حَمَام.
الحَمَامُ الطائرُ على أفق الرمز والمجازات. لا أتذكرُ أو تُباغتني فجأةً مُفردة (حَمَام) إلا وكانَ حَمَامٌ طائرٌ، كأنما هو نزوةُ الأفق كلما تقدمتُ ناحية مقدارٍ ما؛ تَمْرضني حَركاته. الأرقامُ لا تحيا في خيالي. كنتُ أحصي عدد أزواج الحَمَام المتطاير أمامي في الميدان الذي كنتُ أقطعه في عودتي من المدرسة ـ لا أشعُرُ أنَّ مساحته شاسعة إلا في العودات التي أكونُ فيها قد تخلصتُ من آخر قرش في جيبي: أشتري ( تَسالي أو بَالُوظة) ومن ثَمَّ أهجمُ على الطريق صحبة أصدقائي ـ وهو كالعادة زوجُ حَمَام وليس واحداً في تعريفي، يُحَلِّقُ أزواجاً أزواج؛ قاصداً التحليق بالقرب من ذاكرة من رآه أو استعاده في المجاز، فيقطُنُ نواحيه إن لم يكن هو نواحيه ذاتها. الشنطة الـ(adidas) الكُحليَّة تلهثُ على ظهري وأنا أركضُ خلف الحَمام، الذي انتشر على بهاء سماواتٍ بالقرب من عيني، التي تُشاهدُ الأجنحة وهي تَحلِقُ الهواء والحلم من زاويتها الأرضية. كان لي بُرُج حَمَام بنيته عند الركن الشرقي من (حُوشْنَا) الصغير، أحد أصدقائي كان يمتلكُ برج حمام. رأيته كيف يرمي بحبوب الذُّرة والتَّسالي في الفَسَحة الصغيرة أمام برجه، فسحرني الحَمَامُ وهو يتطايرُ أزواج أزواج حوله من الجهات كلها.
ـ: أريدُ حَمَام!.
باغَتُّ أمي صباح اليوم التالي برغبتي هذه، ونحنُ مُنْغَمِسُونَ في الونسة الصباحية حول (مَنْقدْ) الشاي. لم أتركها حتى تمسح دهشتها التي انزلقت من أطراف شعرها، وسال لساني في التمتمة: (حَمَام).
ـ: حا أبني لي بُرج هنااااااك!؟.
قطعتُ المسافة المفروشة بين البوستة امدرمان و(زِنْك اللحمة/ زِنْك الخضار)، حتى وصلت إلى سوق الطُّيور: الدّجاج والعصافير والحَمام الذي يسحرني هديله ـ داخل الأقفاص المصنوعة من عيدان النخيل ـ كأنما هو صوت الحرية وهي ترنو إلى أفقها في عين البشري ونفسه وأحلامه؛ أقصد أوهامه وكذا. عمك كبير كدا يبيعُ الحمام، لفتُّ نظره بقامتي القصيرة وردائي المدرسي والسِّفنجة ذات السِّيُور الزرقاء.
ـ: داير جوز حَمام؟.
ـ: جوز بلدي؟.
ـ: أيوه بلدي.
كنتُ أوزع حبوب الذرة والتَّسالي على المساحة الصغيرة أمام برج حمامي، الذي كان يتطايرُ من حولي من الجهات كلها، فتشسَّع داخلي الكونُ واللغة والإشارات الأثرية لثرثرة النفس قُبالَ ممكنها.
ومفردةُ (حَمام) تنويعٌ على تعريف ما استحال في النفس من سلام، لأنه ليس ثمة أفق ممكن إلا وكان محمولاً على جناح الحمام. وأيضا سقايةُ الكثرة من الأفق الواحد فيتكاثر الأفق ذاته في عين الحرية ويكونُ الحمام وهديله: مجاز اليقين بالممكنات مُحالةً إلى عين من اخْضَرَّ داخله الكون والحب. كنتُ أشتري الحمام من سوق أمدرمان في فترةٍ ما، حتى دلني أحد أصدقائي على سوق (أم دَفَسُو) القريب من بيتنا. تحضرُ في ذاكرتي صور كل الحَمام الذي حلَّق جهة الأفق الملون لحياتي أو تلك الترويسة التي كثيراً ما، أعاينها بريبة؛ قبل الدخول في ما أفاضه العمر على الأمنيات الحليقة لقلبي. صورُ الحَمَام تتبعني من زاوية في وجودي إلى زاوية في وجود الحَمام أمام عيني والسكوتات الولهانة، أثناء تحليق تلك الصُّور في فضاء الرمز. عرفتُ (طوق الحمامة لـ ابن حزم/ وأيضا الحمامة لباتريك زوسكيند وكثيراً من الحَمَامَات الموجودة بين سطور الكتب وزوج الحَمَام المعروف في سيرة الرسول محمد…). لكن أحب كثيراً محمود درويش في: يطيرُ الحمام يحطُّ الحمام….إلخ). الحمام وليس (الحمامة) المفردة الوحيدة. الحَمام يطيرُ أزواج أزواج. أنا لا أحبذُّ الحمامة لأنها دون الشريك بمعنى بلا أفق لأن الحَمام اشتراكٌ في الوجود والأفق الذي ترثيه الأجنحة.
