ناقد من سورية يقيم في الامارات .
عرَّف جيرالد برنس الشخصية في قاموس السرديات بأنها (كائن له سمات إنسانية، ومنخرط في أفعال إنسانية، ويمكن أن تكون رئيسية أو ثانوية، ديناميكية أو ثابتة، متسقة أو غير متسقة، مسطحة أو مستديرة، ويمكن كذلك تحديدها على أساس أعمالها وأقوالها ومشاعرها، وطبقا لاتساقها مع الأدوار المعيارية، أو طبقا لاتفاقها مع مجالات محددة من الأفعال، أوتجسيدها لبعض العوامل)(1).
ويذهب الناقد الروسي فلاديمير بروب في دراسته للشخصية الحكائية إلى القول بأن الوظيفة المنوطة بالشخصية داخل السرد الحكائي (وهي التي تغطي دوائر فعل الشخصية في الحكاية) هي التي تخلق تلك الشخصية، التي تختلف عنده من حيث كونها عنصرا متحولا، بينما تشكل وظيفتها عنصرا ثابتا، ورغم ذلك فإن العنصرين يظلان مترابطين بصورة قوية، الأمر الذي يجعل وظيفتها تظهر من خلال دورها في تقدم الحكاية وتطورها.
وتتبدى تلك الوظيفة، من خلال أهمية الدور الذي تلعبه، على صعيد تطور الحكاية. أما الناقد الروسي يوري لوتمان فيرى أن الشخصية هي عنصر من عناصر النص، وإدراكها يرتبط بإدراك العناصر الأخرى التي يتكون منها النص الروائي كالمكان والزمان والسرد.. الخ. في حين ربطت السيمائية السردية، كما تجلت عند كريماس بين الشخصية، ومسألة الدلالة التي تجعل تلك الشخصية ليس لديها أي وجود مستقل، يمكن أن يجعلنا نتناولها بعيدا عنها، الأمر الذي يجعل دراستها تحتم دراسة بنية السرد الروائي بصورة عامة. وقد رأى الناقد الروسي باختين أن المهم في الشخصية ليس الشخصية ذاتها بل المهم فيها هو ما يمثله العالم لها وما تمثله هي لذاتها. ويعرِّف الناقد سعيد يقطين الشخصية بأنها تجسيد لأنماط وعي اجتماعي/ ثقافي تعيش قلقها مع العالم ومع ذاتها. حيث تلعب علاقات الشخصيات داخل العمل الروائي مع بعضها البعض دورا هاما في إبراز البعد الاجتماعي الذي يرتهن إليه الكاتب في تقديم شخصياته. ويضيف باختين بأن وظيفة الشخصية داخل العمل الروائي تتأتى من خاصيتي الثبات والتحول، اللذين يميزان وجود الشخصية داخل هذا العمل(2) . لقد اختفت الشخصية أو كادت داخل الرواية الجديدة دلالة على ضياع شخصية الفرد، وغياب تأثيره في المجتمع الرأسمالي، إذ قدمتها تلك الرواية شخصية بلا اسم ولا أعماق مكتفية بوصفها من الخارج. من هنا فإن للشخصية الروائية دلالتها ووظيفتها داخل العمل الروائي باعتبارها عنصرا أساسيا فيه. وهذه الشخصية يمكن أن تكون رئيسة أو فرعية، فاعلة أو منفعلة، عميقة أو مسطحة،حسب الأدوار أو الأفعال التي تقوم بها، أو مدى انسجامها مع الأفعال التي تتناسب مع القيام بها. كذلك يمكن تصنيف الشخصية بحسب أهمية الدور الذي تلعبه في السرد الحكائي، فهناك الشخصية الرئيسة والشخصية أو الشخصيات الثانوية على أن العلاقة القائمة بينهم قد تكون علاقة إئتلاف أوعلاقة اختلاف، تعايش أوصراع حسب طبيعة المواقف والعالم الاجتماعي الذي تريد الرواية تقديمه. ولاشك أن أي تطور ونمو في حركة السرد الروائي سوف يتبعه تطور ونمو في الشخصية، والعكس صحيح أيضا. لقد ركزت الرواية الحديثة كثيرا على الشخصية، بينما عملت الرواية الجديدة على تغييب الشخصية باعتبارها نظيرا لاختفاء دور الفرد وتأثيره في المجتمعات الغربية، ولذلك ظهرت تلك الشخصية دون اسم وبلا أعماق، وتركز الوصف عليها من الخارج. إن الشخصيات الروائية لا يمكن أن تعيش داخل النص الروائي في حالة انقطاع عن بعضها البعض، بل تكون في حالة ارتباط وذات تأثير متبادل، يستدعي بعضها البعض الآخر لأن التجاذب فيما بينها، هو الذي يحكم بنية العمل الروائي ويشكل لحمته.
