أزهار أحمد
كاتبة ومترجمة عمانية
تفاوتت كتابتي وترجمتي في أوقات مختلفة من أعمار أولادي، لم أكن أعمل بوتيرة منتظمة، كانت تمر عليّ سنوات دون كتابة حقيقة، سوى نصوص يومية وقصص قصيرة، بينما ازدهرت كتابتي في أوقات أخرى لا علاقة لها بأعمار أولادي أو كثرة الانشغال الأسري والوظيفي. أنجزت خلالها قصصا ومقالات وروايات وترجمت وقدمت ورشًا في الكتابة الإبداعية وغيره. كنت أحترق في صراع نفسي إذا غبت عنهم قليلا أو لم أجد الوقت الكافي لمراجعة كتاب. ومع هذا، كتبت وهم يلعبون حولي، وقفزت لتدوين فكرة وأنا أقص لهم قصة ما قبل النوم، أو أساعدهم في دراستهم. ولا أنكر أن الكثير من كتاباتي للأطفال ألهمني أطفالي أفكارها مثل رواية الصبي والبحر وقصص أخرى. ناضلت لأوفر لأطفالي الحياة الأفضل بوجود أم عاملة وكاتبة، وقاومت اليأس لأصبح كاتبة.
كنت أستمد من أمومتي العاطفة القوية التي تدفعني للإصغاء إلى أفكاري، على الرغم من أني كنت أؤجل كثيرا وتتراكم الأعمال لكن ذلك لم يكن همًّا، كان يكفيني ساعتان أو ثلاثٌ في اليوم لأكتب. أعترف بفترات كنت أخاف فيها من الحياة، وفقدان التوازن، لكن شعور الخوف من الأطفال وعلى الأطفال، يتملك كل أم وفي أي وضع كانت. ذلك الخوف على كيانها والخوف على أطفالها، خوفٌ مكمنُه القلب وسرُّه الحب.
وحين ولدت حفيدتي وداد حين كنت في غمرة انشغالي بترجمة رواية «ضريح الرمال» لجيتنجالي شري، وقتها كنت أسابق الوقت كالمجنونة متمسكة بكل دقيقة. ضحيت بأشياء كثيرة لكي أنجزها في وقت قياسي، فعملت عليها ليلا ونهارا حتى أثناء إجازاتي. مرت بي حالات من الإحباط والتعب. جاءت وداد، واحترت بين قضاء الوقت معها وبين الوقت الذي يمضي دون أن أعمل فيه. جلبت لي وداد سعادةً غامرة. شعورٌ لا أعرف وصفه، شيء يشبه الحب الأول الذي يملأ القلب فتنة وسعادة. حين يحضرونها للبيت يتشتت تفكيري ولا أستطيع تركها بالرغم من أن والديها معها وكل الأسرة تكون حاضرة والجميع يعتني بها. كان حضورها يمدني بطاقة هائلة فما إن تذهب حتى أشعر بنور يغمرني وتتملكني طاقة العمل فأترجم عشرات الصفحات في جلسة واحدة تمتد لساعات، فلا أشعر بفقدان الوقت.
اطلعت على تجارب الكثير من الأمهات الكاتبات والفنانات، بينهن كارهات للأمومة وبينهن ممتنات لها. لكن أغلب الأمهات المبدعات يجدن في أمومتهن منفذا لغريزة الإبداع والعطاء. سحر الشعور الأمومي يتلطف بالأم المبدعة وينير لها الطريق عاجلًا أم آجلًا، لكنه لا يوقفها إلا إن لم تكن مخلصة لإبداعها.
وفي حالات مشابهة لحالتي مهما اختلف الزمان والمكان، ألحق بهذا النص مقالين ترجمتهما من صحيفتين مختلفتين، الأول عن كاتبة من ستينيات القرن الماضي، كافحت من أجل كتابتها حتى حققت المستحيل، والثاني لأخرى كافحت للحصول على الأمومة دون الخوف من تعطيل حياتها.
