فكرى عمر
كاتب مصري
سَحرَ البلدة كلها. رآه الكثيرون في البداية صبيًا منطويًا. يألف الجدران، وجذوع الأشجار الضخمة، والجسور اليابسة. يقعد إلى جوار أي منها طويلًا. عيناه البُنِّيتان الصغيرتان لا تكفان عن تصويب نظرات ثاقبة إلى هدفٍ ما، ثم يتكور على نفسه.. “ربما لا يملك القدرة على مجاراة رفاقه في اللعب، ولا العراك معهم”. رأسه المدورة السمراء تكون أحيانًا مقلوبة إلى أسفل، ثمرة ناضجة وعلى وشك السقوط، لكن لولا شعره الأجعد الطويل، وحركته الاهتزازية، لظنوه قد تصلب كالمسخ في مكانه. دائمًا ما يكون هناك شاهدٌ على الأقل، يصف منظره من بعيد بالحجر المُلقى أو الورم، يقطع المسافة باتجاهه، ليهزه هزًا نحو الدنيا، إلى الغيطان والماء والعربات الخشبية والبهائم، لكن الشاهد -رجلًا أو امرأة- يتراجع قبل الخطوات الأخيرة. ربما يكون نسي شيئًا، فعاد إليه مهرولًا قبل أن تحدث مصيبة، والمصائب في هذا البراح الأخضر كثيرة، قد تُنهي دقيقة واحدة عركة على وشك الحدوث بالمناجل والفؤوس، أو تمنع رأس حيوان من التهشم أو الغرق بعد أن تنزلق أقدامه على جانب طيني لقناة ماء فائضة، وعلى العكس أيضًا.. الزمن ممتد ومتكرر في هذا المدى الذي زخرفته الطبيعة بألوان شتى، مُبهجة للجالس في الظل، وغير لافتة الجمال لمن يقاوم وسطها وهج الشمس وطعم التعب.
ينجو الصبي كثيرًا بفعل اختلاط مشاغل الآخرين، أو بسبب حاسة رهيفة تلمس الخطر من مسافة، من خلال طريقة المشي أو النظر للمُقْبِل نحوه، حتى إذا ما أصبحت خطوات القادم تدب في صدره يندسُ في موضعٍ خَفِي، فيحسب القادم حسابات المكسب والخسارة إن أكمل البحث، ثم يعود معتبرًا أن الأمر لا يتجاوز صبيا ينتظر فتاة ما، أو أحدًا من أقربائه، أو حتى يفكر باختلاس بضع ثمرات يأكلها، ثم يرجع إلى بيته. الفضوليون الذين يبحثون عن تسلية تكسر العادة يقفزون فوق القنوات الصغيرة؛ ليصلوا إليه، فيفاجئهم بملابسه القديمة، لكن المعتني بها، وشعره الطويل المُشذب في حلقات، وذلك الصوت ذي النبرة الخشنة القوية، والحجة الهادئة قليلة الكلام بالنسبة لمن في سِنه، فلا يواصلون معه إلا أسئلة عن أحواله، وأحوال والديه، وعيونهم تتجسس على ما بيديه وحوله، فلا يبصرون سوى كُتَل الطين المُشَكَّلة.
علمته التجربة على صغر عُمره أن طاقية الرأس قد تخبئ حمامًا، أو أرنبًا، أو حتى عنزًا. وتلك الرؤوس الصغيرة ذات الملامح غير المتناسقة، أو الأجساد النحيلة كالعصي قد يخرج من أفواهها العجائب، ومن أصابعها مهارات تصعب على الجبابرة. يَمْتنُّ لفقرات السحر التي يشاهدها في التليفزيون بالليل، يُسلم عينيه إلى هذا الساحر، أو ذلك وهو يشق فتاته ذات الثوب المبهرج إلى نصفين، ثم يفصل الصندوق الذي ترقد داخله إلى جزأين متعاكسين أمام أعين الجمهور، حين يضمهما مرة أخرى وهو يتلو تعاويذه بلغته الأجنبية ونبرته الخفيضة، ثم يفتح الصندوق، حتى تنطلق فراشته ألِقَة أكثر مما كانت، يتوهج وجهها بحمرة الفرح. لا شك أن الثواني التي قضتها مقسومة إلى جزأين جعلت رأسها وقلبها غابة تتعارك فيها كثير من الأسئلة، والمشاعر العصية على الوصف. يبحلق أيضًا في تلك القماشة الملونة التي يكورها الرجل ذو البذلة الكاملة، كأنه ذاهب إلى لقاء رسمي، أو تكريم دون أن يضطرب إزاء المعجزات التي يصنعها، يسحب القماشة فيظهر طائرٌ يُحلِّق عاليًا قرب الستائر. أحيانًا يُخرِج من القبعة أرانب، ومن الفم كرة بيضاء كبيرة.