رواية «زينة الملكة»
رمزية الشخصية الأنثوية في رواية زينة الملكة
يلعب العنوان الذي يعد علامة ذات دلالة وبعد إيحائي دورا مهما في عملية تأويل النص واختزاله، فهو الذي يقوم بتعيين طبيعة النص الذي يسمّه. وتنبع أهميته من كونه صلة الاتصال الأولى بين النص والمتلقي، يقوم من خلال ما يمثله من مفتاح تأويلي كما يقول إمبرتو إيكو بربط القارئ ( بنسيج النص الداخلي والخارجي ربطا يجعل من العنوان جسرا يمر عليه)(3). إن العنوان الذي يحمل اسم شخصية من شخصيات الرواية يعني أن هذه الشخصية هي شخصية محورية فيها، وهذا ما ينطبق تماما على عنوان رواية زينة الملكة للروائي علي أبو الريش فهو يحمل اسم الشخصية الرئيسة والمحورية التي تمركز السرد حولها، بحيث يكشف ذلك عن المقاصد الدلالية التي انبنت عليها استراتيجية العنوان عند الروائي، وما يود تحقيقه على مستوى التلقي، فالعنوان الذي يتألف من جملة اسمية حذف مبتدؤها يحمل اسم شخصية بطلة الرواية زينة معرَّفة بلقبها ( الملكة) الذي يحمل معيارا قيميا. يحمل اسم زينة على مستوى بنيته الدلالية معنى الحسن والجمال، ويأتي لقب الملكة لكي يكشف عن المكانة التي تميزها، وبذلك يقوم العنوان بوظيفة إيديولوجية يتوخى الكاتب من خلالها إكساب المتلقي معرفة بحقيقة تلك الشخصية التي يتضمنها العنوان، خاصة وأن العنوان يرتبط بعلاقة عضوية بالعمل الروائي الذي تنفرد شخصية زينة ببطولته وتشكل محوره. وتلعب جملة الاستهلال أو المقدمة التي يستهل بها الرواية والتي تشكل مع العنوان عتبات النص دورا مهما من خلال تقديم شخصية بطلة الرواية زينة ووصفها في تعزيز تلك الأهداف التي قامت عليها استراتيجية العنونة، إذ نلاحظ أن الصفات التي تطلق عليها تأتي مقترنة بمعاناتها على المستوى الوجودي والاجتماعي بحيث يوحي ذلك بالجانب القيمي الإنساني والأخلاقي الذي تكتسب من خلاله تلك الصفات، إلى جانب ما يلعبه وصف المكان من دور في تحديد طبيعة تلك الشخصية، ومنح العمل الروائي القائم على التخييل صفة الواقعية («زينة» البهية الزهية، في زرقة الموت انتعلت خسارتها، ووضعت جسدها المنهك عند ناحية الفجيعة، وانتظرت زيارة الصباح.. هذا الصباح لا يأتي محملا برائحة الأطفال الذين ذهبوا بعيدا، عند ناصية المقبرة القديمة… صباح سكران بالكافور وبكاء الجارات اللاتي ودّعن فلذات الأكباد، وكلما فقدت معيريض عزيزا جئن بالسواد، مكللات بالدموع والعبوس. عند باب البيت المغمس بالتراب وعفونة براز القطط والكلاب تجلس زينة، تختلط الدمعة بالابتسامة البلهاء. لا أحد يعرف لماذا تفرج زينة عن أسنان صفراء محطمة برز الناب من فتحة الفم كشاهد على المأساة)(4). ويفصح الوصف الذي تقدمه عتبة السرد للشخصية والمكان عن العلاقة التي يمكن أن تتحقق بينهما، من خلال التماثل الذي يمكن أن نجده بين البيت وصفاته وبين نوعية الناس الذين يعيشون فيه.
الشخصية الثانية في الرواية هي شخصية يوسف الرواي زوج البطلة زينة الذي يعمل على مراكب النوخذة في البحر حيث ترتبط الشخصيتان بعلاقة حب وتجاذب كبيرة، تمنح حياتهما قيمة خاصة من التآلف والدفء والمتعة، على الرغم من حالة الفقر الشديدة التي يعيشان فيها. تتميز شخصية الرواي بقوتها الجسدية وفحولتها الجنسية التي تجعل زينة تعيش في نعيم ملذاتها، وفورة شهواتها التي يوقظها عندها، بحيث يضفي ذلك على لياليهما معنى خاصا من الحميمية والتوهج والإحساس العارم باللذة والشبق، مما يزيد من تعلق زينة به ويضفي على حياتهما شعورا قويا بالسعادة والألفة لانجدها في حياة الناس الآخرين. ولا يختلف اسم يوسف باعتباره علامة دالة بامتياز من حيث دلالته عن اسم زينة، فيوسف هو اسم ديني كان يتميز صاحبه النبي يوسف بجماله الذي جعل زليخا زوجة فرعون تشتهيه وتوقع به عندما لم يستجب لرغبتها. أما الصفة التي يتم تعريف الاسم بها وهي الرواي فهي تدل على معنى الإرواء حيث كانت فحولته المتميزة تشكل مصدر إرواء لشهوات زينة. تنفرد زينة ببطولة الرواية التي تمثل محورها، بينما تمثل شخصية يوسف شخصية فرعية ارتبط وجودها بالشخصية المحورية زينة وبأحداث الرواية، إذ لا حدث بلا شخصية ولا شخصية بلا حدث. ولا يتجاوز عدد شخصيات الرواية الخمسة، وهم يختلفون من حيث صفاتهم وسلوكهم وأفعالهم، كما أنهم يختلفون من حيث أهمية حضورهم في الرواية أو دورهم في أحداث الرواية. هناك إلى جانب الشخصيتين السابقتين شخصيات القارئة مهرة التي تعتبر نقيضا لشخصية زينة، وقد اختصت بتعليم القرآن للأطفال مقابل مبلغ من المال، وما يميزها هو التناقض في شخصيتها بين ما تقوله وتطالب به من التزام بقيم الدين، وبين ما تفعله إذ اتخذت من الدين سلاحا لتحقيق مكاسبها ومكانتها في المجتمع. وتكتسب شخصية أحمد بن سلطان النوخذة حضورها وتأثيرها من خلال المال الكثير الذي تملكه، والمراكب التي تعمل في التجارة ويحصل الناس على رزقهم من خلال العمل عليها بما فيهم يوسف الرواي الذي كان يحتاجه النوخذة لقوته وقدرته على الاحتمال والجلد. وقد استمد النوخذة قوته ومهابة الناس له من خلال تلك الثروة التي يملكها ما دفع بالناس إلى النفاق في تعاملهم معه وإبداء احترامهم له، الأمر الذي جعل زينة دائمة السخط عليهم وتفضل العزلة على الاختلاط بهم. وهناك أخيرا شخصية أبو حميد الذي يتفوق على يوسف الرواي من حيث قوة فحولته وتعلقه بالنساء، وتوحشه أثناء وصاله معهن، والذي لايخلو من نزعة سادية تتجلى في لطمهن وعضهن أثناء ذلك، فهو (يعشق الشعر الكثيف