بين الأدب والأمومة: حياة مستحيلة
جيسيكا جروس
”حيوات كثيرة جدا تدخل هذا المنزل“ هذا ما كتبته تيلي أولسن، الكاتبة والناشطة العمالية وأم لأربع بنات إلى الشاعرة آن ساكستون. ”أستيقظ في السادسة صباحا لإعداد الإفطار، الذي يتناولنه في مناوبات، وتحضير غداء المدرسة، وإن لم تكن إحداهن مريضة أو لم يكن يوم إجازة أو ليس لدي أعمال بحثية أستمر في أعمال المنزل حتى الرابعة مساء، وأحيانا إلى ما بعد ذلك. يعتمد الأمر على طلبات البيت والتسوق والتوصيلات، ومتابعة مشاكل العائلة والأصدقاء“. هذا الوصف لوضع أسري وإبداعي مضطرب كتب عام 1961 ، ولكنه ببساطة يمكن أن يكون بريدا إلكترونيا عاديا من أم لأخرى في عام 2024.
كانت أولسن وساكستون من أوائل الحاصلات على زمالة مدفوعة الأجر من معهد رادكليف للدراسات المستقلة. وكما ذكرت ماجي دوهرتي في كتابها ”المتعادلون“ : “قصة عن الأدب والصداقة والتحرر الأنثوي في الستينيات”، أن الزمالة “استهدفت فئة موجودة في كل مكان، ولكنها همشت فئة محددة من الأمريكيين: الأمهات”. وذكرت رئيسة معهد رادكليف آنذاك، ماري إنغراهام بونتينج أن الزمالة حققت تقدما ملحوظا للأمريكيات في بعض المجالات. مثلا: طرد المرأة الحامل، كان وضعا قانونيا“.
الكثير من المشاعر التي عبرت عنها أولسن وساكستون والبروفيسورة ماكسين كومين والرسامة باربرا سوان والنحاتة ماريانا بينيدا في كتاب دوهرتي الرائع والحساس، بدت حديثة تمامًا حتى بعد مرور ستة عقود. جعلني الكتاب أفكر فيما إذا كان من الممكن إيجاد حلول نهائية للصراعات التي تواجه الآباء بين مسؤولياتهم الأسرية وأعمالهم الأخرى.
ذكرت دوهرتي في كتابها أن أزواج أولئك النساء كانوا داعمين لهن، فزوج أولسن، جاك، انتقل معها من سان فرانسيسكو إلى مختلف المدن في البلاد عندما حصلت على الزمالة. وكان زوج بينيدا، هارولد توفيش، نحاتًا ناجحًا، ولكنه كان يعتبرها “الفنانة الأفضل”، ولذلك وفر لها استوديو أكبر وأكثر إشراقًا في منزلهما في ماساتشوستس.
كتبت دوهرتي عن أولسن: «أمضت أولسن الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي في تربية أطفالها، والقيام بدورها في المجتمع، والعمل في مجموعة من الوظائف اليومية لدعم أسرتها. كانت تكتب كلما استطاعت سواء في الحافلة وهي عائدة من العمل، أو في الليل بعدما ينام أطفالها. كانت تكافح لإكمال أي عمل روائي. ولم تتمكن من كتابة ونشر بعض القصص القصيرة إلا بعد سنوات. في الوقت الذي نشرت فيه “أخبرني لغزًا” مجموعة قصصية قصيرة، كانت تعاني من إرهاق العمل، وتتقاضى أجرًا زهيدًا، وكانت تبلغ من العمر 50 عامًا تقريبًا. كانت خائفة من أن تفوتها فرصتها في أن تصبح الكاتبة البروليتارية العظيمة التي طالما تمنت أن تكونها.»
أرادت أولسن مزيدًا من ”الوقت للكتابة و”مزيدًا من الوقت في المنزل مع بناتها” و”الطاقة اللازمة للاستمتاع بوقتها”. على عكس معظم المستفيدين من الزمالة الذين كانوا أفضل حالًا، استاءت أولسن من حقيقة أنها وزوجها كان عليهما العمل في وظائف يومية منخفضة الأجر لتغطية نفقاتهم العائلية. ”وعلى الرغم من أنه كان من دعاة المساواة في العديد من النواحي، إلا أن أولسن كانت تقوم بمعظم الأعمال المنزلية، مثل جميع الأمهات العاملات“. عندما انتقلت من سان فرانسيسكو إلى كامبريدج، ثم ماساتشوستس، للحصول على زمالة رادكليف، كانت تخطط للعمل على رواية، لكن انتهى بها الأمر غارقة في المكتبات، تدرس كتابًا مثلها ممن لديهم ما أسمته “الصمت غير الطبيعي” أولئك الذين منعتهم ظروف الحياة من أدبهم، وليس بسبب الافتقار إلى الإلهام أو لقمة العيش.