هاجم صاحبه في المدرسة حين أخبره أن المسألة كلها ألعاب خِفة يد، وليؤكد الصديق اطلاعه على لُب الأشياء كلها دعاهُ وهما في المصيف إلى الملاهي، عَرَّفهُ بقريب له يعمل بالسيرك طالبًا منه أن يصنع حيلة أمامهما واعدًا إياه أن تظل سرًا بينهم. لم تَرُقْ للفتى تلك الطريقة التي تصرف بها قريب رفيقه، ولا أسلوبه في تبسيط الأمر، والسخرية منه كطريقة لأكل العيش وعقول السذج.
“إنني أرى بعيني، وأحب أن أصدق أن ما أبصره حقيقة رغم علمي بأن ثمة خفايا في الأمر”. قال لنفسه، ولبعض زملائه. انتظر، على أملٍ مؤجل، أن يقابل هذا الأنسي المُعجز بهيئته غير اللافتة للنظر، وهو يواصل تشكيل الطين الحجري إلى بقرات صغيرات ببطون كبيرة وأرجل نحيلة، عنزات ذات رؤوس كبيرة وأعين سوداء مطفأة، خراف سوداء، جمل سنامه على شكل مثلث، أسد رأسه أكبر كثيرًا من نصف جسده، وعدد كبير من الأرانب، ثم يمزجها معًا مرة أخرى بعد أن يُشبع نظرهُ مقارنة بينها وبين تلك الحيوانات في الطبيعة.
مَرَّة إثر مرة شَكَّل بقرة صغيرة بمقاييس شبه مقنعة، التهمت يومًا كاملًا والصباح التالي لِحَفّ الزوائد، ووضْع دوائر زجاجية صغيرة مكان العينين، وقطع خشبية مربعة ومشقوقة مكان الأقدام المفلطحة، وخيوط من التيل في موضع الذيل. كان انتصاره الأول، شهد له صاحبه به كفنان في طريقه إلى المجد، لكنه لم يستحوذ من الموقف إلا على نظرة الانبهار التي حاول الصاحب أن يكبحها، صرَّها في قلبه، وهو يعكف وحده على صنع أرانب بيضاء وبنية ورمادية، يُلوِّنها جميعًا بالبوية المائية، ويدعها وقتًا؛ لتجف على حافة النافذة.
انجذبت أمه وأخته لكائناته الصغيرة، راحتا تُقلِّبانها من كل الاتجاهات، ثم تركتاها مكانها، ليفاجئه أبوه ذات صباح باكر قبل أن يتناول فطوره ويذهب إلى مدرسته، يجذبه من يده، ليقفا معًا أمام الدوار قائلًا بلهجة غامضة: “هذه بقرة وهذه جاموسة بحق وحقيقي، يعني تجيب لنا لبن، وفيها لحم يكفي حارة لو ذبحناها وبِعناها. وهذا حمار ننغزه في جنبه بعد أن نستوى على ظهره، فيمشي للغيط وهو حافظ طريقه”.