على جسد المرأة لأنه يثري رغبته ويشبعها، كان عنيفا متوحشا ساعة الذروة لا يهون عليه توديع الجسد المسجى تحته إلا مدمى بالعض والقرص وأحيانا اللطم، لكنه عندما يفرغ من عمل الشيطان يبدي أسفه فيهم بالتقبيل والمس والتحسس)(5). وهناك شخصيتان ثانويتان جدا يظهران في سياق حديث زينة عن شخصيات القرية، الأولى هي شخصية الخضر الذي يستخدمه النوخذة أداة لجمع الأخبار والتجسس على سكان معيريض. وتتميز هذه الشخصية ببنيتها المتناقضة التي تجمع بين الحب والعدوانية، في سلوكها مع الآخرين، إضافة إلى صفات الدمامة، والتشوه الجسدي (فقدان إحدى عينيه) ونزعتها المثلية التي اشتهرت بها. ولعل تلك الصفات تتناسب مع حقيقة الدور الذي كانت تقوم به. وأخيرا هناك شخصية الراعية فطوم البنت الشوهاء والدميمة التي لم تتزوج، فبقيت عانسا وكان الناس يهابونها بسبب سلاطة لسانها وبحة صوتها الجهور، لكنها بالمقابل كانت تمتلك قلبا طيبا وسريرة نقية. من الملاحظ تركيز الروائي على الصفات الجنسية لشخصياته الذكورية، حيث ترتبط الصفات السلبية كالعنة والمثلية بالشخصيات السلبية، والفحولة والكفأة الجنسية عند الشخصيات الإيجابية، ولذلك يمكن تصنيف تلك الشخصيات من حيث صفاتها الشخصية، أوالجنسية في جدولين اثنين لكي نتعرف على تنوع الشخصيات، وتعدد صفاتها في العالم الروائي، بغية إدراك ارتباطها ببعضها البعض من جهة، وعلاقتها بعناصر السرد الأخرى من جهة أخرى، وتأثير ذلك على تنامي أحداث الرواية، وطبيعة الصراع الذي يحكمها:
جدول رقم (1)
جدول رقم ( 2)
تتميز شخصية زينة بالسذاجة والعفوية والقناعة والعقم، الذي يدفعها للتعويض عن الشعور بنقص الأمومة، التي افتقدتها إلى تربية القطط والسهر على إطعامها ورعايتها، باعتبارها تمثل عائلتها البديلة التي كانت تؤنس وحدتها، وتتبادل معها الأحاديث، وتبثها لواعج نفسها وهمومها بعد أن اعتزلت الاختلاط بالناس، بعد أن رأت فيهم كائنات بغيضة ومكروهة وتافهة.إنها تمثل أنموذجا للمرأة التقليدية، فهي على صعيد نظرتها إلى العلاقة بين المرأة والرجل التي ورثتها عن أمها والتي تتميز ببعدها الرمزي، فهي ترى أن المرأة هي حضن الرجل الذي يقدم له الرعاية والحب ويشبع رغباته، بينما الرجل يمثل ظهر المرأة أي سندها وحاميها. من جهة أخرى تكشف علاقة يوسف الرواي بزينة عن ارتباط نفسي قائم على التشابه الذي كان يجده بينها وبين أمه التي أحبها كثيرا فيقوم في هذه العلاقة بإسقاط صورة أمه عليها مما يزيد من قوة هذا الارتباط والتعلق بها. بينما تكون الأمومة التي لم تتحقق بالنسبة لزينة هي الدافع الذي يجعلها ترعاه وتحرص على تأمين طعامه انطلاقا من شعور الأم المسؤولة عن رعايته، ولذلك تكون عليها مهمة تأمين الطعام من جيرانها يوميا له ولقططها، التي صارت بمثابة أبناء لها تتكفل بطعامها . لم يكن زوجها يوسف بعيدا عن معنى تلك العلاقة بين زينة وقططها، كما يظهر من خلال وصفه وحديثه عنها في سياق المتن الحكائي(طعام صغارها – قططها التي تنام على شكل دائرة حول فراش الأمومة) ولعل موت قطتها سلوى وما خلفه من حزن شديد وألم وشعور بالخواء في حياتها ودفنها قرب خيمتها ومناجاتها الدائمة لها بصورة مؤثرة، هو يؤكد هذا الارتباط الأمومي معها. كذلك يتكشف موقفها من الموت وعدم خوفها منه، لكونها تمتلك فلسفتها الخاصة تجاهه، فهي لا ترى فيه نهاية للكائن،بل ولادة جديدة له، الأمر الذي جعلها تتخيل دائما حضور يوسف الرواي معها بعد موته، وظهوره لها على شكل المخلوق العملاق الذي ظهر لها في أرض الشريشة.
الراوي العليم في كل مكان
يظهر السرد الروائي الذي يقدمه الراوي العليم الموجود في كل مكان والعارف بكل ما تهجس أو تفكر به الشخصيات انحيازا واضحا إلى جانب شخصية زينة التي تحافظ على ثباتها ومواقفها من الناس، سواء من حيث قبولها بواقعها البائس باعتباره نابعا من شعور بالقناعة التي لا تضطرها للنفاق والمحاباة، على خلاف الناس المحيطين بها الذين لم تر فيهم سوى النفاق والشر الذي يجب الابتعاد عنه، أو من حيث إخلاصها لذكرى زوجها، أو لقططها وكلبها فهد الذي يؤدي دور الحارس معها بعد موت يوسف الرواي. إن هذه الشخصية التي نلاحظ انسجام سلوكها مع قناعاتها ومواقفها التي تتناسب مع أفعالها، هي شخصية تتميز بثباتها وبفرادتها واتساقها مع ذاتها، كما كان الحال مع شخصية يوسف الرواي الشجاعة والصادقة أيضا. ولا تختلف الشخصيات الأخرى كشخصية المحفظة مهرة، وشخصية النوخذة من حيث صفاتهما الثابتة، فهما شخصيتان تتمتعان بصفات سلبية، مقابل الشخصيتين الإيجابيتين السابقتين، الأمر الذي يكشف عن وضعية المقابلة في هذه الثنائية التي يقوم عليها بناء العالم الروائي، في حين تتميز شخصيتا فطوم وخضر بوجود عناصر إيجابية وأخرى سلبية، تجعلهما يحوزان على قواسم مشتركة تجعل موقف الراوي الذي يقوم بتقديمهما أكثر اعتدالا. إن هذه الشخصيات بتنوعها وعلاقاتها المتداخلة هي تجسيد لوعي الروائي بالواقع الذي يعبر عنه، وتمثل لعلاقاته القائمة بأبعادها المختلفة، كما تجلت في العلاقات التي تربط شخصيات الرواية بعضها بالبعض الآخر وقد اتخذت ثلاثة أشكال هي أولا: علاقات تتميز بالائتلاف (زينة ويوسف الرواي) أو بالاختلاف (زينة وأحمد النوخذه والمحفّظة مهرة)، أو القائمة على التعايش (زينة والراعية فطوم) حيث تبرز تلك العلاقات البعد الاجتماعي الذي ترتهن إليه الرواية في صياغة عالمها السردي وأحداثه، والوعي الاجتماعي الذي تحوزه تلك الشخصيات فيه.