ألقت أولسن محاضرة في المعهد بعنوان “موت العملية الإبداعية”، حولت لمقال لمجلة هاربر في عام 1965. أذكر منه هذا المقطع:
”تعني الأمومة وبشكل حاسم، أكثر من أي علاقة إنسانية، أن تكوني مستعدة للمقاطعة في أي وقت، ومستجيبة، ومسؤولة. يحتاج الأطفال إلى شخص متوفر دائما. يجب أن تكون الأسرة هي مصدر الحب والأمان، وليس العالم الخارجي. أن يكون الحب هو الدافع، وليس الواجب. أن تؤدي الأشياء لأنها لك وتخصك وحدك، لأنهم لك ولا يوجد شخص آخر مسؤول عنهم. عليك أن تمنحهم الأولوية. إن الإلهاء، وليس التأمل، هو الذي يصبح أمرًا معتادًا؛ الانقطاع، وليس الاستمرارية؛ الجهد المتقطع وليس الثابت. إذن العمل المتقطع، المؤجل، التسويف، هو الذي يؤدي إلى التوقف، أو في أحسن الأحوال، يؤدي إلى إنجاز أقل. القدرات غير المستخدمة ضمور، وستتوقف عن مهامها.“
كان صراع أولسن، هو “التوفيق بين العمل والحياة”. وكما كتبت دوهرتي، ”الحياة بالنسبة لأولسن ليست مثل التقويم: لا يمكن تقسيمها وتجزئتها”. جعلت ”الزمالة“ العمل المستمر ممكنًا لأولسن لأنها حين حصلت عليها كانت قد انتقلت إلى كامبريدج، وطفلاتها كبرن وأصغرهن في سن المراهقة. في تلك المرحلة وصلت إلى نقطة لم تعد بحاجة فيها إلى وظيفة يومية، والعمل الذي تمكنت من إكماله في المعهد غيّر حياتها بشكل دائم. لكن صراعها الداخلي لم ينته بالكامل. كتبت دوهرتي أن أولسن “كانت تتوق إلى حياة مستحيلة، حياة تستطيع فيها تخصيص الوقت الكافي” لعملها ولأطفالها.
عندما قرأت كلمات أولسن، فكرت في جميع الأمهات اللاتي تحدثت إليهن على مر السنين، سواء كصحفية أو كصديقة، اللاتي يشعرن بألم بالصراع بين الأمومة وجميع جوانب الحياة الأخرى. كان الشعور بالتوتر يجعلهن يعتقدن أنهن يفعلن شيئًا خاطئًا، مثل العمل الكثير أو لا يعملن بالجهد الكافي. لا يخطر لهن أن القضايا المالية أو التنظيمية هي التي تعيقهن، وغالبًا ما ينظرن إلى العقبات على أنها إخفاقات شخصية ويشعرن بالذنب تجاه أي شيء يعتقدن أنهن لا يبذلن فيه جهدا كافيا.
ولكن ماذا لو كان الشعور بالتوتر أمرا أبديا؟ ماذا لو كان هناك دائمًا بعض مشاعر الإحباط والإرهاق التي تصطدم بمشاعر الفرح والحب الأبدي؟ لا أعتقد أن هذه المشاعر تقتصر على الأمهات أو الأمهات العاملات. يشعر الآباء أيضا بمشاعر الدفع نحو الحياة والأسرة بنفس الطريقة التي تشعر بها الأمهات؛ هم فقط يملكون توقعات اجتماعية أقل حول تربيتهم، وعملهم مدفوع الأجر.