أربكته الطريقة التي يتحدث بها أبوه، لكن الأمر لم يطل كثيرًا حين رأى بعض كائناته الطينية بيد أبيه الأخرى، يرفعها أمامه ضاحكًا: “فراخك بتبيض؟! بقرك يقدر يحلب لبن؟! حمارك ممكن يوصلك للمدرسة؟!”. وخزته ضحكة أخته العفوية من ناحية ظهره، وكَوَّره في جلده حديث أمه عن الانتباه لدراسته، وأنهم لن يمانعوا لو كانت تلك الأشياء طلبها أستاذٌ له، لكنهم يعرفون أنها ليست كذلك، ستأخذ وقته، وتضيع عليه حياته. غرقت أذنه في وشيش غامض، والكلام يتخبط في طريقه إلى رأسه. كلامٌ عن أن الفلوس لا يحفرون عليها باطن الأرض لتخرج إليهم، ولا تهبط عليهم من السماء كالمطر. يودُّ أن يصيح فيهم بقلب مجروح بأنه لا يلعب، بل هو ممسوس بذلك المرض الغامض، لا يبغي شفاءً، لكن فقط أن يتركوه لحاله، وهو سيعتني بطموحه، ويُرتِّب وقته.
مرحلة الطيور جاءت حين رفرف قلبه لأول مرة، التقت عيناه بعيني “سعاد” زميلته في الصف الأول الثانوي عند بائع الهدايا. ارتج القلب، امتلأ رأسه بتشويش غامض، انتشر في الجسد كله إحساس بالخدر. تَنْصَبُّ عيونها العسل المصفى إلى داخله، تحدثا بواسطتها لغة حواسهما. لا شك أن الأمر حدث رغمًا عنهما، فوجهها المدور الأبيض ازداد حمرة، برقت عيناها الواسعتان بذلك الألق النادر، بعض الشعيرات البنية المنسابة إلى جانب وجهها صنعت فيه نوعًا من الفوضى الجذابة، ازدادت بهاء حتى صارت في عينيه لا كأجمل بنت في المدرسة الثانوية، لكن كأجمل فتاة في الدنيا كلها.
قال لصاحبه مَرَّة: “هناك لغة للروح لا نستخدمها إلا نادرًا”. رد عليه: “المشاعر كاذبة، لا تصدق أن فتاة تحبك مثلما تحبها إلا حين تسمع اعترافها بأذنيك”. يومها شَكَّل من الطين حمامة، لَوَّنها بالأزرق، لكن مقاييس جسمها كانت هزلية. أقنع نفسه بأن السرحان، ومحاولة نحت وجه المحبوبة في الخيال طوال الوقت هو السبب.
من القلق ألقى نفسه في طريقها. مرة فالثانية؛ حتى كان سلام فكلام فخطابات، فتحليق للقلب إلى السماوات، ولأن السر كان أكبر من قدرة صبي في السادسة عشرة من عُمره على الإخفاء، فإنه خرج في هيئة طاووس كامل بطول ذراع.. زَيَّنه بقشور براقة، لَوَّن ريش ذيله بأقلام مائية، ثم وضعه إلى جانب مجموعة متنوعة من العصافير والحمام، علق الطيور الصغيرة على أفرع عالية في مساحة صغيرة داخل إطار كرتوني بارتفاع عدة سنتيمترات، ثم غلفه من الداخل بالبلاستيك؛ كي لا يهترئ الورق. مهد تربته غارسًا بها بعض النباتات، وصمم ارتفاعات متنوعة على الجوانب من الهضاب والجبال الصغيرة بالجبس والأسمنت، ثم وزع فيها كائناته الأخرى وطيوره. تلك الحديقة هي أول مُجسّم شبه كامل له. قضى قبلها عقدًا متعبًا من مجسمات متباينة البيئات، فأطلق التصميم الذي لا يزيد عن متر مربع من عيون رفاقه لمعة غريبة تنوع أصلها بين الدهشة، والحسد، وعدم التصديق. حَلَّقت أطراف الأصابع داخل الحديقة وَجِلة في البداية، لكنه شجعها على الاقتراب، فتحسست بحذرٍ تلك الغرائب الجامدة التي تنتظر بين لحظة وأخرى أن تُبث فيها الروح، فتنطلق دون قيد إلى الشوارع والغيطان.
أهداها طاووسه، وصنع واحدًا آخر.. لانت أصابعه شيئًا فشيئًا، غلظت تلافيف عقله، انهمرت عليه أفكارٌ شتى إلى درجة أنه لا يعرف هل تجيئه من السماء السادرة في غموضها وبُعدها، أم من الأرض الواسعة؟! كل بقعة في الأرض يصفها الآخرون بالصغيرة يراها كبيرة جدًا. إحساسٌ ما توهج في صدره، فنوَّر الدنيا أمامه حتى في الليالي المظلمة.