شخصية الآخر في رواية فرت
من قسورة لعلي أبو الريش
تبرز شخصية الآخر الأوروبي في رواية فرت من قسورة (6) للروائي علي أبو الريش بوصفها شخصية رئيسة، فاعلة ومؤثرة في بنية السرد الحكائي للرواية، من خلال الدور الذي تلعبه تلك الشخصية في تنامي أحداث الرواية وصراعها، الناجم عما تشهده تلك الشخصية من تحولات ذاتية على مستوى علاقاتها بالآخرين، وعلاقتها بذاتها، خاصة وأن هذه الرواية تتميز بمحدودية شخصياتها، إذ لا تتجاوز في نصفها الأول ثلاث شخصيات هي الزوج خلفان المهتم بالدراسات النفسية وقراءة فرويد، والزوجة غزالة التي تعيش قلقها الخص النابع من عقها، والفتاة هيلين التي استقدمها الزوج خلفان من موطنها البوسنة خلال الحرب المستعرة هناك، بعد أن فقدت أمها، لكي يتخلص من مشاكله مع زوجته غزالة التي لم تستطع أن تنجب ولدا يملأ حياتها الخاوية من مشاعر الأمومة. لقد ساهم وجود هيلين في ملء حياة الأسرة وإن لم يلغ محاولات غزالة لإنجاب طفل، ما يجعل العلاقة مع خلفان تنحصر بالنسبة لها في تحقيق هذا الهدف، الأمر الذي يولّد عنده مشاعر الغضب والنقمة ويخلق حالة من الخواء العاطفي الذي يحاول أن يملأه من خلال علاقته مع هيلين. وإذا كانت هيلين قد تحولت داخل هذه الأسرة إلى ساحة صراع بين خلفان وغزالة، علاقة خلفان بهيلين تتخذ مع اكتمال أنوثتها منحى دراميا تنتقل فيه تلك المشاعر من مشاعر الأبوة إلى مشاعر الحب والرغبة، التي تجد تبريرها لديه بأن هيلين ليست ابنته، ما يسهم في خلق تحولات أساسية وواسعة على مستوى أحداث الرواية وبنية السرد الحكائي فيها. في البداية تتمكن هيلين من تحقيق اندماجها بالأسرة التي رعتها بالحب والعناية الكبيرة على الرغم من المشاعر الدفينة المبهمة التي كانت تختزنها في عقلها الباطن، وتتجلى في الكوابيس والرسوم التي تتضمن مشاهد قاسية فتزيدها هلعا وخوفا. ومع تفتح وعيها تكتشف التمايز الواضح بين بشرتها وبشرة والدها ووالدتها، كما تقوم زميلات مدرستها أيضا بتنبيهها إلى حقيقة أصلها واختلافها عن أسرتها، فتبدأ بالبحث عن إجابات حول هويتها الحقيقية. وإذا كان الاسم يشكل علامة لغوية، فإن اسمي خلفان التاجر وغزالة يحيلان على البيئة الاجتماعية الإماراتية التي تجري فيها أحداث الرواية، في حين يبقى اسم هيلين نافرا من حيث اختلافه الواضح وطبيعته التي تتوافق مع صفاتها التي تكشف عن انتمائها إلى بيئة غريبة، تدفعها باستمرار للسؤال عن حقيقة هذه الذات الغريبة.
وظيفة الشخصية ودلالاتها
ترتبط وظائف الشخصية في هذه الرواية من حيث دورها في تطور البنية السردية، ومن خاصية التحول التي تتميز بها، ومن خلال أهمية الدور الذي تلعبه في السرد الحكائي، باعتبارها شخصيات رئيسية جرى بناؤها من قبل الكاتب لتمثل شخصيات تعيش قلقها مع ذاتها على مستوى الوعي الخاص بها وجوديا أو عاطفيا، والعلاقة مع بعضها البعض حتى يستحيل الاستمرار فيها، فنجدها تذهب في اتجاهات شتى تكابدها حزنها و ضياعها، الأمر الذي يجعل الحدث مرتبطا بتلك الشخصيات وتحولاتها على مستوى الذات والصفات والعلاقات التي تقوم فيما بينها. ترتبط تلك الشخصيات الثلاث مع بعضها البعض بعلاقات توافق في بداية الرواية، لكنها فيما بعد تبدأ بالتفكك شيئا فشيئا بسبب الاختلاف في الوعي بين الزوج خلفان والزوجة غزالة، إذ ينشغل الأول بالبحث والقراءات النفسية، بينما تنشغل غزالة بموضوع الإنجاب ولا ترى في الزوج سوى وسيلة لتحقيق ذلك، ما يفقد تلك العلاقة بينهما معناها العاطفي، ويخلق حالة من السخط والنفور حيالها عند خلفان، يعززه الصراع على امتلاك هيلين بينهما، ومحاولة اجتذابها من قبل كل منهما. لكن هيلين التي تبدأ بإدراك اختلافها عن محيطها الاجتماعي الذي تعيش فيه، تعيش هي الأخرى صراعها العاطفي بينهما، وإن ظلت تنحاز إلى والدها بالتبني أكثر. إن الشخصية التي لا يمكن تناولها بالدراسة بعيدا عن مسألة الدلالة، وفق ما تقول به السيمائية السردية عند كريماس، تظهر مدى التفاوت بالوعي عن كل من شخصية الرجل التي يمثلها خلفان والمرأة التي تمثلها غزالة، ففي حين ينشغل الأول بالبحث والدراسة في عالم النفس من أجل فهم الشخصية الإنسانية، ومحاولة إعطاء العلاقة الجسدية بين الرجل والمرأة معنى عاطفيا، نجد الأخرى تنشغل بالجانب الغريزي عندها والمتمثل في مسألة الإنجاب والأمومة، فيكون إلحاحها على هذه العلاقة من أجل هذه الغاية وحدها، الأمر الذي يغضب خلفان