لم تترك أولسن مجموعة من الكتابات الرائعة فحسب -ما زلت أتذكر المجلد الصغير الممزق من “أخبرني لغزًا” الذي وجدته على رف مكتب والدتي بعد عودتي من الكلية في أحد أيام الصيف- الذي أعتبره إرثًا من الرعاية لبناتها، اللاتي عشقتهن، وجعلت أعياد ميلادهن مميزة وغرفهن مليئة بالكتب، حتى عندما كانت الأسرة مفلسة.
عندما كانت ابنتها جولي في المدرسة الثانوية، استقبلت أولسن “شابًا من عائلة مضطربة” لعدة أشهر. ذكر ذلك الشاب ذات مرة طاولة عشاء أولسن بحميمية: “كنّ يتحدثن، ويضحكن، ويمزحن، ويستفززن بعضهن، ويروين قصصهن اليومية، ويستمعن باحترام، ويرددن بكل حب. يناقشن الأدب، والموسيقى، والسينما، والسياسة. يرغبن بمعرفة رأيي وما أفكر به، ومن هم المؤلفون الذين أقرأ لهم”.
لا أعرف إذا كانت أولسن شعرت يومًا بأنها نجحت في تحقيق تلك “الحياة المستحيلة”. لكنها فعلتها بالنسبة لي.
الأمومة مقابل الأدب: لا يوجد خيار خاطئ
ديانا أبو جابر
اجتمعنا في غرفة الاجتماعات. لم تكن هناك أية امرأة تقريبًا في كلية اللغة الإنجليزية في ذلك الوقت، لذا كان هناك ثلاثة رجال في لجنة أطروحتي: أستاذ في الفلسفة، وآخر في الأدب المقارن، ولارس، المشرف على أطروحتي. كانت الأسئلة التي طرحوها عليّ مدروسة، وكانت ملاحظاتهم مشجعة. لكن في نهاية مناقشتي، أعلن لارس أن لديه سؤالًا أخيرًا. كان روائيًا مشهورًا، وقد تحدثنا أنا وهو لمدة عامين ونصف تقريبًا عن كل ما يتعلق بالكتابة والأدب المعاصر. اعتقدت أنه قد يسأل عن بنية الحبكة الفيكتورية، أو ربما عن تفكيك السرد الأدبي، أو ربما عن شيء عن الاستشراق وفكرة البطل ما بعد الاستعمار.
وضع يديه على الطاولة وبلع ريقه وقال: “إذا كان عليك الاختيار بين عدم رؤية عائلتك مرة أخرى أو عدم الكتابة مرة أخرى، ماذا ستختارين؟”
تأوه أستاذ الفلسفة بصوت مسموع، وهو يخفض رأسه.
“ليس عليك الإجابة على ذلك”، قال أستاذ علوم الكمبيوتر.
هل كان لارس يمزح؟ كدت أضحك، ولكن بادرته بسؤالي: “يبدو أنك تسأل عما إذا كنت رجلًا أم امرأة”.
عبس لارس: ”لا، لا. بل أعني على المستوى المهني. ما هو الاختيار الذي ستتخذينه؟“
حركت مقعدي، وحدقت في ملاحظاتي عديمة الفائدة، ثم سمعت نفسي مرة أخرى أقول: “مهنيًا… مثل ماذا؟ هل هذا سؤال يجب أن يجيبه كاتب ذكر هكذا: ”بالتأكيد لست بحاجة إلى رؤية عائلتي، ولا لشيء من المشتتات الأخرى، إبداعي وكتابتي هي الأهم.” كنت لا أزال أبتسم، ولم أكن متأكدة تمامًا عما إذا كان سؤاله مجرد مزحة، ولكن نبرة سخرية اختلطت بصوتي وأحسست بثقل في مؤخرة رأسي: شعرت بثقل النهار، والليالي الطوال التي كنت أنتظر فيها أسئلة المناقشة، والقلق بشأن إنهاء دراستي، والعثور على عمل، والتأكد من أنني لن أضطر إلى العودة إلى المنزل. ”أعتقد أنه من المفترض على المرأة أن تقول: لا بأس، بغض النظر عن كل الوقت والمال والعمل الذي بذلته في مسيرتي المهنية، يجب أن أعتني بأطفالي وزوجي. فالأمهات بأية حال ليس لديهن الوقت للكتابة“. نظرت نحو الانعكاسات المسطحة في النوافذ، ولم أكن متأكدًة مما إن كنت قد فكرت بالمساومة بشهادتي العليا. ”لا أعتقد أن ما قلته يجيب على سؤالك، لكنني لا أؤمن بضرورة الاختيار بين الأدب أو الحصول على حياة. يفعل الناس الأمرين طوال الوقت، أليس كذلك؟ تحدثت بثقة، لكن تيارًا باردًا مر على وجهي“.