يُحدِّق طويلًا إلى حبيبات التربة وتجاويفها، يراقب حيواناتها الصغيرة والكبيرة مراقبة عاشق لحركات معشوقة، وهي لا تكف عن الانطلاق بحرية دون أن تهتم. تَخْضرُّ يده من طول فرك أوراق النباتات، ليختار منها ما يساعده في التلوين. تَحْمر أو تَصْفر أو تَزْرق من بعض الزهور، فيستعين بها أيضًا إلى جانب ألوانه المائية التي اقتناها بما جمعه على مدى أسابيع من مصروف صغير يناله نتيجة مرافقة أبيه وأمه أحيانًا في عمل الحقل.
كان أبوه، محفظ القرآن أيضًا في درسٍ مسائي، وأمه، ربة البيت، يعلقان عيونهما عليه في الرواح والمجيء. يسألانه هل لا يزال مغرمًا بتلك الأشياء، فيريهما بعضًا من أشكاله. لم ينتقد الأب عمله؛ فقد صار ابنه مطيعًا، يساعده أحيانًا في عمل الحقل، ويراه كثيرًا عاكفًا على دراسته، وحين جَرَّب إبعاده نهائيًا عن هذا الهوى واجه عنادًا ما توقع رسوخه في رأس الصغير، فإلى جانب إخوته الآخرين كان هذا الولد، الابن الأكبر الذي حظي ببعض التدليل والحرية، شيئًا آخر. تلقَى الأب اللوم علانية من إخوته نتيجة تركه يخلق من الطين والطمي والأحجار أشكالًا متنوعة تجذب الانتباه، وترسم الدهشة، وتحرك القلوب دون أن يكسب شيئًا من المال. لم يرتدع الولد مع كل الحِيل. يدرك أن المعارك لها صداها. علمه التاريخ المدرسي أنها حالة متواصلة من الكر والفر؛ لذا، ومع حبه لأبيه وأمه وإخوته، لم يُصدق استسلامهم التام، وإيمانهم بمهارته. كان يريهم جزءًا صغيرًا مما عملت يداه، ويخبئ الباقي إلى موعد إعلانٍ آخر مع الإخفاء التام لعدته من مقصات، وأزاميل صغيرة، وفراشي الألوان، والأسلاك النحاسية، وبكر اللاصق، والمفكات، ومطرقة صغيرة في تجويف مكتبه.
صار يصنع منحوتات أشجار من الصلصال، طيورًا من الحجر، أنهُرًا من عجينة زرقاء لا تيبس أبدًا، يغذي حوض ماء كبير بأسماكٍ حمراء وخضراء وبنفسجية من أحجار لا تذوب.
في سنته الدراسية الأولى بكلية الفنون الجميلة أطلق مشروعه الفني والتجاري الأول. صمم مُجسّمات مجوفة للملح، والفلفل، والكمون، والبابريكا، وسائر بهارات الطبخ. اختار لها شكلًا خارجيًا لافتًا على هيئة ورد، وعصافير، وفراشات تلهفت النساء على اقتنائها. استعمرت منحوتاته البيوت. بشرته أمه للمرة الأولى بأنه صار حديث القرية. طلب منه أبوه أخيرًا أن ينحت له مجسم فلاح يجلس في ظل شجرة، أمامه ثروة من المواشي والأراضي الممدودة. شاهد جيرانه ذلك، فطلبوا إليه أن يتوسط لدى ابنه لصنع أشياء تخصهم، لكن الأب تعلل بمشاغل ابنه الدراسية، وظلت سعاد تطلب إليه أن ينحت مجسمات صغيرة لهما. لم تجرؤ أبدًا على الإعلان عنها، كانت مخبأة في حقيبة قديمة لها، تخرجها أحيانًا وحدها، تتأملها، فتقبله مقربة إياه من وجهها، وهي ترسم حياتهما معًا.
تساءل الناسُ: “كيف عرف كل تلك التفاصيل، ولا أحد كان ينتبه له؟!”.
“هل من المعقول أن يبدع كل مجسمات الكائنات من بلاد شتى لمجرد أنه يطيل تأملها؟!”.