ويولد شعورا بالنقمة، يفقد علاقة التواصل والاتصال بينهما معناها الإيجابي، ويبدأ بخلق شرخ ما يني يتسع ويكبر حتى تنهار تلك العلاقة في النهاية معززة بدوافع خلفان تجاه هيلين، وبحثه عن علاقة الحب التي تملأ فراغه العاطفي، واكتشاف غزالة لتلك الدوافع في لحظة لقاء حميم بينهما. إن تطور تلك الأحداث في الرواية يرتبط بتطور الشخصيات، بحيث يقود ذلك إلى تحول درامي في حياتها ومواقفها وسلوكها، ينمو معه الصراع بين تلك الشخصيات من جهة، وبينها وبين ذاتها من جهة أخرى. إن دافع الإنجاب عند غزالة هو الذي يشكل محور علاقتها بالزوج خلفان، بينما تشكل هيلين حالة تعويض عن حالة عقمها، وبذلك يظهر الاختلاف والتباين بين الشخصيتين. ولا تختلف شخصية البدوي الذي تلتقيه هيلين بعد فرارها من منزل خلفان عن باقي الشخصيات، من حيث تحولاتها في علاقتها بها، فبعد أن تعبر عن ولائها لسيد القلعة من خلال اقتياد هيلين إليه لينعم بمفاتنها، نجده بعد فرارها الثاني من محبسها يمثل حالة من الحب السامي، بل يربط الحياة كلها بهذا المعنى الذي يمنحها قيمتها الإنسانية. وبغض النظر أن حضور الكاتب من خلال هذه الشخصية التي تتحدث عن الحب بلغة لا تتناسب مع وعيها ووضعها الاجتماعي، فإنه يتحول عن هيلين إلى رمز للحكمة البدوية التي تسعى إلى تحقيق خلاصها بها من خلال توحدها معه، عندما تخاطبه بصوت مخنوق (حررني مني.. طهرنا، واغسل هذا القلب الملوث بحكمتك الصحراوي. البدوي.. يقترب من هيلين أكثر، يلتصق بها يهمس في أذنيها: هل تتزوجيني؟.. تهز رأسها قائلة ضارعة.. أجل.. يذوبان يتعاطان الحب في لحظة إشعاع عاصف لم يشهد له مثيلا..)(7) . يحمل المشهد الذي يشكل نهاية الرواية دلالة خاصة تنبع من معاني الخلاص التي يمثلها توحد هيلين الغريبة التي تمثل الآخر المختلف في هذه الرواية مع شخصية البدوي التي ترمز للنقاء والحكمة، خاصة وأن تلك الشخصية تقدم بلقبها الذي يحيل على بيئة اجتماعية محددة، وليس باسمها الشخصي، ما يعزز من تلك الدلالة التي تحملها تلك الشخصية، ويكشف عن وظيفتها التي يريد أن يحققها الكاتب من خلالها، وهي القول بالخلاص الذي يمكن أن يتحقق عبر التوحد مع تلك الحكمة وحالة النقاء التي تحملها قيم ذلك العالم، في مواجهة قيم المدينة الحديثة التي تهرب منها هيلين باحثة عن خلاص ذاتها.
العلاقة بين الشخصيات
تأخذ العلاقة بين الشخصيات الثلاث الأولى (الزوج والزوجة وهيلين) في بداية الرواية طابع الرغبة والانسجام والتوافق، إلا أن سرعان ما تتحول باتجاه آخر يرتبط بالتحول والتبدل الذي يطرأ على مواقف وسلوك تلك الشخصيات، وفي مقدمتها شخصية خلفان التي تضيق بملاحقة زوجته غزالة التي تمثل الشخصية التقليدية المحكومة بهاجس الإنجاب والأمومة، قتكون هيلين هي وسيلة التعويض ما يثير ارتياب غزالة، ويخلق حالة من المشاعر المتناقضة والصراع التي تعيشها هيلين، حين تنكشف تلك العلاقة وتمضي كل شخصية باتجاه أقدارها الجديدة. إن صفات تلك الشخصيات التي لا تتسم بالثبات، بما فيها شخصية البدوي الذي تلتقيه هيلين في الصحراء هو الذي يخلق البعد الدرامي لأحداث الرواية وتنامي الصراع فيها، إضافة إلى أنه يعكس الرؤية التي ينطلق منها الكاتب في بناء شخصياته، لاسيما على مستوى العلاقة مع المكان أو مسألة الدلالة التي ترتبط بها. إن العلاقة القائمة بين شخصية خلفان وشخصية غزالة تفتقد إلى عناصر التوافق والانسجام بسبب الاختلاف في وعي الشخصيتين وسلوكهما، وهو ما يجعل محاولة خلفان لرأب هذا الصدع تفشل في تحقيق أهدافها، بل تخلق مشكلة جديدة تزيد من حالة التنافر والاختلاف، من خلال وجود هيلين التي تشكل نقطة جذب عاطفي، تمثل بؤرة جديدة تتفرع عنها بؤر سردية جديدة. كذلك الأمر بالنسبة لهيلين والبدوي الذي يقدمه الروائي دون اسم إذ تتحول علاقتهما في الصحراء إلى علاقة حب بعد أن استقدمها إلى القلعة، ليقدمها هدية لرجل القلعة الذي كان يعمل لصالحه.
وظيفة الشخصية في الحكاية الغرائبية
يخلص بروب من دراسته للحكاية العجيبة أو الغرائبية إلى أن هناك عناصر ثابتة في الحكاية تتمثل في الوظائف التي تؤديها الشخصيات وهي تشكل الأجزاء الحقيقية للحكاية، مقابل وجود عناصر متحولة كما في أسماء الشخصيات وصفاتها. وقد عرَّف بروب الصفات بأنها( مجموع الخاصيات الخارجية للشخصية كالعمر والجنس والحالة والمظهر الخارجي بمميزاته… وهذه الصفات تمنح القصة ألوانها وجمالها وسحرها)(8).