بقي السؤال معلقا فوق الطاولة.
رمقني لارس بنظرة ضيقة وغير راضية؛ طوى ذراعيه. لكنني كنت واضحة في دفاعي.
في كلية الدراسات العليا، نادرًا ما تناول مستشاري مسألة الصراع من أجل الوقت، ذلك الصراع الأبدي بين كسب المال وصناعة الأدب. ومع ذلك، فقد ألمحوا إلى ذلك، في كل مرة كانوا ينصحونني بالبقاء حرًة ومستقلة. في هذه الأيام، لا يمكن لطلابي أن يصدقوا عندما أخبرهم عن أنواع النصائح الحياتية التي قدمها لي معلمو الكتابة قبل 20 عامًا. طالباتي الشابات على وجه الخصوص، اللاتي تمتلئ حياتهن بالاحتمالات المجيدة، يعتقدن أنه أسيء فهمي. واحتجّت إحداهن قائلة: ”في الواقع، لا أحد ينبغي أن يقول لك أنه لا ينبغي عليك أن يكون لديك أطفال.”
لكنهم فعلوا ذلك تمامًا. في حين لم يحذرني أحد من أساتذتي من الزواج، نصحني بشكل مباشر ومن أكثر من واحد منهم بعدم الإنجاب. في ذلك الوقت، شعرت أن قصدهم هو الإطراء، وأنهم أخذوا كتابتي على محمل الجد بما يكفي لاقتراح عدم التضحية بها من أجل عائلة. واستمر موقف الاعتقاد بأنه لا يوجد سوى قدر محدود من الوقت، والمتوقع من النساء -بغض النظر عن مدى إنجازهن أو إبداعهن- أن يكرسن أنفسهن لعائلاتهن. في مقابلة أجريت مؤخرا، تعاطفت شوندا رايمز وأوبرا نفسها مع التحدي المتمثل في الحصول على مهنة رفيعة المستوى وعائلة. “لدي الكثير مما يدور داخل رأسي فيما يتعلق بالكتابة، تشغل مساحة كبيرة من حياتي”، قالت رايمز. وقالت: “لا أتخيل أنه يمكن الحصول على زوج وأطفال وكتابة بنفس القدر، ولا أعتقد أن هناك مجالًا لكل ذلك.“
كان لصديقتي إلسي طفلان صغيران وقد كتبت قصيدتين فقط منذ ولادتهما. عندما ذكرت لها تناقض شعوري تجاه إنجاب الأطفال، ظهر إحباطها كله في ردها حين وبختني قائلة: “لا يمكنك الحصول على كل شيء”. “سوف تكتبين الكتب.”
تزوجت وبدأت حياتي المهنية بالتدريس في برنامج الماجستير في الفنون الجميلة في إحدى الجامعات الكبرى. وبعد بضع سنوات من التدريس، تطلقت، ثم تزوجت مرة أخرى في نهاية الثلاثينيات من عمري. سكوت، زوجي الجديد كان راضيًا تمامًا عن كوننا بدون أطفال وكان قلقًا من أن إنجاب الأطفال سيصرف تركيزي عن كتابتي. كان الأمر أشبه باختيار صوفي، وهو أن أترك فكرة تموت من أجل إنقاذ الأخرى. استغرقنا وقتا طويلا في مناقشة الأمر.
في مرحلة ما أدركت أنني ربما كنت أنتظر جسدي ليتخذ القرار نيابةً عني، وقررت أن لا أستمر في التفكير والقلق بشأن الإنجاب. ولكن عندما بلغت الأربعينيات من عمري، وجدت نفسي غير راضية بذلك القرار. تحدثت مع صديقة أخرى –وهي روائية ليس لديها أطفال– عن مناظرتي الرهيبة. أومأت برأسها ثم قالت لي: ليس هناك خيار خاطئ. كررت كلماتها باهتمام بالغ وهي تنظر إلى عيني: سيكون الأمر على ما يرام مهما اخترت. لا يوجد خيار خاطئ.