“هل تلبسه روح عفريت من الجن، أم أنه مهووس بالفن كما نسمع عن بعض المجانين؟!”.
نصحوه بالسفر إلى بلدة أخرى بعد تخرجه.. إلى مكان كبير يُقدِّر مواهبه بدل أن يعمل مدرسًا للرسم في مدرسة ريفية. كان يتعجب من استهتارهم بما يملكه المكان من قدرة على الإلهام، وسخاء الموجودات والألوان، وسواء توظف أستاذًا، أو عمل في مهنة حرة سيظل إلى أن يشعر بأنه اكتفى، فيبحث عن موضع آخر، يتلو فيه أيضًا آيات عشق بحق أرضه، وشجره، وناسه.
قالوا: “لا يزال صغيرًا لم تنهشه الدنيا بأنيابها بعد، وربما أفسد التليفزيون والأحلام عقله”.
لكن المستفيدين من براعته لم يضيعوا وقتًا طويلًا بالأسئلة. مع قفزات فنه أطوارًا أروع صنع مجسمًا بشريًا كاملًا. كلما رآه أحد من خاصته الذين أطلعهم على السر أحسوا أن بينه وبين النطق شعرة واحدة. تفشى السر بين مجموعة صغيرة، فاستعان به أحدهم لتصميم مجسمٍ لعزيزٍ مات له. جاءه شاب بصورة لفتاة طلب إليه أن يشكل تمثالًا صغيرًا لها، يحتضنها قرب قلبه كلما عذبه الأرق، أو الفراق. استعان به بضعة صبية ذوو خيال خصب؛ لينشئ لهم نسخة من كائناتهم الخرافية، يحاربون بهم بعضهم البعض. رغم أن الأمر كان ميسرًا لمن يملكون بعض المال؛ لشراء مجسمات بلاستيكية للحيوانات والطيور وعرائس باهرات من اللدائن في المدينة كلما هَمّ أحدهم بالزيارة إلا أن منحوتاته كان لها سحرها، ومهابتها. لا تقارن أبدًا بتلك الأشياء التي تلقى سريعًا في الجوانب، أو تمزق بعد فتور لحظة اقتنائها.
صارت آثاره تملأ البيوت، منحوتاته عشاقًا وعشيقات سرية. أضحى فنه وسيلة للعراك بين من يبجلونه ومن يكرهون تلك الأشياء، فيرونها عودة إلى عبادة الأمثلة وترك الحقيقة، لكن كلما رأى أحدهم شيئًا من صنع يديه وقف حائرًا، يتساءل مذهولًا: “متى تعود إلى الحياة تلك المسوخ المسجونة في أجسام صغيرة تمتلئ بالحميمية، وتنتظر إشارة بالكلام والحركة”.
أحلام البلدة كانت على وشك التحقق، خطوات الشاب الفنان تدب داخل قلوبها، كلامه يملأ عقولها كلما خطا، أو تحدث مع حفاظه على أسرارها، ومفاتيح قلوب أبنائها وأمنياتهم في يديه، حتى استيقظوا ذات صباح فلم يجدوه.. لم يعثروا بعد بحث شاق مع أسرته وجيرانه وخطيبته المحبوبة على ما يدل على طريقه. “هل طار في السماء مثل طيوره المتجمدة، أم غاص في باطن الماء كأسماكه الملونة؟!”.
تلك القرية قليلة كالحظ، كما يخبر الكبار، لم تجده بعد ذلك أبدًا. ذاب من وسطهم دون مبرر منه، أو مقدمات. مع اختفائه بدأت منحوتاته حياتها، تحدث أكثر من رجل وامرأة عن حركاتها، شاهدوها بأعينهم وأنصتوا لحديث خافت بينها في الظلام. كان الأمر مدهشًا ومروعًا. جمعوا آخر آثاره، ثم أقفلوا عليها باب حجرة بداره، غَلَّقوا الشبابيك والأبواب بالأقفال. تَحسَّر كثيرون سرًا على غيابه، واستغل مطلقو الإشاعات، ذوو النظرة المتجهمة والكلمة المؤثرة، الحادث بقوة؛ لتهديد من يود تقليده، أو إحياء سيرته الملعونة!