كنتُ أذهب إلى سوق (أم دَفَسُو) في صباحات أيام الجمعة لشراء أو بيع ـ فيما بعد ـ الحَمام وهو سوق ككل الأسواق السودانية العادية بلا مزايا سوى الازدحام والأزقة الضيقة بين الرواكيب وستات الدَّكوة وبائعي أكياس النايلون الصغار. ذات مرة ذبحتُ زوج حمام بمناسبة مرض شقيقي الصغير (أحمد) بالملاريا. طَبَقْت الأجنحة تحت قدمي كما وصفت لي أمي، ممسكاً رقبة الحمامة بيدي اليسرى والسَّكين بيدي اليمنى، وهجمتُ من ثمَّ على الحياة المستلقية تحتي بذُعر.
ـ: قطعتها!.
في مَلاواتي لتلك الحمامة وبين أن أذبحها وبين أذبح مرض شقيقي المتحفز من فوق عنقريبه كقطٍ جائع، قطعتُ رقبة الحمامة بكاملها، فيما الدمُ يتطايرُ على ملابسي وأصابعي الملوثة بالأسئلة.
قَطعتها.
نعم. قطعتُ المسافة المتوترة ناحية شجرة الهجليج، التي يتحلَّق تحتها أولاد جيراننا. كانوا قد انتهوا من صيد كمية وفيرة من الطَّير: (سبع قُمْرِيَّات وستة وَدْ أَبْرَك). على القَلوبيَّات المرمية على مقرُبة يتأوهُ خيالٌ جريح. امتلكتُ قَلوبيَّة واحدة كنتُ قد سرقتها من ود جيراننا الصغير، لكنني لم أمسك بها سوى فأر جائع ضلَّ طريقه ذاتَ ضيم. أمَّا الحَمَامُ فلا يُصطادُ بالقَلوبيات، إنما بحيل أكثر ذكاءً مثلاً: وَضعْ السُّكَر في حوض الماء أو حبسه في أحد صفايح الحديد مع أحد (فَردات الحَمَام) أو قبضه ونَتْفُ ريش أجنحته فيتكيَّف مع المكان، وهكذا مثل صيانة الرمز في نفس الواحد.
الحمامُ الذي يتطاير أمام فتاةٍ يطاردها شخصان عشان يعملوا ليها حاجة كدا، في الذِّهن السِّينمائي أحسُّ بذعر أجنحته وهي تعلو وتعلو قُدَام ذلك الركض. لكن ثمة حَمامٌ ساحر في بعض الأفلام السِّينمائية موزَّعٌ على طول ساحات ينامُ حولها عالمٌ أخضر. وكثيراً ما تُذهلُ مُلامساتُ أزواجه بعد الاستحمام الأثير في النَّوافير التي مياهها تتصاعدُ على وتيرة أنفاس العشاق المنتشرين أزواج أزواج على مقاعد حجرية هنا وهناك.
ذاتَ يومٍ كنا نجلسُ أنا وأحد أصدقائي في بيتنا، وكان أحمد شقيقي قد قام بناء بُرُج حَمَام جديد عند الركن الجنوبي الشرقي من (حُوشْنَا). وكم كنتُ أتَعَجَّبُ من حَركته، إذ أنه داهمنا ذلك اليوم برغبته في تربية حَمَام مُطلق.
: داير حَمَام!؟.
وطوَّالي أحضر زوجي حَمَام بألوانٍ جميلة ووضعهما داخل ذلك البُرُج المُوزَّع داخله صفيحتين من الحديد بقايا حطام (زِيْرنا) القديم. لاحظت استمتاعه بمراقبة الحَمَام من خلف الفتحات الصغيرة في نوافذ البُرج العجيب.
ـ: وينك يا أحمد؟.بتعمل في شنو!.
ـ: والله بس من المدرسة وطوَّالي علي حمامي!.
كنتُ أقطعُ الميدان الواسع في طريقي عودتي من المدرسة، وفي خيالي حَمَامٌ سيتطايرُ أمام وقع قدمي اللاهية خلفه. كانت عربات جيش (نِميري) تعبرُ بأصواتها ذلك الميدانَ ذا الحَمام المنتشر هناك وهنا. فتطاير الحًمامُ أزواجا أزواجا وأنا أركضُ خلفه، وانتشر على غياب سماواتٍ بالقرب من عيني، التي تُشاهدُ الأجنحة وهي تَتَفقَّدُ الأفق الذي ضاعَ في الهُنَيْهة والحلم.
ناجـــي البـــــدوي
قاص من السودان