كان ذلك كل ما كنت بحاجة لسماعه. كان عمري 44 عامًا، أو 45 عامًا تقريبًا، في ذلك اليوم شعرت بها في عظامي -تلك الرغبة التي عشت معها لسنوات- أنه لا بد لي من إنجاب طفل، وأن الرغبة ستتحقق أو ستستهلكني تمامًا.
وبعد أسبوع، أخبرنا طبيب الخصوبة أن لدي مشكلة في بويضاتي. لذلك بدأت أنا وزوجي إجراءات عملية التبني. استغرق الأمر عامين من البحث والأعمال الورقية قبل أن نتوافق مع الأم الحاضنة وتولد ابنتنا.
كان لارس على حق: الأطفال يأخذون وقتًا. يمضغون أيامك ولياليك، ويشتتون تركيزك، ويحطمون أفكارك. وعندما تكون على وشك الوصول إلى حبكة مهمة أو استعارة معقدة، تفاجأ بطلباتهم الصغيرة والملحة. وستستمر لسنوات في مشاهدة رسوم متحركة معهم، وستكون ممتنًا لها لأنها فرصتك الوحيدة للحصول على قيلولة، ونعم، إذا كنت متعبًا بدرجة كافية يمكنك الحصول على نوم جيد في السينما أثناء مشاهدة فيلم يستحوذ على الأطفال.
وكان لارس مخطئًا: فالمسألة لا تتعلق بالوقت فقط. يتعلق الأمر بالتركيز. إن إنجاب طفل يعني أن تلقي نظرة فاحصة على الأشياء التي قضيت بها وقتك. مثلا كان عليّ التوقف عن استخدام الإنترنت، لأنها القاعدة التي فرضناها لابنتنا، بعدم استخدام الأجهزة وقت العشاء. من السهل أن تقول لنفسك أنك روح حرة لا يمكن كبتها، وفنان جامح ومجنون، ولكن المشكلة مع الكتّاب الذين يجدون صعوبة في الجلوس سواء عندهم أطفال أم لا.
لم نتمكن من تحمل تكاليف مربية بدوام كامل، لكننا تمكنّا من الاستعانة بشخص ما في الصباح أو بعد الظهر عدة مرات كل أسبوع. حينها، وجدت الحل. بالنسبة لي كان ساعتين. ساعتان ذهبيتان متواصلتان. ساعة واحدة للقيام بالأفكار التي تساعدني على الكتابة، والساعة الأخرى للكتابة نفسها. إذا كان لديك ساعتان يمكن الاعتماد عليهما، يمكنك القيام بما هو مطلوب.
بعد سنوات من وصف نفسي بالكاتب ”التراكمي“ بسبب ما كتبته بين أوقات: بعد مواعيد الغداء، وقبل حفلات العشاء، والوصول مبكرًا إلى طبيب الأسنان، وأنا عالقة في حركة المرور، أدركت أن الوقت قد حان لأجمع شتات نفسي. أصبحت أكثر مهارة في قول لا، خاصة للمهام التي كنت أقوم بها بدافع الشعور بالالتزام. تخليت عن بعض أعمال اللجنة وجميع المكالمات الهاتفية تقريبًا. نادرا ما كنا نخرج لتناول العشاء. لم أعد أقوم بتدريس الفصول الصيفية أو ورش العمل الإضافية. السماء لم تنهَرْ، ونحن تجاوزنا الأمر. وتبين لي أن الإلهاء كان رفاهية باهظة الثمن.
في السنوات السبع التي تلت ولادة ابنتي، نشرت رواية أخرى ومذكرات أخرى وقمت ببيع مسودة رواية للشباب، شعرت أن كتابتي ما زالت حية. أعتقد الآن أنني انتظرت أن أصبح أمًا، ليس فقط بسبب الخوف وعدم اليقين، ولكن لأنها منحتني الوقت لنشر بعض الكتب، لأعرف كيف كان شعور ذلك، وما تتطلبه حياة الكتابة.