من هنا فإن الشخصية تمثل عنده عنصرا متحولا والوظيفة عنصر ثابت دون أن يعني ذلك فقدان الترابط والاتصال بينهما، ولذلك تكون الوظيفة التي يعرفها بأنها هي فعل شخصية قد حدد من وجهة نظر دلالته في سيرورة الحكاية هي الخالقة للشخصية. وفي ضوء هذه الوظائف يرى بروب ضرورة أن نعرف من قام بالفعل وماذا فعل وكيف فعل . وإذا الوظائف في الحكاية تتميز بكونها محددة، فإن الشخصيات فيها تكون غير محددة، إذ تعتبر تلك الشخصيات عناصر غير تمييزية فيها. من جهته يرى غريماس أن الشخصية لايمكن دراستها بعيدا عن مسألة الدلالة لأن التفكير فيها تفكير في إنتاج الدلالة داخل الرواية. ويربط الناقد سعيد يقطين بين الشخصية باعتبارها تمثيلا لأنماط من الوعي الاجتماعي بين العلاقة التي تقوم بين الشخصيات داخل العالم السردي والبعد الاجتماعي الذي يستند إليه الروائي في تقديمه لذلك العالم الاجتماعي. وسنلاحظ ذلك في علاقات شخصية زوجة الأب الشريرة والماكرة والأبناء الضحايا والزوج المخدوع وفي علاقات الشخصيات الأخرى في تلك الحكايات باعتبارها تعكس نمطا من الوعي الاجتماعي يتحدد في ضوئها وظيفة الشخصية التي تعد من العناصر الثابتة في الحكاية وتسلسلها ودلالتها في سياق الحبكة السردية .
إن أول ما نلاحظه في تلك الحكايات هو عدد الشخصيات غير المحدد في كل حكايات، واختلاف هذا العدد من حكاية إلى أخرى، على خلاف الوظائف التي تبقى محددة فيها. ففي القصة الأولى بنت نارنج التارنج هناك خمس شخصيات رئيسة هي الشيخ وابنه بطل الحكاية والخادمتان وبنت نارنج التارنج، وست شخصيات فرعية هي النوبيان أو المردة الأربعة الذين يشكلون الامتحان لشجاعة ابن الشيخ وفطنته وتصميمه الذي يكافأ عليه بالحصول على مبتغاه والعجوزتان. وتتميز الحكاية الثانية بمحدودية عد شخصياتها الذي يضم ثلاث شخصيات رئيسة هي الزوجة العارفة والزوج والجار, وشخصية فرعية واحدة هي عشيق الزوجة. ويتساوى عدد الشخصيات الرئيسة والفرعية في الحكاية الثالثة حيث يبلغ العدد ثلاث شخصيات هي العجوز والابن والزوجة، والشخصيات الفرعية الثلاث هي الطيور الثلاث من الملائكة. وكما نلاحظ فإن عالم الحكاية يتداخل فيه الإنس مع الجن والملائكة والطيور إذ يمكن لها أن تتحول من طبيعة إلى أخرى مضفية طابعا عجيبا وغرائبيا على ذلك العالم الذي تقدمه الحكاية. وتضم الحكاية الرابعة سبع شخصيات رئيسة هي الفتاة اليتيمة والدرهمي الأب وزوجة الأب والعصافير الأربعة( أبناء البنت) وثلاث شخصيات فرعية هي شقيق الفتاة اليتيمة والبياع الجوال وزوج هداية الذي يظهر في نهاية الحكاية ليؤكد سلامة شرفها. ويبلغ عدد شخصيات الحكاية الخامسة التي تشتمل على أكبر عدد من الشخصيات في هذه الحكايات إحدى عشرة شخصية هي ست شخصيات رئيسة(الشاب الوسيم/ الجنيات/ الوالدة الجنية الزوجة نور السنا/ العجوز) بينما الشخصيات الخمس الفرعية هي النساء اللواتي يستطيع الشاب تجاوزهن في الطريق والحرس الموجود داخل القصر. وفي القصة السادسة هناك أربع شخصيات رئيسة هي البنت/ الأب/ زوجة الأب/الوزير، وشخصية فرعية واحدة هي القاضي. وتقتصر شخصيات الحكاية السابعة على على ثلاث شخصيات رئيسة هي الرجل الفقير والجني والحداد، في حين هناك خمس شخصيات رئيسة في الحكاية الثامنة هي الأخ والأخت والأب وزوجة الأب والسلطان حاكم القرية، وست شخصيات فرعية هي العجوز الطيبة وزوجة السلطان الشريرة والخيّالان اللذان يخطفان الطفل والراعي والوالدة . ويبلغ عدد الشخصيات الرئيسة في القصة التاسعة خمس شخصيات هي المزارع والولد الوحيد المدلل والشيخ والزوجة وابن العم، في حين يبلغ عدد الشخصيات الفرعية أربع شخصيات هي الفتيات الثلاث والأم. ويساوي عدد الشخصيات الرئيسة في الحكاية العاشرة نفس العدد السابق فيبلغ خمس شخصيات هي البنت والأب والسمكة الجنية والسلطان، وعدد الشخصيات الفرعية ثلاث شخصيات هي الراعي والحرس وبنت الزوجة الدميمة. وبينما يقتصر عدد الشخصيات الفرعية في القصة الحادية عشرة والثانية عشرة على شخصية واحدة، فإن القصة الحادية تضم أربع شخصيات رئيسة هي الزوجة التي تعمل في التجارة وتتميز بقوة الشخصية والدهاء والزوج الفقير والساذج والرجال الثلاث المحتالون. وتضم القصة الأخيرة شخصيتين رئيستين هما الطفل والزوجة. يتباين- كما أسلفنا- عدد الشخصيات من حكاية إلى أخرى، إذ قد تختفي بعض الوظائف في حكاية، بينما نجدها كاملة في حكاية أخرى، أو أن وظائف مغايرة هي التي اختفت. ويرتبط هذا التباين بعدد الوظائف المنوطة بكل شخصية، ودور هذه الشخصية من حيث الفعل الذي يمكن أن تقوم به في تطور الحكاية، بينما ترتبط صفات الشخصية ومظهرها الخارجي بوضعها الاجتماعي، وتسهم في منح الحكاية نوعا من التلوين في الشخصيات، إلى جانب اكسابها ألوانا وسحرا.
