، ان منظومة الالفاظ التي يشتغل عليها الشاعر لتأسيس مشهده الشعري تظل في علاقة [تجاذب، حسب (ياكو بسن) وذلك لتأدية وظيفتها الجمالية، وهي الوظيفة أو العملية التي تعمل على انتهاك متعمد لسُنن اللغة العادية] وينهل الشاعر من منهل الصوفية في بنية لغوية شديدة الايجاز والتكثيف ليجترح هذه الصورة الشعرية التي يُرسّخ فيها اشتغاله على القول الشعري العميق والموجز: [إني../ رجلٌ../ يخجل../ منّيّ] (ص51).
قد تبدو العملية الشعرية عند الشاعر الحجّاج لعبة بُنى ورؤى، وهي فعلاً تتحقق في قيادة اللغة إلى منطقة المغامرة في تشكيلات من الحدوس والالغاز التي تنغلق بفعل التشكيل الذهني لتنفتح في نهاية القصيدة مُشكلة الصدمة والاثارة والادهاش والفزع أحياناً: ص8 [أجمل بيت فوق الأرض/.. التّفاح/ لولا../ أنَّ الساكن.. دود!] ص 1، ان الشاعر يرسّخ قدراً من الارباك اوالالتباس في تثوير المعنى في نوعٍ من الاشتغال البلاغي المتمظهر في النظام العلائقي للأشياء، واشغال المسافة الممتدة بين الدوافع والنتائج بالتريّث في تنقيطه المتواتر، حيث يضع القاريء في انقطاعات متصلة لملاحقة المعاني من بؤرة المجهول إلى فاعلية العلاقة المتعيّنة بين اللغة والشعور، وبين الايهام والافضاء إلى بياضات ممتلئة، إنني أجده امام بياض ذلك الذي يُسميّه الشاعر الفرنسي (مالارميه) -الصفحة البيضاء- ليؤدي في معناه (إلى الخلق من عدم)، وتجسد الكثير من المظاهر التعبيرية لقصائد الشاعر استبطان الذات في علاقتها بالعالم والتي جعلت فضاءها فضاء العالم نفسه، حيث اشتغال الذات الشاعرة على مهيمنات الرؤيا الزمانية والمكانية وطقوسهما في محاور نسيجية تأملية ترتبط ببعضها في علاقات وكشوفات وتراسلات الرؤيا والخيال، ففضاء المكان في رؤيا الشاعر هو عمق الأرض والسماوي، الكوني والاسطوري والميثولوجي والتاريخي هو [ثريا مجموعته] وعنفوان ذاكرته الخصبة وتعالقاتها اليومية في ثنايا المكان وفلسفته وجماله وفقههِ.
[ويحَ ذاكرتي!/ أتذكر رائحة الحبر/ أول يوم كتبنا به/ ورائحة القلم الخشبي/ .. وكحول الطبابة:/ كُنّا نُلقِّح في أولِ العام/ ضدَ التدرّن (يحفظنا الله)/ ..مات صديقي به/ وأخي كادّ../ ما زال كهلاً نحيلاً..!
وكانت محلتنا في المساء، تُضاء بضحك أطفالها/ ويحَ ذاكرتي/ أتذكّرُ عين (الغزالة)
.. كانت تُعلِّقُ قُمصان إخوانها../ حسرتي من زمان: أنْ اراها تُعلّشقُ فُستانها../ في زمان الشناشيل كان النساء يُعلِّقْنَّ أثوابهُنِّ/ بزاوية لا يراها الرجال!] (ص67).
ويستفيد الشاعر كاظم الحجّاج من مختلف الطرازات الفنية والأدبية، فمن الحكاية إلى القصة والسرد الموجز والمكثف واستدعاء الضمير الشخصي فيها إلى الراوي العليم بالوقائع والأحداث ونسيجها وملابساتها إلى تقنيات المسرح والسينما ونظام الفلاش باك فيهما، يظل الشاعر يمزج بين كل هذه الفنون لتأسيس مشهد شعري غني في تفاصيله الصورية والبصرية والحسّية، وتقع الذات في بؤرة الحدث لتكون هي الفاعلة والرمز والمرآة والخلق، مسبغاً كل هذه المقاربات المتواشجة في علاقاتها الانسانية والتاريخية بمستويات عاطفية عبر اسئلة لا تعثر على اجاباتها إلاّ داخل الفعل الشعري الذي تقوم على فاعليته القصيدة: [ولأني نحيلٌ،/ لم أكلِّف الربَّ طيناً ليخلقني! صاح بي: يا انا هو/ ففتحتُ عيوني……..
ولأني نحيلٌ فإني الأحنُّ على الأرض/ يا وطني!/ هل تُراني أدوسُ تُرابكَ كالآخرين؟/ .. ألستُ الأخفُّ عليكَ/ ألستُ الأحنّ؟]، ويضخ الشاعر قصيدته بمنظومة لغوية ميثولوجية زاجّاً في مفاصلها بعضَ الرموز التاريخية الأسطورية القديمة لاعطائها مشهداً جمالياً متحركاً بالرمز والاشارة والعاطفة والرؤيا وقوى التخييل،، [عشتار../ لا تستّحمُّ مثلما كانت بلا../ فالطائرات -دونما حياء-/ تبحث في الأهوار عن أسرار]،،، إن الملاحظ الدقيق لمعظم قصائد الشاعر يرى بقوة إلى منظومة لغوية ترسل اشارات عديدة عالية السخرية والمفارقة والايهام، كما ظهرت في المقطع الشعري الآنف الذكر والقصيدة التالية: [إمرأة حبلى في آخر ايام الحمل/ تجلس صاغرةً تبتسمُ/ يجلسُ قدّام المرأة رجل بثياب البيت/ يبدو شرساً بشوارب قرصان/ وبأِحدى كفيّه عصا/ تتهدد بطن الحامل/ والتعليق: (فليتأدب منذ الآنْ!)]، ومن لغة الذاكرة اليومية والتفاتات الشاعر إلى بيئته وخصوصياتها وموروثها الجمعي وحكاياتها الشعبية يوجز لنا الشاعر هذه المروية في صورة مكثّفة رائعة: [نفكُّ صُرَّةَ الحُزن بوجه الضريح/ نبكي../ يقول والدي:/ لنستريح/ فالشرقُ دمعتان: للحسين يا بُنيّ/ وللمسيح!] (ص 14).
وتنتظم قصائد عديدة أخرى تحت سقف الإثارة والمفارقة والإدهاش، وتأصيل بُنى حياتية، منها في نشدان الحرية واستعادة الزمان عبر متغيرات المكان، والبحث عن الصفاء والخلود ونشدان الحكمة المعمّقة وتأصيلها وصراع الأنا مع العالم والحياة في اجواء الحرب وملحقاتها وفضاءاتها، هكذا بدت لنا ورأيناها غزالة شعرية.
شاعر وكاتب من العراق