تكتشف لاحقا أن العالم العاطفي يظهر لك بألوانه الزاهية. لا يمكن مقارنة أية مأساة يونانية (أدبيا) بمأساة سقوط مخروط الآيس كريم من يد طفلك أو خدش في ركبته. كل هؤلاء الأشخاص الذين حذروني من أن الحياة ستتغير، وأنه لن يكون لدي الوقت، ولا الطاقة، ولا المال كانوا على حق. لكن لم يقل أحد منهم كيف سيكون الأمر عندما أنظر لطفلي وهو نائم. لم يذكر أحد كيف يختفي ضجيج العالم في الصمت المفاجئ بينك وبين طفلك، وكيف تشعر بأن أقوى وأعمق التيارات ترتفع وتجري في شرايينك. في المرة الأولى التي شعرت فيها بقوة بهذا الحب الناري، كان عمر ابنتي غريس بضعة أيام فقط. نامت على صدري، وأنفاسها الصغيرة ترتفع وتنخفض، وقبضتها الصغيرة ملفوفة حول بضعة خصلات من شعري.
كان الأمر أشبه باكتشاف المصدر الخفي لمياه الينابيع. زبد واندفع فوقي، حملت طفلتي، وأنا ممتلئة بالحب والامتنان ونوع من الاستسلام التام. تلك الينابيع الخفية هي مصدر الفن والفنانين. في مثل هذه الأماكن ينهار الوقت: كل ما يهم هو خوض المخاطر الهائلة والانفتاح على كل ما يأتي.
قرأت ذات مرة مقابلة طُلب فيها من أحد الروائيين المشهورين النصيحة حول كيفية أن يصبح كاتبًا، فأجاب بأن يولد المرء ثريًا وبصحة جيدة. أي أن تحظى بحياة سهلة، وأن تبدع كلما رغبت بذلك. اعتمد العديد من الفنانين على الرعاة وأموال عائلاتهم وزوجاتهم من أجل الإبداع. بالنسبة لبقيتنا -سواء آباء أم لا- فأنا أسلم بأن حياة العمل والدعم الذاتي هي حياة مشرفة ومبدعة بنفس القدر. يستطيع المفكر واسع الخيال أن يحلم بالروايات والشعر أثناء تقديم مطالبات التأمين أو العمل على الشواية أو تغيير الحفاضات. يجب علينا أن نعيش في كلا العالمين، عالم الواقع والخيال ولا يوجد حل آخر. وأعتقد أن هذا النوع من الضغط –حول الوقت والمال– يجلب البصيرة والقوة والحيوية للكتابة. إذا لم تضطر أبدًا إلى ترك قلمك أو فرشاة الرسم والاهتمام بمهن أخرى أقل سامية، فإنك تعيش حياة ناقصة.
الأطفال ينتمون بقوة إلى عالم الواقع، وعالم الخيال. إن ثمن ولادتهم باهظ، وهم متطلبون، ولكنهم أيضًا يجعلوننا نحلق بجناحين. ينبغي للكاتبة أن تجلب هذه الكائنات إلى منزلها بكل بعناية وحذر، فهم كائنات ماكرة وغيورة وملهية، لكنهم أيضا أحد الأسباب العظيمة للإبداع.
وسواء كنت مستعدا أم لا ، فسيأخذونك من يديك إلى عالم الخيال.
الهوامش
جيسيكا جروس: كاتبة مقالات في نيويورك تايم. تكتب حول الأسرة، والدين والثقافة والتعليم. وتركز بشكل خاص على التغيرات الاجتماعية الكبرى.
تيلي ليرنر أولسن: كاتبة أمريكية ارتبطت بالاضطرابات السياسية في الثلاثينيات، والجيل الأول من النسويات الأمريكيات.
ديانا أبو جابر: روائية ومؤلفة وبروفيسورة في جامعة ولاية بورتلاند، أمريكية من أصول عربية. تركزت كتاباتها حول قضايا الهوية والثقافة. صدر لها: رواية «لغة البقلاوة»، رواية «جذور»، ورواية «الهلال»، ورواية «جاز عربي». وهي أول رواية لها.