في دلالة الشخصية
لقد أكد غريماس في دراسته للشخصية على العلاقة العضوية بين الشخصية، وقضية الدلالة التي يرتهن إليها وجودها في الحكاية، طالما أن لا وجود لها بمعزل عن مسألة الدلالة، وقد طالب بضرورة مقاربة الشخصية باعتبارها جزءا من بنية السرد بحيث ترتبط تلك المقاربة بدراسة البنية العامة للسرد الحكائي. وإذا كانت وظائف الشخصية (أفعالها) تمثل الأجزاء الأساسية في الحكاية، فإن هذه الأفعال عندما ترتبط بشخصية بعينها تحمل دلالة خاصة تعكس من خلاله وعيا ثقافيا واجتماعيا سائدا، كما سنلاحظ في الوظيفة التي تقوم بها شخصية الأب تجاه أبنائه من الزوجة المتوفاة، أو والدته العجوز. إن وظيفة الزوجة التي تلجأ إلى الحيلة والمكر في أفعالها الشريرة تتمثل في دفع الزوج للتخلص من ابنته كما في الحكاياتالسادسة والعاشرة والثانية عشرة، أو أخته في الحكاية الرابعة، أو والدته في الحكاية الثالثة، أو ولديه في الحكاية الثامنة، أو تخدعه لتخلي بعشيقها في الحكاية الثانية. تنكشف الخديعة دائما وتكافأ الشخصية كما لاحظنا، بعد اخنبار يكون عليها أن تثبت في قدرتها على التأهيل للقيام بما يطلب منها. إن تلك الوظيفة التي ترتبط بزوجة الأب دائما، تستدعي التساؤل حول الدلالة التي ينطوي عليها مثل هذا التلازم بين الوظيفة والشخصية في تلك الحكايات، التي تبلغ أكثر من نصف عدد قصص المجموعة؟
إن ارتباط هذه الوظيفة بالزوجة يعكس موقفا من تلك الزوجة، التي تعد عنصرا طارئا على الأسرة، تحاول دائما التخلص من أية منافسة على امتلاك الزوج لكي تستحوذ كلية على عالمه واهتمامه، ما يدفعها لاستخدام الحيلة والخديعة التي غالبا ما ترتبط بقضايا الشرف لكي توقع بتلك الشخصيات، وتدفع الزوج للتخلص منهم. إن الإرتياب والخوف من الوجود الطارئ للزوجة في حياة الأسرة يشكل سببا من أسباب هذا الموقف منها، بحيث تكون سمة المكر والتحريض والشر ملازمة لها في تلك الحكايات، وبالتالي سببا في المآسي التي تقع بصورة خاصة لبنات أو أمهات أو أخوات الزوج المخدوع والساذج. وفيما تتخذ زوجة الأب أو الابن أو الأخ هذه السمة نجد أن البنت والأم والأخت تتسم بصفات مخالفة كليا لصفات الزوجة الشريرة، بحيث تدل تلك الثنائية المتقابلة بين الشخصيات على ازدواجية النظرة إلى المرأة حسب قرابة الدم في مجتمع تقوم علاقاته الاجتماعية على هذه الأسس، التي تجعل الزوجة باعتبارها من خارج تلك الدائرة تستخدم كل الوسائل الممكنة من الحيل والتحريض والفتن للتخلص من المنافسة التي يمثلها وجود تلك الشخصيات التي ترتبط بصلة القربى والدم مع الزوج. كذلك يتخذ السلطان أو الأمير في تلك الحكايات صفات قارة تتمثل في العدل والمروءة والحزم باعتباره يمثل قيمة اعتبارية خاصة من جهة، ومن جهة يعكسون رغبتهم في الصورة التي يجب أن يكون عليها كل منهما، باعتبار أن هذا التمثيل الحكائي هو انعكاس لرمزية تلك الشخصية القارة في الوعي الشعبي الجمعي.
طوي بخيتة رواية شخصيات بلا بطولة
تحفل رواية طوي بخيتة بعدد كبير من الشخصيات الرئيسية والثانوية، الفاعلة وغير الفاعلة التي ترتبط مع بعضها البعض بعلاقات التواصل والمشاركة والقربى، ويستدعي بعضها البعض الآخر . تغيب عن هذه الرواية الشخصية التي تتفرد بالبطولة بسبب تركيز السرد الحكائي على تجسيد تجربة مجموعة إنسانية تعيش في الصحراء، يهدد حياتها القحط الناجم عن عدم سقوط المطر، فتخرج للبحث عن مكان لها في إحدى الواحات القريبة من البحر، حيث الماء والخضرة والثمر. وتتباين شخصات الرواية من حيث وظائفها ودورها وتأثيرها في أحداث الرواية، أو من حيث صفاتها وتحولاتها وانعكاس هذه التحولات على أحداث الروية وبنيتها الدرامية، وتنامي حركة السرد فيها. وُتبْرز العلاقات القائمة بين تلك الشخصيات البعد الاجتماعي لعالم الرواية الذي تجسده حياة البداوة القائمة على علاقات القربى والدم بين جميع أفرادها من جهة، وعلاقات المشاركة بينها وبين سكان الواحات الذين يستضيفونهم في أراضيهم من جهة أخرى. تتقارب تلك الشخصيات من حيث تمثيلها لنمط وعي اجتماعي وثقافي محدد، وهي تحمل اسماء قديمة تحيل على بيئة بدوية خاصة ( اليازيه- بخيتة- شما- خصيبة- آمنة- سلطان)، أو تتقدم بلقبها( أم ناصر)، أو اسمها المقترن بمهنتها( علي جامع العسل_ عباس بائع السمك)، أو بصفتها( عبيد الصغير). وبخلاف جميع شخصيات الرواية التي تتميز علاقتها بالائتلاف والإيجابية، فإن شخصيتي طرفة شقيقة سلمان الكبيرة تتصف بالسلبية والعدائية، من خلال الدور الذي تقوم به، على صعيد الدس والتحريض الذي يدفع بشقيقها سلطان إلى قتل ابنته بخيتة ورميها في طوي الماء الجاف، بسبب تهمة الزنى الباطلة التي تنسبها إليها، وشخصية أم ناصر الفضولية والنمّامة التي لا يهمها سوى جمع أخبار الناس وتضخيمها وبثها في القرية بصورة دائمة. وباستثناء العلاقة مع قطاع الطرق القائمة على الصراع، فإن علاقة تلك الشخصيات مع بعضها البعض داخل عالم الرواية، تظل ترتهن في سماتها الإيجابية إلى طبيعة نمط الوعي الاجتماعي الذي يحكمها، ويحدد بالتالي طبيعة سلوكها ومواقفها. يبرز حضور المرأة في هذه الرواية بشكل لافت للنظر حتى نجد هذا الحضور يتقدم على حضور الشخصيات الذكورية، أو يتمتع بدور محوري على الرغم من طبيعة المجتمع البدوي الذي يتميز بأنه مجتمع ذكوري، يمكن أن يلحظه القارئ في توزيع الوظائف والأدوار في حياة الأسرة. يبلغ عدد الشخصيات النسائية احدى عشر شخصية، بينما يبلغ عدد الشخصيات الرجالية ثماني شخصيات، حيث تتوزع تلك الشخصيات على شخصيات أساسية فاعلة ومؤثرة في تطور بنية السرد وتحولاته، وشخصيات فرعية غير مؤثرة. وفي حين تكون الشخصية النسائية التي تظهر في مشهد التقديم هي شخصية اليازية زوجة مصبح الحامل، فإن أول شخصية تختفي في الرواية هي اليازية التي تموت بعد ولادتها لطفلها عبيد، إلا أن هذا الموت الذي يغيِّبها يكون الحدث الأبرز الذي يسهم في التطور الدرامي لأحداث الرواية من خلال محاولة صديقتها بخيتة القيام بدور الأم البديلة، ومن ثم اتهام عمتها طريفة لها بالحمل من علاقة غير شرعية أقامتها مع زوج اليازية مصبح الذي هو شقيق والدة بخيتة، وتحريضها لوالدها على قتلها والتخلص من عارها، وهو ما سوف يدفع بالأب إلى الانفصال عن جماعته، واتخاذ قرار العودة السريعة إلى الديار لكي يقوم بهذه المهمة بعيدا عن أعين الجميع، حيث سيكون لهذا الحدث الدرامي المؤثر دوره في تصاعد أحداث الرواية وتطورها الحكائي، حيث تجلت تلك الانعكاسات الدرامية للأحداث من خلال الآثار النفسية الكبيرة وحالة الندم التي عاشها الأب، إضافة إلى ماأصاب شما من عجز عن النطق، إلى جانب علاقة الأسرة بمصبح المتهم بارتكاب الفعل المشين، إذ يدفعه ذلك إلى الرحيل المفاجئ وحيداعن قبيلته. وهذا جدول( 1) بشخصيات الرواية من حيث عددها وجنسها:
من خلال الجدول السابق نلاحظ أن عشرة اسماء من تلك الأسماء قد ذكرت باسمها المجرد، في حين ذكرت شخصيتان باسمهما الأول مقترنا بالمهنة التي تعملان فيها (عباس بائع السمك- وعلي جامع العسل)، كما ذكرت شخصية والدة اليازية بصفتها، والحاج سالم وعبيد الصغير باسميهما مقترنان باللقب الذي يحملانه. تتميز تلك الأسماء بقدمها ودلالاتها التي تحيل فيها على بيئتها البدوية التي تنتمي إليها، ومن تلك الاسماء هناك اسمان منهما فقط يحملان دلالة دينية هما علي والعباس، في حين حمل اسم والد بخيتة سلطان دلالة اجتماعية ترتبط بالسلطة.
تتباين الأدوار التي تلعبها شخصيات الرواية، من حيث صفات التحول والثبات التي يمكن أن تميزها والتي تنعكس على البنية الحكائية للرواية وتطورها، الأمر الذي يجعل تلك الشخصيات تتوزع بحسب الدور الذي تلعبه على هذا المستوى إلى شخصيات رئيسية وأخرى ثانوية. وتمثل شخصية والد بخيتة سلطان نموذجا للشخصية المتحولة التي تؤثر في التطور الحكائي للرواية وتحولات أحداثها الدرامية، عندما نشهد تحوله من الحب إلى العدوانية بعد اتهام شقيقته لابنته بخيتة بإقامة علاقة زنى مع مصبح . يلعب هذا الحدث المفاجئ دوره المؤثر في أحداث الرواية وبنيتها الدرامية من خلال الأحداث الجديدة التي تترتب على التحول والتبدل الذي يطرأ على شخصية الأب وسلوكه ( محاولة قتل بخيتة – الخرس الذي يصيب شقيقتها شما بعد رؤيتها لمحاولة القتل- انقاذ بخيتة مصادفة من الموت المحقق – لقاء الأهل مصادفة مع بخيتة). وهذا جدول يتضمن توزيعا لشخصيات الرواية شخصيات الرواية بحسب أهمية موقعها ودورها في السرد الحكائي وانفتاحه الحكائي على أحداث تقوم بها شخصيات جديدة مثل شخصية علي جامع العسل وعمته التي تطبب بخيتة وتنقذ حياتها من الموت :
إن أهمية الوظيفة التي تقوم بها الشخصية في السرد الروائي تأتي من حيث تأثيرها في تطور وتنامي أحداث الرواية، الأمر الذي استدعى التمييز بين شخصيات الرواية على أساس دورها وتأثيرها في أحداثها. وعلى الرغم من تفرد شخصية الرجل ببطولة العديد من الأعمال الروائية السابقة، إلا أن المرأة حازت على بطولة أعمال أخرى حملت عناوينها اسمه، أو اقترنت بها أو كانت الضمير المستتر مثل رواية زينة الملكة وفرت من قسورة لعلي أبو الريش وطوي بخيتة لمريم الغفلي وزاوية حادة لفاطمة المزوعي ومجموعة رأس ذي يزن القصصية لسعاد العريمي، ما يجعل السرد الروائي في الإمارات يضيء على عالم المرأة وحياتها وتجاربها وهمومها، وإن كان في جميع هذه الأعمال، والأعمال الأخرى، تتداخل المصائر والحيوات والوجوه والأسماء في نسيج الواقع الاجتماعي الذي تقدمه تلك الأعمال، والرؤية التي يتم على أساسها بناء تلك الشخصيات وتقديمها .
الهوامش
1- قاموس السرديات- تأليف جيرالد برنس- ترجمة السيد إمام- منشورات ميريت- ص30/31
2- انفتاح النص الروائي- سعيد يقطين- المركز الثقافي العربي- بيروت/ الدار البيضاء 1989- ص18
3- هوية العلامات: في العتبات وبناء التأويل- د.شعيب حليفي- المجلس الأعلى للثقافة- القاهرة 2004- ص 28
4- ص 7 (زينة الملكة)- علي أبو الريش- دار الكتاب العربي- ط2 بيروت2009
5- زينة الملكة- علي أبو الريش… مرجع سابق- ص 17
6- فرت من قسورة- علي أبو الريش….المؤسسة العربية للنشر- بيروت 2010.
7- فرّت من قسورة- علي أبو الريش… مرجع سابق- ص 404
8- مورفولوجيا القصة- فلاديمير بروب- ترجمة عبد الكريم حسنود. سميرة بن عمو- شراع للنشر- دمشق 1996- ص 106.